“من ذاكرة صفحات سورية”: “أي إسلام وأي علمانية؟” ،حوار مع ياسين الحاج صالح
وائل مرزا
معهد العالم للدراسات
تاريخ الإصدار: 1 يناير 2017
مقدمة
ثمة هدفٌ أساسيٌ لهذا الحوار يكمن في فتح قنوات “التعارف” والتواصل بين السوريين بشكلٍ عام، وبين من يُصَنفون، أو يُصنِّفونَ أنفسهم، إسلاميين وعلمانيين، منهم، على وجه الخصوص.
وإذ يبدو من العبث، عملياً وأخلاقياً، محاولةُ إلغاء أحد الطرفين للآخر على أرض الواقع، واستحالة تحقيق هذا الخيار، إن كان موجوداً حقاً لدى أحدهما، فإن البديل الوحيد يكمن في الحوار، مهما كان صريحاً وشفافاً، وربما قاسياً في رأي البعض. مامن جدوى هنا لحوار يكون أشبه بممارسة ترفٍ ثقافيٍ نظريٍ بين شريحتين تنتميان لسوريا الشعب والوطن والتاريخ والمستقبل، ببساطة، لأننا نعرف، ونعترف، بأن الفوارق في الرأي والرؤية والحُكم على الوقائع والأحداث، بينهما، كبيرةٌ وخطيرة. وهو مالاتستقيم معه محاولة التعامل مع الموضوع بغير “وضع الأصبع على الجرح”، كما يقولون، وبشكلٍ مباشر وجدي ومُفصَّل. والصواب أن يحصلَ هذا من الطرفين كلاهما، كما سنحاول في موقع “معهد العالم للدراسات”، دون أن يتبنى الموقع الطروحات الواردة بتفاصيلها، كما جرت العادة عليه مِهنياً في مثل هذا المقام.
يذكر ياسين الحاج صالح أسباب اهتمامه بالشأن الإسلامي في أكثر من كتاب ومقال، ويقول بخصوصها أدناه: “ومنها فيما يخصني أني من هنا، من عالم الإسلام، وتعنيني قضاياه ويعنيني المسلمون، وتعنيني كرامتهم كمسلمين وليس كبشر فقط؛ ومنها فيما يخصني أيضا أن الموضوع يبدو لي خصباً ثقافيا، وأن تطوير فكرنا السياسي والأخلاقي والحقوقي، والفلسفي، يمر عبر الاشتباك مع المجمل الإسلامي”. ويحرص على توضيح مدخلٍ معرفيٍ هام لنقده حين يقول: “الإسلام، والعقائد والأديان كلها، لا تفعل، من يفعل هم “الرجال” (والنساء) في شروط عينية ينبغي تقصيها دوماً. وحين يصر بعضنا أنهم لا يفعلون ما يفعلون إلا تنفيذا لأمر إلهي أو قانون تاريخي أو واجب قومي، فإنما يحاولون إخماد النقد، وتعليق جرائمهم في رقبة الله أو التاريخ أو الأمة”. لهذا، ترد في الحوار أدناه، عند الانتقال إلى بحث ظاهرةٍ عمليةٍ محددة في الواقع السوري، عبارته التالية: “وانتقدتُ في المقالة من يقولون الإسلام هو داعش، وكذلك من يقولون إن الإسلام من ذلك براء، لأنهم يَجُرﱡونَ النقاش إلى الإسلام، فيما الصحيح هو تحويل النقاش إلى أحوال الناس العينية”.
رغم هذا، يَطرح الرجل أسئلةً جذرية تتعلق بالإسلام نفسه كدين، ويوجه نقداً حاداً وقوياً لـ “الإسلاميين”، الذين يقصد بهم العاملين في الحقل السياسي، والعسكري، ويُميزهم دائماً عن المسلمين الملتزمين بتعاليم الدين والمسلمين الذين ينتمون للإسلام كثقافة وحضارة. فهل يُحقق مثل هذا الحوار، بالمضمون الوارد أدناه، فعلاً الهدف المذكور منه في بداية المقدمة؟ قد يحسبُ البعض أن العكس هو ماسيحصل.. لكن قراءةً متأنية وشمولية للحوار ستمنحُ للبعض، في أقل الأحوال، معرفةً بآراء ياسين الحاج صالح، واضحةً صريحة، وهذا مهمٌ وضروري. وبغض النظر عن رأي آخرين في صواب أو خطأ ماسيقرؤونه، يمكن لمثل تلك القراءة أن تصبح، بالنسبة لهم، مدخلاً لتواصلٍ فكري وثقافي، وربما عملي، لم يعد ثمة مفرٌ من حصوله، على طريق الوصول إلى حدٍ أدنى من مشتركٍ ثقافي سوري، لايمكن في غيابه ظهور مايُبنى عليه من منظومات سياسية واقتصادية واجتماعية لسوريا الحاضر والمستقبل.
وائل مرزا
شرحتَ أكثر من مرة في كتاباتك رؤيتكَ للإسلام في ثلاثة تجليات: الإسلام كثقافة وحضارة، والإسلام كفعل تدين والتزام بالتعاليم، والإسلام السياسي. وتذكر دائماً أنك (تنتمي) للتجلي الأول وأنه لامشكلة لديك مع الثاني، لكن نقدك الرئيس في كتاباتك يتعلق بالتجلي الثالث. الأرجح أن شيوع المعرفة بهذا التقسيم المنهجي في أوساط المسلمين (الإسلاميين؟) يساعدُ كثيراً على قراءة نقدك المنهجي للإسلام السياسي بعقلٍ منفتح وعلى التفاعل معه بشكلٍ بناء. بل وأزعم أن فيه أسئلةً مفتاحية يمكن أن تجعله مدخلاً رئيساً من مداخل التعامل الإيجابي بشكلٍ عام مع (المسألة الإسلامية) كما تحب أن تسميها، خاصةً بالنسبة للوضع السوري. ولكن، في ظل غياب ثقافة (القراءة) للكتب وحتى التحليلات المطولة، تجهل الغالبية العظمى من قراء نقدك التقسيم المنهجي المذكور. ومع شيوع الخلط في ثقافتنا بين دلالات المصطلحات، وتزايد القراءة الجماهيرية الواسعة لملاحظاتك وتعليقاتك القصيرة على صفحتك في موقع (الفيسبوك)، تشيع باضطراد مقولةٌ تتهم نقدك بأنه (هجومٌ) على الإسلام بشكل عام. لو أمكن أن نتجاوز إجابةً مثل (هذه مشكلة من لايقرأ وليست مشكلتي)، كيف يمكن الخروج من الإشكالية المذكورة بغرض توسيع دوائر الاستفادة بين المسلمين، السوريين راهناً على الأقل، مما يراه كثيرون الكمون الموجود في كتاباتك؟
شكرا على سؤال افتتاحي شهي. وأرجو أن تسمح لي بسطور تمهيدية لهذه الحوار.
بما أن معظم الأسئلة تدور حول الإسلام والإسلاميين والشأن الإسلامي، فسأتوسع في إجاباتي طمعاً بمخاطبة قطاع متسع من مسلمين مؤمنين وإسلاميين، فضلاً عن عموم المهتمين، في وضع سياسي ديني يبدو لي تاريخياً ومفصلياً. أعتقد أن مساري العام والشخصي منذ سنواتي الجامعية في أواخر سبيعنات القرن العشرين، مروراً بالسجن، ثم بالعقد السابق للثورة، ثم سنوات ما بعد الثورة، وبخاصة بعد خطفي زوجتي وأخي وعدد من أصدقائي على يد إسلاميين، يضعني في موقع مناسب للنظر في قضايا فكرية وسياسية، وأكثر منها قضايا أخلاقية، تتصل بوضع الإسلام في العالم المعاصر.
سأتناول الأسئلة من هذا المنظور، بكثير من الاهتمام، بدون لف ودوران، وبتوسع كاف.
من أجل مزيد من الوضوح، أريد أن أستعيد التمييز المشار إليه في السؤال، وأن أذكر بأنه ورد في فصل تمهيدي في كتابي “أساطير الآخِرين”، وكان الغرض منه تعريف موقعي الشخصي من الواقعة الإسلامية الكلية. الإسلام اسمٌ مجمل، تشترك فيه ثلاث ظاهرات مختلفة، يُستحسن أن نميز بينها من أجل تنظيم تفكيرنا وإنتاجيته. الظاهرة الأولى هي الإسلام كعنوان حضاري عام لمنطقة أكثرية سكانها مسلمون، وانطبعت عبر القرون الطوال بطابعٍ إسلامي عام، استوعب على نحو متفاوت تراثات غير إسلامية وقبل إسلامية، وينطوي في داخله على تنوعات كثيرة، حسب البيئات الجغرافية والسوابق التاريخية والصراعات السياسية، القديم منها والمستجد. نتكلم على الحضارة الإسلامية، وعلى العالم الإسلامي، وعلى المجتمعات الإسلامية كعنوانٍ ثقافي عام، متشكل تاريخياً. هناك دلالةٌ أخرى أو ظاهرة أخرى تندرج تحت الدال الإسلامي العريض، هي الإسلام كدين، العقيدة أو العقائد التي يؤمن بها المسلمون، ولها أركان اعتقادية معلومة في نظرالمؤمنين، وتقوم على عبادات معلومة، ورأيت والدي ووالدتي وأكثر الناس في وسطي الاجتماعي في سنوات الطفولة يعتنقونها ويمارسونها ويفاوضونها في تسيير حياتهم ومعاملاتهم. ويُطلق الدالﱡ الإسلامي على نسقٍ ثالث من الظواهر، معاصرة لنا في عمومها، وإن وُجدت لها أشباه وموافِقات في الماضي، أعني ما نطلق عليه الإسلام السياسي، واليوم أيضاً الإسلام العسكري أو الجهادي. وما يندرج تحت هذا النسق هو في رأيي ظواهر سياسية، تحكمها أحوال السياسة من تقارب وتحالف وتخاصم وعداء. لكن في تكوينهم، يُنكر الإسلاميون السياسيون، وأكثر منهم العسكريون، صفتهم السياسية، وما تُوجبه من الدفاع عن وجوب السياسة، وعن وجود قوى أخرى لها توجهات أخرى. وهم في ذلك أقرب إلى الحركات القومية والفاشية التي تصادر الحقل العام لمصلحتها وتفرض نظامها الخاص للدولة والمجتمع والسياسة، وتتضخم فيها وظيفة الأمن الحافظة للنظام.
في عقود سابقة شغل الإسلاميون موقعاً احتجاجياً في مواجهة الدولة الأسدية وأشباهها، وحُطمت منظماتهم بل وجرى إلى تجريف بيئاتهم الاجتماعية. كان الإسلاميون وقتها هم بصورة أساسية الإخوان المسلمون، وقد ظهروا في نطاق الدولة الوطنية الحديثة، ولهم وجهٌ سياسي يُطل عليها ووجهٌ ديني أممي يتعداها، وعَرضوا في كل مكان استعدادا للتلون يُبرز هذا الوجه أو ذاك بحسب الظروف. أميل اليوم إلى رؤية أن الإخوان أقرب إلى معادلٍ إسلامي محافظ للقومية العربية، والسلفية الجهادية معادل إسلامي للفاشية متولد عن التقاء المظلومية السنية مع المخيلة الامبراطورية، أي الامبريالية التي لم تجر تصفية حساب معها في أي وقت في ثقافتنا واجتماعنا المعاصر. هذا المزيج من الامبريالية والمظلومية مميزٌ جداً للسلفية الجهادية. السلفيون الجهاديون هم امبرياليون مقهورون. أو مسودون. الامبريالية السائدة لا تسمح لهم بمنافستها.
قلت إني كتبت هذا الفصل لأُعرﱢف موقعي الشخصي من الظاهرة الإسلامية التي درستها في “أساطير الآخِرين”. كعنوانٍ حضاري عام، أنا من الإسلام، وإن كنت عاملاً من أجل أن يكون مجالُنا هذا أعدل وأعقل، وأن يكون شريكاً في العالم ومكسباً للعالم لا عالة أو عبئاً عليه. أما الإسلام الدين، فلا نصيب لي منه، ولست مسلماً بهذا المعنى. ومعيار الحكم هنا في رأيي هو حرية الاعتقاد الديني، بما فيها حرية عدم الاعتقاد، وحرية تغيير الاعتقاد، والحق في التحيُّر في شؤون الاعتقاد. فـ”لا إكراه في الدين”، ولا دين في الإكراه. وإن شئتَ تعريفاً موجزاً وواضحاً، وإسلامياً، للعلمانية، فتعريفي المفضل هو أنها الفصل بين الدين والإكراه، بين المصحف والسيف (رسم السيف موجود في رايات دول وجماعات إسلامية متعددة). لا وجه على الإطلاق لإكراه المسلمين المؤمنين على ألا يمارسوا إيمانهم بالصورة التي لا عدوان فيها على غيرهم، لكن لا وجه بالمثل لإكراه غير المسملين أو غير المؤمنين من المسلمين على الإسلام. ورأيي أن الإكراه، ومنه بالخصوص حكم المرتد، هو من ميراث الامبراطورية، أي مرةً أخرى، الامبريالية الإسلامية، الذي لا بد من تصفية الحساب معه.
ولست إسلامياً كي أندرج تحت الدلالة الثالثة، السياسية، لدالﱢ الإسلام. كنت دوماً أقرب إلى خصمٍ للإسلاميين مني إلى شريك، ومني كذلك إلى عدو. ودافعت دوماً كذلك عن حقهم في العمل العام. هذا لأني لا أعرف مثالاً واحداً على استبعادٍ للإسلاميين لم يطل أمثالنا، من يساريين ولبراليين معارضين، ولأني لا أرى عدالةً في استبعاد الإسلاميين مما نتطلع إليه من أوضاع سياسية استيعابية.
هذه الأساسيات في موقفي لم تتغير: أنا من عالم الإسلام لا من غيره، وأريد لهذا العالم أن ينهض ويكون له شأن؛ ولست مؤمناً فلا أنتمي للإسلام كدين، لكني احترم إيمان المؤمنين وأرفض وأقاوم الإكراه في الدين أو على الدين، والإكراه على الخروج من الدين؛ وأدافع عن حق الإسلاميين في العمل العام كقوى سياسية مثل غيرها، ما داموا هم يقبلون أنهم قوى سياسية مثل غيرهم، ويقرون بحق غيرهم في العمل العام مثل حقهم هم. ويمكن لهذا أن ينطبق على الإسلاميين السياسيين الذي لهم قواعد اجتماعية، ويحتاجون إلى السياسة، ولا ينطبق على السلفيين الجهادين الذي لا قواعد اجتماعية لهم، ولا يحتاجون إلى السياسة ولا إلى المجتمع، يستغنون عنهما بالعقيدة والحرب، أي بالجهاد، ويتعاملون مع المجتمعات العيانية كبيئات توحش.
تقديري الشخصي أننا أمام مفصلٍ تاريخي كبير، ويجب أن نعمل على جعل خبراتنا الحالية، المكتسبة بمشقة وبكلفة هائلة، نقطة انعطافٍ تاريخي كبير. الأمر أكثر جديةً بكثير من أن ينظر الواحد بعين الجد لصنفٍ قديم غير تحرري من معاداة الإسلاميين (أو للإسلام ذاته)، ينسب نفسه إلى العلمانية أو الحداثة، ويخلو من أي محتوى ديمقراطي أو قيمة ثقافية مضافة. لكن الأمر أكثر جديةً أيضاً من أن يكون أمثال داعش والقاعدة وجيش الإسلام وما شابه شيئاً غير أعراض لداءٍ تاريخي آن أوان الشفاء منه، او أن يستمر الإسلاميون السياسيون أنفسهم بالتلون واللعب على الحبلين، حبل الأممية الجهادية المتوحشة وحبل المجتمعات والدول القائمة. سيخسرون صفتهم السياسية كلياً ونهائياً إن لم ينحازوا بوضوح هجومي إلى تصور مجتمعٍ سوريٍ متنوع، متحرر وما بعد أسدي، ضد تصور سورية كبيئة توحش جهادية.
وبعد ظهور الإسلام الامبريالي الجديد، المحارب والتوسعي والمعادي للمجتمع والسياسة، لا يمكن للإسلام السياسي أن يبقى على قيد الحياة إن لم يفصل نفسه عنه فصلا فكرياً وسياسياً واضحاً، ويقطع كلياً مع دين الإكراه. السياسة لا تَظهر دون قطيعةٍ مع الإكراه. ضيقَ ظهورُ الامبريالية الإسلامية المقهورة من هامش مناورة “الإسلام السياسي”، فإما يلتحق بها فيخسر صفته الاجتماعية والقليل من السياسة الذي لديه، أو يصون صفته السياسية ويعزز نزعته الاجتماعية بالانفصال عن دين الإكراه والجهاد الامبراطوري.
أعتقد أننا في المعركة، وفي ساحتها تتشكل اليوم الرؤى والمفاهيم والمقاربات العلمية التي ستحكم تفكيرنا وعملنا السياسي لعقود من اليوم. وأنا شخصياً من العاملين على بلورة تفكير وسياسة ديمقراطيين، ينظران بحذرٍ أكثر وثقةٍ أقل إلى الإسلاميين. لا أجد في تفكير أكثرهم وفي تصرفاتهم الشخصية، وفي سياستهم العامة، ما هو عادلٌ وكريم، وما يرتفع إلى مستوى المعاناة الهائلة للسوريين، وللمسلمين المؤمنين.
ويخيل لي أن معظمنا لا يدركون كم أن أوضاعنا الحالية، وهي شديدة القسوة والوحشية، هي في الوقت نفسه حقبةٌ انعطافية يمكنها أن تكون غنيةً بالفرص والممكنات. ويبدو أن الأقل إدراكاً هم الإسلاميون الذي لا يتبينون كم أن الزمن الحالي لا يشبه زمناً آخر في تاريخ الإسلام كله. مرت أوقات صعبة على المسلمين، لكن دينهم لم يكن عرضة لتحدٍ جدي منذ الانتشار الامبراطوري للإسلام قبل 14 قرناً. التحدي اليوم أكبر بكثير، وهو يطالُ دين الإسلام، من داخله ومن خارجه ومن حوله، من إسلاميين لااجتماعيين ولا سياسيين، ومن أعداء عنصريين للإسلام، وكذلك من معارضين علمانيين تحرريين.
استطاع الإسلام أن يعيش وينتشر خلال أكثر من خمسين جيلاً لأنه وفر إطاراً واسعاً للتنوع البشري، لتلاقي أناس مختلفين الأعراق واللغات والأصول، وهذا بالرغم من الصفة الاستبدادية للدول الإسلامية غالباً ومن وراء ظهرها، وضدها أحياناً. استمر الإسلام لأنه انتقل من عقيدة الفاتحين الباكرين إلى مُلكِ مسلمين متنوعين جداً، ساعدهم على تحمل شروط حياتهم وفتح لهم نافذة على ما يتجاوز المحسوس وقدم لهم وعداً بعدالةٍ أخروية. اليوم لدينا إسلامٌ يحاول الفاتحون الجدد استرجاعه لأنفسهم ونزعه من أيدي الناس، وهو عقيدة قوة لا تبدو قادرة على توفير حلول لمشكلات مجتمعات متنوعة، وتلجأ بسهولة إلى العنف، إلى التعذيب والذبح والخطف والترهيب والاغتيال. الجماعة متزمتون، ضيقو الصدور، مفعمون بالكراهية، لا يحبون شيئاً ولا أحداً، ولا يملكون أدوات مناسبة للتفكير في عالم اليوم والتوجه فيه. هذا ما يحتمل أن يُخرج الإسلام من التاريخ خلال قرن، أو يرده إلى عقيدة مجموعاتٍ صغيرة متعصبة، مكروهة وكارهة لغيرها.
لكن ما قد يميز اليوم هو أن هناك فاعلين فكريين وأخلاقيين وسياسين، نساء ورجال تحرريون ومتحررون، جادون في كسب المعركة الأخلاقية والثقافية ضد عقائد الإسلاميين وقادرون على كسبها وعلى فتح طرق فكرية وأخلاقية واسعة جديدة. نريد أن نكرم الآلام الرهيبة لبني قومنا، وقد أوقعها بهم غول الطغيان والغول الإسلامي، بثورةٍ في مجال الثقافة والحساسية. وأرى أننا سائرون إلى الأمام.
في إجابتك على سؤال في ملحق النهار منذ فترة، شرحت لماذا “طفح” كيلك “الشخصي والعام” بحيث أصبحت “الشحنة الانفعالية” في كلامك “عن الإسلاميين أقوى اليوم من السابق”. ومن ناحية أخرى، تردﱡ بشكلٍ عام في كتاباتك جزءاً رئيساً من مشكلاتنا إلى وجود ثلاثة غيلان هي الغول الدولي وغول الاستبداد وغول الدين. هل يمكن أن تكون مشاعرك الشخصية من أسباب طغيان الحديث عن الغول الأخير في طروحاتك، ربما إلى ما قبل عام تقريباً؟
نعم، أنا أشدﱡ انفعالاً اليوم تجاه الإسلاميين عموماً، وأعترف إني أغالب نفسي بقوة كي لا أنساق وراء كرهٍ انفعالي غير تمييزي للإسلاميين كلهم. ولذلك أسباب شخصية وعامة معلومة. فجماعةٌ من السلفيين اختطفوا أخي وأصدقائي، وجماعة أخرى اختطفت زوجتي وأصدقائي، وهذه ليست شؤوناً عابرة، ولا أنوي جعلها عابرة. وبالمناسبة لا يبدو أن عموم الإسلاميين أخذوا علما بالواقعتين حتى اليوم، ولم يعرضوا مساعدةً في أي وقت أو يُعبِّروا عن تضامن.
هذه أفعالٌ محطمةٌ للحياة، حياة المخطوفين وحياتي، وأتطلع إلى أن يكون لي إسهام في تحطيم قضية من ارتكبوا تلك الجرائم، وفي التجريم الثقافي والفكري والأخلاقي لدين الإكراه والعقيدة السلفية الجهادية التي لا يعترف معتنقوها بأي ضربٍ من الالتزام تجاه أي بشريٍ إلا أشباههم، ما يضعهم في موقع عداءٍ عدمي مع العالم والحياة في هذا العالم. وأعمل على أن تكون الجريمة مفصلاً ثقافياً وواقعةً تبقى معنا لأمد طويل، ننظر فيها ونعيد النظر ونكشف أبعادها ورمزيتها، وهذا مثلما كان خطف داعش لأخي فراس ولأصدقائي ولمدينتي الرقة مفصلاً سياسياً، ومثلما كان خطف سميرة ورزان ووائل وناظم مفصلاً سياسياً في الغوطة الشرقية.
وبالطبع لمشاعري الشخصية دورٌ كبير، لكن لم يكد يبقى لدي ما هو شخصي تقريباً. حين تختطف زوجتك وأخوك وأصدقاؤك، وتضطر أنت وإخوتك وكثير من أصدقائك إلى العيش في مناف غير مرحبة وغير ودودة، وهذا في سياق صراعٍ عام كبير أنت شريك فيه، وبصورة ما نالك أشد الأذى مما عملت طوال عمرك من أجله، فإنه لا يكاد يبقى ما هو شخصي لك أو منك. أحاول ألا أستسلم للمرارة من أجل أن أستطيع الاستمرار في المقاومة، ولن أبني سردية مظلوميةٍ شخصية في هذا الشأن، لكني عامل من أجل تحطيم قضية أعدائنا، وضمن التفوق الأخلاقي لقضيتنا.
وتعلم أن اللاعبين الإسلاميين دخلوا إلى مسرح صراعنا الكبير وهم يضعون على وجوههم أقنعتهم العقيدة. باسم الإسلام خُطف أخي واصدقائي. وباسم “نصرة هذا الدين” خطفت زوجتي وأصدقائي. هل أنا، العلماني، من يجب عليه القول: أنتم لا تمثلون الإسلام؟ لا، من يجب أن يقولوا ذلك هم المسلمون المؤمنون والمشايخ وقادة الإسلام السياسي. لا أريد المزايدة عليهم وعلى عموم المسلمين، لكن يبدو لي أنهم لا يصونون كرامة دينهم بالسكوت على هذه الجرائم، هذا حين لا يهلل بعضهم لها.
تعلم أيضاً أني تكلمتُ على الغيلان الثلاثة في وقتٍ سابق على صراعنا الجاري منذ خمس سنوات ونيف، الصراع الذي كان إطاراً لظهور الأشكال الغولية للدين والدولة والقوى الدولية النافذة في صور تتجاوز أسوأ توقعاتي. الغيلان تَشكُّلات لا إنسانية لما يُفترض أنها قوى إنسانية جمعية كالدين والدولة والنظام الدولي، وهي في رأيي تدل على قصور جسيم في فاعلية الأنسنة في مجتمعاتنا، وفي العالم. فإذا صح هذا التقدير ترتبت عليه وجهة للعمل التحرري هي أنسنة القوى العاملة في عالمنا، وتعين على الفاعل العام، المثقف بخاصة، أن يصير مُروض غيلان. أعني أن يعمل على تشكل الإسلام في صورةٍ أكثر مواتاةً للتحرر والعدالة، وتشكل الدولة في صورةٍ تنضبط بتطلعات الأكثر حرماناً من السكان إلى أوضاع أعدل وأوفر حرية، وتشكل النظام الدولي في صورة مماثلة، تجيب على حاجات الأضعف إلى الأمن والكرامة والحرية.
ويبدو اليوم أن القوى الثلاثة لا تعنينا وحدنا، وفاعلية الأنسنة يمتنع أن تكون فاعليتنا وحدنا. الإسلام شأنٌ عالمي في تكوينه وفي انتشاره وفي منابع المشكلات الدينية السياسية التي تنعقد حوله، والأشكال الأكثر غولية من الإسلام معولمةٌ أكثر من غيرها، وغول الدولة محمي بالأشكال الأقل غولية في الغرب من الدولة، ما يعني أن هذه الأشكال ذاتها تعاني من مشكلةٍ في إنسانيتها، والنظام الدولي مكونٌ من دول بعضها غيلان خارج بلدانها على الأقل، ولا شيء يحول حيلولة جوهرية في مجتمعات تزداد خوفاً دون أن تنقلب الدول إلى غيلان مفترسة للبشر في تلك المجتمعات بالذات، بدءا بالأقليات ربما، وربما بالمسلمين قبل غيرهم.
ولهذا يبدو لي أن من المهم أكثر وأكثر أن يصير العالم إطاراً لفاعلية الأنسنة أو لثورةٍ إنسانية عالمية.
نحن على كل حال منبوذون خارج وطننا، ونمثل منبوذي العالم الراهن. لنا مصلحةٌ جذرية في أنسنة أنفسنا والغيلان النازعة لإنسانيتنا. ولنا شركاء في العالم، كثيرون.
في نفس الإطار، يجد القارىء في كتاباتك مزيداً من الزخم والقوة عند الحديث عن الغولين الأولين: الغول الدولي وغول الاستبداد، في العام الأخير، إن على المستوى الكمي أو على مستوى المضمون. هل تقبل بصحة هذه الملاحظة؟ وإن كانت كذلك، هل يمكن القول أنها تأتي إفرازاً لواقعٍ عملي يُثبت التداخل المعقد والمستمر والمتكامل لتأثير الغيلان الثلاثة في ترسيخ مشكلاتنا على كل صعيد؟
أستسمحك من جديد بشيء من التوسع في الإجابة.
ما هو الغول؟ كائن مستحيل مثل العنقاء و”الخِل الوفي”، على ما كان يقول أسلافنا. لكنه موجود خيالياً، في خيال الإنسان. إنه أحد مخلوقات الإنسان. وعندما نفكر في هذه “المستحيلات الثلاثة” يبدو أن العنقاء ترمز إلى نازع التجدد والخلود، والخل الوفي إلى الصداقة والثقة، والغول إلى الخوف أو الهول المخيف. أي أننا حيال ثلاثة وجوه للإنساني. وأُفضلُ الاعتقاد بأن كلمة مستحيل تحيل إلى ما تتحول صورته، وليس إلى الممتنع، وأن كلاً من هذه الكائنات الخيالية متحول أو هو وجهة تحول. تحول لماذا؟ للإنسان نفسه. فالغول هو الإنسان وكذلك العنقاء، والخل الوفي.
وإذا رجعنا إلى “لسان العرب” نجد أن التغول يعني التلون، والظهور في صور شتى. وأن الغول هو أيضاً ما يغتال الإنسان ويهلكه، وبخاصةٍ خُفية. فالغول هو نقيض الخل الوفي.
أحب هنا أن أؤول مأثور المستحيلات الثلاث على نحوٍ يُظهر رابطاً عميقاً بينها: الغول هو ما يتلون، أي أنه يُحيل إلى التحول الزائف، تحول لا يؤدي إلى ظهور أشكال جديدة للكائن، بل فقط لون جديد للكائن ذاته. والغيلان، وهي مذكرة ومؤنثة، تتغول وتتوحش لأنها لا تتغير، لأنها تتلون فقط. ولعلها تفعل ذلك كي تتخفى وتغتال. لدينا غولٌ إسلامي لأن هناك حاجةً غير ملباة إلى تغيرٍ عميق في نظام الإسلام وشكله، وليس إلى تلونٍ سطحي له بالعالم المعاصر. ولدينا غول الدولة لأننا لم نطور لها دستوراً يضبطها وعدالة تنضبط بها، فبقيت وكالةَ قوةٍ مصطبغة بألوان الدولة الدستورية الحديثة. ولدينا الغول الامبريالي لأن قوى السيطرة الدولية تلونت بعد انقضاء الزمن الاستعماري ولم تتغير فعلياً، ولم تنضبط بقواعد عامة جديدة. والغيلان الثلاث تتوسع في اغتيال الإنسان وإهلاكه.
أما العنقاء فهي كائنٌ مؤنث يرمز إلى دورة الموت والحياة، إلى فناء الكائن وانعدام شكله ثم انبثاقه من جديد. الانعدام ثم الانبثاق هما الشكل الوحيد الممكن للخلود. أي أيضاً لا خلود من غير موت، أو أن الموت ليس نقيض الخلود، بل هو شرط له. والخل الوفي هو سندك الثابت الذي لا يتغير، ولا يتحول. وما لا يتحول مممتنع. الخل الوفي مستحيل لأن ما لا يتحول إما يموت فيفقد كل شكل، أو يتلون، يتحول تحولاً زائفاً، فيكون غولاً. فإذا كان الغول هو الإنسان، فإن ما تلزم أنسنتُهُ هو الإنسان. وهذه معركة ينبغي كسبُها في كل وقت، لأن لدينا استعدادات في كل وقت للتغول والاغتيال، الانقلاب إلى كائنات فتاكة لا تترفع على دناءة ولا تتهيب ارتكاب جريمة، ولا تكف عن خداع ذاتها وغيرها وتلبيس الأمور على النفس والغير. وواقع الحال في سورية اليوم شاهد.
أعتقد أن علينا أن نأخذ الشرط الغولي بعين الجد، لأن من شأن الاشتباك مع “ما يغتال الإنسان ويهلكه” أن يكون منطلقاً لثقافةٍ جديدة وإنسانية جدية، وسياسة جديدة، في مجالنا وفي العالم. نحتاج إلى أن نجاهر أنفسنا أننا غيلان، أننا نتلون ولا نتغير، أننا نتغول لأننا لا نتغير، أن فينا من البهيمة الدموية الفتاكة أكثر مما فينا من الخل الوفي، العامل لصون الحياة في نفسه وفي نظرائه وفي العالم من حوله. فُرصُنا في الانبعاث كالعنقاء مرهونة بترويض الغول الذي هو نحن.
هذا ليس من باب “جلد الذات”، فنحن من العالم، من هذا العالم الواحد، وإن كنا على هذا القدر من سوء الحال، فالعالم إذن سيء الحال، وليس لأننا سيئون و”نستاهل”. عالم اليوم أشد ترابطاً من أن نفكر فيه كمعرض تتجاور فيه “الحضارات” أو “الثقافات” أو “الدول”، لا تحيلُ كلٌ منها إلى غير استحقاقها الذاتي. هذا عالمٌ متبادل الإشراط، يتوزع فيه الضعف والقوة، والرفاه والبؤس، والأمن والإرهاب، والثراء والإملاق، وبهجة الحياة ونكد العيش، على نحوٍ متفاعلٍ ومترابط. هذه نقطة أساسية في نظري، وهي تقطع مع تقاليد النظر القومية والدينية المنكفئة على القوم أو الجماعة الخاصة، وتنفتح بالمقابل على مبدأ المسؤولية العالمية، مسؤوليتنا عن غيرنا ومسوؤلية غيرنا عنا، مسؤولية الكل عن الكل وعن الحياة، وعن الكوكب.
وليس هذا الترابط بسيطاً، ولا هو محكوم بمحصلةٍ صفرية. لسنا فقراء لأنهم نهبونا فصاروا أغنياء، كما كانت تقول مدرسة التبعية، وليس الإرهاب نتاجَ أمنهم… ليس هناك هم ونحن مثلما يعتقد الإسلاميون لدينا، ويعتقد يمينيو الغرب وقوميوه و”حضاريـ”وه، ودعاة تفوق العرق الأبيض. نحن منشبكون في وضعٍ واحد متداخل، تُحرضُ فيه أفعالٌ ومبادرات تجري في إطار عالمي استجابات وردود أفعال في إطار يزداد عالمية. العزلة غير ممكنة، ولا أحد يستطيع أن يقول “أنا ما دخلني” أو “ما بدي أتدخل”.
ليست المسؤوليات متكافئة، وخريطة توزعها تتناسب عموماً مع خريطة توزع القوة في العالم في رأيي. لكن ما يميز ضعفنا نحن في عالم اليوم هو أنه عابدٌ للقوة، سواء في صورة الدولة التي حكمتنا، أو في صورة المجموعات الإسلامية التي تريد حكمنا. ضعفٌ يُقنع افتقاره إلى القوة بالعنف، فلا ينال التعاطف كضعف ولا ينال الاحترام كعنف. ثم أن ما يميز ضعفنا أيضا هو أنه راكنٌ إلى لوم الغير وإلى التنصل من كل مسؤولية. فإذا ميزنا بين وجهين للمسؤولية، وجهٍ موضوعي، يقرره ناظرٌ متجرد من خارج، يقضي بأن من يحوز قوةً أكبر وحرية أكبر يتحمل مسؤوليةً أكبر عن أي وضع قائمٍ هو ضالعٌ فيه، ووجهٍ ذاتي يقضي بأن من يقبل بتحمل المسؤولية في أي وضعٍ قائم هو الأكثر حرية وعدالة، فإن حال عالم اليوم هو حال من انعدام المسؤولية على المستويين: تنصل الأقوياء (الدوليين والمحلين والنافذين…) من مسؤولياتهم عن أوضاع هم متدخلون فيها وتزداد عسراً في كل مكان، وعدم ظهور فاعلين يتطوعون للشراكة في المسؤولية مقابل الكثيرين الذي يريدون الشراكة في القوة أو احتكار القوة لأنفسهم. الإسلاميون على اختلافهم لا يعرضون حساً بالمسؤولية، لا موضوعياً ولا ذاتياً، لا يبحثون عن شراكة في المسؤولية مع نهمهم الشديد إلى القوة، ويتنصلون من مسؤوليتهم حين يكونون نافذين عن أوضاع سارت في ظلهم دوماً نحو الأسوأ.
وتَجمعُ الدول في مجالنا من العالم بين قوةٍ وحريةِ تصرف لا نظير لها قياساً لأي فاعلين داخليين في بلدانها، وبين تنصلٍ من المسؤولية لا نظير له. وما يجعل كائني الدين والدولة غوليين في مجالنا أن كل منهما يتطلع إلى ضم الآخر إليه. تريد الدول في مجالنا أن تصير دينا معبوداً لمحكوميها، ويريد الإسلاميون أن يكونوا دولة أو أن يجمعوا بين أيديهم الدين والدولة، السلطة المطلقة والشرعية المقدسة، وما سنحصل عليه من اجتماعهما لن يكون أقل من مطحنةٍ للبشر، مثل داعش. والأصل في التغول الغربي أن الغرب مكونٌ من دول أو “حضارة” خاصة، ويريد أن يجعل من نفسه في الآن نفسه عدالة عامة.
وبما أن سورية كانت مسرحاً لثلاثة غيلان فإن إعادة بناء ثقافتنا على مواجهة هذه القوى المنفلتة من أي شكل هو ما يمكن أن يكون تكريماً معنوياً للشهداء وللثورة المغتالة. الثقافة فضاءٌ لصناعة الأشكال، أي للقواعد والمفاهيم والمناهج والمعايير التي تتيح للإنسان أن يتوجه في عالمه بأدنى قدر من الأذى لغيره.
منذ زمن كتب المثقف والناشر فاروق مردم على موقعه ما يلي: “إلى من يُريد تعريفاً دقيقاً للإسلاموفوبيا في فرنسا حملةٌ ضارية على نجاة بلقاسم، وزيرةالتربية والتعليم في الحكومة الجديدة. وهذه السيدة ليبيرالية علمانية حتّى النخاع، جميلة وأنيقة ومثقّفة، مناضلة نسويّة متحمّسة، ولكنّ اسمها نجاة بلقاسم…الأهم أنّها تنحدر من أصل عربي إسلامي وإن لم تكن “مسلمةً” بالمعنى الشائع – وقد تكون ملحدة…أريد أن أقول عن تجربة طويلة لا يشوبها أي عداء “جوهراني” للغرب إن الإسلاموفوبيا نزعة عنصرية قديمة مثل اللاسامية، وقد قوّتها دون شكّ “الصحوة الإسلامية المباركة”! ليست الإسلاموفوبيا التي نستنكرها نقد الدين الإسلامي، ولا قراءة التاريخ الإسلامي قراءة موضوعية، ولا العداء للمنظمات الإسلاموية المتطرّفة، ولا استنكار تصرّفات بعض المسلمين المخالفة للقوانين والأعراف الأوروبية، ولكنّها الكراهية المتأصلة للمسلمين لأنّهم مسلمون دينيّاً أو اجتماعيّاً أو ثقافيّاً …أو لأنّ أجدادهم أو آباءهم كانوا مسلمين”. هذا توصيفٌ من مثقف ليبرالي موضوعي لحالة ثقافية/ اجتماعية/ سياسية قائمة، تزداد سوءاً، في فرنسا وغيرها، ويمكن أن تكون أحد المداخل لتأكيد استحالة التعايش مهما كان الوضع، ولحتمية وجود صراعٍ دائم بين الحضارات. لماذا لا تستطيع (الحداثة) الفرنسية، والأوربية اضطراداً، بصفتها ما تُسميه أنت “خير الإنسانية العام” و”الشكل الأكثر تطوراً للروح في العالم الأرضي”، أن تُفرز واقعاً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً يُمكِّن أهلها، والعالم من حولهم، من تخفيف الاحتقان الكوني الراهن، إن لم يكن وقفَهُ، والمبادرة لمحاولة عكس اتجاهه ولو تدريجياً وعلى المدى الطويل؟
فاروق صديق أتشرف به، و”أبصم” على كل ما يقوله.
يمكن في تصوري أن نفكر بالحداثة كمشروع مفتوح لأنسنة العالم والإنسان نفسه، إنتاج لأشكال من الاجتماع والسياسة والعمل والتفكير تتيح لنا التعرف والثقة، ورهان على عالم يوفر عدالة وحرية ومساواة أكثر لجميع البشر، تتحقق عبر تحكمٍ أفضل بالمحيط الطبيعي وتطوير تكنولوجيات تدخر في العمل البشري وتتيح للإنسان رفع رأسه عن التراب، ويمكن أن نفكر فيها كقفزة في القوة تستأثر بها المجتمعات التي طورت الشكل السياسي الأبرز لامتلاك الحداثة وما تدره من قوة: الدولة. الحداثة بالمعنى الأول هي خير عام للإنسانية، انتفع منها جميع البشر، وعَمَّت أداوتُها وتنظيماتها وتكنولوجياتها وعلومها الكوكب، فلا خارج لها إلا ما لا تكف هي عن استكشافه.
الخارج موجودٌ مع ذلك على المستوى السياسي، تقرره أشكال تملك الحداثة وأنظمة التفكير التي تسوغ التملك غير المتكافئ للحداثة. فيجري الفصل السياسي بين مراكز للحداثة يفترض أنها مؤنسنة أكثر وبين هوامش أو ملحقات أقل حداثة وإنسانية، مع كون الكل في العالم المتفاعل بعمق، الذي لا تنعزل أنصبة البعض من شيء من قواه عن أنصبة البعض الآخر. وهذا هو التوتر الأساسي في عالم اليوم، ويبدو لي أنه يُحلُ لمصلحة أشكال التملك الخاصة لمصلحة الأقوى على المستوى الدولي وداخل كل بلد في عالم اليوم، ويؤول إلى أنسنةٍ أقل على المستوى العالمي.
ومن مشكلات الحداثة الكبرى الموجبة للمراجعة، أن الأنسنة أخذت شكلاً مطلقاً، شكل سيادة للإنسان لا على البيئة الطبيعية وحدها، وقد اثارت مشكلات خطيرة منها ما يهدد الحياة على الكوكب، بل وعلى معظم البشر الآخرين عبر التملك الخاص للحداثة وهو ما تسبب بمشكلات الاستعمار والعنصرية. تَلزم مراجعة وإعادة استملاك للحداثة، وتطوير ضمير بيئي وكوكبي عام، فضلاً عن ضميرٍ سياسي عالمي، نتنافس فيه على المسؤولية لا على القوة أو السلطة. تَلزم في تقديري نقلةٌ في الحداثة باتجاه أخلاقية التواضع: التواضع للحياة والأحياء، التواضع للكوكب، التواضع للبشر. وينبغي أن نعمل على أن نكون شركاء فاعلين في هذه المراجعة، نطور مع غيرنا حداثةً دستورية، تُراجع نفسها وتُسائل نفسها، وتضبط نفسها. وهذا بالنظر إلى أننا عانينا ونعاني من أسوأ مشكلات الحداثة المطلقة إن جاز التعبير: الاستعمار واالعنصرية، واليوم مشكلات البيئة من تسخنٍ عامٍ ينعكس في منطقتنا جفافاً متفاقماً وارتفاعاً للحرارة لا يطيقه البشر والأحياء عموماً.
الإسلاموفوبيا من العقائد التي تُسوغ التملك الخاص للحداثة، وهي تنتمي إلى عائلة مشكلات الاستعمار والعنصرية. وتندرج ضمن منطق التمييز والاستئثار الذي سبق أن كان من ضحاياه اليهود والسود وغيرهم. تَحولُ الإسلاموفوبيا عند المصابين بها دون التفكير الانعكاسي، أي مراجعة المرء لنفسه في تعامله مع المسلمين، أو النظر إلى نفسه بعينٍ غير عينه. الضمير يتكون عبر تجربة مراجعة النفس والنظر إلى النفس بعينٍ غير عين النفس، وحين تنتشر نزعات انفعالية غير عقلانية مثل الإسلاموفوبيا، أو سرديات مظلومية مثل الشائعة لدينا، أو سرديات تفوق مثل الشائعة لدينا أيضاً وفي الغرب (الاستثنائية الأميركية مثلا)، فإنها تحولُ دون التفكير والمراجعة والنظر المنعكس على النفس، فتؤدي إلى ضمور الضمير.
عبر استنفار الخوف من الغير، المسلم في حالة الإسلاموفوبيا، يقلﱡ الإحساس بهذا الغير وبما يقع عليه من أذى. وهو ما قد يمهد لعملية اضطهاد منظم ضد ضحايا التمييز، تتسع الخشية اليوم من أن تفضي إلى هولوكوست جديد على غرار السابقة النازية.
هل العلاقة حتمية بين الإسلاموفوبيا والحداثة؟ نعم ولا. نعم إذا فكرنا في الحداثة التاريخية، وقد اقترنت بالتوسع والاستعمار والامبريالية، وبإذلالٍ معنوي للإسلام، كحضارةٍ ودين. ولا، بمعنى أنه يمكن تصور حداثة بلا إسلاموفوبيا، مثلما أمكن تصور الحداثة بلا “معاداة للسامية”. الأمر مرهونٌ بمقاومات من طرفنا ومن شركائنا في العالم، وبالعمل على تغيير الحداثة باتجاه دستوري.
الشكل الحالي للإسلاموفوبيا حديثٌ جداً، عمره لا يكاد يزيد على ربع قرن، وهي من أشكال نزعة كراهية الأجانب الناشطة في مجتمعات بشرية عديدة، الأغنى والأقوى منها بخاصة. يخيل لي أن معاداة الأجانب ضعيفة لدينا، في القديم والحديث، لكن لدينا معاداة دينية وطائفية نشطة. المجتمعات التي تُعرﱢف نفسها بالقومية تعادي الأجانب، والجماعات التي تعرف نفسها أكثر بالدين تعادي أتباع أديان أخرى واللادينيين. وفي الحالين، إذا لم تواجه هذه النزعة، فإنها لن تتأخر في إنتاج الأجانب و”الكفار” الداخليين، وصولا إلى معاداة من لا يعادون الأجانب و”الكفار” من النحن الغالبة بالذات.
والإسلاموفوبيا المعاصرة شكلٌ من أشكال العنصرية، تظهر في مجتمعات أغنى وأرفع تنظيماً وأكثر استقرارا في أنماط حياتها الخاصة. الفقراء ليسوا مبرئين من العنصرية، لكن عنصرية الفقراء أفقر وأدنى تنظيماً، وأقل خطراً. لو كانت تركيا غنية مثل الدول الأوربية لواجهنا على الأرجح عنصرية تقارب العنصرية الأوربية حيال اللاجئين السوريين. العنصرية أقوى في الغرب لأنهم أغنى وأكثر تنظيماً ومأسسةً وتحضراً (أي تنظيماً واستقراراً ورفاهاً وقوة)، وهي تطال القادمين من أميركا اللاتينية في الولايات المتحدة، بعد أن كانت تطول السود أكثر من غيرهم، لأن هؤلاء في كل حال مبدأ فوضى وقوى غير منظمة، وضعفاء. القصد أن العنصرية، ومنها الإسلاموفوبيا، من عقائد الامتياز المادي والتنظيمي والسياسي، وليست من عقائد التمايز الثقافي والديني حصراً، خلافا لما يفضل الإسلاميون الاعتقاد. وضحاياها هم فقراء المسلمين وغيرهم ممن لا يتحكمون بشروط حياتهم، وليس ضد الطبقة الوسطى المتعلمة ولا المسلمين الميسورين ممن يَعرضون أشكال الانضباط السلوكية والجسدية والعائلية المميزة للطبقات الوسطى الغربية.
وهناك مقابلٌ رُهابي لرهاب الإسلام هو الغربوفوبيا إن صح التعبير. وهو شائعٌ جداً في أوساط الإسلاميين، وتمتزج فيه كراهية الغرب (معرفاً بعقائد دينية: صليبي يهودي، لا كامبريالية وسيطرة) وبالخوف منه، ونسبةِ مقاصدَ شريرة له متأصلة فيه. وهذا الرهاب بدوره يمنع التفكير الانعكاسي والتساؤل عن مسؤولياتنا.
ورأيي أن علينا نقد الغربفوبيا، ونقل علاقتنا بالغرب من مجال الانفعال الكاره والخائف إلى مجال التفكير الصاحي الذي ينظر في المصالح والقوى وتوازناتهما، ويرفض إقامة جدار فصل عنصري بيننا وبين الغرب. فهو منا ونحن منه.
في الغرب هناك نقدٌ متكررٌ وصائب للإسلاموفوبيا، يرفض عزل المسلمين معرفياً وسياسياُ. هذا نقدٌ ضروريٌ ومشرف، بخاصة حين يصدر عن غير المسلمين. إنه ذلك التفكير الانعكاسي الذي يوفر بيئة ملائمة لنمو الضمير المحاسب، وإدخال التعدد إلى الذات. لكن أرى أنه حين نتكرس نحن في مجتمعاتنا لنقد الإسلاموفوبيا، وأكثريتُنا مسلمون، تختلف وظيفة هذا النقد، فيكف عن كونه تفكيراً انعكاسياً (مساءلة الذات، مراجعة الذات، محاسبة الذات…)، ويصبح بالأحرى مسلكاً تبريرياً وذريعةً لقمع نقد الشأن الإسلامي وكبح الاعتراض على ممارسات مسلمين وإسلاميين جديرة بكل نقد، وقامعاً لتفتح الضمير بالتالي.
وبالمثل، يتوجب أن نمارس نحن التفكير الانعكاسي وننتقد الغربوفوبياعندنا، ونرفض تسفيه الغرب وتحقيره، دون أن يعني ذلك الكف عن نقده. ننتقد رهابنا الغربي لنطور حسنا بالعدالة، وكي نفسح في ثقافتنا وسياستنا مساحات للتفاهم والثقة بيننا وبين شركاء في الغرب. لكن لنتصور أن نقدنا هذا انتقل إلى الغرب، وقيل مثلاً إن مسلمين بالذات ينتقدون ما يرونها نزعات امبريالية في الإسلام. هناك من المحتمل جداً أن يستخدم من قبل الدوائر الأشد إسلاموفوبية للقول، مثلاً، إنه لا أساس لأي اعتراض على سياسات امبريالية غربية في بلداننا، وتاليا لإعطاء راحة ضمير لأحكام الإسلاموفوبيين المرسلة ضد المسلمين.
القصد أن علينا أن نفكر باختلاف وظيفة أفكارنا باختلاف السياقات، وأن نتدرب على تفكير متعدد الأبعاد، نفكر في أنفسنا كآخرين وفي الآخرين كأنفسنا.
ينبغي حتماً نقد غرور الحداثة، ونقد فكرة السيادة، سواء سيادة الإنسان على الطبيعة (ديكارت)، أو سيادة الدول، أو سيادة القوة في العلاقات الدولية، وتطوير أخلاقيات وسياسات تواضع. وللأسف ليس لدينا على المستوى الإسلامي شيءٌ يُركنُ عليه في هذا الصدد. غرورنا لا يطاق بقدر ما هو أجوف، وتطلعنا للسيادة مطلقٌ بقدر ضعفنا (ولذلك الإرهاب أو التغول هو الحل)، وتنصُّلُنا من المسؤولية العامة لا يقل عن تنصل غيرنا. تكفي عقيدة الولاء والبراء، وهي بمثابة رفع الأنانية واللامسؤولية إلى مستوى دين، لنشعر بالعار.
في مقابلة مع موقع (دويتشه فيلا) تحدثت عن ضرورة “كسر الثنائية باتجاه رؤية تعدد الإسلاميين” وأنه ليس “صائبا إجمال الإسلاميين كلهم في خانة واحدة” لأن هذا سيكون “منطق حرب شاملة، وليس منطق معرفة صحيحة بواقع الحال، ولا منطق سياسة مثمرة”. وفي لقاء (النهار) المُشار إليه أعلاه تحدثت عن الإسلاميين قائلاً: “أرى أن نحرص على التمييز بين تياراتهم ولا نُجملهم تحت عنوانٍ واحد”. من المنطقي أن مثل هذه الآراء يمكن أن تكون مدخلاً لتخفيف الاحتقان النفسي والفكري العام مع الإسلاميين تحديداً وفي أذهان المسلمين بشكلٍ عام، وربما سبيلاً لفتح حوارٍ علماني إسلامي، تساعدُ مثل تلك الآراء على تحضير ظروفه الموضوعية. ولكن بالمقابل، توحي بعض طروحاتك الأخرى بأنه لا يوجد ثمة فرق جوهري في النهاية بين الإسلاميين جميعاً، وأنهم تلويناتٌ على لحنٍ محدد وهوامش على متنٍ واحد. كيف يمكن التعامل مع هذه المفارقة، خاصةً في إطار الحالة السورية؟
لدي رغبة شديدة، دوافعها شخصية وعامة، في أن يوجد إسلاميون مختلفون جداً عن داعش والقاعدة، وبأن تتنوع تنوعا أصيلاً (لا “تغولاً”، تبدلاً في اللون فقط) تيارات العاملين في الشأن العام على أرضية إسلامية. وأعتقد أنه إذا لم يوجد إسلاميون سياسيون معتدلون فإن اختراعهم واجب. لكن هم من يتعين عليهم أن يخترعوا أنفسهم، ويطوروا لأنفسهم نظرات ومناهج تقطع مع دين الإكراه والميراث الامبراطوري. فإن لم يخترع المسلمون المؤمنون ومثقفوهم وناشطوهم السياسيون إسلاماً عادلاً ومعتدلاً، لا يبقى مفتوحاً غير سبيل التغول والاغتيال و”إدارة التوحش”.
هل لدينا، اليوم، إسلاميون يدافعون بكلام واضح لا جمجمة فيه عن حق غيرهم في العمل العام، بما يؤسس لشرعيةٍ عامة، أعلى من الفوارق الفكرية والسياسية والدينية؟ لا يستقيم أمر العمل العام بالطبع على أرضية إسلامية، والإسلام، كي نقول كلاماً واضحاً، لا يمكنه أن يكون أرضية التحكيم العامة بين أي إسلاميين وغيرهم. عقيدتك تشهد لك في كل حال، ولن تشهد لي ولو كررنا تجربة التحكيم مليون مرة. وتحكيم مرجعيتك فيما يشجر بيني وبينك ليس عادلاً، إنه الظلم بعينه. الإسلام طرفٌ في مجتمعاتنا، طرفٌ كبير وينبغي أن يحظى بالاحترام، ليس جميع الأطراف، ومنبع التطرف هو تنصيب طرفٍ لنفسه في موضع الكل. وليست الأطراف الأخرى مسيحيون ويهود ومجوس، ولا حتى شيعة وعلويون ودروز واسماعيليون، بل لا دينيون متنوعون وملحدون ولا أدريون. حرية الأخيرين، وأنا منهم، هي مقياس التحرر الفعلي، وهم من يكسرون مخاطر نظام مللي جدد يقوم على تحاصٍ طائفي.
ومعلوم أنه لم يُستبعد الإسلاميون وحدهم من العمل العام في دولنا المعاصرة، استُبعدنا معاً، نحن معارضون يساريون وليبراليون وقوميون، وهذا في سياق استبعادٍ عام وإذلالٍ عام للسكان. تدشين أوضاع سياسية استيعابية، تقطع مع زمن الاستبعاد ونهجه، تقتضي الحرية للسوريين، وليس تبديل المستبعِد العام وتبديل الأساس الإيديولوجي للاستبعاد. هذا “تغول”، تغير في اللون فقط، واغتيال.
فهل الإسلاميون السياسيون، الإخوان ومن في حكمهم، سندٌ يُركن إليه في التطلع إلى دولة استيعابية؟ لا يكفﱡ الواحد منا عن سماع تشكك من شاركهم في الأجسام السياسية التي قامت بعد الثورة، المجلس الوطني ثم الائتلاف. هذه قد لا تكون شهادةً منصفة. لكن يبدو لي أن هناك مشكلة في تكوين الإسلاميين، هي ما أشرت إليه من قبل بخصوص النزعات الامبراطورية، وبخاصة بعد ظهور الامبريالية الإسلامية الصريحة في صورة القاعدة وتناسخاتها وأشباهها. وأخشى أن الامبريالية المحبَطة التوسع الخارجي تنقلب إلى توسعية داخلية، أي إلى فاشية، وأن الإسلاميين السياسيين في الحكم مرشحون للتطور إلى فاشيات تتوسع في السيطرة على الداخل والتحكم به.
أظهرت التجربة المصرية أن الإسلاميين يتطلعون إلى امتلاك الدولة ويضعون عقيدتهم كدستور أعلى، أعلى من دستور الدولة الذي يفترض أن يضمن المساواة في الشرعية وفي الرأي وفي السياسة. كنت ولا أزال ضد انقلاب السيسي، ورأيي أنه كان كارثةً على مصر وعلى العالم العربي، وأن الأزمة التي أثارتها سياسة الأخونة كانت مناسبةً للابتكار المؤسسي، استحداث هيئة حكم عليا، مستقلة، تعلو على الحزب الحاكم، وفيها تتمثل “الدولة”، لكن الإخوان أظهروا من التلهف على الامتلاك الحزبي والديني للدولة العامة ما فتح الباب لنظام بمؤهلات فاشية قوية، نظام السيسي.
وعلى كل حال أتصور أننا نحتاج في سورية إلى صيغةٍ مؤسسيةٍ للحكم، تحول دون الاستئثار الحزبي أو الطائفي بالدولة، وتوفر تمثيلاً عادلاً للسوريين المتنوعين، وتحول دون الطغيان. يمكن التفكير أيضاً في مؤسسة حكم تناط بها السيادة، الواحدة تعريفاً، وتمتنع على التحزيب والتديين، بينما تكون السياسة مجال التعدد، تعدد المتساوين من حيث الشرعية، وإن ظهر بعضهم أقوى أو أضعف في صناديق التصويت.
التمثيل العادل للسوريين لا يستقيم على أرضية تصور إسلامي لسورية، ولن يؤسس هذا التصور لحياةٍ سياسية استيعابية، يؤسس في أحسن الأحوال لجبهة وطنية تقدمية من الصنف الذي نعرفه في سورية، يحل فيه الإخوان مثل حزب البعث، وتشغل تنظيمات أخرى موقع حاشية الثوب السياسي الجديد.
من أجل درجة أعلى من الوضوح، لدينا المشكل التالي: (1) لا يمكن لحياة سياسية استيعابية أن تقوم على استبعاد الإسلاميين السياسيين؛ (2) الإسلاميون لا يقبلون بالمساواة، وإذا سنحت لهم الفرصة سيفرضون نظاماً سياسياً استبعادياً. فإذا أردنا تعريفا للمأزق فهو هذا، والتغول هو المخرج الوحيد من مأزق لا تلوح له مخارج بالعقل والسياسة. ومرةً أخرى، إما ان يلتحق الإسلاميون السياسيون بالإسلاميين الحربيين أو يقطعوا مع دين الإكراه الامبراطوري فيصيروا حزباً سياسياً مثل غيره.
فإذا كان هناك من الإسلاميين من يقول إن الإسلام ذاته لا يستقيم دون الحكم والانفراد بالحكم، وأن العلمانية لا تستقيم مع الإسلام لأن فيه شريعةً وأحكاماً، وأن من لا يُقر بذلك إنما يقصي الإسلاميين، وهو ما تسنى لي سماعه فعلاً قبل شهور من شخص قيل إنه مهم في الإخوان المسلمين والائتلاف، فهذا لن يؤدي إلا إلى أسديةٍ جديدة، أو “إسلامية”، وربما يكون شعارها هو “الإسلام أو لا أحد”، وهذا كلام سمعته مسجلاً بصوت زهران علوش عام 2013 (الرجل، قائد تشكيل جيش الإسلام السلفي، اغتيل في أواخر عام 2015 كما هو معلوم). ما يقوله مثل ذاك المتكلم الإخواني هو: إما أن نحكمكم وفق شرعنا، وإلا فإنكم أنتم من تقصوننا! لا يريد الجماعة أن ينحكموا هم بما يعتقدونه شرعهم، بل يريدون أن ينحكم الجميع به، وأن يفرضوا معتقدهم على الجميع. هذا ليس أقل من مطالبة بالحق في الطغيان.
وغير مشكلة التكوين، هناك مشكلات تتصل بوضع الإسلاميين، وبصورة ما الإسلام، في العالم المعاصر. لدينا سرديةُ مظلوميةٍ قوية، وسردية تفوقٍ دينية، وهما معاً تحولان دون مراجعة أنفسنا ومحاكمتها، أي دون العدالة والضمير. استغنينا بتفوقٍ مزعوم لدين الإسلام عن احترام غيرنا، مثلما استغنى بني تغلب عن كل مكرمة بقصيدة قالها عمر ابن كلثوم، على ما قال شاعر قديم. وتحمينا سردية المظلومية عن مساءلة النفس عن عدالتنا، وعن التفكير بما نلحقه بالغير من مظالم. فانتهى الدين الذي تشغل العدالة موقعا مركزياً بين قيمه إلى حاجب عن العدالة، ممارسةً وتفكيراً واجتماعاً، إن لم يكن إلى مشجع على الظلم والعدوان. مجتمعاتنا من الأكثر ظلماً في عالم اليوم، وليس لدينا تفكيرٌ يذكر في العدالة، ولم نشتهر بكثرة العادلين بيننا. وباسم دين المسلمين تُرتكب بعض أسوأ الجرائم في عالم اليوم.
هذه الاعتبارات في خلفية ما لاحظتَه، د. وائل، في أني من جهة أرفضُ إجمال الإسلاميين كلهم بقولٍ واحد وسياسةٍ واحدة، لكن من جهة ثانية لا يعرض الإسلاميون فروقاً مهمة يستند المرء إليها للدفاع عن بعضهم بينما هو ينتقد بعضهم الآخر. الشيء الجامع بينهم هو، مرة أخرى، رفض المساواة. هذا يضعهم في مصاف قوى عنصرية في عالم اليوم.
بمناسبة ذكر الحوار العلماني الإسلامي، تتحدث كثيراً عن مشكلات العلمانيين بشكلٍ ربما تختصره عبارة لك في لقاء (دويتشه فيله) أشرتَ فيها إلى “وجود نسخ جهادية أو(داعشية) منها، مفتقرة إلى أي مضمون تحرري”. مع التأكيد بأنه ليس لديك “أدنى احترام لهذه العلمانية التي وجدت نفسها دوما إلى جانب نظم الطغيان، وبلع أربابها ألسنتهم حيال فاشية النظام، في الماضي واليوم”. لو تحدثنا عن الحالة السورية، وبعيداً عن المدح والإطراء فيما يتعلق بخصوصية حالتك، أين هي الرموز العلمانية السورية الأخرى التي من المُفترض أن تخلق آراؤُها وممارساتُها، خاصةً بعد انطلاق الثورة، حداً أدنى من الاحترام بين السوريين، لا يُشجع فقط على حصول مثل ذلك الحوار، بل يمنع شيوع مشاعر الإحباط الكامل تجاه هؤلاء وتجاه مدرستهم الفكرية إجمالاً؟ وهو وضعٌ يؤدي بالتالي، لدى الكثيرين، للاستنتاج بأن (الإسلام) هو اللاعب الوحيد الباقي في الساحة. كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ مع الإشارة هنا إلى رفضك لمعادلة أن “النظرية صائبة ولكن الخطأ في التطبيق”. وهل من طريقة لتجاوز هذا الواقع الذي يدفع باتجاه استقطاب ثقافي واجتماعي معقد في نهاية المطاف؟
يلزم أن يكون واضحاً قبل كل شيء أني لا أتكلم، حين أتكلم على العلمانية الجهادية، عن تيارات فكر أو رأي خارج التجربة؛ أتكلم على أشخاص وأعمال، وعلى مواقع وأدوار، في سياقات اجتماعية وسياسية معلومة، كنت عميق الانخراط فيها قبل خروجي الاضطراري من البلد في خريف 2013، ويمكن الترميز لها بعبارة الدولة الأسدية، وبخاصة في عهد بشار الوريث. وجدت نفسي في اشتباك فكري وسياسي مع هذا التيار قبل الثورة بسنوات، ولم يكن الاشتباك معركة فكرية نزيهة من قبل الخصوم للأسف. فإذا كان يبدو كلامي قاسيا بحق المعنيين، فلأن لي تجارب شخصية متكررة في هذا الشأن، تسوغ الاعتقاد بأن الجماعة لا يَقلِّونَ تحزﱡباً عن أي حزبٍ مغلق، ولا تعصباً من طائفة، ولا هم أقلﱡ ولاءً وبراءً من السلفيين الجهاديين. ورأيي أنهم أهانوا العلمانية أكثر حتى مما أهانها أعداؤها الإسلاميون، وسخَّرُوها أداةً في حسابات صغيرة، شخصية وفئوية، وطائفية أيضاً.
بالعودة إلى السؤال هناك كثيرون، نساء ورجال، كان معظهمن ومعظمهم في الداخل، وهم علمانيون دون أن يكونوا من الصنف الجهادي الذي وجدَ نفسه أقرب حتى إلى المخابرات مما إلى معارضين من أمثالنا، ولا أقول الإسلاميين. ومنهم، أعني من أولئك العلمانيين الدستوريين إن جاز التعبير، معتقلون ومخطوفون وشهداء ومن الجنسين. وهم من حيث الخلفيات ينحدرون من مختلف الجماعات الأهلية السورية، علويون ومسيحيون ودروز واسمياعيليون، وسنيون، كرد وعرب. كثيرٌ منهم اليوم في الشتات السوري الواسع، لكن كثيرين أيضا في الداخل. هؤلاء العادلون هم ما يصون كرامة الثورة السورية.
وهنا أيضا أريد أن أنظر في أصول الوضع الذي يثيره سؤالك عن ظهور الإسلاميين كـ”اللاعب الوحيد”. بخصوص عموم العلمانيين، من يساريين وليبراليين، فقد أضعفتهم الدولة الاستبدادية المعاصرة، الموصوفة بالعلمانية، أكثر حتى مما أضعفت الإسلاميين، رغم وحشيتها حيال الإسلاميين. هذا لأنها، بينما كانت تضرب الإسلاميين أمنياً، كانت تجعل من الإسلام خط الفقر السياسي في مجتمعاتنا واللغة الوحيدة التي تعتمدها قطاعات واسعة من السكان في مداولاتها في مواجهة لغةٍ أَسَديةٍ فصحى، فقيرةٍ ومتخشبة كاذبة، وفي شروط من قمعٍ استئصالي لأية تعبيرات مستقلة جديدة. الإسلاميون السياسيون الذين يقوم منهجهم على تسييس الدين يستطيعون الاستثمار في “سياسة الحديدة” هذه، أي البقاء على قيد الحياة في ظروف سياسية قاسية، ولا يتعذر عليهم كثيراً تنشيط شبكاتهم المسجدية والتعليمية حين تتحسن الظروف. ولهم في الأصل بيئات اجتماعية، لا يهم إن كانت ضاقت أو اتسعت، المهم أنه كان لهم بعدٌ اجتماعيٌ حيّ على الدوام. أما السلفيون الجهاديون فلا يحتاجون إلى حياة سياسية إطلاقاً، ولا يحتاجون حتى إلى مجتمع، الحرب هي الشرط الأنسب لظهورهم، والمجتمعات المتماسكة ليست بيئة صالحة لهم، وكلما كانت الأوضاع العامة أسوأ كانوا هم في حال أحسن.
أريد القول إن الأمر لا يتعلق بأهليات خاصة للإسلاميين، بل بشروط سياسة أنسب لظهورهم من قوى علمانية مستقلة ومعارضة. نحن أحوج من الإسلاميين إلى مجتمع يقوم على الروابط الطوعية والمبادرات الفردية والجمعية المستقلة، وإلى حياةٍ سياسة يمكن الاجتماع والنقاش والاحتجاج فيها. دون هذه وذاك، نحن من نتحطم تماما.
في المحصلة، قد يبدو ما أقوله غريباً، لكنه نتيجة تأمل وتحليل: إن من استفاد من “الاستبداد العلماني” هم الإسلاميون، ومن تضرر هم العلمانيون الديمقراطيون. وهو ما يُظهر كم أن العلمانيين الجهاديين الذين تواطؤوا مع الطغيان المدمر للمجتمع والسياسة، خدموا عملياً السلفية الجهادية عبر تطرفهم ومعاداتهم للديمقراطية. يظهر أيضاً كم أن أي إسلاميين، ينسبون لأنفسهم أفضليات ذاتية خاصة ويدخلون في معركة عقيدة ضد عقيدة، إسلام ضد علمانية مثلاً، بدل الدفاع عن المجتمع والسياسة مخطئون جداً. ويظهر أيضاً كم أن السلفيين الجهاديين قوة تحطيم تُكمل فعل الدولة الأسدية وأمثالها في تحطيم السياسة والمجتمعات. ويظهر أخيرا كم هو إجرامي وقوف الأميركيين والقوى الغربية ضد إسلاميين فازوا بالانتخابات، مثل حماس 2006. أدنى حياة ديمقراطية سوف تعود بعد قليل على المجموعات الديمقراطية بفرص للعمل والنهوض أكثر من الإسلاميين. فإما ينقلب الأخيرون على الديمقراطية، ووقتها يدانون، أو يتعايشون مع وضعٍ يوفرُ فرصاً أفضل للقوى الديمقراطية.
رغم أهمية التحليل الوارد في الإجابة السابقة إجمالاً، إلا أنني أشعر أن ما له علاقةٌ مباشرةٌ بسؤالي السابق جاء في أول فقرتين من الإجابة. بكلامٍ آخر، كان الأمل أن نفهم مع القارىء، عبر عملية حفرٍ عميقة، ظاهرةً عمليةً اتضحت بشكلٍ صارخ خلال سنوات الثورة الخمسة على الأقل، تتمثل في تزايد النسخ “الداعشية” من العلمانيين باضطراد. أو لنقل، على الأقل، الندرة النسبية للعلمانيين الذين أظهرت الأحداث والوقائع والمواقف والكتابات والممارسات ارتقاءهم لمستوى ثقافتهم العالي، نسبةً على الأقل لبضاعة الإسلاميين المُجزاة من الثقافة؛ وتمثلهم (أي العلمانيين) للمبادىء المُتضمنة في منظومتهم الثقافية والفكرية تلك. وهي ظاهرةٌ لانحسب ثمة حاجةً للتفصيل في تأكيدها بالتفصيل. بالمقابل، ركز نصف الإجابة، الثاني، على شرح الظروف والملابسات الخارجية التي أحاطت بالعلمانيين، وهي ظروفٌ من المنطق الحديثُ فيها، ولها وجاهتُها الكبيرة، لكنها بدت (التبرير) الوحيد المتوفر لظاهرة ماسأسميه “فقر أداء” العلمانيين على جميع المستويات بعد الثورة. فهل نطمع في حفرٍ يحاول تفسير الظاهرة، ذاتياً، جوانياً، داخلياً، بدل الاقتصار على الجزء المتعلق بالظروف الخارجية؟
أعتقد أنه كان للثورات العربية تأثيران متناقضان على الطيف العلماني. في مرحلةٍ أولى باكرة من الثورات عمل الأكثرُ إخلاصاً من العلمانيين غير الديمقراطيين على إعادة هكيلة موقفهم في صورة تتفهم وتتعاطف مع الثورات، وتشارك فيها. في العام أو العامين الأوليين من الثورة السورية هناك نصوص منحازة للثورة ومعترضة بصورة لا لبس فيها على النظام، كتبها علمانيون، بعضهم جهاديون (ليس كلهم بالقطع)، ممن لم يُعرف لهم قولٌ نقدي بحق النظام الأسدي أو كان قولهم خافتا ومغلفاً بلغة بالغة العمومية (استبداد…).
في مرحلة لاحقة، مع صعود المجموعات الإسلامية، لجؤوا إلى الصمت أو إلى تدوير كلامهم القديم نفسه (عزيز العظمة). أعتقد أنهم في مشكلة أخلاقية. فلأنهم سكتوا طويلاً على نظامٍ طغموي قاتل، ولم يُعرف لهم قولٌ واضح أو غير واضح في الاعتراض على جرائمه، لا تجد غضبةُ الحق سبيلها إلى الظهور في كلامهم على جرائم الإسلاميين اليوم. ليس لأن الأوضاع السورية مأساوية صمتَ أستاذنا المرحوم جورج طرابيشي (توفي قبل شهور قليلة، وتزامنت مع الذكرة الخامسة للثورة)، ولكن لأن مقدمات فكره طوال ربع قرن قبل الثورة تقودهُ بالأحرى إلى مواقع قريبة من الصف الأسدي. وهو ما كان صعباً عليه وسط ما يراه جميع الناس من إجرام فالتٍ من عقاله من طرف الأسديين. صمت عن جرائم الإسلامين الجديدة، خلافاً لما يناسبه، لأنه صمت عن جرائم النظام القديمة والجديدة. مشكلة بعض إخواننا العلمانيين أنهم قوضوا الأساس الأخلاقي لاعتراضهم على الإسلاميين حين هم سكتوا على جرائم نظامنا وأشباهه، ليس بحق الإسلاميين وحدهم، ولكن بحق عموم السكان، بمن فيهم علمانيون من أمثالنا.
أتكلم على طيفٍ علماني لأن الأمر يتعلق فعلاً بمواقع ومواقف متنوعة تحت العنوان العلماني العريض. هناك علمانيون ديمقراطيون وهناك علمانيون تسلطيون، هناك علمانيون يساريون وهناك علمانيون يمينيون وهنتنغتونيون، هناك علمانيون اجتماعيون أو اشتراكيون وهناك علمانيون أرستقراطيون ونخبويون. أرى أن وراء علمانية بعض علمانيينا، بعض المنحدرين من أسر مدينية ميسورة معروفة، نزعةً أرستقراطية متعالية على العامة، وخلو من أي مضمون ديمقراطي، ومنحازة إلى مشاريع هندسة اجتماعية من الصنف الأتاتركي.
هناك أيضا علمانيون وطنيون وهناك علمانيون طائفيون. غير قليل من علمانيينا هم بكل بساطة طائفيون، ينحازون إلى العلمانية لأنها ضد الدين الذي لديه مطامح سلطوية عامة، الإسلام السني، وليس لأنهم يتطلعون إلى أوضاع أكثر مساواةً وتحرراً. ولا مانع لديهم في إطار سياسي تكون ديانتهم هم مسيطرة أو ذات مكانة خاصة فيه. ولذلك لا تجد لديهم نقداً للنظام وجرائمه وشبيحته، هذا إن لم يتطوعوا ويشاركوا في تبرير الجرائم والتشبيح.
لكن ليس لنقد الطيف العلماني أن يسوغ أياً من دعاوي الطائفيين السنيين، والإسلاميين، في رأيي.
قبل سنوات كتبت منتقداً التلطي الطائفي وراء العلمانية والديمقراطية. كثيرون ممن ينحدرون من أواسط إسلامية سنية ينتحلون الديمقراطية قناعاً بعد ردها إلى حكم الأكثرية، وبعد رد الأكثرية إلى الأكثرية الدينية. ويمثل منحدرون من أوساط اقليات دينية ومذهبية إلى رفع راية العلمانية لأنها تعني فصل دين المسلمين عن الدولة. هذا الغش المتبادل يُفسد العلمانية والديمقراطية والنقاش العام، ويُسهل لطائفيين التقنع بهما فيفقدهما كرامتهما وشحنتهما النقدية والتغييرية. أفترض أنه يُنتظر من المثقفين النقديين فضح هذه المسالك وكشف ممارسيها.
وليس لنقد أي علمانيين أن يضفي النسبي على جرائم الإسلاميين، وهي كبيرةٌ وحقيقية. فإذا كنت ترصد ظهور داعشية علمانية، فجانبٌ من محركات ظهورها هو داعش الإسلامية التي لا تقتصر على داعش البغدادي. التطرف يغذي التطرف، ونحن سلفاً في أوضاع تكاد تستحيل فيها المداولة العامة التي قد تؤدي إلى التفاهم والاعتدال.
في مقال لك بعنوان “الإسلام والإسلاميون والعنف” تذكر مايلي: “لا يبدو عموماً أن الناس يحتاجون إلى نصوص مقدسة كي يحاربوا ويمارسوا العنف. وجود هذه النصوص أمر طيب طبعا، لكن ليس لأنها موجودة هم عنيفون وحربيون”. وفي موقع آخر تقول: “الظروفُ عاملٌ مُحدِث وليس مساعداً فحسب… الثقافة توفر شروط رمكان واستعدادات، وليس أسباباً فاعلة، في ثقافتنا استعدادات طائفية، وشروط إمكان (القاعدة) و(داعش) موجودة بقوة في الإسلام السني السلفي. لكن تلزم أوضاعٌ بعينها كي ينتقل ما كان ممكناً بين ممكنات إلى حيز التحقيق، وكي تُلغى ممكناتٌ أخرى. السياسة أو قرارات الفاعلين السياسيين أساسية في هذه الأوضاع الواقعية، بخاصة حين يحتكر هؤلاء الفاعلون السياسيون السلطة والقرار العام في البلد، ولا يدانيهم أحد سلطة وحريةً وحصانةً وموارد”. هل يمكن لمثل هذه المقولات أن تكون نواة رؤية، حتى لا نقول نظرية، لصيرورة وأسباب صناعة الواقع والتاريخ لا تبالغ في إعطاء الثقافة والأيديولوجيا والنص تلك القدرة الهائلة على صناعتهما كما هو سائد أحياناً؟ وكيف يمكن تطوير هذه الرؤية للاستفادة منها عملياً في الواقع السوري؟
من له إلفةٌ بالماركسية يعلم أن أساسيات هذا الطرح مستمدة من تفكير ماركس الذي كان يلح على أن الوجود الاجتماعي للناس يحدد وعيهم، وليس العكس. فإذا كان يبدو اليوم أن كثيرين من هؤلاء الماركسيين المثابرين والسابقين يصرون على ضربٍ من القدرية الثقافية، أو ما أسميه نظرية الحتمية الثقافوية، حيث الوعي هو ما يحدد الوجود، فربما يكمن خلف ذلك شيئان: أولهما أن الماركسية ذاتها كانت تطورت نحو ضربٍ من القدرية الاقتصادية أو نظرية الحتمية الاقتصادية، حيث يجري تفسير كل شيء تفسيراً اختزالياً بالاقتصاد، دون الانكباب الفعلي على دراسة الاقتصاد وتحولاته؛ وثانيهما أن هذه الفكرة المبتذلة، عقيدة الحتمية الثقافية، مناسِبةٌ لخوض معارك عقدية وطائفية، وتضعهم في مواقع أقرب إلى الدولة الأسدية وجني منافع نسبية منها. وقد يضاف شيءٌ ثالث، يتمثل في مناخٍ ثقافوي عالمي منذ نهاية الحرب الباردة، يفسر المجتمعات والسياسات وأوضاع البشر العينية بالذهنيات أو العقل أو الثقافة، ونظرية صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون شهيرةٌ في هذا المجال.
ما حاولت قوله في المقال المشار إليه في السؤال هو أن الناس في شروطهم العينية يشكلون عقائدهم، وليست هي التي تشكلهم، وأن مسلمين في شروط بعينها يشكلون إسلامهم في صور تتحد بتطلعاتهم السياسية وبالأوضاع الواقعية التي يعلمون في ظلها. وضربت مثالاً على ذلك استثمار السلفيين الجهاديين الشديد لسورتي التوبة والأنفال، وإغفالهم لكل ما لا يقبل الاستثمار التشريعي والاستناد إليه كقاعدةٍ سلوكية عملية. وانتقدت في المقالة من يقولون الإسلام هو داعش، وكذلك من يقولون إن الإسلام من ذلك براء، لأنهم يَجُرﱡونَ النقاش إلى الإسلام، فيما الصحيح هو تحويل النقاش إلى أحوال الناس العينية. ورفضُ مركزةِ النقاش حول الإسلام لا يعني فقط أن الإسلام ليس هو المشكلة، بل يعني بالقدر نفسه أيضاً أن الإسلام ليس هو الحل. المشكلة والحل يقعان خارج نطاق العقائد أياً تكن، في الواقع الاجتماعي.
في الوقت نفسه لا تقع العقائد في عالم أثيري، وليست أشياء غير مؤثرة. لا تنفصل العقائد عن الناس، وهي موجودةٌ معهم في كل وقت، لكن علاقتهم بها ليس ذات شكلٍ واحد، إنها علاقة تفاعل وتفاوض وتحتمل تسويات متنوعة، المبادرة فيه للناس لا للنصوص، وإن كان لمخزوننا من النصوص أثرٌ على خياراتنا. لكن هنا أيضا يتفاوت هذا المخزون: السلفيون الجهاديون يتوسعون جداً في الاعتماد على الحديث، يستندون إلى ابن تيمية وابن عبد الوهاب، ثم سيد قطب والأدبيات الامبريالية للقاعدة. لن نجد عندهم شيئاً من علم الكلام، من الفلسفة، من التصوف. القصد أن هناك دوماً فعل اختيار للنصوص كي تلائم الخيارات السياسية الراهنة.
وحين ننظر في جملة هذه العوامل نطور تحليلات أكثر تركيباً وأقل ملاءمةً للمعارك الطائفية التي يتطوع لخوضها وكلاء إيديولوجيون هنا وهناك. تحليلات أحدُّ وعيا بالتاريخ وتحولاته أيضا. يفوت القراءات الانطباعية المتعجلة، بما فيها ما يقوم به مشاهير، أن التيار السلفي الجهادي عمره لا يكاد يتجاوز جيلاً واحداً، وأن نظرية الحاكمية الإلهية عمرها جيلان أو ثلاثة، وأنه إذا كنا نظن أن التيارات المعاصرة عمرها بالقرون أو من عمر الإسلام ذاتها، فهذا بفعل نجاح عملية “اختراع التقاليد” (إريك هوبسباوم) في إظهار أن المُخترَع تقليدي وعريق. في واقع الأمر هناك عملية تعريق أو “تسنين”، تُدرج الحدث في مخطط سابق الوجود، هو “السنة” (بمعنى التقليد)، إن استعرنا من مصطلحية عبدالله العروي. لكن الحدث مقاوم، وهو ما يدفع إلى إعادة تشكيل التقليد من أجل استيعابه ونزع حدثيته، ما فيه من توتر قيمةٍ فائضة. وليس في التسنين ما هو خاصٌ بمجتمعاتنا، ما قد يميزنا في رأيي هو التقييد السياسي للحدث، أي لمنتجي الحدث السياسي والثقافي وممثليه والمستثمرين فيه، وأوضاع دولية غير مؤاتية. هذا بينما وكلاء التقليد قادرون على استئناف عملهم دون إشكال. والنتيجة هي “التلون”، لا التغير والتحدث (الاستجابة الفاعلة للحدث)، ولا البقاء الممتنع في الصورة القديمة نفسها. المسألة في تقديري مسألة موازين قوى اجتماعية وسياسية، تُضعضع الحدث وتُضعف أثره المغير. فلنفكر في “الأبد” الأسدي في سورية، وهو بطبيعة الحال لا يسمح بظهور الحدث أو يوهنه إلى أقصى حد. الحال ليس بعيداً عن ذلك في المغرب الذي ربما يشكل إطار الإحالة الواقعي لأستاذنا العروي. ليس “التقليد” متمتعاً بجبروتٍ ذاتي خارق للعادة، وإنما الحدث مُضعَف. والمسألة سياسية، الحدث مضعف سياسيا، وليس التقليد هو الجبار.
ولي من وراء هذه المناقشة المسهبة غرضٌ منهجي توسعت فيه مواد كتابي الصادر للتو: السياسة كثقافة، وهو نقل النقاش إلى أوضاعنا الفعلية، وتبين الأدوار الاجتماعية الفعلية التي تقوم بها الأفكار والعقائد، الدينية والدنيوية، وهي أدوار لا تُطابق ما تقوله الأفكار والعقائد عن نفسها. ويمكن بناء توصيةٍ عملية على هذا الغرض: يريد الناس حياةً لائقة، أن يتحكموا بشروط عيشهم، أن تكون كرامتهم مصانة وأن يأمنوا لمستقبلهم. ومن المهم ونحن نتناقش في شأن الإسلام والعلمانية، أو الحداثة والعقلانية والتنوير، أو الدولة والهوية، أن نَشُدﱠ هذه النقاشات إلى الأرض ومطلب الحياة الكريمة، لا أن نتوسل هذه المدركات المجردة لترهيب عموم الناس وتغريبهم عن شروط حياتهم الفعلية.
يبقى أنه من أجل توضيح التأثير المحدِث للظروف يمكن طرح السؤال التالي: هل ما جرى في سورية منذ ربيع 2011 كان لا بد ان يحدث؟ هل هو شيء كان موجوداً على الدوام كبذرة، وكانت ستنشأ في كل حال أياً تكن مسارات تطور الأوضاع السورية؟ هل كانت داعش شيئا حتمياً؟ من جهتي لا أؤمن بذلك، وأرى هذا الضرب من القدرية، سواء أُسندت إلى التقدير الإلهي أو إلى قوانين التاريخ أو إلى طبائع العمران أو إلى جينات البشر، لاغياً للسياسة والتدبر البشري، أي لإمكانية الحرية. في أوضاعنا أو أوضاع غيرنا في أي وقت هناك ممكناتٌ مختلفة، تُرجحُ خيارات الفاعلين، وبنسبة قوتهم وتأثيرهم، بعضها دون بعض. ما حدد مسارات سورية الحالية هو النظام الأسدي بوصفه الأقوى، وشاغل الموقع العام، وكان من شأن خيارات مغايرة من طرفه أن تصنع فرقاً كبيراً. هذا لا يلغي مسؤوليات لاحقة للفاعلين الآخرين. هناك أوضاع قصوى يكون الناس مضطرين فيه لفعل ما يفعلون، حين يأكل الجياع القطط مثلاً، أو حين يحمل الناس السلاح دفاعاً عن أنفسهم، لكن حتى في أوضاع بالغة القسوة مثل أوضاعنا هناك هوامش متفاوتة للاختيار، تجعل الفاعلين مسؤولين، ولو جزئياً، عن أفعالهم وعن نتائجها. أفهم، مثلا، أن الناس في الغوطة الشرقية حملوا السلاح في وجه نظام قاتل قتل منهم مراراً وتكراراً قبل أن يواجهوه بالقوة، لكن لا أفهم أن سلطة الأمر الواقع في منطقة محاصرة تحاصر السكان المحليين وتبني سجوناً علنية وسرية، وتخطف وتغتال وتسرق وتكذب. ويعيد المتسلطون أثناء ذلك تأويل دينهم بينما هم يقومون بهذه الأفعال في صور تبرر لهم جرائمهم. هذا، بالمناسبة، يعدم شخصية الدين ويجعل منه عقيدةً للسلطة لا سلطة لها على من يدعون الدفاع عنها.
ومن أجل توضيح إضافي أذكر بأني كتبت في أيار 2012 مقالاً طويلاً بعنوان: صعود العدمية المقاتلة في سورية، بدا لي فيه أن الفرص تتكاثر لالتقاء عمليات ثلاث قد تفضي إلى ظهور مجموعة إسلامية عدمية أو إرهابية: عنفٌ واسعٌ ومنفلت من قبل النظام، ركاكةُ مشهد المعارضة، وتخاذلٌ دولي عن حماية السوريين ودعمهم. ولم يكن أي من هذه العمليات الثلاث محتومة، ولا كانت نتائجها من تحطم البلد وظهور داعش محتومة. كان يمكن تجنبها بمقادير متفاوتة. وأخص خصائص التراجيديا السورية في رأيي هو أنه كان يمكن تجنبها. لقد اختار الأسديون “حرق البلد” حماية لسلطة مطلقة ولمليارات.
استطراداً للسؤال السابق، تقول في معرض شرحك لأهمية تحليل العلاقة بين الإسلام وعنف المجموعات العنفية الإسلامية: “من شأن رد المجموعات العنفية الإسلامية إلى الإسلام حصراً، أو أساساً، أن يحجب مسؤولياتٍ هي الأكبر عن هذه الأوضاع، بخاصة مسؤولية النظام كترتيب سياسي واقتصادي واجتماعي قائم على الاضطهاد والتمييز. من يتحكم فعلياً بالشروط الفعلية لحياة الناس في بلدنا هو نخب السلطة والثروة المتحكمة، وليس شيئاً غامضاً اسمه الإسلام”. قد يرى البعض أن في هذه المقولة رؤيةً موضوعيةً تتعلق بفهم الواقع بشكل عام، وبدور الإسلام تحديداً، يندر وجودها في الطروحات الفكرية المعاصرة. ولكن، إذا أخذنا بالاعتبار التطورات الراهنة.. إلى أي درجةٍ تعتقد بإمكانية استمرار قناعتك الشخصية بهذه الرؤية؟ وبإمكانية بقائها قاعدةً من قواعد فهم الواقع والتعامل معه؟
الخطأ الأساسي في رد المجموعات الإسلامية، السياسية والعسكرية، إلى الإسلام حصرا يتجاوز إغفال ما لا يصح إغفاله من مسؤوليات تأسيسية فعلية أكبر من مسؤوليات الإسلاميين، إلى قابلية هذا النوع من التحليل للاستثمار الطائفي من الصنف الذي تعتاش عليه الدولة الباطنة الأسدية، ومثقفيها العضويين. وهو يخفق أيضا في الإجابة على سؤال: لماذا لا نجد الظواهر السياسية والعسكرية الإسلامية في كل وقت؟ ولا لماذا هي متعددة ومتخاصمة بينما الأصل الإسلامي الواحد؟
لكن من هو شريك هؤلاء في هذا الرد إلى الإسلام لتيارات إسلامية موجودة في المجتمع والتاريخ والعالم ومتغيرة في المجتمع والتاريخ والعالم؟ الإسلاميون على اختلاف أصنافهم. يشتقون أنفسهم من الإسلام، فيجعلون من أنفسهم مجرد آلات إلهية طائعة لأمر إلهي ثابت، مجرد مستجيبين مبرئين من المصحلة والهوى والانحياز لما يتوافق مع تفضيلاتهم الخاصة. هذا تضليل إيديولوجي وقلب للواقع، ليبدو أن العقيدة هي التي تقرر وليس المعتقِدِين. في واقع الأمر العكس هو الصحيح، والجماعة لا يكفون عن تشكيل معتقدهم في صورة تناسبهم على نحو ما يجري تفصيل الثوب على قياس من يرتديه. هناك علاقة تعايش، مثل العلاقة بين الطفيلي وعائله، بين الإسلاميين وصنف كاذب من العلمانيين، أعتقد من الأصوب تسميتهم هنتنغتونيون، نسبة إلى صموئيل هنتنغتون، صاحب نظرية صراع الحضارات، لأنهم يخضوضن ضد الإسلاميين صراعا “حضاريا”، أو طائفيا، وليس صراعا تحرريا وديمقراطيا.
ومرة أخرى يجب ان نخرج من منطق الاعتقاد والاعتقاد المضاد حتى نستطيع أن نقول كلاماً مفيداً عن شؤوننا السياسية والدينية، ونتجنب خوض معارك لمصلحة نخب السلطة القائمة أو الراغبة.
أنا ممن يعتبرون التجربة مُحكّمة. وأعمل كما ترى على جذب النقاش إلى سياسات الفاعلين وأفعالهم، وليس إلى إعلاناتهم العقدية. واليوم أنا أشد إصرارا على دور أقل للعقائد في تشكيل خيارات الفاعلين، بالعكس، العقائد هي ذاتها تتشكل بصورة تبدو هذه الخيارات نابعة منها.
لكن نفي المسؤولية عن الإسلام هو نفيٌ لفاعلية الإسلام، ونسبة الفاعلية إلى معتنقيه، الإسلاميين. فليس هناك وجهٌ للبناء على أن الإسلام ليس هو المشكلة أن الإسلاميين ليسوا مشكلة. إنهم مشكلة ونيف. يُنسب إلى علي بن أبي طالب قوله: إنما القرآن خطٌ مسطور بين دفتين، لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال. وكان هذ ردا على من قول القائلين: لا حكم إلا لله. ويُعادل هؤلاء اليوم دعاة الحاكمية الإلهية من السلفيين الجهاديين، وعموم الإسلاميين في الواقع. الإسلام، والعقائد والأديان كلها، لا تفعل، من يفعل هم “الرجال” (والنساء) في شروط عينية ينبغي تقصيها دوماً. وحين يصر بعضنا أنهم لا يفعلون ما يفعلون إلا تنفيذا لأمر إلهي أو قانون تاريخي أو واجب قومي، فإنما يحاولون إخماد النقد، وتعليق جرائمهم في رقبة الله أو التاريخ أو الأمة.
تحدثت في كتابك (أساطير الآخرين) عن ضرورة توحيد ومَركزة ومأسسة السلطة الدينية في “عالم الإسلام السني”. وفي معرض الحديث ذكرت ما يلي: “وإذا وضعنا في بالنا أن السلطات الدينية تجمع بين صفتين لايتوقع المرء اجتماعهما عادة، التناثر والإطلاق، تجسمت لدينا الخشية من أننا نعيش في مجتمعات مفخخة، معرضة للانفجار والتمزق ما إن تضعف أو تنهار السلطة السياسية لسبب من الأسباب، على نحو ماحصل في العراق إثر الاحتلال الأمريكي عام 2003. إن الأمراء الدينيين يحوزون سلطة مطلقة، تشمل الحياة والموت، لا على أتباعهم فقط، وإنما كذلك على من قد يقررون أنهم كفار أو ضالون أو مبتدعة. وهم لا يتوقعون أقل من سمع وطاعة تامين من جمهرة المؤمنين المفترضة. وإذ يجعلون من أنفسهم مصدرا لكل قانون، يمتنعون هم أنفسهم عن الالتزام بأي قانون، بل يجدون في توحيد سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء في أيديهم ما يُحلهم من الانضباط بأي قاعدة مطردة”.. أليس الأرجح أن يمارس أصحاب أي سلطة دينية مركزية ممأسسة كل هذه القضايا، وبشكلٍ أكثر حدةً وعُمقاً بحكم ما سيرون أنه (تفويضٌ) إضافي يؤكد احتكارهم لفهم الدين وتطبيقه؟
الاقتباس في السؤال مأخوذ من مقالة استثارت نقدا متكرراً من زملاء ومهتمين. المقالة تصادم الحس العلماني السليم الذي ينزع تلقائيا إلى تفضيل ضعف السلطة الدينية أو حتى تلاشيها. أنا شريك في هذا النزوع. وكعلماني تحرري أفضل مجتمعا بأقل قدر من السلطة السياسية والدينية. السلطة الدينية خطرة على الحرية بقدر ما هي السلطة السياسية أو أكثر، وهي أخطر حين تكون أقوى. لذلك فإن أفضل سلطة دينية هي الأضعف.
في الوقت نفسه نعيش في بلدان تعاني من طغيان سياسي فاحش، وفي عالمٍ انتقل من الثقة بالتقدم والعلم الوضعي إلى تشكك بهما، وإلى طفور معتقدات وتجمعات دينية قديمة وجديدة. المثابرة على النزوع العلماني التقليدي تبدو لي غير مساعدة على التفكير في مشكلاتنا الدينية السياسية. وجمود الطرح العلماني وعجزه عن قول شيء مفيد في شأن العلمانية ذاتها منذ عقود، دع عنك قضايا الاجتماع والسياسة والأخلاقيات، والدين، يبدو لي محفزاً على قولٍ جديد. ومن هذا الباب حاولت أن أقلب الافتراض المؤسس لهذا النزوع، لأرى ما إذا كان من شأن العمل على مأسسة سلطة دينية مستقلة موحدة أن تكون أنسب للتطور الديني والسياسي في مجتمعاتنا، وللعلمنة في آن. هذه فرضية اعتنيت بأن يكون تناولي لها متسقا، وليست مذهباً أبشرُ به وأحصر الصواب فيه. ووقت إعداد المادة نفسها للنشر في كتاب “أساطير الآخرين” وقعت على ما يعزز شرعيتها في أعمال مثقفين علمانيين عرب، مسلمين ومسيحيين، أوردتها في ملحق بالمقالة.
فإذا كان لي أن أشارك في نقد المقالة، فربما أقول إنها تفكر في الشأن الديني من فوق، من موقع المدركات الكبرى: الدولة، الدين، التاريخ، العلمانية إلخ.
وفي مواد لاحقة، بخاصة “الحق في الدين بوصفه أساسا للحرية الدينية”، فكرت في تصور مغاير، اجتماعي وتحتي، يكون الدين بموجبه ملكا للمؤمنين، مثلما الدولة ملك للمواطنين ومثلما اللغة ملك للمتكلمين. وعلى هذه الأرضية انتقدت مشاريع الإسلاميين لكونها في الجوهر تستهدف نزع الإسلام من المسلمين وامتلاكه من قبل الحاكمين الإسلاميين، وحكم الناس، المسلمين وغيرهم، به. ويبدو لي أن ما يحمي الحريات الدينية هو تملك المؤمنين لدينهم/ أديانهم، وأن نزع الدين من ملكية الناس، سواء على يد سلطة دينية أو سياسية هو مسلك استبدادي ولا يمكن أن تقوم الحرية عليه.
هل هذين التصورين متنافيان حتما؟ فلنضرب، لتحييد الهوى بقدر المستطاع، مثالاً من اللغة. إذا كانت الأولوية في اللغة للمتكلمين وممارساتهم اللغوية وليس للقواعد وللأصولي اللغوي المتزمت، هل يلغي ذلك الحاجة إلى مجمعٍ لغوي يكشف ما في ممارسة المتكلمين من اطرادات وقواعد، ويضبط أشكال الكلمات والرموز من التعبير والتفاهم والتواصل، ويستوعب الممارسات اللغوية الجديدة ويدمجها؟ وإذا كانت المواطنة لم تلغ الدولة، أفلا يلزمنا ضربٌ من مجمعٍ ديني إسلامي لتنظيم الممارسات الدينية للمؤمنين دون أن ينقلب هذا المجمع إلى بابوية من الصنف الذي شهدته أوربا في القرون الوسطى، أو إلى سلطنة إسلامية مطلقة من الصنف الذي نراه يتجسد اليوم في داعش؟ ما يمكن أن يحول دون ذلك هو امتلاك الناس للدين، ومبادرتهم هم إلى إقامة مؤسستهم/ مؤسساتهم الدينية، كاختصاص أو كفضاء لمعرفة نوعية.
في المقالة الأقدم التي تشير إليها لم أفكر في المؤسسة الدينية الإسلامية المستقلة والموحدة كسلطة تجبي الدين من الناس وتحتكره، بل فكرت فيها في مواجهة الإسلاميين المتنوعين، أي السلطات الدينية المتناثرة، المؤذية لعموم المسلمين وعموم السكان. هذه نقطة مهمة يبدو لي أن بعض نقادي لم يروها. المؤسسة الإسلامية تلغي السلطات الدينية الفرعية مثلما ألغت الدولة الإقطاعات في مستهل العصر الحديث. كذلك لم يجر التفكير في تلك المؤسسة الدينية في فراغ سياسي، بل على خلفية وجود الدول القائمة، وكعنصر محتمل لاجتماع أكثر توازنا.
لن أحسم الأمر بخصوص المجمع الديني أو المؤسسة الدينية. ما أحاول القيام به في تناول الشأن الإسلامي هو جعله موضوعا ثقافيا يتخلله تفكيرنا الناقد ويعمل على تملكه. نفهم شيئا عن مجتمعاتنا وعن أنفسنا وعن الإنسان ونحن نفكر في الإسلام وظواهره السياسة والروحية والحقوقية.
في نفس الإطار، قلت أنه “ربما كان للكنيسة، وهي مؤسسة مستمرة في الغرب منذ نحو 20 قرناً، فضلٌ كبير في ترسيخ ملكة تنظيمية… وبالمقابل حُرم العالم الإسلامي، السني أكثر من الشيعي، من خدمات مؤسسة منظمة”. ماهي ملامح الخدمات المؤسسة المنظمة التي قدمتها الكنيسة للمجتمع وتم توظيفها في إطارٍ إيجابي؟ وكيف ترى إنجازات (مركزة وتوحيد المؤسسة الدينية الشيعية) إن في إطار حديثك الوارد في السؤال السابق، والمعروف أن تأثير ونفوذ تلك المؤسسة كان، ولا يزال، كبيراً جداً في العراق، أو في إطار ممارساتها المتعلقة بما يجري في سوريا ولبنان من أحداث وتحولات مجتمعية تاريخية كبرى؟
كانت هذه نقطة جانبية في كتابي، أشرت إليها في هامش وعلى نحو عارض.
لكن أخمن أن وجود رهباينات وأديرة، وشبكة من المؤسسات الدينية المنتشرة في المدن والأرياف، وفرَ بيئة لظهور قيادات دينية وقدرات تنظيمية. لا يمكن قول كلام واحد عن ديانة كبيرة كالمسيحية عمرها 2000 عام، أوضاعها العقدية والمؤسسية متغيرة تاريخيا، بين صعود وهبوط، بين صلاح وفساد، بين سند للمجتمعات وعبء عليها. كان رجال الكنيسة فاسدين في كثير من الأحيان، والأديرة بيئات أقل روحانية وتقى مما تبدو، ورجال الأبرشيات نهمون شرهون… هذه أشياء يمكن أن يقرأ الواحد عنها حتى بالعربية، وأفترض أن هناك الكثير باللغات الغربية عن هذه القضايا، لكن دخل التاريخ كقادة دينيين أو كمصلحين أو كمفكرين وعلماء، بعضهم في شؤون غير دينية، عدد لا بأس به من رجالها، وبعض نسائها.
في كل حال، من المضلل أن نأخذ عنصرا معزولاً بعينه ونجري مقارنة بين مجتمعات وأطر اجتماعية دينية مختلفة التكوين والتاريخ في شأنه. يمكن لعدم وجود مؤسسة دينية إسلامية أن يساعد الناس على امتلاك دينهم، وأن يكون عنصر حرية. وهذا ما كان يقال فعلا حتى قبل جيلين تقريبا. اليوم هناك أوضاع مختلفة، قد لا تكون عارضة تاريخيا، ولا أراها كذلك، وهي تقتضي منا تقليب شؤوننا الدينية والاجتماعية والسياسية على وجوه مختلفة.
ثمة حراكٌ ثقافي تزداد دوائره، في العالم العربي وفي الغرب، وفي بعض بلدان العالم الإسلامي، يهدف لإعادة النظر فيما كان يُعتقد على أنه “مسلمات” في التراث الإسلامي والثقافة التي أنتجها هذا التراث تاريخياً. والغالبية العظمى من المشاركين في هذا الحراك هم من ذوي الخلفية (الإسلامية) إن صح التعبير. الأمثلة كثيرةٌ على المستوى الفردي والمؤسساتي لكننا سنضرب مثلاً واحداً فقط يتمثل في النشاط الواسع والمتزايد لمؤسسة (مؤمنون بلا حدود) التي تتوسع بشكلٍ كبير وأصبحت لها نشاطات ومكاتب في عدة دول عربية. وهذا يطرح ثلاثة أسئلة فرعية: 1) هل لديكم، ولدى المثقفين الحداثيين والليبراليين والعلمانيين بشكلٍ عام اطلاعٌ على مثل ذلك الحراك؟ إذا كان الجوابُ (لا)، وبعيداً عن التبرير بـ (الانشغال)، ألا يُعتبر هذا بمثابة تقصيرٍ من قبل المثقفين الباحثين بجدية في إصلاح الواقع العربي في رؤية مثل هذه التطورات ومتابعتها ودراستها، إن لجهة أخذها بعين الاعتبار نظرياً عند تحليل الواقع العربي والإسلامي واستشراف مستقبله، أو لجهة التواصل معه، إن لم نقل التنسيق والتعاون. 2) هل يُمكن تفسير هذه الظاهرة بأنها تدخل، بشكلٍ مقصود أو غير مقصود، في إطار (الاستهانة) ابتداءً بتجليات هذا الحراك، وربما (التعالي) عليه، كونها، تحديداً، ذات مرجعية إسلامية، لايمكن لها أن تُنتج إجابات حقيقية على أسئلة الواقع وتحدياته في نظر المثقفين المذكورين في الأسطر السابقة؟ 3) استطراداً للسؤال الفرعي الأخير، مارأيك في مثل تلك النشاطات، وماذا يمكن أن يكون أقصى ماينتجُ عنها؟
كثيرٌ من الكتاب ضمن الطيف “الحداثي الليبرالي العلماني” ليسوا مؤمنين، وهم يهتمون بقضايا متنوعة، ليس بينها الدين. وهو ما يلقي التعزيز من الطابع الإكراهي للإسلامية المعاصرة، ويثير عند كثيرين النفور والعداء. ضمن هذا الطيف نفسه هناك من هم مهتمون بالشأن الإسلامي لاعتبارات متنوعة، منها أنه يفرض نفسه كقضية عامة، تهتم بك حتى إن لم تهتم بها أنت. ومنها فيما يخصني أني من هنا، من عالم الإسلام، وتعنيني قضاياه ويعنيني المسلمون، وتعنيني كرامتهم كمسلمين وليس كبشر فقط؛ ومنها فيما يخصني أيضا أن الموضوع يبدو لي خصباً ثقافيا، وأن تطوير فكرنا السياسي والأخلاقي والحقوقي، والفلسفي، يمر عبر الاشتباك مع المجمل الإسلامي. ولهذه الأسباب أتمنى أن تحظى المسألة الإسلامية باهتمام أوسع، وأن يعرف التفكير الإسلامي من داخل. لكن ليس الشأن الإسلامي ممراً إجبارياً لكل تفكير مثمر في شأننا العام السياسي والثقافي، ومن حق أي كان أن يكون لا مبالياً بالإسلام وقضاياه.
من جهتي لن أكف عن التدخل في الشأن الإسلامي، وكنت بدأت التدخل قبل سنوات من تدخله العنيف المعلوم في شأني الشخصي، وهو تدخل متزايد ولن يكف عن الازدياد بعد خطف إسلاميين لزوجتي وأخي واصدقائي. لكني لا أحيط بالتجارب الجديدة على مستوى الحراك الإسلامي للأسف، ومنها “مؤمنون بلا حدود”.
وربما يكون في خلفية ما يبدو لك من تجاهل لمستجدات الحراك الإسلامي حالة مزمنة من التجاهل والارتياب المتبادل. وبحدود ما أعلم فإن الصداقات بين إسلاميين وعلمانيين نادرة. لي شخصيا أصدقاء مؤمنون، لكن ليس لي صديق إسلامي واحد. هذا مؤشر على قطيعة اجتماعية لا يبدو أنه تحدﱡ منها أية تقاربات سياسية، بل لعلها في جذر هشاشة التقاربات السياسية المحتملة، وافتقارها إلى عمق ثقافي وقيمي، وحقيقة أنه لم يُبنَ عليها شراكة أو تضامن حقيقي في أي وقت.
ويكتمل مفعول هذه القطيعة الاجتماعية بالتمثيلات المنتشرة في أوساط الإسلاميين عن الطيف العلماني العام، وعند هذا الطيف عن الإسلاميين. هناك حاجة إلى تقصٍ ميداني من أجل قول كلام موثوق عن هذه التمثيلات، لكن يبدو لي أنها غنية بالخرافات والأساطير وعدم الفهم.
فإذا كان من غرور خلْف التجاهل الذي انقلب مع الزمن إلى جهل، فإنه غرور من طرفين وليس من طرف واحد.
وبصراحة، أميل إلى تحميل الإسلاميين مسؤولية أعلى عن هذا الوضع في الإطار المعارض. فهم لا يتقبلون المسلم غير الممارس والمسلم الذي فقد إيمانه، وليسوا مستعدين لتقبل حرية الاعتقاد، ويعطونك الانطباع أنهم بالأحرى مستعدون لقتلك لأنك تجاهر بأنك لم تعد مؤمناً. ويتوقعون مراعاةً دائمة لهم، لصيامهم في رمضان مثلا، بينما لا يعرضون استعداداً لمراعاة أي كان. ويميلون إلى العزل بين الجنسين عزلاً صارماً، ما يحكم بالاستحالة على قيام صداقات عائلية، ويحول حتى دون حياة اجتماعية مشتركة. من يتصرف كطائفة خاصة منكفئة على نفسها، لا تثق بغيرها، وبرأيي أنها لا تثق بنفسها أيضا، وليس كمجتمع منفتح واثق بنفسه وقادر على الثقة بغيره والتواثق مع غيره، هم الإسلاميون.
أتكلم عليهم كطائفة لأن نمط الحياة والاجتماع والسياسة الذي يقترحونه لا يختاره غير قلة إن أتيح للناس الخيار، ولا يشكل عاماً إنسانيا. ولا يبدو أن الأمر يشغل بال امبرياليينا المسودين، فهم مستغنون بإلههم المكفهر وبأحزمتهم الناسفة وسواطيرهم عن المجتمع والسياسة، وقبلهما عن الثقافة والفن والفكر والجمال والأخلاق. أما الإخوان فمندارون نحو عقيتهم وبيئاتهم الاجتماعية الخاصة، لا يبدو أنهم يعرفون شيئا خارجهم أو يريدون تعلم شيء.
تمثيل هذه الطوائف الإسلامية الحديثة للمسلمين السنيين غير صحيح قطعاً، وانظر حولك إلى تخاصمهم فيما بينهم وتسلطهم على من المسلمين السنيين المناكيد الواقعين في كنفهم.
وهم أنفسهم لا يزعمون تمثيل السوريين.
أسوق هذه الاعتبارات للقول إنها من أولى ما يتعين النظر فيه وتقصي أصوله بدل الشغل الذي لا ينتهي على النصوص.
هناك مشكلتان كبيرتان يبدو لي أن على المثقف المسلم أن يتصدى لهما. أولهما الكف عن تربيع الدائرة والجمع المستحيل بين أساسيات نصية وفقيهة ومطلب العدالة. بكل بساطة يلزم القبول أن هناك أشياء تاريخية فات أوانها، ومنها أحكام الرق والسبي وما إلي ذلك، ومنها تعدد الزوجات ودونية المرأة. لا أدعو إلى معالجات إدارية وفوقية لهذه المشكلات، بل إلى شغلٍ فكري وفلسفي وأخلاقي يساعد المسلمين على طيٍ مرتب وغير تعسفي لصفحة هذه الأحكام المتعسفة. هذا ممكن في رأيي عبر الاحتكام إلى ما يفترض أنه قيم جوهرية في الإسلام، العدالة والعالمية والتساوي الجوهري بين البشر.
والنقطة الثانية تتمثل في ضرورة التمييز بين الكبرياء والكرامة. ربما نشبع كبريائنا بالإصرار على هذه الأحكام وأشباهها، وأنها أعدل ما يمكن، لكن هذا مهين لكرامتنا. صون كرامتنا يقتضي الإقرار بأن تلك الأحكام فات أوانها، وأن هناك ما هو أعدل بكثير منها، والكف عن أن نكون شهود زور على أنفسنا، ونصور خفض قيمة النساء في الشهادة والزواج والميراث كتكريم لهن، والصلب وقطع الأيدي والأرجل كعدالة. هذه كبرياء جوفاء، مهينة لأي كريم، وتدل على خور أخلاقي وضعف أمام النفس وأمام العالم. الكرامة هي أن نطوي صفحات مهترئة من تاريخنا وفكرنا الديني، نطويها بأناقةٍ واحترام، لا بتشفٍ ونزق. لكن نطويها نهائيا. نودعها وداعا لائقا كي نستطيع استقبال آتينا بترحاب.
هناك قلة كرامة من طرفنا، واعذرني لقسوة التعبير في التسليم بأن حكم جبهة النصرة أو جيش الإسلام هو حكم الإسلام، وأن 11 أيلول 2001 هو فعل عدالة وليس جريمة بشعة حقيرة، وأن خطف سميرة ورزان ووائل وناظم ليس خسة لا نهاية لها. هناك الكثير من قلة الكرامة في مجرد عدم الاعتراض الواسع وبقوة وكلام واضح على هذه الجماعات.
وبالمناسبة يبدو لي أن هناك ارتباطا وثيقا بين سرديات المظلومية وبين قلة الكرامة. كلما ارتفع منسوب المظلوميات في مجتمع وفي تداول الناس فيه كلما كان للمرء أن يتوقع مستويات غير مسبوقة من قلة الكرامة.
وأعتقد أن هذا مدخل أساسي للتفكير في أحوالنا. وأن أول استعادة شرفنا هو التوقف عن ذلك السلوك الطفلي، المتمثل في القول إن ما لدينا كبير وعظيم ولا نظير له، واسوأ بعد القول إن كل ما هو كبير وعظيم ولا نظير له لدينا.
هل يمكن لعطاء المثقف العربي المهموم، جدياً، بإصلاح الواقع العربي أن يتواصل مع الجماهير، على الأقل من المهمومين، بدورهم، بالشأن العام؟ وتحديداً، هل باستطاعة الخطاب الفكري (النخبوي) الغالب على إنتاج هؤلاء أن يحقق ذلك الهدف، وأن يساهم بالتالي في تشكيل حدٍ أدنى من منظومةٍ ثقافية تكون، في العادة، حاملاً لعمليات الإصلاح والتنمية؟ يُحيل البعض، من أولئك المثقفين، في معرض الإجابة إلى (صيرورةٍ) تراكميةٍ تستمر جيلاً، وربما أكثر، تصل بواقعنا تدريجياً إلى الهدف المنشود. أما البعض الآخر، ويغلبُ أن يكون من أهل الحركة والتنظيمات والأحزاب، فإنهم يرون في ذلك مثاليةً طوباوية، وتأكيداً لارتضاء (المنظرين) بالسكن في (أبراجهم العاجية). وبالتالي، يعود الحركي والسياسي والناشط للبحث عن حلول سريعة وإجابات محددة قابلة للتطبيق الفوري، على أساس أنها مدخل التغيير. هل بات قدر الحاضر والمستقبل العربي أن يكون محاصراً بين هذين الخيارين؟ نُدرك بعض المنطق الكامن في طروحات المثقفين ونُقره، ولكن، هل ثمة (خيارٌ ثالث) يُحقق عملية التراكم المطلوبة، ولكنه، في نفس الوقت، يُدخل الإرادة البشرية عنصراً في المعادلة، من خلال ما يمكن أن نشبهه بعملية (الهندسة الاجتماعية)، مع التحفظ المعروف على المصطلح بسبب نقله من فضاء نشاطٍ بشري له خصوصيته إلى عالم الاجتماع البشري بكل تعقيده وحيويته؟
تغيير الواقع السياسي في بلداننا وترويض غول الدولة لا يحل بحد ذاته مشكلات الاقتصاد والثقافة والاجتماع والحياة الكريمة، والدين طبعا، لكنه يبدو لي مدخلاً لا بد منه من أجل التقدم في معالجة هذه المشكلات وحلها. وهذا بالضبط لأن الدولة لدينا قوة عدوانية غاشمة لا تحل المشكلات العامة ولا تترك السكان يعلمون على حلها، لا قطاعيا ولا على المستوى الوطني. تعلم أنه لم يكن في إمكاننا في سورية إقامة تجمع لمقاومة الطائفية مثلاً، أو للنقاش في الشأن العام في بيوت خاصة، أو حتى تنظيف الشوارع في بلدة من بلداتنا. هذا يعطي الأولوية الزمنية لتغيير النظام السياسي، لكن ليس الأولوية من حيث الأهمية. تضخمت كثيراً أهمية قضية السلطة في تفكيرنا منذ كفت السلطة عن التغير، واستأثر بها فريق اجتماعي دون وجه حق، وعزز تحكمها في كل أوجه حياتنا. لو تغير النظام الأسدي، وتوصلنا إلى إطلاق آلية تغيير ذاتية دورية، لتراجعت أهمية مسألة السلطة لمصلحة قضايا الثقافة والاقتصاد والاجتماع والدين وغيرها.
لدينا مشكلات كبيرة ومتنوعة لا حل لها بتغيير نظمنا السياسية، لكن لا حلﱠ لها مع بقاء هذه النظم. جريمة النظام الأسدي لا تتمثل في أنه لم يسهم في حل أي من مشكلاتنا الوطنية فقط، وإنما في أنه حال دون السوريين ودون محاولة علاج مشكلات كان هو يفاقمها طوال الوقت في الواقع. هذا ليس نظام استبداديا أو دكتاتوريا، هذا قوة تخريب وطني منظمة ممأسة مستمرة. هذا مضخة قذارة مستمرة. والشيء الوحيد الصحيح في مثل هذه الظروف ليس بخ العطور، بل تعطيل المضخة.
أتطلع شخصيا إلى التفرغ للشأن الثقافي الذي أفضله أكثر بكثير من الشأن السياسي، وليت الواحد منا يستطيع أن يتفرغ للقراءة ولقاء الناس والنقاش معهم، في بلده وفي غيره. وأفترض أن عموم الناس يتطلعون إلى أن يتحكموا بحياتهم بصورة أفضل، وألا يفلت من أيديهم زمامها، وأن يعيشوا حياة كريمة.
القصد أن ترتيب الأوليات مسألة تحددها أوضاعنا الفعلية، وليس التفضيلات الذاتية للمثقفين أو المشتغلين بالشأن العام. أعتقد أنه إذا تيسرت ظروف سياسية أقل عدوانية ستتاح لأعداد متزايدة من المتعملين والمثقفين أن يسهموا في نشر التعليم والثقافة بين مواطنيهم الأقل حظا. ليس كثيرون بيننا في “أبراج عاجية” تفضيلاً، بل هم معزولون ويكادون يكونون سجناء.
نحتاج إلى مساحة عامة مستقلة للتواصل والتفاعل المجتمعي لكسر عزلتنا، وأعتقد أن الفاعلية التراكمية التي يتكلم عليها السؤال كانت ستنجز شيئا لو أتيحت هذه المساحة العامة. أنا من الرقة، ولم يكن وراداً في أي وقت أن ألتقي مهتمين رقاويين في مساحة عامة، نتداول فيها في شأننا العام. وهو ما ينطبق على جميع السوريين ممن لم ينضووا تحت مظلة النظام ومساحاته الضيقة المراقبة. وإنما لذلك تراجَعت سورية خلال جيلين من موقعها النسبي كدولة متخلفة تسير إلى الأمام لتصير دولة بلا وجهة ولا قضية، غير بقاء ثلة من المجرمين إلى الأبد في حكم البلد، وعلى هذا النحو تحولنا إلى تخلفٍ مركب وإلى مجتمع متكاره يعمهُ الخوف ولا يثق أحد فيه بأحد تقريبا.
“الخيار الثالث” المتمايز عن صيرورة تراكمية مديدة وعن حلول سحرية سريعة هو تلك المساحة العامة المستقلة التي يتاح للناس التلاقي والتفاعل وتبادل الكلام فيها. وهي بحكم تكوينها ذاته كفضاء للتفاعلات الاجتماعية ممانعة للهندسة الاجتماعية الفوقية.
لا أثق من جهتي بمهندسي المجتمع، وأرى أن هناك شيء نخبوي وغير ديمقراطي متأصل في هذا المفهوم. الناس يتحررون بفاعليتهم هم، بفاعلية كل واحد منهم، هنا والآن، وليس بفاعلية فوقية يقررها مهندسون اجتماعيون لن يتأخر الوقت قبل أن يولوا لدوام مصالحهم وأفضلياته هم أولوية عليا. أعرف أن بعض عبيد الدولة السوريين من طائفة العلمانيين الجهاديين هم دعاة متحمسون للهندسة الاجتماعية. وعبثاً تبحث عندهم عن حسٍ للعدالة أو دفاع عن الحرية أو تضامن مع مقهورين أو غضبة حق بعد مذبحة أو انشغالا بغير راحتهم وحسن سير أمورهم الخاصة. هل نتوقع خيراً على المجتمع ممن لا يبالون بمصير البشر العيانيين؟
في نفس الإطار، هل هناك أسلوبٌ بياني ولغوي معينٌ ووحيد للمساهمة المعرفية في ساحتنا الفكرية؟ يشعر البعض، في كثير من المناسبات، أن بعض الطروحات الفكرية بشكلٍ عام، وتلك الداخلة في إطار مساهمات المراجعة والتجديد والإصلاح الديني النظري والعملي تحديداً، لاتؤخذ بجدية، بغض النظر عن مضمونها، ما لم تُطرح بذلك الإخراج اللفظي الخاص والمعروف في كتابات كثيرٍ من المثقفين. خاصة من حيث المفاهيم والمصطلحات وتراكيب الجمل وأسلوب التعبير، والذي يضمن استخدام مفاهيم غير مألوفة، واشتقاق ونحت مصطلحات جديدة ومُعقدة إلى حدٍ ما في معانيها، على الأقل بالنسبة لقاريء العربية. وحتى ذلك المهتم بالشأن العام. ويبدو أن هناك نوعاً من (العرف) أو (الاتفاق غير المكتوب) في ساحتنا الثقافية العربية، لا يُقومُ بموجبه العطاء (معرفياً) و(فيه إضافة) ما لم يكن بذلك الشكل، ويُحكم على (قيمته) من مجرد النظر إلى أسلوبه، وأحياناً من الفقرة الأولى. هذا، مع أن بعض الطروحات التي تحرص على الظهور بذلك الثوب اللغوي، (النخبوي) دعنا نقول توضيحاً، هي في الحقيقة فقيرةٌ في طرح مضمونٍ جديد، ويكون فيها أحياناً الكثيرمن الركاكة والتناقض. بل إن كثيراً من أصحابها يصبحون حريصين، مع الزمن، على المزيد من التقعر والتغريب في العرض، حتى يُصبح هذا هدفاً بذاته يُغطي على الهدف الرئيس المُفترض. مارأيك بهذا الموضوع؟ وهل حقاً لا يمكن إيصال أفكار ومعاني كُبرى ومُبدعة وعميقة في دلالاتها الفكرية والثقافية، بل والفلسفية، إلا بذلك الأسلوب؟
للمسألة جوانب متعددة. جانب أسلوبي، يخص قدرة الكتاب على صوغ أفكارهم بعبارة بسيطة أو أقل بساطة، وبتفاوت قدراتهم على التوصيل. كان هيغل، وهو فيلسوف ألماني كبير، مشهورا بأسلوبه المستغلق، بينما عرف ماركس وفرويد بأسلوب أوضح. وبين أساتذتنا المعاصرين وجدت صعوبة في قراءة عبدالله العروي أول ما اطلعت عليها (الترجمة مسؤولة جزئيا بخصوص بعضها)، بينما كانت أعمل ياسين الحافظ سهلة القراءة وأيسر منالا.
هناك جانب آخر، اجتماعي، يتمثل في امتلاك ما قد يعتبر الكلام النادر، المهم أو القيّم، الذي يعود على العارفين بمزايا ورساميل رمزية، فيتطور لديهم نزوعٌ إلى الحفاظ عليه. هذا وضعٌ شائع، وقد يصير ممارسة غير شعورية، تجدها عند الأصوليين اللغويين الذين يدافعون عن قواعد متصلبة للعربية تضع السلطة اللغوية بأيديهم، وعند الأصوليين الدينيين الذين يعرفون صحيح الدين بصورة تضع مقاليد السلطة الدينية بأيديهم. حين يتكلم الدواعش والسلفيون بعربية فصحى أجنبية عن حياتنا الفعلية، إنما يتزودون بأداة مهابةٍ للسلطة، وينصبون حاجزا بينهم وبين عموم السكان.
لكن هناك جانب ثالث مهم في تقديري، ويتمثل في أن سؤال الإنسان الذي تهتم به الإنسانيات يقتضي تطوير أداوة تفكير وبحث خاصة، في شكل لغة اصطلاحية غير مألوفة، أو دلالات مغايرة تعطى لكلمات معروفة. هناك أعمال أكاديمية تظهر فيها اللغة الاصطلاحية أو الفنية بكثافة، وهناك أعمال للكتاب أنفسهم تحاول التقليل من تواتر هذه المفردات الخاصة بقدر كبير من أجل الوصول إلى عموم المثقفين والجمهور العام.
لست أكاديميا، لكن يبدو لي أنه لا غنى عن تطوير أدوات خاصة أحيانا للتعمق في بعض الظواهر الاجتماعية. وما ليس مقبولا في تصوري هو تحكيم لغة التخاطب العادية في الكتابة في ميادين معرفية أكثر تخصصاً. هذا يمكن أن يكون موقفا شعبويا يدغدغ انفعال عموم الناس حيال الأكثر تخصصا، أو تعبيرا عن كسل، أو حتى عن نزعة ظلامية.
ياسين الحاج صالح هو كاتب وناقد وباحث ومترجم سوري معارض، وسجين سياسي سابق. ولد في مدينة الرقة عام 1961، واعتقل عام 1980 بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي ديمقراطي معارض. ينشر في العديد من الصحف والمجلات العربية، منها الحياة، السفير، الآداب وغيرها. ويعتبر من أهم الكتاب والمنظرين السوريين في قضايا الثقافة والعلمانية والديمقراطية وقضايا الإسلام المعاصر، وله تأثير واسع في الساحة الثقافية السورية والعربية.
متزوج من سميرة الخليل، وقد غادر الأراضي السورية في تشرين الأول 2013 ويعيش حالياً في برلين.
دراسته
تخرّج من الثانوية ونال الدرجة الأولى على مدينة الرقة في الثانوية العامة. دخل كلية الطب البشري في جامعة حلب في العام الدراسي 1977-1978، واعتقل في السنة الثالثة حين كان عمره 19 سنة، وغاب في السجون السورية 16 سنة، ليعود إلى الكلية في أيار 1997 ويواصل دراسته للطب ويتخرج من الكلية عام 2000. لم يتخصص الحاج صالح في الطب لأنه بعد اعتقاله حُرم من الحقوق المدنية وبالتالي من راتب الدراسات العليا الذي توفره الجامعة لمتخصصي الطب، وهو لا يعمل بالطب لأنه يفضّل العمل بالثقافة، إضافة إلى عدم قدرته على امتهان الطب لعدم تخصصه.
حياته السياسية
انضم إلى الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي (جناح رياض الترك) في فترة مبكرة.كان من تيار اليسار الديمقراطي وكان اعتقاله على خلفية ذاك الانتماء. قضى في سجون السلطات السورية 16 سنة من شبابه، وبقي دون محاكمة حتى عام 1994، ثم حكمت عليه محكمة أمن الدولة بـ15 عاماً، ثم قضى عاماً إضافياً دون وجه قانوني. “تخرج” من السجن وآثر العمل في الكتابة الصحفية كمهنة. بدأ الكتابة عملياً عام 2000 وتفرّغ لها تماماً في نهاية ذلك العام. عمل مراسلاً لمجلة الآداب وكتب في عدة صحف عربية مهمة.
يعتبر من المثقفين العرب العضويين ومن أكثر الكتاب تواصلاً مع الشباب عبر الفيسبوك والإنترنت. ومع اندلاع أحداث الانتفاضة السورية عام 2011، اعتبر ياسين الحاج صالح من منظّري الحراك الشعبي السوري الرئيسيين، وأدلى بعدة تصريحات قوية على القنوات الفضائية ومن خلال حوارات صحفية كثيرة معه. وقد رفض الدخول في المعارضة كسياسي معارض لانشغاله بالتغطية الفكرية للثورة السورية. وهناك من يعتبره أحد الناشطين البارزين في الحراك الشعبي ولجان التنسيق المحلية من موقعه كمواطن ومثقف. ولعل مقالاته، التي ما برح يكتبها في مخبئه السرّي، مثلت فسحة للتأمل والتحليل والقراءة الهادئة لأبعاد الثورة ووقائعها. وقد أطل بها عبر الإنترنت سلاحاً وحيداً في عزلته، وبات ينتظرها كثيرون من القراء، تبعاً لما تتميز به من عمق وجرأة.
في آذار 2012 ساهم ومجموعة من الكتاب والباحثين السوريين الشباب في تأسيس مجموعة الجمهورية لدراسات الثورة السورية، التي تحولت إلى منبر ثقافي وفكري لتغطية الشأن السوري خلال الثورة المديدة.
غادر دمشق إلى الغوطة الشرقية بعد عامين من انطلاقة الثورة السورية ومتابعتها من العاصمة، ليعيش حوالي ثلاثة أشهر في دوما قبل أن ينتقل إلى الرقة، التي كان قد احتلها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ما أجبره على متابعة التخفي إلى أن غادر إلى إسطنبول حيث يقطن حالياً.
وائل مرزا
رئيس التحرير والمشرف العام على موقع معهد العالم للدراسات
نشر هذا الحوار في كتاب حمل العنوان ذاته
أي إسلام؟ وأي علمانية؟
حوار مع ياسين الحاج صالح
الناشر: معهد العالم للدراسات
تاريخ الإصدار: 01 يناير 2017
الصفحات: 54