حجج ساقها البعض لحماية الاستبداد/ يحيى العريضي
كان ما حدث للعراق الحجة الأهم والأوسع، التي ساقها مَن يريد استهداف أو إحباط أو وقف انتفاضة الحرية السورية ضد الاستبداد الأسدي. لقد اعتبر هؤلاء صرخة الحرية السورية غطاءً لمؤامرة كونية كانت قد دمّرت العراق، والآن في طريقها لسحق سوريا. كانت سرديتهم أن النظام العراقي “تقدّمي، ويقف في وجه الإمبريالية”؛ ولذلك جرى التآمر عليه. وها هو “نظام المقاومة والممانعة الأسدي” “التقدّمي” يتعرض للمؤامرة ذاتها؛ وأدواتها جهلة ريفيون يصرخون بالحرية.
لم يكن أصحاب ذلك النهج مغرمين بنظام بغداد، إلا أنهم ركّزوا على تعرُّضه لمؤامرة كونية؛ ومن هنا سوّقوا تعرُّض سوريا ونظامها “المقاوم والممانع” للمؤامرة الكونية ذاتها؛ وما هذه الأصوات المعارضة – حسبما أشاعوا – إلا أدوات لتلك المؤامرة. وكي يعطوا شيئاً من المصداقية لطروحاتهم، ذكّروا بمقولات “الفوضى الخلاقة” على ألسنة غربية، وحذّروا من مخاطرها المدمرة.
قارن هؤلاء بين “قيادة مدنية” تلبس ربطة عنق، وبين لابسي الجلابيب الأفغانية؛ غافلين أو متجاهلين أن معظم تلك “اللحى” الطويلة والجلابيب صناعة أسدية إيرانية بامتياز. طابقوا بين ما جرى في سوريا وما تم في ليبيا ومصر واليمن والسودان. كل ذلك، وهم يدركون أن الأمور مختلفة تماماً؛ ففي سوريا لم تكن هناك سلطة عسكرية، بل مافيا ترتدي بزّة عسكرية، دهست الشرف العسكري، وحوّلت العسكري إلى ضحية أو قاتل لأهله. وثبت أن حجتهم تلك ساقطة أيما سقوط.
عندما واجهت منظومة الاستبداد المظاهرات السلمية السورية بالحديد والنار، كان الداعم الأساس لها أداة إيران “حزب الله”؛ وتبعه “الحرس الثوري الإيراني”؛ والحجة كانت /المراقد الدينية الشيعية/ في سوريا؛ فكانت ساعة السعد للمشروع الإيراني، بكل ما فيه من أبعاد دينية محرضة للطائفية، للتمدد في المحيط العربي. وعندما عجزوا جميعاً عن قمع ثورة شعبية حقيقية، لم يترددوا باستدعاء روسيا كقوة دولية للإنقاذ. وروسيا من جانبها، والتي كانت داعماً بالطائرات والصواريخ والقنابل منذ بداية انتفاضة سوريا، لم تتأخر بتحركها تحت ذريعة “مقاومة الإرهاب”؛ وحجتها أن هناك مَن يريد تغيير “النظام” بالقوة؛ وهذا لا يجوز في القانون الدولي؛ وكأن روسيا بحمايتها لآلة القتل حريصة على القانون الدولي! ولم تنتهك سيادات جملة من الدول المحيطة بها! ولم تحوّل جمهورية الشيشان إلى أرض يباب!
منذ انطلاقة صرخة الحرية السورية، لم تستنفر فقط سلطات قريبة الشبه من منظومة الاستبداد الأسدية، بل كل من تربطه علاقات خدمات متبادلة مع نظام الاستبداد. كان تخويف شعوب تلك الدول مما يجري في سوريا على رأس اهتماماتها. تلونت مواقف هؤلاء باستمرار، ولكن الثابت فيها كان عدم السماح لصوت الحرية أن ينجح؛ وفي أحسن الأحوال الحؤول دون تمكن منظومة الاستبداد من الحسم. كانت الحجة الأساس في العدائية المبطنة أو المُعلَنة أحياناً بأن توجه الثورة ديني طائفي إسلامي؛ فهو بالضرورة إرهابي. ويسوق هؤلاء حجة بأن نقطة انطلاق تلك الصرخات لم تكن إلا المساجد، ناسين أن اجتماع أكثر من اثنين، على مدار خمسة عقود في سوريا، يودي بهم إلى الاعتقال.
وفي الداخل السوري، وضمن ما يُسمّى “حاضنة النظام” تحديداً، وبين هؤلاء الرماديين أو المستفيدين الفاسدين أو العاجزين أو الانتهازيين؛ كانت الحجة الأهم أن سوريا “بلا ديون” و”العيش شبه مجاني” و”عطاءات القيادة كبيرة”. وكل ذلك كان بداعي نسف أي صدقية لمن خرج بالثورة. صحيح أن غالبية هؤلاء يستشعرون الآن درجة فساد وإجرام منظومة الاستبداد، إلا أنهم كانوا البعد الداخلي الشعبي المؤذي والمحبِط لصوت الحق والحرية للثورة السورية؛ فعلى ألسنتهم انتشرت كذبة “المؤامرة الكونية”، وهم مَن اشترى ألاعيب النظام في “الإرهاب”؛ حيث كان يقصف مناطق موالية أو يرتكب أعمالاً إرهابية، ويلصقها بانتفاضة السوريين، لتشويه صورة كل مَن يقول له “لا”. أرعبهم بـ “داعش”؛ وهو الشريك الأساس بتصنيعها، وتعيين أمرائها من خريجي معتقلاته.
من جانب آخر، وغاية في الإيلام أتت تلك الأصوات التي تنادي بالواقعية السياسية والبراغماتية والتماهي مع منظومة إجرامية لا يمكن أن ترى في الآخر إلا عدواً، إلى أن يثبت الولاء والرضوخ. فما كان من فراغ شعارها /الأسد أو لا أحد/ أو /الأسد أو نحرق البلد/. وما عزّز هذا الحال الانهزامي والإجرامي والنذل في آن معاً؛ وأخَذَ من استعصاء الحالة السورية حجة لتنفيذ مآرب أو مصالح أو انهزام، هو ذلك الادعاء المهين والمذل لسوريا العظيمة وأهلها الأعظم؛ بأن بديلاً للأسد غير متوافر. فركب معظم هذا العالم الساقط تلك الموجة، التي ستكون لطخة عار أبدية على جبينه.
كثيرة هي الحجج التي روّجها حُماة الاستبداد والمتسببين باستطالة الوجع السوري، ولكن بخصوص الحجة الأخيرة تحديداً، ليعلَمَ من لا علم له، أو يتجاهل، أو يدجّل (وخاصة أولئك الذين يترامون على أقدام الاستبداد، ويتحججون بإيران وبإنقاذ الشعب السوري)؛ أن ثورة سوريا لا تموت؛ وهي الأشرف والأطهر في التاريخ الحديث؛ وأن سوريا التي أوجدت الأبجدية والزراعة، سوريا أمُّ “جوليا دومنا” و”فيليب العربي” ويوسف العظمة وسلطان الأطرش وعبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري وآلاف العباقرة والشرفاء، سوريا لا ينقصها من يخدمها من الرجال أو النساء كقادة عقلاء راشدين، وأناس فطنين وأصحاب وجدان وأخلاق وتربية فلتذهب كل الحجج الساقطة وأهلها إلى الجحيم.
تلفزيون سوريا