عصر حروب المسيّرات: ذلك السلاح الآتي من المستقبل
إعداد: بيار عقيقي
يعيد تعرّض مسكن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لهجوم بثلاث مسيّرات مفخخة، يوم الأحد الماضي، في أول محاولة اغتيال من هذا النوع لمسؤول كبير في العراق، إحياء النقاش بشأن مدى تعاظم دور هذه الطائرات في الحروب والأعمال العسكرية، خصوصاً أنها على عكس الطائرات العسكرية التقليدية، لا يقتصر توفرها على الجيوش فقط بل تُستخدَم من قبل المليشيات وبكثرة أيضاً، وهو ما يجعل العديد من المحللين العسكريين في العالم يعتبرون المسيّرات “سلاحاً آتياً من المستقبل”. وتبدّلت استراتيجيات الحروب في العقد الأخير من القرن الحالي، خصوصاً مع توجّه المتقاتلين في مختلف مناطق الصراعات إلى استخدام الطائرات المسيّرة، التي تنوّعت استعمالاتها، من الاستطلاع والمراقبة وتحديد الأهداف لعناصر أخرى، إلى حدّ تسلّحها بصواريخ ولايزر لاستهداف مواقع محددة. وبعد ذلك، بوشر استخدام هذه التقنية كمسيّرات مفخخة أو انتحارية، أُطلق عليها اسم “كاميكازي”، تيمّناً بالطيارين اليابانيين، الذين اشتهروا في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) بالعمليات الانتحارية ضد المواقع الأميركية، تحديداً في بيرل هاربر ـ هاواي في 7 ديسمبر/كانون الأول 1941. وفي السنوات الأخيرة، برز دور المسيّرات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خصوصاً في سورية والعراق واليمن وليبيا، مع اعتمادها من قبل الجماعات المسلحة، سواء مليشيات الحوثيين في اليمن، أو عناصر “داعش” والفصائل المسلّحة في سورية والعراق، أو المليشيات في ليبيا. وشنّ الحوثيون هجمات غير مسبوقة باستخدام مسيّرات ضد منشأة “أرامكو” النفطية السعودية في 14 سبتمبر/أيلول 2019، في أبقيق وخريص. حينها، هاجم سربان من 25 مسيّرة مدججة بالمتفجرات، وعلى دفعتين، المنشأة. وفي ظلّ صمت رسمي حول الخسائر، إلا أن مقارنة الصور قبل الهجوم وبعده، أظهرت تسجيل 19 ضربة في المنشأة، فيما اتهم التحالف العربي يومها إيران بتزويد الحوثيين بهذه التقنية وتحويلها إلى سلاح أساسي في هجماتهم داخل اليمن أو تلك التي يتم شنها باتجاه الأراضي السعودية. وفي سورية، تعرّضت قاعدة حميميم الروسية لهجوم من 13 مسيّرة في يناير/كانون الثاني 2018. أسقط الروس سبع مسيّرات، وتمكنوا من التشويش على ست أخريات. لكنه عملياً، كان أول هجوم من نوعه لجماعة مسلّحة، لا دولة، وهو تنظيم “داعش”. وفي العراق، بوشر استخدام المسيّرات على يد الجيش العراقي، أثناء حربه ضد “داعش”، بين عامي 2014 و2018. بعدها، بدأت فصائل “الحشد الشعبي” في استخدامها لمهاجمة قواعد الجيش الأميركي، فضلاً عن السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء في بغداد، ومطار أربيل في كردستان العراق.
وكان واضحاً من خلال تعدّد الهجمات ونوعيّتها، أن تغيير المسيّرات لمجرى حربٍ ما مسألة وقت ليس إلا، وهو ما ظهر العام الماضي في إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان. عملياً، هزم الأرمن الأذريين في حرب (1988 ـ 1994)، وتمكنوا من إحكام سيطرتهم على الإقليم لأكثر من 26 عاماً، لكن الأذريين نجحوا في الحرب الأخيرة التي دارت رحاها بين 27 سبتمبر/أيلول 2020 و10 نوفمبر/تشرين الثاني من العام عينه، في إبعاد القوات الأرمينية والسيطرة على ناغورنو كاراباخ. في السياق التقليدي عسكرياً، كانت يريفان متفوقة على باكو طيلة عقدين ونصف، غير أن استخدام الأخيرة الطائرات المسيّرة الإسرائيلية والتركية الصنع في أحدث المعارك بين الطرفين كان كفيلاً بتحويل الوضع لصالحها. بوادر حسم أذربيجان الحرب لصالحها بدأت تظهر مبكراً مع إرسالها في الأيام الأولى للمعارك طائرات بطيئة التحليق تعود إلى الحقبة السوفييتية، بعد تحويلها إلى طائرات من دون طيار، بهدف استدراج قوات الدفاع الجوي الأرمينية لضربها. أدى ذلك إلى انكشاف مواقع الأرمن، فأرسل الأذريون طائرات مسيّرة من طراز “تي بي 2 أس”، إسرائيلية الصنع، وهي من نوعية “كاميكازي”، التي دمّرت ما لا يقلّ عن 106 دبابات للقوات الأرمينية، و146 قطعة مدفعية، وعشرات المركبات العسكرية. وأمام هذه التطورات، قبلت أرمينيا وساطة روسيا ووقّعت على اتفاق لوقف إطلاق النار، تقرّ فيه بهزيمتها في ناغورنو كاراباخ. الحسم العسكري الذي شكّلت المسيّرات عماده الأساسي في القوقاز، دفع وزيرة الدفاع الألمانية، أنيغريت كرامب ـ كارينباور، إلى القول في نوفمبر 2020 إن “المسيّرات سلاح رخيص وسهل الاستخدام، وستُشكّل العمود الأساسي في أي صراع”. كما لخّص المحلل في المعهد الأسترالي الاستراتيجي، مالكوم ديفيز نتائج حرب ناغورنو كاراباخ بأنها “أسست لقواعد متغيّرة في أي حربٍ بريّة”. وفي ليبيا، تمكنت الطائرات المسيّرة من تغيير مجريات المعارك، خصوصاً بعد إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر حرباً على الحكومة في طرابلس، في إبريل/نيسان 2019، وبدأ زحفه من الشرق باتجاه العاصمة. لكن في مارس/آذار 2020، تبدلت المعطيات، مع دخول الطائرات المسيّرة التركية دعماً لحكومة الوفاق. وكشفت الأمم المتحدة، أن الأتراك استخدموا مسيّرة لها أربعة “أجنحة” (كوادكوبتر)، وتزن نحو 7 كيلوغرامات، شنّت هجوماً انتحارياً على مليشيات حفتر المتراجعة. وهو ما دفع المستشار الأمني الأميركي زاكاري كالينبورن للقول إنه “في حال قُتل شخص في هذا الهجوم، فإنها ستكون أول حالة معروفة لاستخدام الذكاء الاصطناعي أسلحة للقتل”. ومع تطوّر الاستخدامات العسكرية للطائرات المسيّرة، تزايد الطلب عليها. ففي عام 2015، كانت ثماني دول فحسب تعتمدها في ترسانتها العسكرية، لكن العدد ارتفع إلى 20 في العام الحالي. وتعمل الولايات المتحدة وروسيا والصين وتركيا وإسرائيل والهند وإيران وبريطانيا خصوصاً، بشكل حثيث، على تطوير ترسانتها العسكرية من المسيّرات. وتتقدّم تركيا على الجميع حتى الآن، بسبب تعدد استخدام مسيّراتها، تحديداً من نوع “بيرقدار”، في ناغورنو كاراباخ وأوكرانيا وسورية وليبيا، على الرغم من أن العقوبات الأميركية على صناعتها العسكرية عرقلت حصولها على تقنية عالية من الغرب. وفي ظلّ تزايد التنافس بين الدول تحول السباق على تطوير المسيّرات إلى ما يشبه السباق نحو الفضاء، إذ برزت مستويات جديدة من مراحل التطوير. وعملت الولايات المتحدة على “تكنولوجيا الأسراب”، وهي عبارة عن تحشيد مجموعات من الطائرات المسيّرة لتطير معاً محمّلة بالذخائر. وفي عام 2017، اختبر الأميركيون 103 طائرات من نوع “بيرديكس” في سرب واحد، بعد إطلاقها من ثلاث طائرات من نوع “أف/إيه ـ سوبرهورنيت”. تشكلت الطائرات في نقطة محددة مسبقاً ثم توجهت لأداء أربع مهمات مختلفة. تضمنت ثلاث من هذه المهام التحليق فوق هدف، بينما تضمنت المهمة الرابعة تشكيل دائرة بعرض 100 متر في الجو. وأظهر العرض تنوّع الذكاء الاصطناعي وتوزعه بين أطراف السرب. ويمكن لهذا النوع من تشكيل المسيّرات في سربٍ واحد، توفير الاستطلاع للقوات الميدانية، ومطاردة قوات العدو والإبلاغ عن مواقعها. كذلك تملك هذه المسيّرات القدرة على تشويش اتصالات العدو، أو تشكيل شبكة اتصالات، أو توفير مراقبة مستمرة لمنطقة معينة. ويمكن تحميلها بعبوات ناسفة صغيرة ومهاجمة جنود العدو. وباستطاعتها أيضاً إظهار نفسها بصورة أكبر من حجمها على رادارات العدو، والإيحاء بأنها طائرات عسكرية تقليدية أو حتى صواريخ تتجه نحو أهداف ما. كما عرضت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية الأميركية المتقدمة “داربا” طائرات مسيّرة من نوع “أكس ـ 61 إيه غريملين”، التي يمكن وضعها في طائرات الشحن مثل “سي 130″، لنشرها في أجواء العدو. وسيؤمّن مشروع “داربا” العديد من الاحتمالات للجيش، مما يسمح بنشر أسراب من المسيّرات الصغيرة وغير المكلفة والقابلة لإعادة الاستخدام مع أجهزة استشعار.
ويواجه الأميركيون منافسة شديدة من الصينيين، الذين اختبروا عن طريق الأكاديمية الصينية للإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات “سي إيه إي آي تي” سرباً من المسيّرات من طراز “سي أتش 901” في عام 2017. كما استعرضت الشركات الصينية أسراباً مكونة من ألف طائرة في وقتٍ واحدٍ. ويقوم الصينيون حالياً بتطوير مسيّرات من نوع “أنجيان إيه في آي سي 601 ـ أس”، الذي سيُدمج في السلاح الجوي ضمن برنامج تطوير الجيلين الرابع والخامس من الطائرات العسكرية التقليدية. أما في إسرائيل، فيتمّ العمل على المسيّرات بسريّة تامّة، لكن المحللين يبدون اعتقادهم بأن طبيعة استخدام المسيّرات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، تمنح أسباباً كافية للاعتقاد بأنها ازدادت تطوراً، وتم نشرها في مختلف طائرات الأسطول الجوي الإسرائيلي. بدورها، استخدمت إيران المسيّرات، وضمنها “كاميكازي” ضمن سياستها العسكرية القاضية بإدراج هذا النوع من السلاح في استراتيجيتها. وتستخدم القوات الإيرانية المسيّرات لغرضين رئيسيين: المراقبة والهجوم. وتمتلك طهران القدرة على تشغيل مسيّراتها في مهمات عدة وفي معظم الظروف الجوية. وتعمل المسيّرات الإيرانية على إسقاط القنابل أو إطلاق الصواريخ والعودة إلى القاعدة. ويمتلكها “الحشد الشعبي” في العراق والحوثيون في اليمن ومليشيات إيرانية في العراق، كما لدى حزب الله في لبنان مخزونه من هذه المسيّرات خصوصاً بعدما تم إسقاط أكثر من واحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. في الهند، كان سلاح الجو الهندي رائداً في أبحاث وتطوير المسيّرات من خلال برنامج “ميهير بابا”، منذ عام 2019، والموجّه أساساً للمساعدة في عمليات الإغاثة في حالات الكوارث. لكن الجيش الهندي أظهر قدرة هجومية كبيرة حين استعرض سرباً مكوناً من 75 مسيّرة ذاتية القيادة، معززة بمعلومات استخباراتية في يناير الماضي. وخلال العرض، تحققت المسيّرات من الأهداف، ثم انطلق كلٌّ منها بأهداف محددة، بعضها قصف الأهداف والبعض الآخر هاجمها بطريقة انتحارية. ولاحظ المعلقون الغربيون العديد من التشابه بين أسلوبي الجيشين الهندي والأميركي، إلا أن الهنود تميزوا بإرسالهم سرباً غير متجانس، أي متعدد المهام، في عرض يناير، في مؤشر إلى نية نيودلهي تطوير مفهوم “تعدد المهام في سرب المسيّرات الواحد”.
وحيال تطوّر دور المسيّرات الهجومية، طرح محللون مسألة “كيفية الدفاع عن النفس إزاء المسيّرات؟”. حتى الآن، تفوقت روسيا على الجميع، بطائرتها من نوع “كارنيفورا”، ويعني الاسم الثدييات اللواحم التي تصطاد. وتُعتبر هذه المسيّرة من الوسائل المضادة للمسيّرات، وتستطيع تجنب التشويش المضاد، وتحلق بسرعة 150 كيلومتراً في الساعة. وتكمن خصوصيتها في وظيفتها التي تتلخص في اصطياد مسيّرات العدو، عبر تزويدها بشبكة تسمح باصطياد المسيّرة المقرر إيقافها واحتجازها. ويسمح أسلوب القبض على مسيّرات العدو باستخدام شبكة الصيد، بتجنب التفجيرات المدمرة التي يمكن أن تلحق أضراراً كبيرة بالمنشآت على الأرض. ويمكن إسناد مهمة أخرى إلى “كارنيفورا”، تتعلق بمكافحة العدو من خلال قصف قواته ومدرعاته بالقنابل. وتزن “كارنيفورا” 40 كيلوغراماً، ويمكنها أن تقلع من أماكن غير مجهزة لإقلاع الطائرات، وتستطيع التحليق في الجو لمدة تصل إلى 15 ساعة. ويعني اتّساع حجم استخدام المسيّرات وتطورها، أنها أساسية في أي حربٍ مستقبلية، انطلاقاً من حرب أرمينيا ـ أذربيجان. ويُمكن تصوّر ساحات الحروب في المناطق الساخنة، مثل تايوان والصين، حيث يُرجّح أن يكون دور المسيّرات حاسماً في حال اندلاع الحرب. كما أنها ستكون عاملا أساسيا في أي نزاع في جبال الهيملايا بين الصين والهند، في ظل عجز الطائرات التقليدية عن التحليق في مواقع جبلية، وهي معاناة أسقطت جيش الاتحاد السوفييتي أثناء غزو أفغانستان (1979 ـ 1989). وعدا الحروب بين بلدين أو أكثر، أو حرب الجيوش، فإن قدرة الجماعات والمنظمات على استخدام مثل هذه المسيّرات، تعزّز من المخاطر الأمنية في العالم.
العربي الجديد