المجلس الإسلامي السوري… التسلّل من “الدين” إلى السياسة/ يامن المغربي
تحرّك المجلس الإسلامي السوري مؤخراً، على الصعيد العسكري، من خلال التدخل المباشر في علاقات الفصائل في مناطق ريف حلب، الخارجة عن سيطرة النظام السوري، وتزايد الحديث عن انتهاء دور محمد الجاسم (أبو عمشة)، قائد فصيل “لواء السلطان سليمان شاه”.
هذه التحركات ازدادت فعلياً منذ إعلان المجلس عن “انتخاب” أسامة الرفاعي مفتياً عاماً لسوريا، بعد إلغاء رئيس النظام السوري، بشار الأسد، المنصب، ونقل صلاحياته إلى المجلس الفقهي التابع لوزارة الأوقاف، في 15 من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
ويبدو أن قضية “المفتي” لم يكن الغرض منها ملء منصبٍ له دور معنوي كبير في حياة السوريين، بقدر ما يبدو أنه محاولة لتغطية السياسة السورية، والملف السوري المعقّد، بغطاء ديني يمنع “أي انتقاد يوجَّه إلى المجلس وعمله”، في وقتٍ لاحق، فما هو المجلس؟ وماذا يريد الآن من خلال زعم “توحيد الفصائل” في الشمال؟ وهل هو قادر فعلياً على “تمثيل” شريحة واسعة من السوريين؟
السياسة بغطاء ديني
تأسس المجلس الإسلامي السوري في عام 2014، في مدينة إسطنبول التركية، واقتصر دوره على إصدار فتاوى دينية أثار بعضها جدلاً واسعاً (كفتوى التداول بالعملات الرقمية)، حتى قرر رئيس النظام السوري بشار الأسد، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، إلغاء منصب المفتي. وسرعان ما أصدر المجلس بياناً أعلن فيه عن “انتخاب أسامة الرفاعي مفتياً عاماً لسوريا”، وذلك بعد ثلاثة أشهر على خطبة الرفاعي نفسه في منطقة أعزاز في ريف حلب، والتي هاجم فيها النسويات ومنظمات مدنية تعمل في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، محذراً من نساء يعملن في هذه المنظمات، مكلّفات “بنشر الفساد بين النساء المسلمات، بتوجيهٍ من منظماتهنّ الكافرة”، حسب نص الخطبة.
هجوم الرفاعي على “الغرب”، لم يكن الأول، إذ سبق واتّهم المجتمع الدولي بـ”التآمر” على السوريين، وذلك في عام 2014. حينها، لم يخفِ الرفاعي ومجلسه رغبتهما في لعب دورٍ سياسي مقبل، إذ قال الرفاعي في لقاءٍ مع موقع “الجزيرة”، إن لدى المجلس “قناعة بضرورة توثيق الصلة بكافة مكوّنات الثورة السورية”، وهو ما يتّفق مع تعريف المجلس بنفسه ضمن الموقع الرسمي، بأنه “هيئة مرجعية شرعية وسطية سورية، تسعى إلى جمع كلمة العلماء والدعاة وممثلي الكيانات الشرعية، وتوجيه الشعب السوري، وإيجاد الحلول الشرعية لمشكلاته وقضاياه، والحفاظ على هويته ومسار ثورته”.
وأثار “انتخاب” الرفاعي مفتياً، جدلاً كبيراً في أوساط السوريين، بسبب محاولات المجلس لعب دورٍ سياسي أكبر في الشأن السوري، ويرى مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة، محمد العبد الله، أن “خطوة انتخاب المفتي بشكلٍ مباشر، هي خطوة سياسية لا علاقة لها بالدين، ولو كان ظاهرها كذلك”.
ويضيف العبد الله لرصيف22: “حاول المجلس الإسلامي السوري اغتنام فرصة إنهاء النظام لمنصب المفتي في سوريا، وانتخاب مفتٍ عام، كخطوة سياسية. فالمجلس نفسه ليس منتخباً ليلعب دوره كممثل للسوريين، لا سياسياً، ولا دينياً، ولا يملك صلاحية انتخاب المفتي الذي بدوره من المفترض أن يمثّل كل المسلمين السوريين، ناهيك عن أنه تاريخياً لم يكن منصب المفتي في سوريا عبر الانتخاب، فالفكرة كلها غريبة؛ خطوة الانتخاب، وانتخاب مفتٍ من خارج سوريا لا يقيم حتى في المناطق (المحررة)، بل ويقوم بزيارات لها”.
يتحفظ العبد الله، على الخط السياسي للمجلس، “فولاؤه لتركيا أكثر مما هو لسوريا أو للسوريين، واهتمامه يدور في فلك السياسة الخارجية التركية أكثر مما يدور في فلك السوريين”.
من جهته، يرى الباحث أحمد حسن، أن “خطوة انتخاب المفتي جاءت متأخرةً جداً، ولا تشكّل المستوى المطلوب من صناعة الهوية، إذ إن مبررات انتخاب المفتي تعود إلى إعادة رسم الهندسة المجتمعية السورية بعد اختلالها، بحكم تدجين المؤسسة الدينية لدى النظام”.
ويضيف: “آلية الممارسة وأدواتها، للأسف، لا تلبّي هذا المشروع، ويقتصر على التمسك الطائفي بمنصب الإفتاء، وليس بناء مؤسسات منتخبة من الشعب، سواء على صعيد المؤسسة الدينية، أو السياسية، أو العسكرية، إذ لا يكفي انتخاب المفتي من دون انتخابات أخرى لممثلي الشعب السوري في المؤسسات الأخرى المعارضة”.
وتأتي خطوة “انتخاب المفتي”، في وقت يزداد فيه الحديث عن تشكيل جسم سياسي سوري معارض جديد، يكون بديلاً من “الائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية”، في محاولةٍ لحلحلة الملف السوري سياسياً، وإيجاد بديل أفضل من الائتلاف.
وكان رئيس الوزراء السوري الأسبق، والمنشقّ عن النظام، رياض حجاب، قد قال في مقابلةٍ على قناة الجزيرة، في آذار/ مارس الماضي، إن “الثورة السورية لم تنتهِ، والتغيير قادم”، فيما التقى وزير الخارجية التركي، تشاويش مولود أوغلو، حجاب، في العاصمة التركية الدوحة، مطلع كانون الأول/ ديسمبر الماضي. ووفق تغريدة للوزير عبر حسابه في تويتر، فإن اللقاء جاء لبحث التطورات الأخيرة في سوريا.
البحث عن الدور
تعطي خطوة “انتخاب المفتي”، مساحةً أكبر للمجلس الإسلامي السوري، للعب دورٍ في الحياة السياسية السورية، سواء أكان بالتأثير على قرارات “الائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية”، أو الدخول فيه مستقبلاً، أو الدخول والتأثير على أي جسم سياسي جديد ربما ينشأ في الفترة المقبلة، خاصةً مع تزايد الحديث عن دورٍ جديد لحجاب سيلعبه عبر تشكيلٍ سياسي جديد.
ومن المفترض أن تشهد العاصمة القطرية الدوحة، في الأسابيع المقبلة، ما أُطلق عليه “ندوة علمية”، تجمع سياسيين وباحثين سوريين بمن فيهم أشخاص من الائتلاف، حسب ما نقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية، في 20 من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عن نمرود سليمان، أحد أعضاء منصة موسكو، المقرّبة من روسيا.
يرى الباحث في مركز جسور للدراسات مجد كيلاني، أن “المجلس الإسلامي لا يتدخل بموضوع الائتلاف، أو عمله، أو دوره، أو البديل منه، وفي ما يتعلق بالجسم الجديد المعارض، سواء رياض حجاب أو أسماء آخرين، فهذا الكلام يتكرر بشكل مستمر، إلا أنه لا وجود لأي مؤشرات عن نيّة إقليمية أو دولية لخلق تجمّعٍ كبيرٍ للمعارضة، وإنتاج أسماء بديلة”.
ويلعب المجلس في الوقت الحالي دوراً في رأب الصدع بين الفصائل العسكرية في ريف حلب، ولهذه الخطوة نتائج كبيرة في حال نجاحه فيها، إذ تعني حصوله على المرجعية الشرعية لهذه الفصائل، ما يعطيه مساحة لعب أدوار أكبر وأكثر أهميةً في مناطق ريف حلب.
وعاد الرفاعي لزيارة منطقة أعزاز في ريف حلب، للاجتماع بغرفة القيادة الموحدة “عزم”، ومناقشة “ملف العمشات” (نسبةً إلى أبي عمشة قائد فصيل سليمان شاه المقرّب من تركيا)، إذ بدأ التوتر بين “عزم” والفصيل، إثر رفض أبي عمشة تسليم قادة في فصيله متّهمين بانتهاكات ضد المدنيين في منطقة عفرين، بالإضافة إلى تهمٍ أخرى بالفساد وجّهتها “لجنة رد الحقوق”، وذلك قبل أن تلقي قوّة أمنية تابعة لـ”عزم” القبض على اثنين من أخوة أبي عمشة.
وفق العبد الله، فإن محاولة “توحيد عمل الفصائل في ريف حلب، هي نقطة أخرى تثبت أن المجلس هو مجلس سياسي، وليس دينياً، ولا علاقة له بالإسلام، أو بانتخاب المفتي، لأن مهامه سياسية بالدرجة الأولى. كما أن المجلس مدفوع من الجانب التركي، في محاولةٍ لإضفاء الطابع الديني على النقاش الدائر بين الفصائل وتوحيدها ضمن إطار “الخطة المكتملة التي حاولت تركيا القيام بها لتحييد جبهة النصرة، أو على الأقل العمل معها، لإخراجها من طابع الإرهاب، وتوحيد الفصائل، قبل أن تلتهمها الجبهة، لتبقى لتركيا فصائل “معتدلة” لا علاقة لها بالإرهاب”.
ويضيف: “المجلس يتحدث عن العدالة والشرعية والدين وهذه التفاصيل، في حين أن الفصائل تقترف من الجرائم ما تقشعرّ لها الأبدان، لذا كان من الأولى على المجلس أن ينهى هذه الفصائل عن السرقة والنهب وفرض الأتاوات، لذلك أعتقد أن الخطوة أكبر من المجلس، ولن تكون له القدرة على تنفيذها، كما أنها تبرهن على الطابع السياسي لهذا المجلس”.
وحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قُتل 49 شخصاً تحت التعذيب، على يد قوات الجيش الوطني، حتى شهر أيلول/ سبتمبر 2021، فيما تعرض ألفان و567 شخصاً للاختفاء القسري، حتى شهر آب/ أغسطس الماضي. وتعرّض ثلاثة آلاف و641 شخصاً للاعتقال التعسفي على يد الجيش الوطني، الذي يُعدّ فصيل “السلطان سليمان شاه” أحد مكوّناته، وذلك حتى آب/ أغسطس الماضي.
يرى حسن، في حديثه إلى رصيف22، أنه “توجد بعض الخطوات من الإفتاء باتجاه إجراء تعديلات في التشكيلات العسكرية، ودمج الفصائل، لكنها ليست خطوات عملية، إذ تقتصر على بعض النشاطات التجميلية الشكلية فحسب، من دون التعاطي مع جوهر المشكلات في هذه الفصائل”، عادّاً أن الفصائل “ترسخت فيها المناطقية والفئوية بطريقة لا يمكن عبرها بناء أيّ مشروع وطني موحّد، ولا يمكن ذلك من دون أدوات أعلى من الإفتاء الذي لا يزال مجرد مؤسسة فكرية من دون أي أدوات سياسية او اجتماعية كافية لتغيير سياسة الفصائل، وعملها”.
النسبة إلى حسن، “لا يمكن للمجلس الإسلامي السوري قيادة مشروعٍ وطني للفصائل، بسبب تمسّك المجلس بالبعد الديني، وأحياناً الطائفي، وتالياً هو مشروع لا يمكنه تقديم مشروع عسكري موحّد للشعب السوري بكافة مكوناته القومية والدينية، وهذا القصور لم يقع فيه الإفتاء السوري خلال مرحلة ما قبل العسكر، بسبب تمسّكه بالبعد التحرري الوطني، ولم يكن يُحسب على دينٍ أو طائفة”.
في المقابل، يرى كيلاني أنه “دائماً ما كان المجلس الإسلامي يتطلع إلى دور أكبر يتعلق بضبط الفصائل (الجيش الوطني كان مبادرة شارك فيها المجلس الإسلامي)، وهو يحافظ غالباً على ظهوره في مناطق المعارضة على أنه مؤسسة جامعة لأطراف المعارضة ومناطقها”.
تمثيل “كُل السوريين”
والمفتي العام للسوريين يتعاطى مع كُل السوريين المسلمين، حتى الموالين للنظام، بحكم أن منصب الإفتاء هو منصب عام يتعاطى الشأن العام، ولا يفرّق بين السوريين المسلمين، على الأقل المنتمين إلى الطائفة السنية في البلاد، وتالياً فإن دخول المجلس الإسلامي السوري إلى نطاق العمل السياسي، ودخوله وسط صراعات الفصائل، يعطي تصوراً مختلفاً عن الأدوار التي يلعبها اليوم، أو سيلعبها غداً، ويبقى السؤال: إلى أيّ مرحلة يمثّل المجلس الإسلامي السوري الموجود في إسطنبول، عموم المسلمين السوريين السنّة، خاصةً مع الاتهامات الموجّهة إليه بعدم استقلاليته الكاملة عن الجانب التركي؟
يقول كيلاني، لرصيف22، إن “المجلس هو ممثّل الكيانات الشرعية التي أسسته، ولا يطرح نفسه على أنه ممثل للشعب السوري، أو ممثل للطوائف الأخرى، أو ممثل سياسي أو مجتمعي”، فيما يقول العبد الله إن “هناك قسماً ليس قليلاً من المسلمين السنّة السوريين المعارضين، لا يعترف بالمجلس كممثل لهم، وأنا منه، وهو لا يمثلهم لا سياسياً ولا دينياً”.
ويوضح العبد الله، أنه “على الصعيد السياسي، يضع المجلس مصالح الآخرين قبل مصالح السوريين، ودينياً لا أعتقد أن المجموعة التي انتخبت المفتي قدّمت دينياً للناس ما يمكن الاعتماد عليه”، متسائلاً: “أين كانت هذه المؤسسة غائبةً عندما بدأت داعش بأكل عقول الشباب وتغييبها، كما بقيت غائبةً عندما ظهرت النصرة المرتبطة بالقاعدة، وخطفت الساحة السياسية والدينية، ولم نسمع صوتها، وشخصيات من المجلس بقيت مع النظام عندما بدأت الثورة، لذلك لا تمثّل السنّة المعارضين”.
ويرى أن “على المجلس ألا يضطلع بدورٍ سياسيٍّ، كتوحيد الفصائل، أو إنشاء جسم معارض جديد، لأنه سيتم الدخول في المحظور حينها، إذ لا يمكن انتقاد جسم سياسي بغطاء ديني، ولا يقوم بأيّ عمل ديني حقيقي، لأن أولوياته السياسة، وقراره السياسي ليس بيده، وتالياً سيسيء إلى الجانبين السياسي والديني”.
رصيف 22