سياسة

تسويق الوهم.. الدور الإقليمي الذي صنعه حافظ الأسد لسوريا/ بسام يوسف

يندر أن تقرأ كتاباً، أو بحثاً، أو حتى مقالاً يتناول فترة حكم حافظ الأسد لسوريا إلا ويتضمن ذكراً لدور إقليمي مهم استطاع حافظ الأسد أن يصنعه لسوريا، ومن النادر أن تحاور مؤيداً له، إلا ويستشهد بأقوال لخصوم له حول هذا الدور، ويستحضرها على أنها الفيصل في القول، فلا كلام بعد اعتراف الخصوم. لكن هل كان لسوريا فعلا دور إقليمي مهم، وهل صنع حافظ الأسد هذا الدور، وإن لم يكن فلماذا هذا الرأي المتداول على أنه حقيقة غير قابلة للنقاش؟

في تعريف “الدور” أولاً، يمكننا أن نجد أنه أحد أهم مكونات السياسة الخارجية لبلد ما، أو هو من الوظائف الرئيسية التي تقوم بها الدولة المعنية في الخارج، وهذه الوظيفة تحدد مسعى الدولة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية.

والدور لا يحدد اعتباطاً، ولا ارتجالاً، ولا حتى بجهود فرد، إنه أولاً تصوّر تحدده وقائع ومعطيات الجغرافيا، والاقتصاد والتنمية البشرية، والعلاقات الثقافية، والقوة العسكرية.. الخ، وهذه الوقائع والمعطيات مجتمعة، تشكّل رؤية استراتيجية متبصّرة، وثاقبة يتمّ على ضوئها رسم الدّور، كل هذا يمكننا اعتباره “مفهوم الدور”، أو “تصوّر الدور”.

بعد تصوّر الدور يأتي “أداء الدور”، والذي يتم وضع خططه، ورصد الإمكانات له، فلا وجود للدور خارج الممارسة، أو خارج الفعل، ولا معنى له خارج معرفة أدوار الآخرين، وخصوصاً من يصنفون على أنهم أعداء، ولا معنى له إن لم ينطلق أساساً من خصوصية وإمكانات البلد المعني.

من أهم أهداف الدور هو امتلاك القدرة على التأثير بالآخرين، لتحقيق مصالح الدولة في التنمية وفي الاستقرار، وفي تقليص التهديدات الخارجية، وفي حماية المصالح الاستراتيجية.

إن لعب أي دور لأي دولة ينطلق أساساً من مرتكزات أساسية داخلية، ومن القدرات الشاملة للدولة، والتي يمكن تقسيمها إلى نوعين:

    مقدّرات موروثة أو ثابتة، مثل الموقع الجغرافي، والموارد الطبيعية، والمساحة الجغرافية، وعدد السكان …الخ.

    مقدّرات متجدّدة ومتغيّرة، مثل القدرات العسكرية، والاقتصادية، والتنمية البشرية، والتطور السياسي والديمقراطي، ومدى الاندماج المجتمعي والاستقرار الداخلي… الخ.

    أبرز من ارتكز على مفهوم “الدور الإقليمي” هو السياسة الخارجية للحزب النازي الألماني، الذي رأى أن لكل دولة مركزية مجالاً حيوياً يحدده التاريخ والجغرافيا

أما في المعنى “الإقليمي”، فيُمكن القول إنه جملة التفاعلات بين دول مستقلة داخل منطقة جغرافية واحدة، وغالبا ما تتشارك دول إقليم ما بعض الخصائص تفرضها الجغرافيا أو الثقافة أو اللغة أو الاقتصاد أو التاريخ، وعليه فإن الدور الإقليمي، هو باختصار إدارة مصالح دولة ما، وحمايتها، وتنميتها على ضوء كل المعطيات السابقة.

تاريخياً، لعل أبرز من ارتكز على مفهوم “الدور الإقليمي” هو السياسة الخارجية للحزب النازي الألماني، الذي رأى أن لكل دولة مركزية مجالاً حيوياً يحدده التاريخ والجغرافيا، وأنه من الضروري لهذه الدولة أن تسيطر على مجالها الحيوي، سواء بالنفوذ السياسي، أو بالقوة العارية، ومن هذا الفهم انطلق “هتلر” لتحديد المجال الحيوي لألمانيا، ولعرقها الآري.

لكن نتائج الحرب العالمية الثانية غيرت المفهوم النازي للمجال الحيوي، واستبدلته بمفهوم جديد حددته أميركا المنتصرة في تلك الحرب، عندما اعتبرت أن المجال الحيوي ليس جغرافياً، ولا تاريخياً، إنه باختصار ترجمة القوة بأوجهها المختلفة وقدرتها على السيطرة، أو الهيمنة عبر “الحدود الشفافة”، أي الحدود التي لا تعترف بالخرائط، وهو ما سماه الباحث السياسي الاجتماعي “تايلور”: (جغرافية السيطرة من دون امبراطورية).

على ضوء ما سبق، هل يمكن فعلاً القول إن حافظ الأسد صنع دوراً إقليمياً مهماً لسوريا، أم أن الأمر ليس أكثر من كذبة سخيفة، ككذبة الممانعة والصمود والتصدي؟

بعد نصف قرن من حكم عائلة الأسد، وبعد أن انكشفت حقائق كثيرة كانت مغطاة بركام هائل من الأكاذيب، والشعارات، والديماغوجيا، يُمكننا أن نلمس بوضوح الحقائق التالية:

    سخَّر حافظ الأسد أهم مرتكزين تملكهما سوريا للعب دور إقليمي فاعل، وأقصد الموقع الجيوسياسي البالغ الأهمية لسوريا، والإمكانات البشرية فيها، لهدف وحيد هو استدامة احتكاره للسلطة. مرتكزان لو تم استثمارهما لمصلحة سوريا لمنحاها مكاسب كثيرة، لكنه سخّرهما فقط من أجل سلطته، وحرم سوريا منهما.

    منع حافظ الأسد سوريا من امتلاك صناعة حقيقية، وأفرغ الزراعة من القوة العاملة فيها بسياسة ممنهجة، ومنع السوريين من عامل اقتصادي بالغ الأهمية وهو السياحة، فسوريا الغنية جدا بتاريخها ومواقعها الأثرية، وبطبيعتها وبمناخها، وبتنوع تضاريسها، لم تكن تذكر في الوجهات السياحية، ولم يقتصر الأمر على إفشال السياحة في سوريا، بل وصل الأمر إلى تخريب الإمكانات السياحية، سواء عبر تخريب المواقع الأثرية، وتهريب الآثار ونهبها، أو عبر تدمير الغطاء النباتي، أو عبر البناء العشوائي المشوّه للمناطق السياحية، وتدني البنية التحتية فيها، إن لم يكن انعدامها.

     حول حافظ الأسد الجيش السوري من جيش له وزنه الإقليمي المهم، إلى جيش هشّ، غير مدرب، ينخر فيه الفساد والطائفية، ولا يمكنه خوض حرب حقيقية، جيش له دور وحيد هو حماية سلطته.

     كثيراً ما يستشهد المدافعون عن الدور الإقليمي الذي صنعه حافظ الأسد، بسيطرته على لبنان، وعلى جزء مهم من القرار الفلسطيني، لكنهم يتجاهلون عامدين حقيقة أن هذا الدور لم يكن ليلعبه لولا موافقة إسرائيل وأميركا عليه، وبالتالي فهو دور وظيفي لخدمة آخرين.

هل يمكن لكل المنظّرين حول دور إقليمي لحافظ الأسد، أن يذكروا معادلة إقليمية واحدة غيرها لصالح سوريا، أو عزّز موقع سوريا فيها، أو هل أسس حافظ الأسد لتنمية مستدامة في سوريا، أو أقام بنية تحتية متطورة، أو بنى اقتصادا قادراً على المنافسة، أو بنى جيشاً محترفاً، قوياً، مدعوماً بصناعات عسكرية متطورة، أو حقق تطوراً علمياً، أو صناعياً، أو زراعياً، أو سياحياً يعزز من قوة سوريا، ويمكنّها من لعب دور إقليمي؟

عندما ينهار في بلد ما الاقتصاد والتعليم، والقضاء والبحث العلمي، وينخفض مستوى الدخل، ويزداد التضخم والبطالة، وتصبح مؤسسته العسكرية خادمة للسلطة وليس للشعب، وتُسحق الحياة السياسية فيه، وتنعدم الحريات، ويصبح كامل أعضاء برلمانه مجرد قطيع لخدمة السلطان، كيف يُمكن الحديث عن دور إقليمي له؟

بعيداً عن الدّجل والديماغوجيا، فإن الدور الإقليمي الوحيد الذي نجح فيه حافظ الأسد هو في تدمير المرتكزات السورية الضرورية للعب دور إقليمي، وتحويل سوريا من دولة تملك معظم المقدمات والمقدرات، لتكون دولة قوية وقادرة في الشرق الأوسط إلى دولة فاشلة مدمرة، تحتلها جيوش العالم، ويسكن ثلث شعبها في الخيام.

بسام يوسف

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى