تقنية

عالم بلا وسائل التواصل الاجتماعي/ أحمد محسن

لم يكتشف المستخدمون أن العالم ما زال حيًا من دون مواقع التواصل الاجتماعي الأساسية (فيسبوك، واتساب، وبقية التطبيقات). لكن معظمهم اكتشف، في لحظة الانقطاع، أن المنصة الوحيدة المتبقية هي “تويتر”. وليست هذه سوى مفارقة أولى، تتبعها سلسلة مفارقات، منها أن منتقدي الإفراط في استخدام هذه الوسائل لا يجدون المساحة اللازمة لتوجيه النقد إلا عبر هذه الوسائل نفسها. لكن الالتباسات تتجاوز الساعات القليلة التي توقفت فيها هذه الوسائط، يوم الإثنين، في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر. توقف العالم لبضع ساعات، لكن العلاقة بين شبكة الإنترنت وبين البشر تعيد النقاش دائمًا عن هيمنة “المجال العام” الجديد، وعن طبيعة هذا المجال العام ودرجة عموميته، وعن مصادر الهيمنة على المجال العام نفسه.

الحنين إلى المجال العام

قبل كل شيء يجب تعريف الفضاء العام. إن المسألة ليست بتلك السهولة، فهو ذلك المكان الذي تحدث فيه الحياة، ويحدث فيه المجتمع، في لحظة متساوية تدنو باستمرار نحو تشكيل رأي عام. إنه المكان الذي تحدث فيه السجالات من دون ضوابط، ولكن ضمن أطر لا محدودة، حيث يمكنهم التجمع والنقاش بمسائل تهمهم جميعًا، وتهم كل واحد منهم على حدة. يسمّي يورغن هابرماس ما يحدث في الفضاء العام بالمناقشة العقلانية النقدية. كان ذلك يحدث في المقاهي الباريسية وفي الصالونات، في ظروف تاريخية واضحة المعالم، أي منذ منتصف القرن الثامن عشر، وحتى أوائل القرن التاسع عشر. تلك كانت فترة نمو الفضاء العام، ولكنه كان نموًا محدودًا، وإن كان أثره المادي مؤكدًا في صيرورة الحضارة الغربية. لم يستمر هذا النمو، واستطاعت البورجوازية أن تقضم، على مراحل، إيجابيات الفضاء العام، والمتمثلة بالدور الرقابي على السُلطة، عبر آلية غير معلنة، تستمد قوتها من خطاب مصدره “عام”، بحيث يستطيع مواجهة الدولة كجهاز يملك امتيازات سلطوية هائلة.

للوصول إلى العلاقة بين الفضاء العام في زمن الثورة الصناعية الذي نشأ على الطرقات وفي الأماكن الحيّة، وبين فضاء وسائل التواصل الاجتماعي اليوم الذي يتسارع حضوره في الزمن النيوليبرالي، يجب تفسير العلاقة بين الخطاب الناشئ عن “الفضاء” وبين السُلطة كسلسلة شائكة من العلاقات. وهذا مدخل أساسي لفهم رفض هابرماس القاطع لقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على انشاء فضاء/ مجال عام. ليس تمسكًا بالحنين، بل يعلل هابرماس رفضه بالبنية الضعيفة للإنترنت عمومًا، والتي لا تساعدها على تثبيت انتباه العموم، الذين يستعرضون آراءهم في الوقت نفسه، من قبلهم أنفسهم. وفيما قد يبدو العكس صحيحًا، للوهلة الأولى، فإن شبكة الإنترنت تبقى مكانًا مفخخًا، لا نعرف فيه “الآخرين” معرفة نهائية، ولا نعرف هوية الخبراء الذين يفحصون هذه الآراء. وقد بينت فضيحة “كامبريدج أناليتيكا”، من ضمن تسريبات كثيرة، أن الخبراء الذين يفحصون الآراء باتكالهم على ذكاء ما بعد صناعي يتفرع من عائلة الخوارزميات، لا يفحصون الآراء بما هي عليه، أو ما يمكن أن تؤدي إليه لتحسين شروط المصلحة العامة، بل يصب هذا كله في خدمة التيار السائد في حكم العالم، صاحب القوة الرأسمالية المهيمنة.

إذا كان الفضاء العام الوحيد الذي نعرفه إلى الدرجة التي تجعلنا متأكدين من وجوده، أو على الأقل تسمح لنا بافتراض وجوده، قد دُفِن حيًا، حسب تعبير هابرماس نفسه، فهذا لا يبرر استسهال توريث الصفة الفضاء/ المجال على ما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي وسبغها بطابع العمومية. أدوات اغتيال الفضاء العام واضحة: دولة الرفاهية بوصفها محفزًا لتعطيل النقاش الطبقي، ووسائل الإعلام التي تحاول الهيمنة على الحقيقة تحت ذريعة المعايير، إضافةً إلى نشوء أحزاب سياسية لعبت دورًا حاسمًا في تحويل البرلمانات إلى مؤسسات نزاع أكثر من كونها مؤسسات تشريعية. كل هذا ما زال قائمًا، وتزداد مخالبه حدة. بشكل عام، يعتبر منتقدو الفيلسوف الألماني أن تمسكه بتاريخ المجال العام حالة نوستالجية، ولكنهم لا يستطيعون التنصل من دور الحنين في فهم التاريخ، كون العلاقة معه، مهما كانت منهجية، قابلة لأن تمرّ بالعاطفة. لذلك، ومن وجهة نظر تحاول أن تكون عقلانية، يقتضي فهم المجال العام بتاريخيته تفهم الأمل في أن تضاعف وسائل التواصل الاجتماعي من فرص الديمقراطية في أيامنا. لكن ذلك يبقى مشروطًا بثنائية الخطاب/ الهيمنة التي تحدد إمكانات الصعود والهبوط، وعلينا الانتباه دائمًا أن هذا المجال العام ليس حيويًا، ويمكن أن يختفي بكبسة زر. وقد حدث ذلك فعلًا.

الصراع من أجل الاعتراف

قبل هابرماس، كان لدى الفلسفة، وما زال لديها، ما تقوله في اللغة وعنها. لطالما كانت وظيفة الفلسفة تدور حول التاريخ، وحول الوعي، وحول ما كل ما يتعلق بالوجود. لكن، يبدو أن ثمة ما هو جديد، ما هو أكثر جدلًا: الخوارزميات. هذا العامل الطارئ يتسارع بوتيرة هائلة، ويعيد خلط كل شيء، من ترتيب الذات وصولًا إلى إدارة العلاقة مع الآخر، وتحديد ماهية وجوده. التحول الكبير ليس مجرد تحول سياسي وسوسيولوجي محمّل بأبعاد اقتصادية وثقافية وغيره، بل هو تحول أكثر راديكالية، إنه تحول في الفلسفة، يلقي عبئًا هائلًا عليها، بحيث يبدو معظم المشتغلين بالفلسفة في أيامنا أكثر ميلًا للتنصل من التعامل مع “الخوارزميات” بالتجاهل. هل هذه الخوارزميات هي نحن، أم أنها “الآخر”، أم أنها مجموعة “آخرين”؟ في المجال العام الجديد، الإنترنت، نحن نتفاعل مع “آخرين” مثلنا، ولكننا أيضًا نتفاعل مع أجهزة آلية، تفوقنا قدرة على التحليل، بالنظر لقدرتها الهائلة على جمع المعطيات وتفكيكها. في معظم الأحيان، لا نعرف بالضبط هذا “الآخر”. إنه بلا روح، وأيضًا بلا عقل. حسب تاريخنا الفلسفي، نتفاعل مع كائن ليس موجودًا، حتى في وعينا، بل مع كائن نحن موجودون في وعيه. العلاقة بيننا ليست متكافئة، والذوات التي نعتقد أنها ذوات ليست ذاتًا حقيقية، وهي قادرة على تضليلنا بنشر الأخبار والدعاية، وهي قادرة على ايهامنا بالحصول على “الاعتراف”، من دون أن يكون ذلك صحيحًا بالضرورة.

في المدونة الهيغلية التقليدية، لن نحتاج لكثير من البحث لنكتشف إلى أي درجة نحن كائنات خجولة، تبتعد تدريجيًا عن الإدراك، وليس لدينا سوى العقل، لكي نفهم ما ندركه فقط. وبالتالي ما لا ندركه لن نفهمه. كل التصورات الموضوعية التي نملكها حول العالم تنبع في الأساس من إدراكنا للعالم كموضوع قائم في حد ذاته. ورغم ذلك، حسب الخلاصة الهيغلية، نحتاج إلى اعتراف من كائنات أخرى تملك وعيًا بذاتها، لكي نستطيع تفسير تصوراتنا، وسبغها بصفة وهمية رهيبة، هي الحقيقة. بعد هذا الانقطاع المفاجئ للفيسبوك، حيث نستعرض ما نعتقد أنه ذواتنا، هل فقدنا الوعي بأنفسنا وبالكائنات الأخرى؟ مواقع التواصل الاجتماعي، بهذا المعنى، هي منصات صراع، صراع من أجل الاعتراف. ما يحدث هناك، يحدث هناك. ترتيب العلاقة مع الوعي، بوتيرة أسرع منّا، ومن قدرة الوعي نفسه على إنتاج نفسه. نتأكد من أننا موجودون، وبالتالي نملك وعيًا بهذا الوجود. ورغم أن معظم الفلاسفة يرفضون تصنيف وسائل التواصل الاجتماعي كامتداد حيوي للنضال المستمر من أجل الاعتراف، لا يمكننا الإنكار، بعد التوقف المفاجئ، أن القراءة الهيغلية ما زالت صالحة، لتفسير العلاقة بيننا وبين الآخرين، من خلال بحثنا المتواصل عن “آخرين” يمنحوننا هذا الاعتراف. نحن ننتمي إلى هذا الصراع. لكننا، في الوقت نفسه، إذا وافقنا على تفسيرات هيغل لوعي البشر بذاتهم، فهذا يعني أن وسائل التواصل الاجتماعي لن تمنحنا هذا الاعتراف. إنها مجرد ميدان، أو أي شيء آخر، لكنها ليست موضوعًا قائمًا في حد ذاته، مثل العالم، حتى لو أضفنا إليها صفة “الافتراضي” للتأكيد على موضوعيتها. ما نفعله هناك، نفعله هناك. نقذف القلق، ونتخلص من الألم، وأحيانًا نهذي.

يمكننا أن ننقل كل ما نعتقد أن العالم ليس قادرًا على تحمله، مثل الغضب والخوف، ونعتقد أننا نتشاركه مع “آخرين”، يبحثون مثلنا، عن اعتراف. يحدث كل هذا على السطح، بحيث يمكننا رؤيته بالعين المجردة، ونتبادل السخط والإعجاب، على السطح. عندما توقف الفيسبوك، اكتشفنا القعر، وأننا لا نعرف ما الذي يوجد هناك. وإذا نظرت إلى الهاوية، كما يقول نيتشه، فستعرف أن الهاوية تنظر إليك أيضًا.

متعة زائفة، سُلطة حيوية معلنة؟

ثمة رفض قاطع لهذه الوسائط من فلاسفة آخرين، مثل زيغموند باومان مثلًا، الذي يربط بين الهوية والمجتمع. هنالك علاقة محددة بالنسبة للبولندي الراحل بين العاملين، وهي وظائفية، بحيث تنتج الأولى الثاني، وتاليًا إما أن تملك هوية ومجتمعًا، وإما ألا تملك شيئًا، وما يمكن أن تفعله وسائل التواصل هو بديل، ولكنه ليس أصلًا. فالانتماء إلى المجتمع هو انتماء حدث قبلك، أما الإنترنت فحدث بعدك. لا يمكنك الشعور بالسيطرة على المجتمع من دون أن يكون هذا الشعور صحيحًا بالضرورة، لكن وسائل التواصل تمنحك ذلك الشعور الواهم بإمكانية السيطرة. يمكنك إضافة الأصدقاء وحذفهم متى شئت، وتقليل حدود العلاقات الإنسانية إلى درجة التحكم بالمجتمع. لكن هذا كله عبارة عن شعور، وليس حقيقيًا دائمًا، ويستفيد ليس من عامل السرعة كما يعتقد كثيرون، بل من تفشي الخوف كعنصر أساسي في حيواتنا المعاصرة. الخوف من الوحدة، من النكران، ومن كل متفرعات العزلة. وإن كان دخول المجتمع يحتاج إلى مهارات مكتسبة في الأساس بفعل الهوية، فإن دخول وسائل التواصل الاجتماعي يوفر لك متعة التخلص من كل ذلك، ولكنها متعة مفخخة أيضًا، لأنه من السهل تجنب الحقيقة هناك، بتجنب البحث عنها. هنالك الخوارزميات التي ستفعل كل ذلك، ولكنها ستحتفظ بالحقيقة. إنها منطقة راحة، يسمع الناس أصواتهم ولا يستمعون إلى أصوات الآخرين. يخترعون وجوهًا لهم بدلًا من وجوههم، ويفترضون أنها انعكاسات لوجوههم الحقيقية. لكنها في الواقع ليست وجوهًا ولا انعكاسات، بل فسحة ضرورية للمتعة، خارج دائرة الحقيقة. إنها مساحة سُلطة. وهذه مفارقة أخرى تقودنا إلى سؤال عملاق: هل يمكن إسقاط التحليل الفوكوي الكلاسيكي للسُلطة الحيوية على شبكة العلاقات على شبكة الإنترنت؟ نعود دائمًا إلى لحظة الانقطاع. لحظة الحسم، والقدرة على تعطيل كل أشكال العلاقات من صاحب السُلطة: إلغاء المجتمع/ الفضاء/ العلاقات، وكل شيء من أساسه. يحيلنا هذا أيضًا، بطريقة ما، إلى وجهة نظر أغامبين عن وجود غير معلن، ولكنه دائم للسياسة الحيوية في تاريخ النظرية التقليدية الكلاسيكي. لم تسقط المقدسات عن وسائل التواصل الاجتماعي وانتقلت فكرة القداسة من المجتمع إلى الإنترنت، وما زالت في أماكن كثيرة متصلة اتصالًا متينًا بفكرة السيادة، وهذا تناقض مع ما تقدمه عن نفسها كمساحة غير مشروطة، خاصةً وأننا نعيش في عالم يعيش أفراده حياة عارية كأفراد وكجماعات.

ثمة قول كلاسيكي في النص الهيغلي، يشرح فيه أننا ندرك أنفسنا من خلال اعتراف الآخرين بنا. الفيسبوك، بهذا المعنى، ليس بعيدًا عن هيغل. المنصة العملاقة تطلق هذه الرغبة، في أن نحصل على الاعتراف من الآخرين. بقليل من الإيجابية، أو بكثير منها، وإذا نجحنا في استبعاد علاقة الخوف الناشئة بيننا وبين وسائل التواصل الاجتماعي، ربما يمكننا القول إن مستقبل هذه الوسائط سيعرف تراجعًا في شعورنا بمحاولة الحصول على الاعتراف، مقابل قدرة البشر على إنتاج علاقة جديدة تستفيد من الوسائط لإعادة الاعتبار لوعيهم بأنفسهم عبرها. لكن حتى الآن، هنالك عقبات كثيرة تحول دون ذلك، ومنع أي إمكانية في تغيير هذه العلاقة. ما زال كل شيء مشروطًا بكبسة زر، لا نعرف من هو القادر على الضغط عليها بلمح البصر، وإنهاء كل سلسلة الأوهام الطويلة.

ضفة ثالثة

عالم بلا وسائل التواصل الاجتماعي/ أحمد محسن

لم يكتشف المستخدمون أن العالم ما زال حيًا من دون مواقع التواصل الاجتماعي الأساسية (فيسبوك، واتساب، وبقية التطبيقات). لكن معظمهم اكتشف، في لحظة الانقطاع، أن المنصة الوحيدة المتبقية هي “تويتر”. وليست هذه سوى مفارقة أولى، تتبعها سلسلة مفارقات، منها أن منتقدي الإفراط في استخدام هذه الوسائل لا يجدون المساحة اللازمة لتوجيه النقد إلا عبر هذه الوسائل نفسها. لكن الالتباسات تتجاوز الساعات القليلة التي توقفت فيها هذه الوسائط، يوم الإثنين، في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر. توقف العالم لبضع ساعات، لكن العلاقة بين شبكة الإنترنت وبين البشر تعيد النقاش دائمًا عن هيمنة “المجال العام” الجديد، وعن طبيعة هذا المجال العام ودرجة عموميته، وعن مصادر الهيمنة على المجال العام نفسه.

الحنين إلى المجال العام

قبل كل شيء يجب تعريف الفضاء العام. إن المسألة ليست بتلك السهولة، فهو ذلك المكان الذي تحدث فيه الحياة، ويحدث فيه المجتمع، في لحظة متساوية تدنو باستمرار نحو تشكيل رأي عام. إنه المكان الذي تحدث فيه السجالات من دون ضوابط، ولكن ضمن أطر لا محدودة، حيث يمكنهم التجمع والنقاش بمسائل تهمهم جميعًا، وتهم كل واحد منهم على حدة. يسمّي يورغن هابرماس ما يحدث في الفضاء العام بالمناقشة العقلانية النقدية. كان ذلك يحدث في المقاهي الباريسية وفي الصالونات، في ظروف تاريخية واضحة المعالم، أي منذ منتصف القرن الثامن عشر، وحتى أوائل القرن التاسع عشر. تلك كانت فترة نمو الفضاء العام، ولكنه كان نموًا محدودًا، وإن كان أثره المادي مؤكدًا في صيرورة الحضارة الغربية. لم يستمر هذا النمو، واستطاعت البورجوازية أن تقضم، على مراحل، إيجابيات الفضاء العام، والمتمثلة بالدور الرقابي على السُلطة، عبر آلية غير معلنة، تستمد قوتها من خطاب مصدره “عام”، بحيث يستطيع مواجهة الدولة كجهاز يملك امتيازات سلطوية هائلة.

للوصول إلى العلاقة بين الفضاء العام في زمن الثورة الصناعية الذي نشأ على الطرقات وفي الأماكن الحيّة، وبين فضاء وسائل التواصل الاجتماعي اليوم الذي يتسارع حضوره في الزمن النيوليبرالي، يجب تفسير العلاقة بين الخطاب الناشئ عن “الفضاء” وبين السُلطة كسلسلة شائكة من العلاقات. وهذا مدخل أساسي لفهم رفض هابرماس القاطع لقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على انشاء فضاء/ مجال عام. ليس تمسكًا بالحنين، بل يعلل هابرماس رفضه بالبنية الضعيفة للإنترنت عمومًا، والتي لا تساعدها على تثبيت انتباه العموم، الذين يستعرضون آراءهم في الوقت نفسه، من قبلهم أنفسهم. وفيما قد يبدو العكس صحيحًا، للوهلة الأولى، فإن شبكة الإنترنت تبقى مكانًا مفخخًا، لا نعرف فيه “الآخرين” معرفة نهائية، ولا نعرف هوية الخبراء الذين يفحصون هذه الآراء. وقد بينت فضيحة “كامبريدج أناليتيكا”، من ضمن تسريبات كثيرة، أن الخبراء الذين يفحصون الآراء باتكالهم على ذكاء ما بعد صناعي يتفرع من عائلة الخوارزميات، لا يفحصون الآراء بما هي عليه، أو ما يمكن أن تؤدي إليه لتحسين شروط المصلحة العامة، بل يصب هذا كله في خدمة التيار السائد في حكم العالم، صاحب القوة الرأسمالية المهيمنة.

إذا كان الفضاء العام الوحيد الذي نعرفه إلى الدرجة التي تجعلنا متأكدين من وجوده، أو على الأقل تسمح لنا بافتراض وجوده، قد دُفِن حيًا، حسب تعبير هابرماس نفسه، فهذا لا يبرر استسهال توريث الصفة الفضاء/ المجال على ما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي وسبغها بطابع العمومية. أدوات اغتيال الفضاء العام واضحة: دولة الرفاهية بوصفها محفزًا لتعطيل النقاش الطبقي، ووسائل الإعلام التي تحاول الهيمنة على الحقيقة تحت ذريعة المعايير، إضافةً إلى نشوء أحزاب سياسية لعبت دورًا حاسمًا في تحويل البرلمانات إلى مؤسسات نزاع أكثر من كونها مؤسسات تشريعية. كل هذا ما زال قائمًا، وتزداد مخالبه حدة. بشكل عام، يعتبر منتقدو الفيلسوف الألماني أن تمسكه بتاريخ المجال العام حالة نوستالجية، ولكنهم لا يستطيعون التنصل من دور الحنين في فهم التاريخ، كون العلاقة معه، مهما كانت منهجية، قابلة لأن تمرّ بالعاطفة. لذلك، ومن وجهة نظر تحاول أن تكون عقلانية، يقتضي فهم المجال العام بتاريخيته تفهم الأمل في أن تضاعف وسائل التواصل الاجتماعي من فرص الديمقراطية في أيامنا. لكن ذلك يبقى مشروطًا بثنائية الخطاب/ الهيمنة التي تحدد إمكانات الصعود والهبوط، وعلينا الانتباه دائمًا أن هذا المجال العام ليس حيويًا، ويمكن أن يختفي بكبسة زر. وقد حدث ذلك فعلًا.

الصراع من أجل الاعتراف

قبل هابرماس، كان لدى الفلسفة، وما زال لديها، ما تقوله في اللغة وعنها. لطالما كانت وظيفة الفلسفة تدور حول التاريخ، وحول الوعي، وحول ما كل ما يتعلق بالوجود. لكن، يبدو أن ثمة ما هو جديد، ما هو أكثر جدلًا: الخوارزميات. هذا العامل الطارئ يتسارع بوتيرة هائلة، ويعيد خلط كل شيء، من ترتيب الذات وصولًا إلى إدارة العلاقة مع الآخر، وتحديد ماهية وجوده. التحول الكبير ليس مجرد تحول سياسي وسوسيولوجي محمّل بأبعاد اقتصادية وثقافية وغيره، بل هو تحول أكثر راديكالية، إنه تحول في الفلسفة، يلقي عبئًا هائلًا عليها، بحيث يبدو معظم المشتغلين بالفلسفة في أيامنا أكثر ميلًا للتنصل من التعامل مع “الخوارزميات” بالتجاهل. هل هذه الخوارزميات هي نحن، أم أنها “الآخر”، أم أنها مجموعة “آخرين”؟ في المجال العام الجديد، الإنترنت، نحن نتفاعل مع “آخرين” مثلنا، ولكننا أيضًا نتفاعل مع أجهزة آلية، تفوقنا قدرة على التحليل، بالنظر لقدرتها الهائلة على جمع المعطيات وتفكيكها. في معظم الأحيان، لا نعرف بالضبط هذا “الآخر”. إنه بلا روح، وأيضًا بلا عقل. حسب تاريخنا الفلسفي، نتفاعل مع كائن ليس موجودًا، حتى في وعينا، بل مع كائن نحن موجودون في وعيه. العلاقة بيننا ليست متكافئة، والذوات التي نعتقد أنها ذوات ليست ذاتًا حقيقية، وهي قادرة على تضليلنا بنشر الأخبار والدعاية، وهي قادرة على ايهامنا بالحصول على “الاعتراف”، من دون أن يكون ذلك صحيحًا بالضرورة.

في المدونة الهيغلية التقليدية، لن نحتاج لكثير من البحث لنكتشف إلى أي درجة نحن كائنات خجولة، تبتعد تدريجيًا عن الإدراك، وليس لدينا سوى العقل، لكي نفهم ما ندركه فقط. وبالتالي ما لا ندركه لن نفهمه. كل التصورات الموضوعية التي نملكها حول العالم تنبع في الأساس من إدراكنا للعالم كموضوع قائم في حد ذاته. ورغم ذلك، حسب الخلاصة الهيغلية، نحتاج إلى اعتراف من كائنات أخرى تملك وعيًا بذاتها، لكي نستطيع تفسير تصوراتنا، وسبغها بصفة وهمية رهيبة، هي الحقيقة. بعد هذا الانقطاع المفاجئ للفيسبوك، حيث نستعرض ما نعتقد أنه ذواتنا، هل فقدنا الوعي بأنفسنا وبالكائنات الأخرى؟ مواقع التواصل الاجتماعي، بهذا المعنى، هي منصات صراع، صراع من أجل الاعتراف. ما يحدث هناك، يحدث هناك. ترتيب العلاقة مع الوعي، بوتيرة أسرع منّا، ومن قدرة الوعي نفسه على إنتاج نفسه. نتأكد من أننا موجودون، وبالتالي نملك وعيًا بهذا الوجود. ورغم أن معظم الفلاسفة يرفضون تصنيف وسائل التواصل الاجتماعي كامتداد حيوي للنضال المستمر من أجل الاعتراف، لا يمكننا الإنكار، بعد التوقف المفاجئ، أن القراءة الهيغلية ما زالت صالحة، لتفسير العلاقة بيننا وبين الآخرين، من خلال بحثنا المتواصل عن “آخرين” يمنحوننا هذا الاعتراف. نحن ننتمي إلى هذا الصراع. لكننا، في الوقت نفسه، إذا وافقنا على تفسيرات هيغل لوعي البشر بذاتهم، فهذا يعني أن وسائل التواصل الاجتماعي لن تمنحنا هذا الاعتراف. إنها مجرد ميدان، أو أي شيء آخر، لكنها ليست موضوعًا قائمًا في حد ذاته، مثل العالم، حتى لو أضفنا إليها صفة “الافتراضي” للتأكيد على موضوعيتها. ما نفعله هناك، نفعله هناك. نقذف القلق، ونتخلص من الألم، وأحيانًا نهذي.

يمكننا أن ننقل كل ما نعتقد أن العالم ليس قادرًا على تحمله، مثل الغضب والخوف، ونعتقد أننا نتشاركه مع “آخرين”، يبحثون مثلنا، عن اعتراف. يحدث كل هذا على السطح، بحيث يمكننا رؤيته بالعين المجردة، ونتبادل السخط والإعجاب، على السطح. عندما توقف الفيسبوك، اكتشفنا القعر، وأننا لا نعرف ما الذي يوجد هناك. وإذا نظرت إلى الهاوية، كما يقول نيتشه، فستعرف أن الهاوية تنظر إليك أيضًا.

متعة زائفة، سُلطة حيوية معلنة؟

ثمة رفض قاطع لهذه الوسائط من فلاسفة آخرين، مثل زيغموند باومان مثلًا، الذي يربط بين الهوية والمجتمع. هنالك علاقة محددة بالنسبة للبولندي الراحل بين العاملين، وهي وظائفية، بحيث تنتج الأولى الثاني، وتاليًا إما أن تملك هوية ومجتمعًا، وإما ألا تملك شيئًا، وما يمكن أن تفعله وسائل التواصل هو بديل، ولكنه ليس أصلًا. فالانتماء إلى المجتمع هو انتماء حدث قبلك، أما الإنترنت فحدث بعدك. لا يمكنك الشعور بالسيطرة على المجتمع من دون أن يكون هذا الشعور صحيحًا بالضرورة، لكن وسائل التواصل تمنحك ذلك الشعور الواهم بإمكانية السيطرة. يمكنك إضافة الأصدقاء وحذفهم متى شئت، وتقليل حدود العلاقات الإنسانية إلى درجة التحكم بالمجتمع. لكن هذا كله عبارة عن شعور، وليس حقيقيًا دائمًا، ويستفيد ليس من عامل السرعة كما يعتقد كثيرون، بل من تفشي الخوف كعنصر أساسي في حيواتنا المعاصرة. الخوف من الوحدة، من النكران، ومن كل متفرعات العزلة. وإن كان دخول المجتمع يحتاج إلى مهارات مكتسبة في الأساس بفعل الهوية، فإن دخول وسائل التواصل الاجتماعي يوفر لك متعة التخلص من كل ذلك، ولكنها متعة مفخخة أيضًا، لأنه من السهل تجنب الحقيقة هناك، بتجنب البحث عنها. هنالك الخوارزميات التي ستفعل كل ذلك، ولكنها ستحتفظ بالحقيقة. إنها منطقة راحة، يسمع الناس أصواتهم ولا يستمعون إلى أصوات الآخرين. يخترعون وجوهًا لهم بدلًا من وجوههم، ويفترضون أنها انعكاسات لوجوههم الحقيقية. لكنها في الواقع ليست وجوهًا ولا انعكاسات، بل فسحة ضرورية للمتعة، خارج دائرة الحقيقة. إنها مساحة سُلطة. وهذه مفارقة أخرى تقودنا إلى سؤال عملاق: هل يمكن إسقاط التحليل الفوكوي الكلاسيكي للسُلطة الحيوية على شبكة العلاقات على شبكة الإنترنت؟ نعود دائمًا إلى لحظة الانقطاع. لحظة الحسم، والقدرة على تعطيل كل أشكال العلاقات من صاحب السُلطة: إلغاء المجتمع/ الفضاء/ العلاقات، وكل شيء من أساسه. يحيلنا هذا أيضًا، بطريقة ما، إلى وجهة نظر أغامبين عن وجود غير معلن، ولكنه دائم للسياسة الحيوية في تاريخ النظرية التقليدية الكلاسيكي. لم تسقط المقدسات عن وسائل التواصل الاجتماعي وانتقلت فكرة القداسة من المجتمع إلى الإنترنت، وما زالت في أماكن كثيرة متصلة اتصالًا متينًا بفكرة السيادة، وهذا تناقض مع ما تقدمه عن نفسها كمساحة غير مشروطة، خاصةً وأننا نعيش في عالم يعيش أفراده حياة عارية كأفراد وكجماعات.

ثمة قول كلاسيكي في النص الهيغلي، يشرح فيه أننا ندرك أنفسنا من خلال اعتراف الآخرين بنا. الفيسبوك، بهذا المعنى، ليس بعيدًا عن هيغل. المنصة العملاقة تطلق هذه الرغبة، في أن نحصل على الاعتراف من الآخرين. بقليل من الإيجابية، أو بكثير منها، وإذا نجحنا في استبعاد علاقة الخوف الناشئة بيننا وبين وسائل التواصل الاجتماعي، ربما يمكننا القول إن مستقبل هذه الوسائط سيعرف تراجعًا في شعورنا بمحاولة الحصول على الاعتراف، مقابل قدرة البشر على إنتاج علاقة جديدة تستفيد من الوسائط لإعادة الاعتبار لوعيهم بأنفسهم عبرها. لكن حتى الآن، هنالك عقبات كثيرة تحول دون ذلك، ومنع أي إمكانية في تغيير هذه العلاقة. ما زال كل شيء مشروطًا بكبسة زر، لا نعرف من هو القادر على الضغط عليها بلمح البصر، وإنهاء كل سلسلة الأوهام الطويلة.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى