صفحات الحوار

نادر جبلي: المبادئ فوق الدستورية ضمانة كافية إذا كانت متكاملة وأُحسنت صياغتها

غسان ناصر

يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، نادر جبلي، الكاتب والحقوقي السوري، الباحث في الشؤون القانونية والدستورية في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، الذي يحمل إجازة في الاقتصاد وإدارة الأعمال، وإجازة في الحقوق اختصاص قانون دولي، وشهادة دبلوم في التخطيط.

ضيفنا من مواليد 1961، وهو مقيم في العاصمة الفرنسية باريس منذ عام 2013، بعد خروجه الاضطراري من سورية إثر اعتقاله مرتين على خلفية انخراطه المبكر في فعاليات الثورة السورية، وهو معارض صلب لنظام الطغيان الأسدي منذ مطلع الثمانينيات، ومن المناضلين من أجل دولة ديمقراطية حديثة يسودها القانون ويتمتع فيها جميع السوريين، على قدم المساواة، بحقوقهم وحرياتهم العامة والخاصة، وتُوضع فيها كرامتهم الإنسانية فوق كل اعتبار.

هنا نص حوارنا معه:

بداية، كيف تنظرون -من موقعكم- إلى ما يحدث في سورية اليوم، على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية؟

على الصعيد العسكري، وضعت الحرب أوزارها في معظم المناطق، بعد أن استعاد النظام بمساعدة حلفائه السيطرة على ثلثي البلاد تقريبًا، وبقيت ثلاث مناطق خارج سيطرته، هي المنطقة الشمالية الشرقية التي تسيطر عليها قوات (قسد) بدعم من القوات الأميركية، ومنطقة إدلب التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام”، ومنطقة السيطرة التركية شمال وشمال شرق سورية، بمساعدة ما يسمى بـ (الجيش الوطني). لكن ما زالت طبول الحرب تقرع بين الحين والآخر، فالنظام يسعى، بدعم روسي إيراني، لاستعادة تلك المناطق الخارجة عن سيطرته لحسم الصراع على الأرض، وتأكيد سيادته على كامل التراب السوري. وتركيا تسعى جاهدة لإبعاد المقاتلين الكرد عن حدودها الجنوبية، وامتلاك ما أمكن من نفوذ على الأرض لضمان حصة أكبر من الكعكة في التسويات المقبلة. وإسرائيل تسعى لإبعاد القوات الإيرانية عن حدودها، ومنع تموضعها الوازن على الأراضي السورية… لكن يبدو أن المناخ الدولي وموازين القوى لا يسمحان بتطور تلك المحاولات إلى درجة الحسم العسكري وتغيير الواقع القائم على الأرض، بالرغم من كل الزمجرة والمناوشات التي تحصل هنا وهناك. ويبقى الأمر رهنًا بالتسويات السياسية بين اللاعبين الكبار الممسكين بالحالة السورية.

هذا ينقلنا إلى الصعيد السياسي، والذي هو مفتاح الأصعدة الأخرى، حيث يتضح أن الحالة السورية القائمة تمر بمرحلة استنقاع بمنتهى الخطورة، خاصة إذا طالت، لأنها تكرّس أمرًا واقعًا يزداد تجذرًا مع الوقت، ويصبح صعب التغيير. وهذا يعني عمليًا تقسيم البلاد.

المشكلة الأكبر والأخطر والأكثر إيلامًا هي أن السوريين في الجانب المقابل للنظام، المعارضة بجناحيها العسكري والسياسي، أصبحوا خارج دائرة الفعل والتأثير، وخارج المعادلات وموازين القوى، وخارج التسويات، بسبب تفككهم وتشرذمهم، وعدم قدرتهم على العمل الجماعي، والالتفاف حول برنامج وطني للتغيير، وتشكيل قوة وازنة لا يمكن تجاوزها فيما يحصل من تسويات تخص بلادهم. وتحوّلوا -مع الأسف- إلى مجرد أتباع وأزلام لهذه الدولة أو تلك، ومجرد أدوات رخيصة في خدمتها، ما جلب لهم سخط وازدراء السوريين من جانب، وإهمال وتجاهل العالم من جانب آخر، وما أعطى للعالم مبررًا لتقاعسه عن الاهتمام بالقضية السورية، بالرغم من كل المآسي التي تكتنفها.

اقتصاديًا، ثمة دمار شبه كامل في كل مقومات الاقتصاد وقطاعاته وبنيته التحتية، وما بقي قائمًا ومفيدًا منها تم بيعه للروس والإيرانيين مقابل خدماتهم في دعم النظام والإبقاء عليه، فأصبحت البلاد بلا موارد ولا إنتاج ولا خدمات، فانهارت العملة وأكل الغلاء والتضخم والفساد المستشري مداخيل الناس وثرواتهم، وأصبحت غالبيتهم العظمى تحت خط الفقر..

أما الضرر الذي أصاب الاجتماع الوطني، وعلاقة الفئات السورية ببعضها البعض، فهو الأخطر والأبعد أثرًا، لأنه كفيل بالقضاء على فرص عودة الحياة المشتركة، إذا لم تتوفر الإرادة والظروف والشروط والوسائل اللازمة لمعالجته كما يجب، وقبل فوات الأوان. وهذا الجانب هو ما يجب أن تهتم به المعارضة وكل النخب، وتشتغل عليه بجدية ومسؤولية، أعني رأب الصدوع المجتمعية وتخفيف الاحتقانات وإطفاء النيران الطائفية قدر الإمكان.

اللجنة الدستورية

برأيكم، هل من الممكن أن يكون الحل السياسي للصراع في سورية عبر “اللجنة الدستورية”، خاصة أن هناك من يرى أن هناك قفزًا على بقيّة السلال والمراحل، وغض طرف عن نص القرار الأممي 2254 فيما يتعلق بـ “إقامة حكم ذي مصداقية يشمل الجميع”؟

اللجنة الدستورية مخلوق بائس معاق، اخترعه الروس لتصفية مسار جنيف وتعطيل مفعول القرار 2254 والاستفراد بالملف السوري، بالرغم من الادعاء أن العملية الدستورية جزء من هذا المسار، أو تحت مظلته، لذلك هي غير قادرة ولا مؤهلة ولا مصممة لإنتاج أي حل للصراع، إلا في الاتجاه الذي يخدم مصلحة النظام ويدعم فرص بقائه. لذلك رأينا منذ البداية أن قبول المعارضة بالمشاركة في هذه اللجنة، وانخراطها في هذا المسعى الروسي السام، كان خطيئة كبرى لا تغتفر، لأن الأمور كانت بمنتهى الوضوح، ولا يجوز التفريط بقرار أممي يكاد يكون المكسب الوحيد للشعب السوري، تحت ذريعة وعود شفهية من هنا وهناك، أو تحت ذريعة الواقعية السياسية.

إذا افترضنا أن المسار التفاوضي أفضى إلى تصوّر يحظى بقبول كل الأطراف في جنيف؛ فعن أي جهة سيخرج الإعلان الدستوري؟ ومن سيضمن تطبيق المُخرجات؟

لن يكون هناك أي مخرجات للجنة الدستورية، إلا إذا وافق قسم وازن من وفدي المعارضة والمجتمع المدني على ما يفرضه وفد نظام الأسد، وتنتهي القصة بتعديلات شكلية على دستور 2012 لا تمس جوهر وبنية ومراكز قوة النظام. وأعتقد أن معظم من هم في وفد المعارضة لن يقبلوا بهذا، وأقول معظم، وليس كل، لأن وفد المعارضة مخترق من منصة موسكو التي يفترض أن تكون جزءًا من وفد النظام، ويضمّ مجموعة مستعدة للقبول بأي حل ينهي المأساة الحالية، ولو كان الثمن بقاء النظام.. وفد المعارضة بالنتيجة هو عبارة عن مجموعات غير منسجمة وغير متفاهمة، وما وجودهم ضمن وفد واحد إلا بقوة العامل الخارجي، وأجزم أن بعضهم لا يتحدث إلى بعضه الآخر.

إذن؛ لن يكون هناك نتائج لهذا المسار، وقد رأينا بالأمس القريب كيف انتهت الجولة السادسة من مفاوضات اللجنة بالفشل والإحباط، ونراقب دائمًا كيف أن وفد النظام، برعاية روسية، وغض نظر خبيث من الغرب، يحوِّل جلسات التفاوض إلى عبث ومسخرة، ويحوّل وفد المعارضة إلى مجموعة من البائسين المعاقين.

النظام الآن بوضع أفضل من قبل، عسكريًا وسياسيًا، وما زال مدعومًا بلا حدود من حليفيه الإيراني والروسي، وبعض الدول بدأت بالتقرب منه، وبعض الغرب بدأ بتفهّم بقائه كأمر واقع، خاصة في ظل انسداد الأفق، وانعدام السيناريوهات البديلة. فكيف يمكن لعاقل إذن أن يتوقع قبول النظام بتقديم تنازلات يمكن أن تودي به سياسيًا، وتفضي برموزه إلى السجون، وهو الذي لم يقدم أي تناول عندما كان على وشك السقوط؟ لكن جوابًا على سؤالك، إذا افترضنا أن معجزة حصلت، وتوافقت اللجنة على وثيقة دستورية ما، فإن هذه الوثيقة ستعرض على مجلس الأمن، وسيصدر بها قرار أممي ملزم للجميع.

وفق رؤيتكم، كيف يمكن أن يكون الدستور السوري الجديد جامعًا لكل السوريين على اختلاف انتماءاتهم؟

حتى يكون الدستور جامعًا، ويشعر جميع السوريين، على اختلاف انتماءاتهم، أنه دستورهم، يجب أن يتصف بثلاث صفات رئيسة:

    – الأولى: أن يكون دستورًا ديمقراطيًا، وهذا يتطلب أمرين: الأول أن يكون المسار الإجرائي لإعداده مسارًا ديمقراطيًا، بدءًا بانتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية، مرورًا بالمناقشات والمشاركة المجتمعية الواسعة، وصولًا إلى الاستفتاء الشعبي عليه؛ والآخرُ أن يكون مضمونه ديمقراطيًا، بمعنى أن ينص على مبادئ الديمقراطية المعروفة، كانتقال السلطة وفصل السلطات وسيادة القانون واستقلال القضاء وضمان حقوق الأقليات.

    – الثانية: أن يكون دستورًا عَلمانيًا، يحرص على حيادية الدولة تجاه الأديان وكل الأيديولوجيات، مع احترام وحماية جميع الأديان والمعتقدات أيًّا كانت.

    – الثالثة: أن يضمن مبدأ المواطنة المتساوية ويراعي متطلباتها، بحيث يكون جميع المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات والامتيازات والفرص.. وأمام القانون والمحاكم ومؤسسات الدولة، بغض النظر عن حالتهم وانتماءاتهم وعناصر هويتهم..

بهذه المواصفات؛ يكون الدستور جامعًا لكل السوريين، ويكون في الوقت نفسه قادرًا على وضع البلاد على سكة الخلاص.

المبادئ فوق الدستورية

يتزايد الحديث اليوم، في المشهد السياسي والقانوني السوري، عن المبادئ فوق الدستورية/ أو الدستورية المحصنة. هل لك أن تشرح لنا معنى وأهمية المبادئ الدستورية المحصنة؟

المبادئ فوق الدستورية أو القواعد الدستورية المحصنة هي قواعد دستورية تُعطى، بنص دستوري، حصانة استثنائية ضد التعديل أو التغيير، تفوق تلك الحصانة التي تتمتع بها قواعد الدستور الأخرى، بمعنى أنه لن يكون بإمكان المشرع الدستوري تعديلها أو إزالتها أو استبدالها في أي وقت وفي أي ظرف، اللهم إلا إذا تغير نظام الحكم برمته، بسبب ثورة أو احتلال أو انقلاب أو ما شابه.

أما الغاية والمبرر لتخصيص قواعد دستورية معينة بتلك الحصانة الاستثنائية، فلأنها قواعد تتناول قضايا وطنية مصيرية ذات أهمية استثنائية في بلد معين، وتحصينها ضروري لمعالجة هموم ذلك البلد ومعوقات خلاصه من أزمات عميقة مستعصية، وتوفير فرص تعافيه واستقراره وتقدمه..

يمكن القول بمعنى آخر: إنها نوع من الضمانات الدستورية العالية المستوى، هدفها طمأنة جميع فئات المجتمع، التي تحتفظ بمخاوف وهواجس جدية من الآخرين ومن المستقبل، إلى أن مستقبلها وحقوقها وحرياتها ستكون مصانة، ولن يكون بمقدور أي سلطة حاكمة مقبلة العبث بها أو النيل منها، مهما كانت الأغلبية التي تتمتع بها في البرلمان ومؤسسات الدولة. وهذا المستوى من الضمانات هو الأداة الأكثر قدرة على بث قدر من الطمأنينة في النفوس الخائفة المتوجسة، يكفي لدفعها إلى مدّ يدها للآخرين، والانخراط معهم في عملية التأسيس والبناء..

أما لماذا هي ضرورية وتكتسي هذه الأهمية في حالتنا السورية، فلأسباب عدة أهمها:

1. هذا التنوع والتعدد الذي يشكل نسيج المجتمع السوري.

2. هذه الرضوض البالغة والمميتة التي أصابت الاجتماع الوطني السوري، وعلاقة فئات المجتمع ببعضها البعض، بسبب الإدارة السامة الخبيثة للتنوع السوري من قبل نظام الأسد على مدى نصف قرن، وبسبب هذه المأساة المهولة التي يعيشها السوريون منذ أزيد من عقد من الزمان، وما تخللها من انتهاكات وممارسات أوصلت الاحتقان الطائفي والقومي إلى ذروته، وملأت الصدور بالضغائن والأحقاد.

3. هذا التوق لدى معظم السوريين لإقامة دولة عصرية حديثة ديمقراطية يسود فيها القانون، ويتمتع فيها الجميع بحرياتهم وحقوقهم على قدم المساواة، وتُحترم فيها مبادئ الديمقراطية، وتنتقل فيها السلطة بشكل دوري وسلمي، ويكون القضاء فيها سيدًا مستقلًا، وتعود فيها السياسية إلى المجتمع، ويأخذ فيها المجتمع المدني دوره..

كيف يمكن للخبراء والمختصّين من القانونيين السوريين تأسيس أرضية صلبة لتوافق كل مكوّنات الشعب السوري على قواعد دستورية يلتفّ حولها غالبية السوريين؟ وهل تشكّل هذه القواعد ضمانة لعدم عودة الاستبداد؟ أم أنها مجرد قواعد مهمّة، ولكنها تحتاج إلى ميزان قوى مجتمعي للدفاع عنها في مواجهة أي استبداد؟

هذه ليست مهمة القانونيين وحدهم، بل مهمة جميع من نسميهم (النخب) من قانونيين وسياسيين ومثقفين… فالوصول إلى مثل تلك المبادئ يحتاج إلى وعي كبير وواسع بأهميتها وضرورتها أولًا، وإلى جهود كبيرة ومتصلة ومدروسة من النخب السورية ثانيًا، وإلى نيّات طيبة وإرادة حقيقية من قبل القوى السياسية والمجتمعية المسيطرة على المشهد، عندما تستحق اللحظة التاريخية التي تستدعي جلوسهم إلى طاولة واحدة، ووضع أسس عقدهم الاجتماعي الجديد..

المختصون من قانونيين وسياسيين عليهم بلورة هذه المبادئ وصوغها والتوعية بأهميتها ودورها، وعلى النخب بكل تلويناتهم العمل عليها وتسويقها في مجتمعاتهم وأماكن تأثيرهم، لخلق مناخ عام إيجابي ومتفهم لها، حتى نكون مستعدين لتلك اللحظة التاريخية التي أشرنا إليها أعلاه. أما حول الشق الثاني من السؤال، فلا نبالغ بالقول أن المبادئ فوق الدستورية هي من أهم الضمانات لمنع عودة الاستبداد إذا كانت متكاملة وأُحسنت صياغتها، لأنها تمنع فرص تشكله ونموه أصلًا، أي أنها تلعب دورًا وقائيًا، وهذا من أهم ما يمكن أن تقوم به في حالتنا السورية. فعندما تضمن المبادئ تداول السلطة ولا يعود بإمكان الحاكم تأبيد حكمه بأي طريقة، وعندما تضع المبادئ حدًا لقدرة الحاكم التنفيذي على التشريع، ولقدرته على التحكم المنفرد في القرار العسكري والأمني، ولقدرته على التأثير في القضاء.. وعندما يتم ضمان الحريات وسيادة القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء.. فكيف سيجد الاستبداد طريقًا للعودة؟

إذن؛ هي ضمانة كبرى إذا كانت متكاملة وأُحسنت صياغتها، كما قلنا، لكنها تفقد بعض أهميتها إذا كانت ناقصة، وأَغفلت جوانب مهمة وتركت ثغرات يمكن أن يتسلل منها الاستبداد. فإغفال الدور الأساسي للمحكمة الدستورية العليا، كحارس وضامن لاحترام الدستور وحسن تطبيقه، قد يكون ثغرة مهمة تمكِّن الحاكم من خرق الدستور، وقد رأينا أخيرًا كيف استغل الرئيس التونسي فرصة غياب المحكمة الدستورية لاتخاذ إجراءات أحادية قد تعيد البلاد إلى مربع الاستبداد.. وطبعًا، كل هذه الضمانات لا تفيد شيئًا في حالات الانقلاب على الدستور أو نظام الحكم..

ما الذي يمكن فعله في حال رفض أحد أطراف الصراع السوري – السوري من القوى الفاعلة والمؤثّرة على الأرض السورية (الإسلاميون المتشدّدون مثلًا) الموافقة على تبني المبادئ الدستورية المحصنة؟ ومن هي الجهة التي تملك الحق مستقبلًا في تحصين هذه المبادئ؟

إذا كان الرافضون للمبادئ فوق الدستورية من القوى المؤثرة الوازنة التي لا يمكن تجاوزها في تلك اللحظة التاريخية التي أشرنا إليها، فإن المبادئ لن تكون جزءًا من تلك العملية التي تؤسس للعقد الاجتماعي والدستور المقبل. ولا يمكن فرض ذلك لأن الفرض يجعل التوافق هشًا قابلًا للانهيار. لكن ربما يتم الاتفاق على بعض المبادئ ورفض بعضها الآخر، وهذا أفضل، لكنه قد لا يسدّ الثغرات التي نخشى منها بخصوص تسلل الاستبداد، وقد لا يوفر حدًا معقولًا من الثقة لأصحاب الهواجس والمخاوف.

ولكن، مَن يملك الحق في منح مثل هذه الحصانة الاستثنائية لهذه القواعد الدستورية، ومنع ممثلي الشعب المنتخبين من تعديلها في المستقبل، مهما كانت أغلبياتهم؟ وما مدى شرعية ذلك؟ ولماذا يكون لمجموعة ما من البشر في لحظة زمنية معينة سلطة أعلى من سلطة غيرهم من الأجيال اللاحقة؟ هذه أسئلة محقة ومهمة وحساسة، والإجابة عنها على شيء من التعقيد، فالمجتمعات تخرج من مراحل الحروب والصراعات المدمرة عبر اتفاق مصالحة بين قوى المجتمع المؤثرة والفاعلة في تلك اللحظة، وفي هذا الاتفاق، يتم وضع أسس الوفاق الوطني أو أسس العقد الاجتماعي الجديد، الذي يعالج النقاط الخلافية بين الجماعات المختلفة، ويعالج هواجس ومخاوف الجميع، ويحدد ملامح النظام السياسي الجديد، وهذا الوفاق الوطني هو الذي يشكل مرتكز الدستور ومصدر شرعيته، وهو الذي يقيّد ويوجه واضعيه، وهو الذي يحدد القواعد الدستورية التي لا يجوز تعديلها أو الاتفاق على خلافها في المستقبل. لأن تعديلها أو استبدالها يقوّض هذا الوفاق الوطني ويعيد البلاد إلى المربع الأول.

إذن، القصة ليست في سموّ هذه السلطة التأسيسية عن السلطات اللاحقة، ولا في سموّ هذا الجيل عن الأجيال اللاحقة، بل السمو هو لهذه اللحظة التاريخية التي تنتج الوفاق الوطني وتحدد أسس العقد الاجتماعي الجديد، والمبادئ التي يقوم عليها، والتي لا يجوز المساس بها..

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هي الآليات الواجبة لتطبيق هذه المبادئ وحماية الدستور من المصادرة من أي قوة كانت في سورية المقبلة؟ أي ما الذي يضمن الدستور ومبادئه من التجاوز؟

أولًا، الدستور نفسه، إذا كان محكمًا متكاملًا شاملًا لكل ما يلزم من أحكام، ليس فيه ثغرات أو عيوب تجعل من اختراقه أو تجاوزه أو الالتفاف عليه أمرًا سهلًا؛ وثانيًا الدستور نفسه، إذا تمت مراعاة المسار الديمقراطي في كتابته واعتماده على ما ذكرنا أعلاه، فيشعر الجميع أنه دستورهم، وأنهم ممثلون فيه كما يجب، فيحترمونه ويدافعون عنه؛ وثالثًا القضاء الدستوري المستقل المتمتع بالصلاحيات الكافية لحماية الدستور والتدخل الفاعل في حال تجاوزه؛ ورابعًا صدور القوانين الأساسية التي ينصّ عليها الدستور في وقتها؛ وخامسًا تحييد مؤسستي الجيش والأمن عن السياسة، وتحديد مهامهما وصلاحياتهما ومرجعياتهما بدقة، بحيث لا يتمكن الحاكم من توظيفهما في مشاريعه وطموحاته الاستبدادية… لكن تبقى الضمانة الأكبر هي وعي الناس، وتجذر ثقافة الديمقراطية وسيادة القانون والمواطنة لديهم..

المرحلة الانتقالية

هل ترون أنّ المعارضة السورية، بظروفها الحالية، مؤهّلة لقيادة المرحلة الانتقالية؟

حتى اللحظة، لم تثبت المعارضة، بكل تلويناتها ومرجعياتها، أي جدارة في أي استحقاق مرت به في الفترة السابقة، خاصة في العقد المأساوي الأخير، فسقطت في امتحانات السياسة وامتحانات العمل الجماعي. وبعضها سقط في امتحانات المال، ومعظمها رهن نفسه وقراره لقوى خارجية، وأصبح أداة من أدواتها.. لذلك لا أرى أنها مؤهلة لقيادة مرحلة انتقالية، ولا لقيادة أي مرحلة، ولا حتى لقيادة بلدية صغيرة..

من جانب آخر، لا أرى أن المطلوب هو أن تقود المعارضة المرحلة الانتقالية، إنما المطلوب أن تكون هناك مؤسسات منتخبة تمثل كل الناس، تفرز القيادات وتحاسبهم وتغيرهم بآليات ديمقراطية، مهمتها الرئيسة استعادة الأمن وتوفير الأمان والاستقرار ومقومات الحياة، ونزع فتيل النزاعات بين السوريين، وتقريبهم من بعضهم البعض، وتمكينهم من كتابة دستور ديمقراطي ينقلهم إلى مرحلة الاستقرار والبناء بالسرعة الممكنة..

يرى كثيرون أن سورية الجديدة يجب أن تكون دولة لامركزية موسعة، يتم فيها إعطاء سلطات وصلاحيات واسعة لإدارات المناطق، بدلًا من حصرها في المركز، ما رأيكم أنتم؟

نعم، لا شكّ في أن اللامركزية الإدارية الموسعة هي الشكل الأفضل لسورية المستقبل، وهذا من الأمور التي يكاد معظم السوريين يجمعون عليها، بسبب ميزاتها العديدة التي أثبتت جدارتها في غير مكان من العالم، أو كردة فعل على مركزية الدولة السورية المفرطة في عهد الأسود، والتي خنقت الناس في المناطق وهمشتهم، وأبقت القرارات، كبيرها وصغيرها، حكرًا على العاصمة.

لكن ما أخشاه في هذا الأمر، وفي غيره، هو هذه الاندفاعة العاطفية، غير المتفكِّرة والمتبصِّرة، في عكس الاتجاه الذي كان قائمًا في عهد الأسد، وذلك كردة فعل على تلك الحقبة السوداء المؤلمة. فيندفعون نحو اللامركزية الموسعة إلى الحد الأقصى كردة فعل على مركزية الأسد، ويندفعون نحو النظام البرلماني كردة فعل على نظام الأسد الرئاسي.. هذه الاندفاعة العاطفية غير المدروسة قد تأخذنا إلى خيارات إشكالية معيقة وغير ملائمة، وربما كارثية، نندم عليها مستقبلًا أشد الندم. فالموجه الذي يجب أن يحكم خياراتنا في أي مسألة مصيرية هو المصلحة والقدرة والملاءمة والكفاءة.. وليس ما كان في عهد الأسد وما لم يكن.. فالتوسع المبالغ به في اللامركزية قد يؤدي إلى تفكك البلاد الخارجة من مأساة مهولة دمّرت الاجتماع الوطني وعلاقات البشر.. والنظام البرلماني قد يكون خيارًا كارثيًا، لعدم قدرة البرلمان الوليد على دعم حكومة قوية مستقرة قادرة على الإنجاز في بلد مدمر ينقصه كل شيء..

نعم، نحتاج نظامًا لا مركزيًا، يتم فيه توزيع السطات والصلاحيات بين المركز والمناطق بشكل متأنٍ ومدروس، بحيث نحصل على فوائد اللامركزية من جانب، ونبقي على قدر من المركزية يكفي لمسك البلاد المنهكة ومنعها من التفكك.

نتوقف معكم للحديث عن ملاحقة بشار الأسد ورموز نظامه من المتورطين في جرائم الحرب، في ساحات القضاء الأوروبي، لنسألكم بداية عن الفرق بين العدالة “الانتقالية” و”التقليدية”، والاختلاف بينهما من حيث الأهداف أو الآليات أو المجال.

ثمة فرق كبير بين العدالة الانتقالية والعدالة التقليدية، والفرق يشمل التعريف والمجال والأدوات والأهداف. فالعدالة الانتقالية تضم مروحة واسعة من التدابير والإجراءات القضائية وغير القضائية في دولة معينة خارجة من مرحلة استبداد أو نزاعات وحروب أهلية، حدثت خلالها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وذلك بغرض مساعدة المجتمع على التعافي من ذاك الإرث المرير من الانتهاكات، ورأب الصدوع المجتمعية واستعادة السلم الأهلي وإعادة بناء الثقة بين فئات المجتمع، وليس فقط بغرض محاسبة جناة اخترقوا القانون، كما هو الحال في العدالة التقليدية. أما الأدوات المستخدمة في العدالة الانتقالية فتشمل، إضافة إلى المحاكمات والملاحقات القضائية، لجان الحقيقة، والاعتراف، وبرامج جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات.. لأن إفلات المرتكبين من المساءلة، وتجاهل إرث الانتهاكات، وتجاهل معاناة الضحايا، يجعل من تعافي المجتمع المكلوم، وتصفية تركة الماضي والانتقال إلى مرحلة التعافي، أمرًا بالغ الصعوبة. وليس ثمة وسيلة غير إجراءات العدالة الانتقالية تعيد للضحايا وذويهم شيئًا من كرامتهم المهدورة، وتخفف من حمولات الغضب والحقد التي تعتلج في صدورهم، وتعيد لهم الثقة والشعور بالأمان تجاه الآخرين وتجاه المستقبل.

مع تعطيل الروس لكل الآليات الممكنة لمحاسبة رأس النظام وأركان حكمه من مرتكبي جرائم حرب، في أو عبر مجلس الأمن، ومع ضلوعهم بجرائمه عبر مشاركة سلاحه الجوي الروسي بشكل مباشر في المعارك منذ أيلول/ سبتمبر 2015، واختبار أكثر من 320 طرازًا من مختلف الأسلحة ومنها المروحيات، بحسب تصريحات وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، في منتصف تمّوز/ يوليو المنصرم، فضلًا عن التفويض الأميركي بإدارة الملف السوري خاصة بعد قمة بوتين – بايدن الأخيرة في جنيف، وفي ظل عدم وجود محكمة جنايات خاصة بسورية؛ ما هي الطريقة المجدية في عمل المراكز والمنظمات الحقوقية السورية لتحقيق العدالة الانتقالية على أرض الواقع؟

يصعب الحديث عن عدالة انتقالية في ظل سيطرة روسية أو إيرانية أو غيرها.. أي في ظل حماية خارجية لفريق من المنتهكين والمجرمين، فالعدالة الانتقالية إما أن تشمل جميع الجهات التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية أيا كانت أو لا تكون. ولا يمكن لعاقل أن يتوقع تطبيق إجراءات العدالة الانتقالية على رموز النظام في ظل السيطرة الروسية. وفي هذه الحال، لا جدوى من عمل الحقوقيين وغيرهم.. لكن يمكن، بل يجدر بنا العمل على محورين: الأول هو السعي الدائم، المنسق والمدروس، لدى المجتمع الدولي وأصحاب القرار في الشأن السوري لجعل فرصة العدالة الانتقالية أمرًا ممكنًا؛ والثاني هو جمع المعلومات وتحضير الملفات وإعداد الدراسات والقيام بكل ما يلزم للاستعداد لتلك المرحلة، كما لو كانت قادمة بالفعل.. ويبقى السؤال المؤلم: هل يمكننا القيام بذلك كمعارضة؟

ملف المعتقلين

“الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” هو المكوّن الأساسي في “الهيئة العليا للمفاوضات”، ومن هيئاته “الهيئة الوطنية للمعتقلين” المكلفة بمتابعة ملف المعتقلين وبيان مصير المختفين قسرًا، وعلى الرغم من ذلك لم يحدث أي تقدّم في ملف المعتقلين في العملية التفاوضية في جنيف؛ فأين يكمن الخلل؟ وما الحلّ لتحريك هذا الملفّ بجدية على الصعيد الدولي؟

ملف المعتقلين هو الأكثر قسوة وإيلامًا بين باقي الملفات المؤلمة التي تشكل المأساة السورية. فأماكن وظروف الاعتقال بالغة القسوة، والسجانون جلادون مشحونون بالحقد الأعمى ويدُهم مطلقة على المعتقلين، وموت المعتقل وشيك وممكن في أي لحظة. أما معاناة ذوي المعتقل فأكثر صعوبة، فهم لا يعرفون حقيقة مصير ابنهم: أما زال على قيد الحياة أم بات في عداد الموتى، وتتواتر إلى أسماعهم أخبار القتل والتعذيب في المعتقلات، فتصبح حياتهم مأتمًا دائمًا..

يستخدم النظام القاتل هذا الملف كسلاح في معركته القذرة من أجل البقاء، وهو لم يبال بكل المطالبات والمناشدات، وبكل القرارات الدولية التي طالبت بالإفراج عن المعتقلين كبادرة حسن نية، وخطوة تسبق أي تفاوض.. طبعًا لأنه يعرف جيدًا أن أحدًا لن يُجبره على اتخاذ هذه الخطوة. أما المعارضة التي تصدرت المشهد فقد ضحت عمليًا بملف المعتقلين على مذبح الواقعية السياسية، عندما انخرطت بكل التسويات السياسية الوهمية قبل أن يُطلق النظام سراح معتقل واحد. وأقول “ضحّت عمليًا”، لأنها نظريًا تطالب بشكل دائم، وفي كل مناسبة، بإطلاق سراح المعتقلين، وقد شكلت اللجان المختصة بهذا الملف.. لكنها تعرف ويعرف الجميع أن هذا الكلام لا يجدي نفعًا، ويذهب كالزبد في مواجهة نظام مجرم، مدعوم بحلفاء لا يقلون جرمية، ومجتمع دولي غير مكترث..

مثلًا، كان ملف المعتقلين على رأس جدول جميع جولات آستانا الستة عشر، ولم يُطلق سراح معتقل واحد، واستمر الوفد بالحضور بشكل طبيعي، لأنهم مأمورون بالحضور من قبل سادتهم خارج الحدود. أما إنجازاتهم الأخرى فكبيرة ولا شك، من أبرزها أنهم أضعفوا المعارضة السياسية إلى الحد الأقصى بسحب ملف الفصائل المسلحة من بين يديها، ومنها أنهم ساعدوا النظام في استعادة المناطق التي كان قد خسرها، وذلك عبر لعبة مناطق “خفض التصعيد” التي ابتكرها الروس..

إذن، ما كان يجب عمله هو عدم الانخراط في أي عملية سياسية، قبل التفاهم على إطلاق سراح المعتقلين، ولو بالتدريج، كأن يتم إطلاق الأطفال والنساء في المرحلة الأولى، وهذا ليس شرطًا يمكن أن تلام المعارضة عليه، بل هو مطلب دولي ورد في بيان جنيف وفي كل القرارات الأممية التي بنيت عليه، وجاء كواحد من إجراءات بناء الثقة التي تساعد في الانخراط في العملية السياسية.

تقدم المعارضة كل ما يطلب منها، كالطلاب الشاطرين والأولاد المطيعين، وتتخلى طوعًا عن كل أوراق القوة التي تملكها، كالقرار 2254، وتغرق يومًا بعد يوم في مستنقع التنازلات، مقابل وعود شفهية من هذا السفير أو ذاك المندوب..

أما ما يمكن عمله الآن، فهو ما كان يجب عمله منذ البداية، وهو تعليق مشاركتنا في كل المسارات التفاوضية والسياسية، ريثما يتم البت بملف المعتقلين وإيجاد تسوية مرضية له.. وطبعًا، لست متفائلًا بأن هذا سيحدث، ولست متفائلًا بحدوث تطور إيجابي إذا حدث، لأن النظام وحلفاءه الآن أقوى من ذي قبل، ونحن أضعف بكثير من ذي قبل.

نتحدث عن معتقلين ومختفين قسرًا ومختطفين، فهل يمكن لكم توضيح الفروقات بين هذه المصطلحات من الناحية القانونية؟

الاعتقال هو حجز للحرية تقوم به السلطات الإدارية والأمنية دون العودة إلى القضاء، وقد يتم ذلك وفقًا للقانون، كما في حالات الجرم المشهود، أو في حالات أمنية محددة، وقد يتم خارج القانون، كما يحصل في الدول غير الديمقراطية..

الاختفاء القسري أو التغييب القسري هو اختطاف شخص لأسباب سياسية، من قبل جهة ما، حكومية أو غير حكومة، ورفض تلك الجهة الاعتراف باختطافه وبوجوده لديها، الأمر الذي يجعل المختطف خارج حماية القانون. مثال ذلك حالة عبد العزيز الخيّر ورفاقه الذين تم اختطافهم من قبل أجهزة الأمن السورية عند عودتهم من زيارة للصين، وكذلك حالة رزان زيتونة ورفاقها الثلاثة الذين تم اختطافهم في دوما من قبل جيش الإسلام. والاختفاء القسري جريمة بشعة ترقى إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية، في حال تواترها واتساع نطاقها.. ومناط التفريق بين الاختطاف العادي والتغييب القسري هو حالة إنكار الاختطاف والإخفاء من قبل الجهة المرتكبة.

أخيرًا، وبعيدًا من بروباغندا النظام حول إعادة اللاجئين السوريين لقراهم ومدنهم التي دمّرتها قواته العسكرية وحلفاؤه، والتي كان آخرها عقده لـ“مؤتمر اللاجئين” في نسخته الثانية في نهاية تموز/ يوليو 2021؛ نسألكم عن المحددات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها أن تؤثّر في قرار عودة هؤلاء اللاجئين إلى سورية.

إضافة إلى الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية السائدة في الداخل السوري، فإنّ مقاربة مسألة عودة اللاجئين تستدعي الإحاطة ببعض المعطيات الإضافية التي أحسب أنها حاسمة فيها، منها ما يتصل بمنطقة اللجوء، ومنها ما يتصل ببيئة اللاجئ الأصلية وبتكوينه الثقافي، ومنها ما يتصل بحالته الشخصية كالعمر والمؤهلات والدرجة العلمية..

يمكننا، تجاوزًا، تقسيم مناطق اللجوء إلى ثلاثة مستويات: مستوى أول تقدم دوله للاجئ ما يساعده في العيش بأمان وكرامة، وما يجعله مطمئنًا إلى مستقبل أطفاله، وهذا يشمل الدول الديمقراطية الغربية عمومًا، وهذا عامل مساعد ومغرٍ على البقاء في دولة اللجوء؛ ومستوى ثان تقدّم دوله للاجئ السوري ملاذًا آمنًا وفرصًا للتعليم والعمل، لكن دون مساعدة مادية، ونموذجه الأبرز تركيا، وهذا مساعد على البقاء في حال توفر الدخل وفرص العمل؛ ومستوى ثالث يواجه فيه اللاجئ صعوبات في العيش والعمل، ولا يشعر فيه بالأمان أو الاحترام، ومثاله الأبرز الأردن ولبنان، وهؤلاء مستعدون للعودة بمجرد الشعور بالأمان، وبصرف النظر عن الحالة الاقتصادية وظروف المعيشة.

أما بخصوص البيئة الثقافية التي ينتمي إليها اللاجئ، فثمة من أتى من بيئة متدينة محافظة، كغوطة دمشق مثلًا، ويجد صعوبة بالغة في الاندماج وتقبّل ثقافة المجتمع الجديد، ويخشى على أسرته من التفكك، وعلى أولاده من الضياع والانحراف، وهذا مستعدّ للتضحية بأشياء كثيرة، إذا أتيحت له فرص العودة.. وهناك من أتى من بيئة أكثر تحررًا وانفتاحًا، ولم تشكل المجتمعات الجديدة صدمة له، وهذا أكثر قابلية للاندماج والبقاء في مكان اللجوء. والحالة الشخصية أيضًا تلعب دورًا، فقدرة الشاب على تعلم اللغة ودخول الجامعة وتحصيل فرصة عمل هي أكبر بكثير من قدرة الكهل، وهذا يدعم خيار البقاء لدى الشاب، والعودة لدى الكهل. وكذلك طول المدة يلعب دورًا مهمًا أيضًا في الموضوع، فكلما طالت مدة اللجوء زادت فرص استقرار اللاجئ ودرجة تأقلمه وتقبله واندماجه، وقلت فرص عودته.

إذن؛ ثمة معطيات عديدة تتضافر مع الحالة الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تعيشها سورية، لتشكِّل قرار اللاجئ بالعودة. مفترضين طبعًا أن العودة ستكون اختيارية، وبقرار من اللاجئ. باختصار: من لديه مشكلة أمنية مع النظام تستحيل عليه العودة، مهما كانت الوعود، لأنه نظام مجرم غادر حقود. ومن لا مشكلة لهم مع النظام ترتبط عودته بالوضع الاقتصادي والمعيشي في سورية، وبالعوامل الإضافية التي أتينا على بعضها.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى