العالم العربي يحتاج إلى حركة إصلاحية جذرية يغلب عليها العقل والعلم/ محمد البرادعي
نشأت في عائلة مسلمة. جدّي كان عضواً في هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، ووالدي كان مسلماً ملتزماً. كان يطلب مني في طفولتي، حفظ بعض آيات القرآن، لأتلوها عليه مساءً، وهو يستعدّ للعودة إلى مكتبه للقاء موكّليه. كان يهمّه التأكد ليس من سلامة الحفظ والنطق فحسب، وإنما كان يعطي الأهمية نفسها لفهمي للمعنى المقصود من السورة. وعندما شبوت قليلاً، كان يصطحبني معه لأداء صلاة الجمعة في سيدنا الحسين؛ يلتقي قبلها بمجموعة من أصدقاء الطفولة -وهم أطباء ذهبوا للدراسة في الخارج، ومهندسون، وأصحاب أعمال- في متجر يملكه أحدهم في شارع الأزهر، ثم يذهبون معاً لأداء الصلاة.
في أوقات أخرى، كنت ووالدي نؤدّي صلاة الجمعة في مسجد النادي الأهلي، ثم نمارس بعدها الرياضة؛ هو السباحة، وأنا السكواش الذي أجدته، وتميّزت فيه. لم يفرض والدي عليّ في أي وقت، ممارسة شعائر الدين، وإنما أعتقد أنه أراد أن يكون قدوةً لي بالأفعال، وليس بالأقوال.
الدين، كما فهمته منذ نشأتي، لم يكن مقتصراً على العبادات والشعائر، وإنما كان أيضاً منظومة قيَم تحكم تعاملنا مع أنفسنا، ومع الغير، وقد رأيت بعض هذه القيم في تعاملات والدي؛ كيف كان يساعد سرّاً المحتاج، سواء القريب أو البعيد، وكيف كان رقيقاً متواضعاً في التعامل مع الضعيف، وشديد البأس صلباً في الدفاع عن الحق، وكيف كان ودوداً مع الجميع -مصر وقتها كانت تعجّ بمختلف الأجناس والأشكال- بصرف النظر عن العقيدة، أو الأصل، أو الجنسية، فالكل بشر وهذا هو الأهم، وكيف كان، وهو ذو الجذور الريفية، حريصاً على أن يوسّع نطاق علمه، وآفاق معرفته: يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية، ويحسّن من قدراته في اللغات الأجنبية، وينتهز كل فرصة ليتعرّف على الحضارات المختلفة.
درست الشريعة وأصول الفقه في كلية الحقوق، على أيدي علماء أفاضل. بعد تخرّجي، لم ألقِ بالاً إلى ما بيني وبين غيري من اختلافات: ماذا يلبسون، أو يأكلون؟ ما هي عقيدتهم، أو منهج تفكيرهم، وأسلوب حياتهم؟ هذه كانت مسائل في نظري تدخل في نطاق الحرية الشخصية التي لا يصحّ أن أزجّ نفسي فيها. كان المهم بالنسبة إليّ أن يكون التعامل على أساس القيم الإنسانية التي نتشارك فيها جميعاً: الصدق، والأمانة، والعدل، واحترام الآخر، وغيرها. كان هذا، وما زال، هو فهمي للإسلام الذي نشأت عليه: قيم أساسية نتشارك فيها مع غيرنا، وفي مقدّمتها المساواة، والتسامح، والتضامن، وقيم وعبادات تخصّ كل عقيدة، ويحترم كلّ منا حق الآخر في ممارستها بالشكل الذي يراه؛ مساحة من الخصوصية والحرية الشخصية متاحة للكل، لا يجور فيها أحد على حق غيره، أو يحاول فرض معتقداته.
وعلى الرغم من أن الدستور المصري، منذ عام 1923، كان ينص على أن” الإسلام هو دين الدولة… والشريعة الإسلامية المصدر الرسمي للتشريع”، فقد كانت الثقافة السائدة في المجتمع، أن العقيدة هي حرية شخصية يقتصر دور الدولة فيها على تنظيمها، وحمايتها، على أساس من المساواة بين الجميع. في ذاك الوقت، لم يكن “ترسيم الحدود” بين الدين والدولة، أو بمعنى أدق بين الإسلام والقانون والأخلاقيات، قد أصبح مسألةً خلافيةً، أو طفا على السطح بشكل بارز.
الاغتراب
سافرت بعد تخرّجي بفترة قصيرة، للعمل والدراسة في أمريكا التي كانت كما يقال وقتها “بوتقةً يذوب فيها الكل”؛ خليطاً من كل الأجناس والأشكال والأديان واللغات والثقافات. وكانت نيويورك التي استقرّيت فيها، نسخةً مصغّرةً بالفعل من كل شعوب العالم. ولعلّ إحدى أهم الملاحظات التي شدّت انتباهي، هي أنه على الرغم من الخلافات والتناقضات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وهي كثيرة- وفي مقدّمتها العنصرية- فإنه لم تُنسب أي منها إلى أسباب دينية أو عقائدية. ولا أعلم إن كان هذا هو نتيجة حرص الدستور الأمريكي على ضرورة فصل الدين عن الدولة فصلاً تاماً، كرد فعل لمعاناة المهاجرين الأوائل من اضطهاد ديني في أوروبا، أو كان ذلك بسبب كثرة العقائد وتنوّعها هناك… لا أعلم، وإنما ما رأيته هو أنهم نجحوا إلى حد كبير في نزع فتيل الدين من خلافاتهم (ولو كان هناك تراجع في هذا الشأن في السنوات الأخيرة)، ومن الصعب أن تجد وثيقةً رسميةً تذكر عقيدة الشخص، أو أن يسألك أحدهم عن عقيدتك.
ولعلّ الملاحظة الأخرى المهمة التي رصدتها في هذا الاتجاه، هو أنه على الرغم من محاولة المجتمع الفصل بين الدين والدولة، فإنه كان هناك في الوقت نفسه، إصرار مجتمعي قوي على ضرورة التزام الجميع بالدستور، والقيم الأساسية المشتركة الموجودة في كل عقيدة، فالتهرب من الضرائب على سبيل المثال، جريمة كبرى لا تُغتفر، لأنها جريمة في حق المجتمع ككل. ومن نافلة القول بالطبع، أني شاهدت هناك الكثير من الأعمال والتصرفات التي تعكس قيماً سامية، وتضحياتٍ نبيلةً من أشخاص ينتمون إلى مختلف العقائد السماوية، والفلسفات البشرية، وهو ما زاد من قناعتي بأن القيم الإنسانية الأساسية ليست حكراً على شعب، أو عقيدة.
كذلك كانت تجربتي في النمسا، التي عشت فيها سنوات أطول من تلك التي قضيتها في أمريكا. فعلى الرغم من أن أغلبية سكان النمسا من الكاثوليك، إلا أن الدستور ينص بوضوح على حرية العقيدة، ولا يلعب الدين هناك، على الأقل بشكلٍ مباشر، دوراً في السياسة، أو في الاشتباكات المجتمعية.
الاستقطاب حول العقيدة
أما في مصر، كما في غيرها من الدول العربية، فقد لاحظت منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، أن هناك تغييراً كبيراً في المناخ العام لأسباب سياسية، واجتماعية، واقتصادية. إذ بدأ الاستقطاب المجتمعي الحاد المبني على العقيدة، يطغى على غيره من الخلافات المجتمعية، ولم يكن هذا مقتصراً على أصحاب العقائد المختلفة فحسب، بل بين أصحاب العقيدة الواحدة، إذ بدأنا نسمع عن “الإسلاميين” كفريق منفصل عن بقية المسلمين، وعن انقسامات عنيفة، واتهامات بالتكفير، كما بدأنا نرى، وهو الأخطر، جماعاتٍ تستخدم العنف، وتبرّره باسم الدين، بهدف “تطبيقٍ” صحيحٍ للإسلام، وإقامة دولة إسلامية.
وعندما عدت إلى مصر في العام 2009، كان الاستقطاب الديني على أشدّه، فازدادت المطالبات بضرورة تطبيق الشريعة (مع الخلافات التي لا تنتهي حول المضمون والتفسير)، كنقطة انطلاق نحو نهضة إسلامية، وضرورة أن يكون دستور الدولة “بنكهة إسلامية”، ووصلت الانقسامات إلى حد رؤية كل شيء من منظورٍ ديني، فالخلاف في الرأي حتى بين طرفين مسلمين، يتم اختزاله في “كره” أحدهم للإسلام، وقد يصل إلى إصدار فتوى بتكفيره، كما أن الخلافات بين المذاهب المختلفة، مثل السنّة والشيعة، أصبحت تفوق في حدّتها وعنفها، الخلافات بين أصحاب الديانات المختلفة، وتُستخدَم كمبرر للصراعات والحروب.
في هذا المناخ المشحون، سواء من قبل السلطة الوضعية، أو من قبل من نصّبوا أنفسهم أوصياء على الدين، تقلّصت مساحة حرية التعبير التي نحتاج إليها الآن، أكثر من أي وقت مضى، للتصدي للتحديات غير المسبوقة التي نواجهها، وبدأ التركيز في النقاش المجتمعي على الهوامش، على حساب مقاصد الشريعة، فلبس الرجل ‘دبلةً’ ذهبيةً، أو شراء حلويات المولد النبوي، أو تهنئة المسيحيين بأعيادهم، أصبحت أموراً تستحق مناقشات، أكثر مما يستحقها نظام الشورى، والديمقراطية في الإسلام، أو قدسية الحياة وحرمتها، أو إغاثة الملايين الذين يعانون من الفقر، والمرض، وعدم المساواة. بطريقةٍ ما، فقدنا الصورة الكبيرة: أصبح الشكل أهم من المضمون، والفرع أهم من الأصل، والوسيلة أهم من الغاية؛ والمخيف أكثر في هذا كله، أننا أصبحنا نعظّم ما يفرّقنا، ونقلّل من قيمة ما يجمعنا، ونتجاهل ضرورة التوافق عليه.
ما أوردته هنا، ليس بهدف الانخراط في جدل، وإنما من أجل دق ناقوس الخطر: لقد أصبح الاستقطاب حول العقيدة في منطقتنا، وبصفة خاصة الخلاف حول علاقة الدين بالدولة والقانون والأخلاقيات، وكذلك كيفية التمييز بين الخاص والعام، ذريعةً للانقسامات الحادة، ومرتعاً للانتهازية، وغطاءً للحروب والصراعات، بعكس ما يجب أن تكون عليه العقيدة: أساساً للتوافق والتراحم بين أصحابها من ناحية، وللتضامن مع غيرهم حول القيم الإنسانية الأساسية التي تجمعهم من ناحيةٍ أخرى. نحن نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى، وبشدة، إلى حركة إصلاحية جذرية في العالم العربي والإسلامي، ننقّي فيها التراث، ونغلّب فيها العقل والعلم، ونتوافق فيها على صحيح العقيدة، وننأى بها عن إمكانية استغلالها من قوى التطرف، لتكون منظومة قيم تدفعنا إلى الأمام، وليس حجر عثرة يعرقل تقدّمنا الحضاري.
رصيف 22