الفضاء البصري ومفاهيم الواقع.. هل تتراجع الكلمة أمام الصورة؟/ حسام أبو حامد
إبان حرب فييتنام، وتحديدًا في يوم 3 يونيو/ حزيران 1973، قصفت طائرات فييتنامية جنوبية، بتنسيق ودعم من القوات الأميركية، قرية “تراج بانج”، بقنابل النابالم، واستطاع المصور “نيك أوت” أن يلتقط صورة للطفلة الفيتنامية “كيم فوك” وهي تهرول عارية، وتصرخ من شدة الألم، بعدما أحرقت نيران القنابل جسدها. هزّت الصورة العالم، وزادت من سخط الأميركيين المعارضين للحرب، وربما كانت عاملًا قويًا من العوامل التي أجبرت عجلة الحرب على التوقف. تحولت فوك إلى أيقونة عالمية، ولا تزال صورتها بعد مرور حوالي خمسة عقود محفورة في ذاكرة التاريخ، وبسببها حصل أوت على جائزة Pullitzer عام 1973.
الصورة في الحضارات البدائية كانت أسبق على الكلمة، ولكن تلك مرحلة سابقة على مرحلة العقلانية، التي سعت الصورة إلى اختراقها، في محاولة للإفلات من تجريد الكلمات؛ لنركز هنا على حقل العبادة، الصور والتماثيل والأيقونات للآلهة والشخصيات المقدسة، بشرية ومتخيلة. مع ذلك، ظلّت الصور نادرة في ظل ثقافة الكلمة. اليوم، الصورة في كل مكان، وكما تراجع دور النسّاخ مع اكتشاف الطباعة، تراجعت الكلمة أمام الصورة، وعصرنا هو عصر ثقافة الصورة، ولهذا التغيير عواقب اجتماعية، بعد أن غيّرت الوسائط الجديدة والاستنساخ الميكانيكي فكرة الصورة على مدى القرون الثلاثة الماضية، في سياقات اجتماعية واقتصادية معولمة، وباتت التمثيلات تصنع المعنى، وتشكل الهوية في الأنظمة المشفرة. مما يطرح، في إلحاح، السؤال حول العلاقة بين الفضاء البصري ومفاهيم الواقع.
لقد بدأنا للتو استيعاب آثار الانتقال من ثقافة قائمة على الكلمة المطبوعة إلى ثقافة تعتمد إلى حد كبير على الصور، فهل نحن أقل حرصًا على التفكير في الآثار الثقافية الأوسع لمجتمع مُكرّس للصورة بدلًا من النص؟ هل نحن أمام فتح آفاق جديدة، وخلق أشكالٍ من التواصل أفضل من الطباعة؟ أم أن الأمر لا يعدو عودة غريبةٍ وغير مُرحَّب بها من أشكال الاتصال التي كانت تتصاعد في الحضارات الأولى، حين كان الناس عبيدًا للصورة الساحرة والسطحية على حساب الحقائق الأعمق التي يمكن للكلمة المكتوبة وحدها أن تنقلها؟
صورة بألف كلمة
التصوير الفوتوغرافي، ثم الفونوغراف، وكاميرا الصور المتحركة، هي بعض التحولات العديدة في القرن التاسع عشر التي مهدت الطريق لثقافة الصورة التي نعيشها اليوم. مع ذلك، لا يمكن إهمال دور البنى النحوية والمنطقية التي تحتويها اللغة، والتي تمنح الكلمات معنى متماسكًا،
“الوظيفة النفعية للغة تتم عبر الاستماع والحوار، فهل تَحُدُّ الصورة من مفرداتنا؟ ربما هي وسيلة تعويض عن نقص تلك المفردات، بعد أن أصبح أي شخص منتجًا للصورة”
فالأشكال الأولى للتواصل التكنولوجي التي تم تطويرها قائمة في البداية على اللغة؛ من إشارات مورس، إلى بروتوكول الدردشة عبر الإنترنت (الشكل الأول من وسائل التواصل الاجتماعي)، الذي تم اختراعه في أواخر الثمانينيات، أدى التعبير عن اللغة بالحروف والعلامات إلى جعل التكنولوجيا أكثر سهولة، وأتاح ظهور الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، فرصًا لمشاركة الكلمات والصور مع الآخرين، الصور والأدائية الجديدة (الأدائية عمومًا مجموعة من التعبيرات التي تؤدي إلى ردود من الآخرين) والتحديق البصري تهيمن على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصبح سببًا لوجود مؤثرين على Instagram وYouTube.
المثل الصيني “الصورة بألف كلمة” صحيح لدرجة كبيرة في عصرنا، وقد لا تساوي الكلمة ألف صورة، ولكن الوظيفة النفعية للغة تتم عبر الاستماع والحوار، فهل تَحُدُّ الصورة من مفرداتنا؟ ربما هي وسيلة تعويض عن نقص تلك المفردات، بعد أن أصبح أي شخص منتجًا للصورة، وليس متلقيًا لها فقط، وعليها باتت تبنى الخبرات والمواقف، وإذا كان إنتاج الكلمة حكرًا على النخبة، فإن الصورة هي وسيلة الأقل ثقافة للتحايل على نقص المفردات. فالبصر هو أقوى حاسة لدينا، ويسيطر في ميدان ترجمة التجربة أكثر من الذوق، أو اللمس، أو السمع، والصورة ترتبط بالعاطفة بعمق، وتستدعي انتباهنا من دون أن تنطق، نستوعبها على الفور، وبسهولة، فتقنعنا، أو تصدنا، أو تسحرنا. قارن بين منشور لك على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، تضمّنه كلمات، وبين منشور تضمّنه صورة، ستجد مقدارًا أكبر من المتفاعلين مع منشور الصورة، بل ستجد أن تكرار نشر الصور، وعددها، لن يضعف التفاعل، الأمر الذي تؤدي إليه كثرة الكلمات في بوست مطول. تميل ثقافة الصورة كثيرًا في اتجاه الشعبية والمحاكاة. على وسائل التواصل الاجتماعي، كلما زاد عدد الإعجابات والمشاركات، زاد نفس النوع من الصور التي يراها المرء، وكررها تلقائيًا الذكاء الصناعي.
ذاتية الصورة
الصورة ميدان واسع للإبداع، ولاكتشاف المعنى، لكنها أكثر ذاتية، ويمكن أن تلازم رغبات مختلف الأشخاص، لذلك يمكن أن يصبح معناها وسياقها أكثر مرونة، ولكن أيضًا أكثر عمقًا وغموضًا مقارنة بالكلمات، ومصدرًا لكل أشكال سوء الفهم، لعلّنا نتذكر هنا الضجة التي أثارتها ردود فعل المسلمين الغاضبة في التسعينيات، متهمين شركة Nike بالترويج لحذاء رياضي
“علينا أن نستمع إلى أوليفر ويندل هولمز، الذي أطلق على الصورة اسم “المرآة ذات الذاكرة”، وتنبأ في عام 1859 بأن تصبح الصورة أكثر أهمية من الكائن نفسه”
عليه نقش فهم على أنه محاكاة مقصودة للفظ الجلالة (الله).
قد يكون العيش في ثقافة الصورة يعني أننا نفتقد الحياد أكثر، لأن للصورة دائمًا سياقًا قد تقحمها فيه رغباتنا وميولنا ومزاجنا وظروفنا، ونحو ذلك. والصورة ليست كالكلام تشجع التفكير العقلاني والمناقشة، ولسنا واثقين دائمًا ما إذا كانت الصورة مبنية على الواقع، فنحن نفسرها في سياق محدد، ويصعب تحديد السلطة التي لها وحدها حق التأويل في ثقافة تفضل العاطفة على العقل، لا سيما مع مقاربات رولان بارت حول الكتابة في درجة الصفر، وموت المؤلف. علينا أن نستمع إلى أوليفر ويندل هولمز، الذي أطلق على الصورة اسم “المرآة ذات الذاكرة”، وتنبأ في عام 1859 بأن تصبح الصورة أكثر أهمية من الكائن نفسه، وتجعلنا نتخلص منه. الصورة الحديثة على الإنترنت هي قطعة أثرية تم إنشاؤها اجتماعيًا وجماعيًا، ولا يعرف المرء دائمًا من قام بإنشائها وراء كثافة التداول.
ميدان التلاعب بالصورة
كان جوزيف ستالين واحدًا من أنجح المتلاعبين بالصورة الفوتوغرافية. فبعد تعزيز سلطته في عام 1929، أعلن الحرب على السوفييتات، التي اعتبرها ملوّثة بصلاتها بالحركات السياسية التي سبقته. وبدءًا من عام 1934، قضى على قائمة متغيرة من “الأعداء” السياسيين. قتل ما يقدر بنحو 750 ألف شخص، ونفي أكثر من مليون آخرين إلى معسكرات في مناطق نائية
“يخدم التلاعب بالصور إعادة بناء الماضي. حتى في المجتمعات غير الاستبدادية، تم استخدام تزوير الصور المبكر لخداع الجماهير”
للقيام بأعمال شاقة. خلال عمليات التطهير، اختفى العديد من أعداء ستالين من منازلهم، وأُعدم آخرون علانية بعد محاكمات صورية. لاحقًا، تم محو وجودهم الصُوَرِي. استخدم رجاله تقنيات: البخاخة، والحبر الهندي، والمشرط، لإزالة أصدقائه اللدودين من الصور التوثيقية، مثل تروتسكي، وحتى نيكولا ييغوف، مسؤول الشرطة السرية الذي نفّذ معظم عمليات التطهير لصالح ستالين.
يخدم التلاعب بالصور إعادة بناء الماضي. حتى في المجتمعات غير الاستبدادية، تم استخدام تزوير الصور المبكر لخداع الجماهير. ولأغراض النيل من الخصوم، وقضايا الترويج والاستهلاك، باتت لدينا سجلات مرئية لعقود من الاحتيال والتلاعب.
الغضب على حبيب سابق، وإتلاف صوره، أو قصّ الصور لإزالة الأجزاء التي يظهر فيها، رغبة في إزالة الذكريات السيئة، قد يكون، بمعنى ما، الظهور الأول لبرنامج Photoshop (ظهر لأول مرة عام 1990). لقد سمح هذا البرنامج للجماهير بالبدء في إعادة كتابة التاريخ المرئي، حتى جون نول، مصمم البرنامج، رغم إشادته به، بوصفه إضفاءً للطابع الديمقراطي على التكنولوجيا، رأى أنه منح الناس أداة لا يمكن التحكم بما سيفعلون بها. السناب شات، وغيره، من وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية، تتيح التلاعب بالصور عبر مؤثرات وأدوات للتعديل متاحة لمن يفتقدون خبرة التعامل مع Photoshop، أو حتى البرامج المستنسخة منه والمبسّطة. القدرة على إعادة بناء الماضي، وحتى إعادة صياغة الواقع، باتت متاحة للجميع. تقنيات الفيديو المتطورة لا تتيح فقط التلاعب بالصور الثابتة، بل أيضًا بمقاطع الفيديو، حتى بتنا نخسر كثيرًا من الاحترام لما تمثله الصورة، لا سيما حين يمارس هذا
“تقنيات الفيديو المتطورة لا تتيح فقط التلاعب بالصور الثابتة، بل أيضًا بمقاطع الفيديو”
التلاعب في مناطق النزاعات، فيقلب الحقائق كما يفعل الإعلام الرسمي العربي في غير مكان، أو يسيء للقضايا العادلة، حتى لو عن حسن نية مزعومة؛ هل تتذكرون معي مقطع الفيديو عن الطفل السوري الذي أنقذ أخته من رصاص القناص؟ حصد هذا الفيلم أكثر من ستة ملايين مشاهدة على يوتيوب، وأثار تعاطف العالم، الذي تفاجأ لاحقًا أن الفيلم تمثيلي، قام بدور البطولة فيه طفل وطفلة مالطيان، وتم تصويره في مالطا، وليس في مناطق النزاع في سورية، وذلك باعتراف مخرج الفيلم، النرويجي لارس كليفبرغ، نفسه، الذي حاول التبرير أن دوافع صانعي الفيلم “كانت شريفة، للفت نظر العالم لما يحدث في سورية”.
ديمقراطية التحايل
يحظى Photoshop بشعبية كبيرة، ليس فقط لأنه يسمح لنا بصريًا بتصفية الحسابات، ولكن أيضًا لأنه يلبي رغبتنا، ويعزز أحكامنا المسبقة الحالية. إنه يقوم بإضفاء الطابع الديمقراطي على القدرة على ارتكاب الاحتيال. بالطبع، لا يعد التدخل في Photoshop هو الأسلوب الوحيد المتاح لإنتاج صور مضللة، هناك العديد من البرامج والتقنيات التي لم تلحق بها بعد جهود عدد قليل من مبرمجي الكمبيوتر لإنشاء تقنيات اكتشاف رقمية للكشف عن عمليات
“لقي برنامج PowerPoint، وهو واحد من مجموعة برامج شركة Microsoft الشهيرة، الانتقادات منذ البداية، بوصفه أداة للسفسطة حين يمنحك لمعانًا مقنعًا من الأصالة تخفي وراءها الافتقار التام إلى الصدق”
التزوير والتلاعب. حتى المجلات كانت بشكل روتيني تقوم بتنظيف الصور الفوتوغرافية وتنقيحها قبل فترة طويلة من اختراع برنامج تحرير الصور، من ذلك مجلة Life، التي نشرت في الستينيات صورًا لمحمد علي كلاي ظهر فيها وهو يتدرب تحت الماء، مع أنه في الواقع، لم يكن يجيد السباحة.
ولكن يمكن أيضًا استخدام المعالجة الرقمية للصور لأغراض أكثر استنارة من إزالة عيوب النماذج، ومهاجمة المعارضين السياسيين. بعض الفنانين يستخدمون الفوتوشوب فقط لتحسين الصور التي يلتقطونها، وجعل بعض آخر التحرير الرقمي جزءًا أساسيًا من فنهم. التلاعب بالصورة يخدم أحيانًا رؤية فنية أصيلة، رؤية تعتمد على معايير جمالية ونقدية حقيقية. ومن المفارقات أن هذه المعايير بالذات هي التي تجازف الثقافة المكرسة للصورة بالتعرض لها.
المسافة بين الحياة كما نعيشها، والحياة كما يتم عرضها، تتقلص إلى مجرد ثانية؛ اعتاد الأطفال اليوم على تعقبات الأهل منذ ولادتهم بواسطة الكاميرات الرقمية ومسجلات الفيديو. وفي سن معينة، يتوقون إلى رؤية أدائهم المسجل على الفور. كانت الصور الفوتوغرافية وسيلة هامة لتذكر الحبيب والغائب، لكن في عصر الصورة الرقمية باتت الصورة وسيلة تمنح إمكانية أكبر لتعزيز الباطل والخداع، وإدامة التخيلات التي تبدو حقيقية لدرجة أننا لا نستطيع تمييز الفرق.
لقي برنامج PowerPoint، وهو واحد من مجموعة برامج شركة Microsoft الشهيرة، الانتقادات منذ البداية، بوصفه أداة للسفسطة حين يمنحك لمعانًا مقنعًا من الأصالة تخفي وراءها الافتقار التام إلى الصدق، علاوة على كونه يقتل المناقشة، ويسمح للمقدّمين الذين ليس لديهم الكثير ليقولوه للتستر على جهلهم بالصور والنقاط الوامضة؛ إذ تشتت الشرائح المتغيرة باستمرار الانتباه بسهولة عن مضمون عرض المتحدّث. حتى أن بعض الشركات منعت موظفيها من استخدام البرنامج، مثل شركة صن مايكرو سيستمز، ولا زال كثيرون يرون أنه يوفّر عرضًا مثقلًا بالصور، وضعيفًا من الناحية التحليلية.
صور من دون ذاكرة
يمكن لأي شخص لديه كاميرا رقمية، وجهاز كمبيوتر شخصي، إنتاج صور وتعديلها. ونتيجة لذلك، تم إضعاف قوة الصورة من ناحية، وتقويتها من ناحية أخرى. التكرار والانتشار يضعف من تأثير الصورة، أو لنقل إن تأثيرها لم يعد مستدامًا. فكيم فوك، الفيتنامية، موجودة بأكثر من
“الفييتنامية كيم فوك كوّنت أسرة، وهي تعيش اليوم في كندا، وقابلت في عام 1997 الطيار المسؤول عن إلقاء القنبلة على قريتها، فما كان منها سِوى مسامحته”
نسخة في كل مكان تقريبًا، من سورية والعراق وفلسطين واليمن، وغيرها شرقًا، إلى حي باودر هورن، في مدينة منيابولس في مينيسوتا، حيث قضى جورج فلويد خنقًا تحت ركبتي أحد رجال الشرطة الأميركية؛ صور الفلسطيني محمد الدرة، والسوري آلان الكردي، وفلويد الأميركي، لم توقف الحروب، ولا الممارسات العنصرية، ولم تعد للفلسطينيين حقوقهم، ولا للمهاجرين حضنًا دافئًا من الهجرة الشرعية. في ثقافتنا، أصبحت الصور، بعددها الهائل، وسهولة تكرارها، أقل سحرية، وأقل صدمة، وهو ما لم يكن معروفًا حتى وقت قريب إلى حد ما في تاريخ البشرية.
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” صورة من أشهر صور المجاعات حول العالم، وهي مجاعة السودان التي حدثت عام 1993، حيث تظهر الصورة طفلة سودانية تزحف بيأس شديد لتبحث عن طعام بما تبقى لها من قوة، والشمس تحرق جسدها حرقًا، وتستنزف طاقتها، وبالقرب منها يقف نسر ينتظر موتها القريب كي ينقض عليها ويأكلها. لم يكن حظّ كيفن كارتر المصور الأميركي الذي التقط الصورة بمثل حظّ أوت، بعد أن وُجّهت له انتقادات لاذعة، لأنه ظل واقفًا يراقب الطفلة تحتضر، ولم يحرك ساكنًا لمساعدتها، وبقي مصيرها مجهولًا. بعد شهور، أُصيب كارتر باكتئاب حاد، وانتحر. ربما تجنب بذلك عبء مواجهة مصير تلك الطفلة، أو حتى مواجهتها يومًا في حال بقيت على قيد الحياة. الفييتنامية فوك كوّنت أسرة، وهي تعيش اليوم في كندا، وقابلت في عام 1997 الطيار المسؤول عن إلقاء القنبلة على قريتها، فما كان منها سِوى مسامحته، لكن ثقافة الصورة قد لا تكون متسامحة معنا لهذه الدرجة.
ذهبت سوزان سونتاغ (1933 ـ 2004) إلى أن الصور تنطوي على مخاطر تقويض الأشياء الحقيقية، والتجارب الحقيقية، فهي “تصدم بقدر ما تظهر شيئًا جديدًا”، وحوّلت العالم “إلى متجر متعدد الأقسام، أو متحف بلا جدران”، مكان “يصبح فيه الناس عملاء، أو سُوّاح للواقع”. مع ذلك، ترى أن الصور وجدت لتبقى، ومن المرجح أن تزداد قوة مع مرور الوقت، مما يجعلنا جميعًا نتجوّل في الشوارع المليئة بالصور الرقمية، والصور المتحركة، سنستمتع بها، وستحكي لنا كثيرًا بطرق مشوقة ومثيرة. لكن، في الوقت نفسه، نكون قد فقدنا شيئًا عميقًا: القدرة على تنظيم الكلمات لوصف غموض الحياة، ومصادر أفكارنا، إمكانية أن ننقل للآخرين، ببراعة ودقّة، شعر الكلمة المكتوبة، واستخلاص المعنى الأعمق للتجربة المشتركة التي تتيحها اللغة. قد نصبح مجتمعًا يضم مليون صورة من دون ذاكرة كبيرة، مجتمعًا يتطلع في كل ثانية إلى تكرار فوري لما قام به للتو، لكنه لا يتحمل العمل الصعب المتمثل في نقل الثقافة من جيل إلى جيل.
خاتمة
حملت الصور مزيدًا من القوة، وأثارت مزيدًا من الخوف. وتطرح ثقافة الصورة تساؤلات عديدة؛ إذا كنا بالفعل ننتقل من عصر الكلمة المطبوعة إلى عصر تهيمن عليه الصورة، فما هو تأثير ذلك على الثقافة، بشكل عام، وعلى مؤسساتها؟ كيف سيبدو الفن والأدب والموسيقى في عصر الصورة؟ والأهم من ذلك، هل ما زال لدينا جَلدٌ كافٍ تجاه متطلبات الانضباط والصبر الخاصة بالأشياء الحقيقية، إذا أردنا فهم المعنى ووصفه بدقة؟ التكاليف المحتملة للانتقال من الكلمة المطبوعة إلى الصورة هائلة. قد نجد أنفسنا في عالم تتعثر فيه قدرتنا على التواصل، وفهمنا وقبولنا لما نراه مشكوكًا فيه، ورغبتنا في نقل الثقافة من جيل إلى الجيل التالي معرضة للخطر بشكل خطير. لقد قوضت التكنولوجيا إلى حد كبير قدرتنا على الثقة بما نراه، ومع ذلك، لم نتعامل بعد بشكل كاف مع آثار ذلك على مفاهيمنا عن الحقيقة.
إحالات متعلّقة:
1- an article for Susan Sontag, The Image World (1977) In: Traces Of The Real, November 7, 2009: https://bit.ly/3oscAY5
2- an article for Martha Rosler, Post-Documentary, Post-Photography (2001) in: Traces Of The Real, November 29, 2009: https://bit.ly/3iVdwTv
3-Christine Rosen, The Image Culture, The New Atlantis, Fall 2005: https://bit.ly/3cnHzCp
4- Do We Live in an Image Culture?, Prophetik Soul, January 8, 2019: https://bit.ly/2KWYfVW
5- Elizabeth Thoman, Rise of the Image Culture: Re-Imagining the American Dream, on CML : https://bit.ly/3iWUXi6
6- ERIN BLAKEMORE, How Photos Became a Weapon in Stalin’s Great Purge, APR 8, 2020: https://bit.ly/2MAOZY8
7- مخرج خدع العرب ووسائل الإعلام بطفل “سوري” خرافي أنقذ أخته من الرصاص، القدس العربي، 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014: https://bit.ly/3aazRsr
8- أكثر عشر صور تأثيرًا في العالم، تقرير في موقع جائزة سيدتي للإبداع والتميز على الرابط: https://bit.ly/3iSQZXD
9- أشهر صورة في التاريخ… أنهت حربًا، صحيفة البيان، 15 أيار/ مايو 2014: https://bit.ly/2YnmgZq
ضفة ثالثة