نقد تفكيك الاستبداد بين الاستدامة والاستثناء/ سيف الدين عبد الفتاح
إشارة إلى الفكرة المتعلقة بتفكيك الظاهرة الاستبدادية؛ أكّد الكاتب من قبل ضرورة تجلية ذلك من خلال استعراض محاولاتٍ شرعت في تفكيك تلك الظاهرة، ولعل التعرّض لمثل تلك الكتابات قد يفيد في بناء استراتيجية متكاملة للتعامل مع حال التفكيك تلك، ضمن اقتراح الحكيم المستشار طارق البشري ضرورة “تأسيس علم للاستبداد”. من تلك الدراسات الأبحاث التي اجتمعت في كتاب “معضلة تفكيـك الاسـتبداد المسـتدام في العالـم العـربي” قيد الصدور عن مركز المجدّد للبحوث والدراسات؛ وتضمّن مجموعة متميزة من الدراسات، أنجزها عدة باحثين عرب، اشتملت على مقاربات في تفسير ظاهرة الاستبداد، وأشكاله المعاصرة؛ وكذلك إشكالية استدامة ظاهرة الاستبداد وأسبابها في العالم العربي، سواء على مستوى السلوك أو السياق، والتعرّف على الوعي الجمعي بشأن استدامة هذه الظاهرة في الوطن العربي. كما جاءت الأبحاث أيضا على قضية الاستبداد الدائم في العالم العربي بين القابلية للثورة والقابلية للاستدامة، والنسق القياسي للنظام السياسي ومدافعة الاستبداد (المفهوم والمقومات والدور)، وتفكيك الاستبداد من منظور ديني، وتفكيك بنية الاستبداد السياسي في الأنظمة العربية: دراسة تحليلية في دور المجتمع المدني. ومن المهم ضمن هذا التناول طرح عدة مداخل مهمة يجب التوقف عندها:
المدخل الأول: يرتبط بعملية التفكيك ذلك أن تلك العملية بطبيعتها تشير إلى التركيب والتعقيد في الظاهرة الاستبدادية في هذا المقام، وذلك ضمن المستويات المختلفة التي تطرح ومنها:
– المستوى المتعلق بالبنى الفكرية التي تشكّل القابليات للظاهرة الاستبدادية، بما تشير إليه من أفكار وقضايا ومجالات متعدّدة تشكل منظومة الأفكار المواتية والداعمة للظاهرة الاستبدادية، وما يتعلق بشؤونٍ ترتبط بالثقافة وعالم المفاهيم والمدركات والقيم والقضايا المتعدّدة المرتبطة بتلك الظاهرة.
– المستوى المتعلق بتفكيك البنى المتعلقة ببنية الاستبداد الهيكلية والمؤسسية والمجالات المتنوعة التي تمثل هذه الشبكية الهيكلية ضمن هذه الظاهرة الاستبدادية، دراسة بنى الاستبداد أمرٌ غايةٌ في الأهمية في هذا المقام، حتى تكون البحوث معنيةَ، بشكل أو بآخر، بمعالجة تلك البنى الهيكلية، والقيام على تفكيكها على نحوٍ يؤدّي إلى تقويضها بما يضمن التمهيد لعملية إعادة البناء والهيكلة.
– المستوى المتعلق بتفكيك البنية على مستوى الممارسات، وكذا المستوى الحركي، ضمن التعمّق في تفكيك بنى الاستبداد المتعلقة بالسلوكيات والممارسات، فضلا عن السياسات والعلاقات، وهو أمر يعدّ من القضايا المهمة في عملية التفكيك، يجب التوفر على دراستها، بما يطرح الحلول المختلفة لمنظومات السلوك ومنظومات السياسات، فضلا عن الاستراتيجيات الكلية التي تشكّل قاعدة الانطلاق فيها.
– كذلك من المهم التنبيه أن عملية التفكيك لا تطاول فحسب بنى الدولة والسلطات الفاعلة فيها، لكنها كذلك يجب أن تنهض بتفكيك البنى المجتمعية ضمن البحث في تأسيس وتشكيل ما يمكن الإشارة إليه في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهي أمور أشار إليها عبد الرحمن الكواكبي بعمق، ضمن تفسيره الشبكي لمداخل الاستبداد المتعددة والمتشابكة.
المدخل الثاني: يتعلق بمفهوم الاستبداد المستدام والسمات المتعدّدة التي ترتبط بالظاهرة الاستبدادية والوقوف عليها وعلى العوامل المختلفة التي تسهم في هيكليتها واستدامتها، إلا أن وصف المستدام في هذا الإطار يجب ألا يشير إلى المعنى الذي يتعلق بالحتمية الاستبدادية، وكأن الاستبداد قدرٌ مقدورٌ لا يمكن الفكاك منه، ذلك أن معنى الاستدامة، في هذا السياق، يمكن أن يتحوّل إلى مقولةٍ ربما تأتي على مداخل التفكيك، فلا تجعل لها من عمل إيجابي أو أثر فعلي. ومن هنا، يشكّل تبنّي مقولة الاستثناء العربي، على علاتها، مصادرة للبحث في كلّيته، والاستغراق مثلا في بعض النماذج العربية عند مقولات ترتبط بالحتمية الجغرافية، وما تسمى المجتمعات النهرية والاستبداد الشرقي يشكل الحديث عن تلك الحتمية بحيث لا يمكن الفكاك منها، وهو أمر اجتهد بعضهم في الرد عليه، منهم العالم الاستراتيجي الكبير جمال حمدان، حينما رفض أن يسير مع تلك المقولة إلى نهايتها، أو الحديث عن نتائجها ومآلاتها الحتمية. فكرة الحتمية مغلقة يمكن أن تورّث في مداخل التفكير، فتسد كل منافذ التغيير، وهو أمرٌ إنما يشكل مناقضةً للمدخل السنني الذي يجعل من تلك السنن سننا تطرد لا تتبدّل، ولا تتحوّل، من خلال شرطيتها، ضمن القاعدة الذهبية الجزاء من جنس العمل، كما أن الوقوف على هذه المقولات وأشباهها والصعوبة المقترنة بالظاهرة الاستبدادية وتعقدها في العالم العربي لا يعني، في أي حال، غياب إمكانية التفكيك أو استحالة التعامل مع الظاهرة بالمقاومة والمواجهة وتقديم الحلول المناسبة في مواجهة الآثار المتعدّدة لهذا الاستبداد الهيكلي المستدام ضمن استراتيجياتٍ واعيةٍ تؤسس للفعل الحضاري المقاوم للاستبداد.
المدخل الثالث يتعلق بالعالم العربي في هذا السياق، وهو ليس منطقة جغرافية، ولكنه يعبر أيضا عن حالةٍ ثقافيةٍ وحضاريةٍ من المهم أن تُرى في تشابكاتها، وكذلك أن تُرى على مستوى مفرداتها، فأنماط الاستبداد، على سبيل المثال في منطقة الخليج العربي، ليست هي تماما تلك الأنماط والأشكال التي يمكن رصدها في الحالتين، المصرية والسودانية، أو في الحالة التي تتعلق بالعراق أو بلاد الشام أو الحالة اليمنية أو الحالة التي تتعلق بدول المغرب العربي؛ ملاحظة هذا التنوع في الأشكال والأنماط أمر غاية في الأهمية، ولعل هذا التمييز المهم قد عولج بأشكال معينة، ضمن تلك البحوث، ولكنه لم يتخذ الشكل الملائم والمناسب في دراسة ما يمكن تسميتها طبوغرافيا للاستبداد.
وفي سياق نقد مقولاتٍ وردت في أبحاث الكتاب قيد الصدور، فإن كاتب هذه السطور يتحفّظ على فكرتي الاستبداد المستدام والاستثناء العربي، وموضع التحفظ إنما يعود إلى أنهما ربما تشكّلان تناقضا أساسيا مع الفكرة الجوهرية التي تتعلق بتفكيك الاستبداد؛ فلو كان الاستبداد مستداما لكانت إزاحته ومقاومته فعلا في مقام المستحيلات، فعملية التفكيك المشار إليها في عنوان الكتاب تجعل من وصف “المستدام” ليس في محله، ولا يصلح أن يكون مدخلا أو جزءا من العنوان، ذلك أن تبنّي هذا الفهم مسلّمة إنما يعد أمرا متناقضا من الناحيتين، النظرية والعملية، على الرغم من أن عناوين فرعية أخرى ضمن هذا المؤلَف تعاملت مع الاستدامة بكونها حالة إشكالية. ولا يفوتنا في هذا المقام أن مفهوم الاستدامة الذي يعد ترجمة للكلمة أجنبية Sustainability إنما يرد في مواضع إيجابية، وليس في وصف حالة أو أحوال سلبية.
ويترافق مع هذا التحفّظ تحفّظ آخر، تشير إليه تلك المقولة الثانية التي ترتبط بفكرة الاستثناء العربي، وكأن العرب ضمن منظومتهم الاستبدادية يشكلون “حالة استثنائية مستعصية”. وفي الحقيقة أن الظاهرة الاستبدادية، سواء في تكوينها أو تكريسها أو القيام على مواجهتها ومدافعتها ومقاومتها والتخلص منها، إنما تستند إلى سنن كلية، لا تجعل من الاستبداد في حالته العربية استثناءً بهذا المعنى، ولكنه قد يشير إلى حالة ذات خصوصية في بعض جوانبها. ومن هنا، يبدو لنا أن قضية تفكيك الاستبداد لا تزال في حاجةٍ إلى معالجة لبعض القضايا المهمة، ولا تزال هناك أسئلة محورية تتعلق بقضايا أساسية ضمن عملية التفكيك للظاهرة الاستبدادية لم يتم الإجابة عليها.
العربي الجديد