أزمة «الحق»: هل يبني التظلم ثقافة جديدة؟/ محمد سامي الكيال
تتصاعد على الدوام دعوات لتغيير المعايير والإجراءات المستقرة للأنظمة الاجتماعية المختلفة، ومنها أنظمة القانون والسياسة والتعليم والفن، بدعوى أنها مثّلت دوماً هيمنة فئات ذات امتياز، أقصت وهمّشت كثيراً من الهويات الأكثر ضعفاً.
لا تحوي هذه الدعوات عادة نقداً منهجياً داخلياً للمعايير التي تودّ تغييرها، بقدر ما تحمل منظوراً تفكيكياً جذرياً لها: الاستقرار والتماسك الظاهر للمنظومات السائدة قائم أساساً على ما تم إخفاؤه والسكوت عنه، أي حضور وأصوات كثير من الضحايا، مثل من تم تحديدهم سلطوياً بوصفهم نساءً وأقليات وأبناء مستعمرات ومثليين، وبالتالي فإن ما نظنه العقل والمنهج العلمي والعدالة والجمال، ليس أكثر من سلسلة من الإقصاءات، ولم يكن بإمكانه إنتاج المعنى والدلالة إلا من خلال استبعاد أي رؤى أخرى ممكنة.
يؤدي هذا المنظور الراديكالي إلى نتيجتين متلازمتين: أولاهما أن «النقد» بالمعنى العقلاني، المنحدر من تراث التنوير، هو بدوره جانب من المنظور الإقصائي للمنظومات المعاصرة، إذ لا معنى لتفحّص أي معايير، والتشكيك بها أو الحكم عليها، على أساس المصادرات والأسس المنهجية نفسها لتلك المنظومات. لا توجد عقلانية عمومية نحتكم إليها في صياغة اعتراضاتنا ومطالبنا، وما يدعي كونه عمومياً، ما هو إلا الإكراهات والتحيّزات الذكورية البيضاء. ما يقودنا إلى النتيجة الثانية، وهي وجود منظورات كثيرة ومتنوعة، بكثرة وتنوّع الهويات، التي تم إقصاؤها. لا يمكن التحقق منها من منطلق متعالٍ عليها، وهذا يعني أن أي ادعاء بالتعرّض للظلم أو التهميش يعطي صاحبه حقاً، لا ينكره إلا من ينطلق من موقع مركزي اضطهادي. باختصار: إن كنت مظلوماً فأنت صادق وخيّر، ولا أحد يستطيع نقاش هذا.
انتفاء الحاجة للنقد يعني أن المواجهة الراديكالية للمنظومات القائمة تسعى إلى «الخلاص»، بكل الدلالات الدينية للكلمة، أكثر من الانهمام بتقديم طرح متماسك لإنشاء منظومات بديلة، وهو أمر لا سابق له في كل دعوات التحرر المعروفة في ما مضى، التي سعى أنصارها إلى صياغة أنماط مضادة من السياسة والثقافة. ما يطرح أسئلة جديّة عن فحوى السياسة والعلم والفن، الذي تفترضه دعوات التظلّم المعاصرة: هل يكفى التعبير عن التعرّض لـ»الأذى»، والمطالبة برفعه، إلى تغيير فعلي نحو الأفضل في حياة الفئات والأفراد المتظلّمين؟ وما نوع المنظومات الاجتماعية والثقافية القادرة على استيعاب كل وأي دعوى تظلّم تبرز في إطارها؟ والأهم: هل توجد نهاية للتظلّم، ضمن ثقافة تدعم دعواته بشدة؟
التظلّم معرفة؟
محاولة الإجابة على السؤال الأخير قد تكون مثيرة للتأمّل، فمن الملحوظ أن الهويات التي ترفع خطاب التظلّم تتكاثر باستمرار، وتصوغ لنفسها تنويعات غير متوقعة، تتقاطع فيها أشكال شديدة التركيب من المظالم. المتحوّل جنسياً من عرقية ملوّنة قد يعاني مثلاً من «اضطهاد» بعض النساء المثليات البيض من أنصار الموجة النسوية الثانية، بل قد يعاني من اضطهاد متحوّل آخر يتمتع بما يُعتبر امتيازاً ما، إلا أن تكاثر المظالم على ما يبدو لا يتم بشكل عشوائي، بل له علاقة بنيوية بتعريف الذات ضمن الثقافة المعاصرة: أنا أتألف من مجموع ما تعرّضت له من مظالم، وبالتالي فإن تعرّف أي فرد أو مجموعة على هويتها، يرتبط بشكل حتمي بصياغة مظلمة متكاملة.
يمكن ربط هذا نوعاً ما بالمنظور البنائي للهوية: التحديدات الهوياتية، بما فيها النوع والميل الجنسي والعرق، مبنية اجتماعياً نتيجة علاقات السلطة والمعرفة. لا يعني هذا أن البشر لا يتسمون بلون خاص للجلد، أو نمط ما من الأعضاء التناسلية، أو خصائص ثقافية معينة، ولكن المفاهيم والأدوار والأحكام والمعارف عن هذه السمات نتجت كلها عن نمط العقلنة والمخزون الدلالي للأنظمة الاجتماعية والمعرفية القائمة، وبالتالي لا يمكن للبشر التعرّف على ذواتهم إلا باستبطان وتقمّص التحديدات السلطوية.
انتفاء الحاجة للنقد يعني أن المواجهة الراديكالية للمنظومات القائمة تسعى إلى «الخلاص»، بكل الدلالات الدينية للكلمة، أكثر من الانهمام بتقديم طرح متماسك لإنشاء منظومات بديلة، وهو أمر لا سابق له في كل دعوات التحرر المعروفة في ما مضى، التي سعى أنصارها إلى صياغة أنماط مضادة من السياسة والثقافة.
يدفع التظلّم هذا المنظور إلى نتائج أبعد: الأبنية الاجتماعية قامت كلها على الاضطهاد والإقصاء الذي انتهجه الرجل الأبيض، وبالتالي فلا يمكننا معرفة ذواتنا إلا إذا اكتشفنا مدى الأذى والظلم الذي ألحقه بنا ذلك الرجل. الهوية إذن لا تُعرّف إلا سلباً، أي بمدى تقاطع أشكال الاضطهاد الأبيض على أجسادنا ووعينا. وكل معرفة للذات تساوي مظلمة جديدة. هذا الدمج بين المعرفة والتظلّم لا يقتصر على مسائل معرفة الذات، بل يبدو أنه امتد ليشمل كل أنواع المعارف، إذ أمسى الإسهام الأساسي لأيديولوجيا التظلّم، في مجال العلوم الإنسانية، بل حتى الطبيعية، والدراسات القانونية، والنقد الأدبي والفني، هو اكتشاف «البياض» والذكورية، وفضح إقصائيتهما ومركزيتهما. من جديد المعرفة لا تساوي أكثر من تأويل مظلمة ما، وإنتاج خطابات عن خطابات البيض المركزيين.
لا يوجد بالتأكيد خطاب تحرري عبر التاريخ، لم يبدأ بتعداد مظالم الفئة التي يسعى إلى مناصرتها، ولكن من الصعب وصف أي دعوى بالتحررية إن لم تقدم تعريفاً إيجابياً للذات الجمعية لجمهورها. حركات التحرر الوطني مثلاً، لم تكتف بتوضيح مظالم الاستعمار، بل أعادت بناء هوية متكاملة، و»روح قومية» واضحة للبشر، الذين جعلتهم «شعوباً» بناءً على قيم إيجابية لقدرتهم على الفعل وتقرير المصير. فيما أثّر كتاب فريدرك أنجلز «حال الطبقة العاملة في بريطانيا»، الذي سرد الأوضاع المأساوية للعمال، في نشأة الماركسية، إلا أن الأخيرة لم تعتبر العمال مجرد مظلومين، بل محرك التقدم التاريخي، بحكم موقعهم في عملية الإنتاج الاجتماعي. اختزال معرفة الذات، والمعرفة عموماً، بالتظلّم لن يعني إلا تأبيد صفة الضحية على المظلومين، فأي هوية ومعرفة تبقى لنا إذا خسرنا مظالمنا؟
معارف عادلة
ولكن لأي درجة احتكرت منظومات المعرفة والقانون والفن الحديثة السيادة للرجل الأبيض؟ التجربة التاريخية أظهرت أن حركات التحرر الوطني والحقوق المدنية الناجحة لم تقم على أساس رفض تلك المنظومات، بل على العكس سعت إلى استيعابها والتميّز بها. فقد كان امتلاك المنهج القادر على تعميم الحقوق الفردية والاجتماعية، وإنشاء دول حديثة، وتحقيق تطور علمي وتقني، وعصرنة السكان المحليين، طريقاً لكل تحرر فعلي من الهيمنة وليس العكس. ربما كان المثال الصيني الأكثر أهمية، فبعد عقود قليلة على ما يسميه الصينيون «قرن الذل القومي»، الناتج عن ممارسات استعمارية شديدة الظلم، باتت الصين دولة عظمى منافسة لدول «الرجل الأبيض». وبالتأكيد ليس عن طريق التظلّم، واجترار الآلام التاريخية. الصينيون اليوم من سادة المناهج «البيضاء»، ولم تعقهم عن هذا ما تسمى «المعايير الإقصائية» للمنظومات المعاصرة. وإذا كانت الصين قد نجحت في التحرر الوطني، إلا أنها استنسخت كثيراً من أساليب الاستغلال الرأسمالي للعمالة المحلية والخارجية، ولموارد الدول الأضعف. مع ذلك فكيف يمكن مواجهة هذا إذا تم التخلّي عن الإمكانيات النقدية للمنظومات العقلانية الحديثة؟ هل يكفي بعض التظلّم الأكاديمي والإعلامي مثلاً لمواجهة القيادة الصينية؟
من الصحيح أن المنظومات المعاصرة صيغت عند نشأتها على قياس «الذات القانونية» للذكور البيض البورجوازيين، ولكنها تضمنّت في داخلها، ووفق نسقها نفسه، إمكانيات تعميمها على فئات كثيرة. لأنها أنشأت مجالاً للعمومي والمشترك والمجرّد من الهوية. هكذا استطاعت الاحتجاجات العمالية والنسائية وحركات التحرر الوطني كشف التناقض بين ادعاءات البورجوازية وممارساتها، والمطالبة بتعميم «الحق البورجوازي»، الموصوف بالكوني، على الجميع. فلم يعد من داعٍ لتكثير الهويات المظلومة، ما دام المنهج المتحرر من الهوية قابلاً للاستخدام من كل البشر. بصرف النظر عن هويتهم.
التبعية الدائمة
تعطيل الإمكانيات النقدية العمومية للمنظومات الحديثة سيعني بالتأكيد حرمان البشر الأكثر اضطهاداً من إمكانية صياغة نقد متماسك لأوضاعهم، يُنتج مطالب واضحة، تُبنى على أساسها ائتلافات سياسية. وبالتالي فإن التظلّم ينزع سلاحاً أساسياً في مواجهة الشروط غير العادلة المعاصرة. لا يبدو أن التظلّم معني أساساً بمثل تلك المواجهة، فهو ليس دعوى اجتماعية بل شكلاً أيديولوجياً للذاتية، يمكن تعميمه حتى على أكثر الناس قوة وحظاً. يمكنك أن تكون من أصحاب الملايين ومتظلّماً في الوقت نفسه، إذا استطعت إثبات نسبك لإحدى الهويات المظلومة. وهو ليس بالأمر الصعب، كما أن «تمكين» بعض الأفراد المحظوظين من المجموعات المضطهدة لا ينعكس إيجاباً على أوضاع تلك المجموعات، فالإفقار والحرمان من الحقوق السياسية والاجتماعية يتزايد، ويطال فئات أكثر.. ولن يوقفه «التمييز الإيجابي» وكوتا الأقليات في بعض الأكاديميات والشركات والمنظمات غير الحكومية.
يفترض التظلّم إذن حالة من التبعية الدائمة في المؤسسات القائمة، فالأفراد الذين لا يستطيعون تعريف ذواتهم إلا بشكل سلبي، سيظلون عاجزين عن الفعل والتغيير، مكتفين بمزيد من عرض آلامهم والأذى التاريخي الذي تعرّضوا له، بانتظار الحصول على «تمكين» النظام القائم، المسؤول عن مظالمهم. وهذا لا يذكّر إلا بهرمية التبعية والامتياز العائدة لمنظومات التمايز الفئوي القروسطية.
كاتب سوري
القدس العربي