في الحاجة للنقد/ سمير الزبن
تزدحم الساحة السياسية والثقافية بنوعٍ مستفز من المراجعات النقدية للكتب التي تُلقيها المطابع في السوق يومياً، والذي يُبنى على مديح الكتب السياسية والأعمال الأدبية لاعتبارات خارجة عن النص وعن صنعة الكتابة، إذ تعتمد هذه المراجعات أساساً على العلاقات الشخصية والكتابة المدائحية المتبادلة (حكّ لي، لأحكّ لك). بذلك، توضع الأبحاث العميقة والرزينة إلى جانب الأعمال البائسة التجميعية الركيكة، كما توضع الأعمال الإبداعية الراقية إلى جانب الأعمال الهابطة على الدرجة ذاتها من الجودة. ولا يقبل قراء الأعمال السياسية والأدبية ولدعم أصدقائهم سوى مقارنة الأعمال الهابطة بالأعمال العظيمة لكبار الكتاب الذين عرفهم التاريخ وكانت أعمالهم لحظة تحول ثقافي. وفي هذه الحالة، من الطبيعي اعتبار أعمال هابطة ورديئة لا تستحق لا النشر ولا القراءة تشكل فتحاً جديداً في عالم التحليل الاجتماعي والسياسي والإبداعي، كارثة حقيقية.
يعمل هذا النوع من المراجعات النقدية على خلط المعايير البحثية والتاريخية والفنية والأدبية التي يتم على أساسها الحكم على هذه الأعمال، لتبرير كلّ الأخطاء والخطايا التي ترتكب في هذه الكتب من تشويه وتزييف وضعف وركاكة، لكن ليست هذه الحال عند مروّجي الكتب الهابطة. إحدى أهم الوظائف التي تقوم عليها مراجعات الكتب والنقد الأدبي أن تكون دليل القارئ إلى الكتاب الجيد، وليس دليله لترويج الكتاب الرديء وإضاعة وقت القراء في قراءة كتب متهافتة لا تضيف أيّ معرفةٍ ولا أيّ قيمة جمالية. وهو ما يفتقد له كثير من مراجعات الكتب والنقد الأدبي التي إحدى أهم وظائفها تعزيل ساحة النشر السياسي والثقافي والفكري والأدبي من الأعمال الرديئة والمساهمة في تعزيز حركة تأليف وإبداع تستبعد الغث وتحافظ على السمين وترتقي به.
بذلك، يمكن القول إن مراجعات الكتب والنقد الأدبي في العالم العربي غير صالحة دليلاً للقراءة الجيدة، فهي تحيل إلى قراءة أطنان من الأعمال الرديئة، بوصفها من خيرة الأعمال. وما يزيد الطين بلة سهولة طبع الكتاب، انخفاض تكلفته، خصوصاً أنّ جل دور النشر العربية تطبع أعداداً متواضعة من الكتاب. ولا تتورّع دور كثيرة أن تطبع أيّ كتاب، طالما أنّ المؤلف قادر على دفع كلفة الكتاب وأرباح الدار من دون عناء التوزيع. تدافع دور النشر عن هذا الفعل بأنّها مضطرّة له، حتى تدعم الكتاب الجيد، في ظلّ التراجع المرعب لسوق الكتاب في العالم العربي، لكنّ دعم الجيد لا يبرر طبع الرديء والتربّح من ورائه. وبذلك يمكن القول إنّنا في العالم العربي نملك، على الأغلب، دكاكين للنشر وليس مؤسسات نشر، فنحن نفتقد فعلياً مؤسسات النشر التي تتعامل مع عملها بوصفه صناعة.
يعمّ هذا النوع من القراءات والنقد الساحة الثقافية العربية، مع استثناءات تثبت القاعدة ولا تنفيها. لا يقتصر هذا النوع من القراءات المجاملة والمنحازة على المراجعات الصحفية التي تنشرها الصحف اليومية التي يُعاب عليها أنّها تنشر نقداً انطباعياً وترويجياً وسريعاً فحسب، بل يشمل المراجعات المتخصّصة في المجلات الدورية المتخصصة، وصولاً إلى النقد الأكاديمي، ما يجعل الكارثة أكبر وأخطر من مديح هذا الكتاب أو ذاك، والتذرّع بأنّ الجميع يفعل ذلك، والكارثة الأكبر أنّ مادحي هذه الأعمال عندما تسألهم رأيهم الحقيقي فيها، تكتشف أنّهم يحملون رأياً مناقضاً لما نشروه، فهم يعرفون ويدركون أنّها أعمالٌ هابطة، أما لو كانت هذه قناعتهم الحقيقية بهذه الأعمال بصفتها أعمالاً مهمة، لكانت تلك نصف مصيبة.
تحتاج كلّ ساحة ثقافية حركة مراجعة ونقد فاعلة ومؤثرة لما ينشر فيها من كتب وأعمال إبداعية. ومن دونها لا يمكن للحركة الثقافية أن تستقيم وتؤدي دورها الفاعل في مجتمعاتٍ تحتاج الكتب كما تحتاج الماء والهواء، وحتى يتم تقويم حركة النشر المتزايدة وتقييمها، يحتاج الكم الهائل من الكتب والأعمال الأدبية التي تلقيها المطابع في السوق الثقافية إلى مراجعات وفرز نقدي، وهي مهمة ضرورية وملحّة ويومية. لأنّه في عالم اليوم، لا يمكن للقراءة أن تكون تجريبية، فقد أصبح وقت البشر ثميناً وقصيراً بسبب عامل السرعة الذي يصيب العالم كلّه بالدوار، بما فيه نحن، وهذا ما يزيد في مسؤولية المراجعات النقدية عن الأوضاع الثقافية العربية المتردّية. ولذلك، لا يمكن اليوم للقارئ أن يقدم على قراءة عشرة كتب ليحظى مصادفةً بكتابٍ له قيمة، طالما أنّ كلّ الكتب يتم مدحها عند مراجعتها نقدياً. مع رفع القبعة للقراءات العميقة والمسؤولة، على قلتها، في زمن السطحية السائد.
تعطي متابعة المراجعات النقدية الانطباع بأنّ الأعمال الإبداعية تولد كاملةً لا تشوبها شائبة، بصرف النظر عن التجربة الكتابية لصاحبها، فكلّ الأعمال التي يتلقاها سوق الكتب عظيمة. ولأنّ الأعمال البحثية والتحليلية والإبداعية لا يمكن أن تولد كاملة، مهما بلغ مستوى العمق والمهنية والتألق والجمال للعمل الأدبي، فإنّ مهمة المراجعات تكمن في التدقيق بهذه الأعمال. وبالتالي، الملاحظات النقدية لا تضعف العمل، بقدر ما تساهم في نقاش أفكاره، فكلّ عمل عظيم ناقص، يقول ويخفي، يكشف ويحجب، وهذا يعني أنّه ليست هناك أعمال كاملة ونهائية، وإلّا ليس هناك أيّ معنى لأن يكتب كاتب كبير كتاباً آخر. وإذا صحّ هذا في الكتابة العظيمة، فكيف الحال في كتابةٍ ما زالت تحبو؟! لا يكفي أن يتذرّع بعضهم بأنّ المراجعة كتابة على الكتابة، وأنّه نصٌّ على هامش متن. مثل هذه الذرائع هي ما تبرّر استقالة المراجعة والنقد من وظيفته، والوقوع في مصيدة النقد المجامل بوصفه أضعف الإيمان في ظل التردّي الثقافي الذي يشهده العالم العربي، باعتبار أنّه لا يوجد قارئ في العالم العربي، فما نكتبه لا أحد يقرأه، حسب بعضهم.
إذا كانت الاستقالة من النقد باعتباره عملاً لا معنى له ونباتاً طفيلياً على عملية التأليف والإبداع مفهوماً، فإنّ استقالة النقد والتعويض عنه بمدائح لهذا وذاكَ بلا معنى ولا مبرّر، فإنّ هذا لا يجعله عملاً لا معنى له فحسب، بل يجعله عملاً منحطاً ومسيئاً بامتياز
العربي الجديد