في الفاطمية والسفيانية السياسية/ يوسف معوّض
“إن الفاطمية، يجب أن تأخذ دورها!” كلام على المكشوف صدر عن المقدم محمد عمران وكأن الأقنعة سقطت واللعبة بانت على حقيقتها. كان ذلك، في أواخر سنة 1964 عندما احتدم الصراع بين جناحي البعث المتحكم بسوريا وتحديداً بين “اللجنة العسكرية” من جهة وأمين الحافظ رأس السلطة وقائد القوات المسلحة من جهة أخرى.
اللجنة العسكرية قوامها خمس ضباط بعثيين صدف أن تابعوا في زمن الوحدة دورات تدريبية في مصر: المقدم محمد عمران والرائدان صلاح جديد وأحمد المير والنقيبان حافظ الأسد وعبد الكريم الجندي. جميعهم، تجدر الاشارة، من المذاهب الفاطمية، ثلاثة علويين واسماعيليان. كان هؤلاء الضباط “مشتركين في غريزة قديمة، غريزة الكتمان والتقية التي تتصف بها مجتمعات الأقليات المضطهدة في الشرق الأوسط”. الملاحظة هذه لباتريك سيل في كتابه “حافظ الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”.
والكاتب هذا صديق عائلة الأسد المالكة سعيداً في دمشق، وقد كلف ببعض المهمات الخارجية لحساب الدولة السورية في مطلع هذا القرن نسبة إلى ما أولي من ثقة من قبل النظام وأهله. ورغم تفاني هذا الكاتب في إعطاء صورة ناصعة وفوق الشبهات لآل الأسد من ناحية التعصب المذهبي، لم يسعه التغاضي عن حقيقة الواقع الاجتماعي القائم، واقع ما كف أصحاب العلاقة يوماً عن محاولة كتمانه! فكيف بإخفاء صراع مذهبي يتأجج تحت الرماد، صراع بين مجموعات وتكتلات تكاد تشهر طائفيتها دون تستر عند اشتداد الأمور.
اما الديبلوماسي نيقولاوس فان دام Nikolaus Van Dam، فكان أكثر وضوحاً من باتريك سيل المذكور آنفاً، في كتابه “الصراع على السلطة في سوريا” وتحديداً في الفصلين الثالث والرابع تحت العنوانين التاليين: “الاستقطاب الطائفي في القوات المسلحة السورية بين السنّة والأقليات الدينية” و”تصفية الضباط الدروز ككتل منفصلة” إلخ. صرّح فان دام ودون مواربة ان تسلق الضباط الاقلاويين أعلى الهرم كان يعتمد على دعم ضباط ينتمون إلى جماعتهم المذهبية من علويين ودروز واسماعليين. مما جعل رفيق الحزب والدرب أمين الحافظ السنّي الملّة يتهمهم بـ”الاتصالات الجانبية” أي المذهبية حسب التسمية المتعارف عليها.
ومع أن الخلاف بلغ أوجه داخل القيادات البعثية إلا أن الثنائي العلوي صلاح جديد – حافظ الأسد كان يلتزم الكتمان، فالجميع ينتمي إلى حزب البعث والحزب علماني، أقله في الواجهة. وللتذكير فإن المادة 15 من دستور حزب البعث العربي الاشتراكي تنص على التالي: “الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة… وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والاقليمية”.
استقر الأمر لمصلحة حافظ الأسد في 1970 وأدخلت بعض التعديلات على هرمية السلطة دون أن تمس أرجحية العلويين في المفاصل الحساسة من عسكرية وحزبية وغيرها. فجاءت دراسة حنا بطاطو Social Roots of Syria’s Ruling Military Groups صيف 1981، تضع الإصبع على الجرح. فأشعلت جدلاً وغيظاً في صفوف الطائفة النصيريّة التي نالت حصة الأسد من مواقع النفوذ في ظل حكم البعث، وكان الدكتور بطاطو قد فنّد الموضوع واستفاض في إظهار المكانة المتعاظمة لأبناء طائفة لا تشكل سوى 12% من عداد الشعب السوري.
بالعودة إلى ما سبق وما أن أبعد كل من محمد عمران وأمين الحافظ عن مواقع السلطة حتى احتدم الخلاف بين ضابط علوي وضابط درزي، بين صلاح جديد وسليم حاطوم. انتهزت عندها الفرصة صحافة بيروت وراحت تنقل الأخبار وتذيعها على الملأ. ضاق حزب البعث ذرعاً بنشر الغسيل، وقامت سجالات بين جريدة “الثورة” الصادرة في دمشق وجريدة “الحياة” اللبنانية. كان هذا في سنة 1966، وما فتئت الصحيفة الأولى تتهم الثانية بالاصطياد في الماء العكر لاشعال الفتن المذهبية والقبلية بدافع من البريطانيين. وهذا الصراع المذهبي الذي كان يتخفى تحت ألف ستار وستار، كان لا بد من أن ينفجر صداماً بين مناضلي الصف الواحد في سعيهم لاقتناص الحكم. مما يفسر بعض ما نشهده اليوم!
سوريا، أهي دولة علوية؟
في أيام بني امية كانت الدولة أموية أو كذلك عرفت في كتب التاريخ، وفي عهد بني العباس كانت الدولة عباسية. فهل من دولة علوية في سورية في العقود الأربعة المنصرمة؟
الجواب عند الدكتور عزيز العظمة في مقال صدر له في جريدة “النهار” في أواخر نيسان 2011(*)، يقول فيه: “ما ذهبت أبداً إلى الرأي القائل بأن سوريا دولة علوية، كما لم أذهب في الماضي إلى الرأي القائل أن عراق صدام حسين كان دولةً سنيةً. إن سوريا دولة وطنية اختزلت إلى سلطة تستتبع شبكة من البيوتات والمصالح، وفي هذه التركيبة أولوية لسوريين ذوي أصول علوية. ولكنه ليس باستطاعتنا القول إن الطائفة العلوية كطائفة هي الحاكمة… وإن رأينا أفراداً علويين منتفعين من بنية السلطة بنسب أعلى من غيرهم في بعض المجالات، فإن هذا لا ينسحب على العلويين كعلويين، فإن أفراد الطائفة متباينون اجتماعياً، منهم النمرود ومنهم المسكين، وإن من استصفي منهم داخل شبكة الاستتباع الثائرة في سياق ما سماه ابن خلدون الانفراد بالمجد قد استثنى آخرين خصوصاً بعد تصفية نظام 23 شباط، وبعد تصفية شبكات رفعت الأسد”.
ويضيف الدكتور عزيز العظمة: “إن القول أن طائفة تحكم يستند إلى مفاهيم عامية لا سند لها في علم الاجتماع السياسي – ثم إنه لأمر مشهود أن الشبكة الاستتباعية للسلطة لا تقتصر على العلويين بل هي مشتملة أيضاً على سنة ومسيحيين وغيرهم”. فما هي إذاً مواصفات هذه الدولة التي حكمت سوريا تحت شعار “وحدة، حرية، اشتراكية”؟
يقول ميشال سورا Michel Seurat ان سوريا هي دولة – الجماعة État – Jamaa مع كل ما يمثل ذلك من وحدات وتكتلات متحالفة ومتقلّبة ومتناحرة في كنف الحكم. يتحكم باللعبة الدائرة مبدأ العنف وتوزيع المغانم وضروب النكث بالعهد والتوازن الهش والاضطرابات. لكن صدف أن تأمن في ظل حافظ الأسد جو من الاستقرار والاستمرارية في النظام، فكان الاستئثار بالسلطة لمصلحة فريق ضيّق. وكان له الانفراد بالمجد، وهذا ما برحت تشتكي منه الأكثرية السنية، مما أدّى إلى تنامي الشعور الطائفي بين فئات المجتمع المنصهر عنوة تحت راية العروبة والاشتراكية.
فهل هناك من فاطمية سياسية مسؤولة عن ما يدور في سوريا كما كانت هناك مارونية سياسية حمّلناها بالنتيجة وزر الحرب الأهلية في لبنان؟
444 هجرية
جاء في كتاب محمد علي مقلد “الشيعية السياسية” أن عقد المشاريع المذهبية في لبنان قد اكتمل مع مشروع الشيعية السياسية. “المارونية السياسية كانت البداية، منها انطلق لبنان الحديث، وعليها تأسست أسباب الصراعات الأهلية التي بلغت ذروتها في انفجار حرب دموية مدمرة في عام 1975”. يعرف الكاتب المذكور عن الحقبة قائلاً: “الشيعية السياسية هي المشروع المذهبي الثالث، أما الثاني فهو مشروع السنّية السياسية التي توارت خلف اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينية”.
أصحيح ان المذهبية السياسية لم تنشأ إلا مع قيام المتصرفية ولبنان الكبير، أي مع تبلور الايديولوجية المارونية؟ المسألة فيها نظر! انما الغبن المذهبي الذي طال شرائح واسعة من “الرافضة” في المجتمع العربي لا يعود إلى البارحة ولا يقتصر على جبل لبنان ولا يُختزل بتاريخه الحديث أو المعاصر! هنال احساس بالحرمان لم يعالج قط وأكثر من دعوة للانقلاب على الوضع القائم منذ نشأة الدولة الاسلامية. كنا على مقاعد المدرسة نردد أبياتاً للشريف الرضي يطالب فيها باستعادة الخلافة لمصلحة أهل البيت: وكانت صرخته مدوية “ردوا تراث محمد، ردوا”. ناهيك عن سنة 444 هجرية التي يقول فيها ابن الأثير: “حدثت فتنة بين السنّة والشيعة في بغداد، وامتنع الضبط، وانتشر العيّارون، وتسلطوا وجبوا الأسواق، وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال، وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق” وغيرهم من “الشّطار والعيّارين والدعّار والزعار والطرّار” وغيرهم من اللصوص وقطاع الطرق الذين راحوا يسلبون الناس بحجة أنهم “يأخذون حقهم في الزكاة”. وهذه الأمثال غيض من فيض!
أما اليوم وبعد غزو العراق أميركياً، صار واضحاً ما لحق بأهل السنّة والجماعة في بلاد ما بين النهرين من تهميش. حرموا المشاركة الحقيقية في القرار السياسي على الرغم من وجود ممثلين لهم في الحكومة. وهم يشكون اليوم من مظاهر تكرس “الحالة الشيعية” في الشوارع والدوائر والمؤسسات الرسمية في بغداد عبر تعليق صور رموز الطائفة المنتصرة والملصقات الخاصة بمناسباتها الدينية، ناهيك عن الاعتقالات التي تطال أبناء ونساء الطرف الآخر السنّي الذي “تبنّى” تسمية “الطائفة المظلومة”. ولقد حذرت وزارة الخارجية السعودية العراق من التطرف المذهبي بعد احتجاجات السنّة ضد الحكومة المركزية.
ماذا حلّ بالعروبة الجامعة؟ لا بل أين صارت العرب اليوم؟ ألم ينعت الأخضر الابراهيمي منذ حوالى سنة خطط الرئيس السوري بشّار الأسد بالطائفية. في المقلب الآخر نجد بعض الغلاة يحذرون من خطر انقلاب عسكري يأتي بقائد سوري عميل لأميركا وإسرائيل لقبه السفياني! وكأننا ما زلنا نعيش فصول صراعات مستعرة منذ فجر الإسلام على حد قول أبو العلاء المعرّي ” واسم الحرب هند وزينب”.
مجرّد مقاربة …
مع اندلاع الحرب اللبنانية صدر كتيب تحت عنوان “المارونية السياسية، سيرة ذاتية”. وجاء كناية عن مراجعة اسلوب حكم الموارنة في لبنان وكان السؤال: “فماذا يفيد التوغل أكثر في العقل الماروني السياسي ومؤسساته”؟ توغل الكتيب فضح محوراً عقائدياً وفكرياً هو فكرة الكيان اللبناني المقدس في ذهنية الماروني سياسياً، و”الكيانية هي نزعة استقلالية ذات حساسية خاصة تجاه العرب وتخوف على الذات من محيط بشري ضخم يعتنق ديناً آخر…”. أليس هناك من أوجه شبه بين الفاطمية السياسية والمارونية السياسية أقله من جهة الاحساس بالغبن التاريخي وعلى مستوى الحذر من المحيط الأوسع مذهبياً؟
لنسأل كمال صليبي الذي راجع تجربة الحكم الماروني في أكثر من كتاب ومحاضرة. وهو الذي قال إن الموارنة فسدوا وأفسدوا إلا انهم لم يظلموا. طبعاً هذا الكلام لا ينطبق عليهم عندما تمكنت ميليشياتهم من الحكم على مساحة ضيّقة من الأرض. أما أيام الجمهورية الأولى حين كانت لهم صولات وجولات لم يعتمدوا القهر والتعذيب أداة للحكم. بل أسسوا لفوضى اقتصادية أمنت ازدهاراً واكبته حرية في التعبير مستهجنة في الشرق العربي! وربما هذا ما كان يتوق اللبناني إليه خلافاً لخطابات البعض والشعارات المرفوعة. أما سوريا فكانت على نقيض ذلك مستعدة للتضحية من أجل تأمين دور يحسب له حساب في خضم الأحداث. بقيت مستنفرة منذ عهد الاستقلال ومنذ ضياع فلسطين مطالبة بالعز الغابر. يقول عمر أبو ريشة مخاطباً “عروس المجد” ان شعب سوريا كان يعلم أن مهر العزة غالٍ فلم يرخص المهر ولم يحتسب.
في الأمس لم تكن جماهير دمشق تطالب برغد العيش بقدر ما طالبت بالوحدة، مما دفعها إلى تسليم أمرها لعبد الناصر بشكل متهور وكانت الحصيلة الانفصال. همها كان استعادة الأمجاد الغابرة للتغني “بالمروءات التي عرفتها في فتاها العربي”. فظهر حافظ الأسد، الذي احتل لبنان واستباح المنظمات الفلسطينية وهمّش الأردن ودجن دول النفط. فكان مرهوب الجانب شعاره الممانعة في وجه كل مغتصب لحقوق العرب. فارتاحت البلاد السورية وتوجته قائداً خالداً ورضيت قانعة بطبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.
وها هي تنقلب على نهجه وعلى سلالته وعلى قومه! تلبننت سوريا بالنتيجة. فهي تأبى مقايضة العنفوان في الخارج بالقهر في الداخل. انما المفارقة هي هي: فدمشق الأموية لم تشهد إنبعاثاً مثل الذي شهدته في ظل الفاطمية السياسية.
محام واستاذ جامعي
– عزيز العظمة – الانتفاضة العربية في لحظتها السورية (2) (قضايا “النهار” 2011/5/1)
———————–
الانتفاضات العربيّة في لحظتها السوريّة [2] / عزيز العظمة
نهجت السلطة في سوريا نهج محاولة افراغ الازمة من طابعها السياسي الاكيد باستمالة ما يعرف بوجهاء القرى والمدن. وهؤلاء مدعوون لتقديم التماسات الى السلطة في التفاف واضح عن مجال السياسة الى مجال الاستتباع والصلح العشائري.
ما يكمل هذا النهج هو الالتفاف على الرأي العام المسيس والحداثي، المنظم في بعض مجالاته، مما يمعن في محاولة نزع الصفة السياسية – وهو نفي سياسي بامتياز- من قبل اللاعب السياسي الأوحد الذي هو السلطة التي ترى الجمهور هلاماً أو أفراداً، والتي لا ترى من عناصر تماسكه، ولا تريد أن ترى من عناصر تماسكه، إلا أولياءه: كبار العشائر والأسر. رأينا ذلك في اللقاءات مع أعيان دوما ودرعا وغيرهما، ورأيناه من الاجتماعات مع أعيان السوريين ذوي الأصول الكردية في الجزيرة (برعاية، عشائرية هي الأخرى، وبتدبير من جلال طالباني الذي مازال يترأس حزباً هو، كالبعث، كانت له في سابق الدهر والأوان تطلعات تقدمية). وإن السلطة لا شك ترى في الآغاخان ضامناً للإسماعيليين، وأن المسيحيين بخير (على الرغم من محاولاتها تقديم الجنرال ميشال عون على أنه زعيم المسيحين في المشرق)، وقد يكون ما هي فاعلة مشجعاً على بوادر ما نراه من بيانات لفئات كالتنظيم الآرامي الديموقراطي الذي يتكلم على الشعب الآرامي باعتباره شعبا مسيحيا والذي يشدد على التعددية القومية والثقافية والدينية في سوريا- ولعل في الكلام على شعب آرامي مسيحي أو فينيقي مسيحي شيء من استلهام مزاوجة العروبة بالإسلام.
شدد على هذه الامور أيضا بيان موقع منذ أسبوعين من قبل بعض المثقفين السوريين الذين كنا نتمنى عليهم إيثار قدر أكبر من الحكمة السياسية بإزاء وضع مفتوح على احتمالات غير محمودة، احتمالات يشي بها أيضا ما تقوله فئات من الأكراد السوريين الذين شكلوا منذ زمن طويل جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي لسوريا، والذين جنح البعض منهم في السنين الأخيرة إلى إيثار النسب على الحسب، وأرومة الدم على الواقع المعاش، والاعتبار الكردي على الاعتبار السوري.
ما دمنا في سياق الكلام حول الأعراق والعشائر والطوائف والتخندق فيها واستتباعها ، ينبغي عليّ القول بأنني ما ذهبت أبداً إلى الرأي القائل بأن سورية دولة علوية – كما لم اذهب في الماضي إلى الرأي القائل أن عراق صدام حسين كان دولةً سنيةً. إن سوريا دولة وطنية اختزلت إلى سلطة تستتبع شبكة من البيوتات والمصالح، وفي هذه التركيبة أولوية لسوريين ذوي أصول علوية. ولكنه ليس باستطاعتنا القول إن الطائفة العلوية كطائفة هي الحاكمة. تمصّر علويو سوريا كغيرهم في العقود الأخيرة، واندمجوا في النسيج المديني إلى حد كبير، وتزاوجوا مع الدمشقيين والحلبيين والحماصنة وأنتجوا مثقفين مثل سعد الله ونوس ولؤي حسين. وإن رأينا أفرادا علويين منتفعين من بنية السلطة بنسب أعلى من غيرهم في بعض المجالات، فإن هذا لا ينسحب على العلويين كعلويين، فإن أفراد الطائفة متباينون اجتماعياً، منهم النمرود ومنهم المسكين، وإن من استصفي منهم داخل شبكة الاستتباع الثائرة في سياق ما سماه ابن خلدون الانفراد بالمجد قد استثنى آخرين خصوصا بعد تصفية نظام ٢۳ شباط، وبعد تصفية شبكات رفعت الأسد.
إن القول أن طائفة تحكم يستند إلى مفاهيم عامية لا سند لها في علم الاجتماع السياسي- ثم إنه لأمر مشهود أن الشبكة الاستتباعية للسلطة لا تقتصر على العلويين بل هي مشتملة أيضاً على سنة ومسيحيين وغيرهم. ولكن على الرغم من ذلك، فإن الوضع السوري يشكو من تنامي الشعور الطائفي لدى كل الفئات، وهذا شأن يعود إلى الاختناق وإلى الاستئثار وانسداد الأفق والتفجر الذي نراه – وكل ذلك من صنع السلطة – وهو عائد أيضا لأسباب تتعلق بتحول الجغرافيا البشرية لحواضر سورية كثيرة لعل أهمها مدن الساحل وبعض أرياف حمص.
وعلى ذلك، فإذا كان للسلطة السورية استباق ما قد يستفحل، عليها أن تستوعب الطابع السياسي للوضع بدلا من استسهال الاعتبار الأهلي. إن الانفجارات التي نشهد – على الفقر والتحوّط النسبيين لمحتواها المعلن – لا تدل على أن النعرات الطائفية تشكل إطارها الناظم، بل هي مشددة على وحدة الجسم السياسي المرجو. بيد أن هذا لا يعني انه من المحال، ان سارت الامور الى استفحال، ان تخلق سياسات السلطة وضعا تتحول فيه التمايزات والضغائن الطائفية الى مسار سياسي مدمر يعيد تشكيل العلويين على انهم كتلة سياسية مصطفة. ولقد سبق السوريون الموجودون في الشوارع السلطة إلى إعادة الاتصال بالزمنين العربي والعالمي، ولا أعتقد أنه سيسمح للسلطة بالاستمرار في الاعتقاد أنها خارج هذا الجو وخارج الزمن. ولكن الإمعان في التخندق وفي استدرار الحلول المستسهلة القائمة على سبل الاستتباع الاجتماعي والنفعي بدلاً من سبيل السياسة فما من أمره إلا أن يحوّل الوسطيين إلى مناوئين، وتحويل الاختناق إلى تفجر وإلى مزاج عامي انتقامي متهور يرى أن السياسة تُصْنَع من الشارع وليس في مجال السياسة. وفي هذا ما يبعث على القلق البالغ. ليس إلغاء حالة الطوارئ بنفسه شأناً كافياً للإصلاح، إن لم يقترن أولاً وبسرعة بإعادة الاعتبار للجهاز القضائي الذي اهترأ، وجعله قوام المرحلة المقبلة.
إذا كان الوضع السوري على هذا التعقيد، ينبغي التنبه إلى أمرين أساسيين. يتناول الأمر الأول التفاؤل الساذج: التفاؤل الرومانسي الغنائي الذي يجد في هدير الجماهير علامة على حتمية خلاص له التمام. أو يجد في هبّات وانتفاضات متعددة ومتباينة المكونات والأهداف والظروف “ثورةً عربيةً”، أو يجد في الديموقراطية نظاما خلاصياً وطلسماً شافياً ومهرجاناً وبهجةً مستديمةً. ولا يخفى أن هذا المزاج ينظر لبهجة الديموقراطية وجنتها على أنها أيضاً تعدّد مُرسل للأفراد والثقافات والأعراق والطوائف على نحو رسمته بكثافة المنظمات غير الحكومية والهيئات الدولية ومدارس إدارة الأعمال وعضلاتية حروب جورج بوش ويوتوبيا الإنترنت وغنائية العنصر الشبابي. ولكنه مزاج هو – بدوره- نافٍ للسياسة ومنطوٍ على قدر كبير من النظرة العدمية تجاه الدولة: الدولة التي – على علاّتها وترهلها واستتباعها للسلطة- تبقى الجامع الأساسي للمواطنة والمواطنين بغض النظر عن الأصول والدم، وإنجازاً تاريخياً غير قابل للمفاوضة.
أما الأمر الثاني، فهو الإسلام السياسي. ليس خافياً على أحد أن السيناريو المثالي لحل الأزمات العربية لدى الولايات المتحدة وغيرها هو تحالف عسكري- إسلامي ضابط للأمن والمجتمع معاً – وهو ترتيب تقوم بتدبيره الآن الحكومة التركية الاخوانية بتعاون مع قطر – مع اضطراب بيّنٍ تالياً للهجوم على برجي نيويورك، اضطراب أذكاه الإسلام السياسي بصفته فزّاعة حملتها الأنظمة العربية. والحال أن التخوف ليس مقتصراً على القوى الأجنبية، بل هو متوطن لدينا دولاً وأفراداً. إن تمدد الإسلام السياسي والتدين اليومي لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية – وهو أمر غير مقتصر على المسلمين – شأنٌ آيلٌ عن انسداد السبل وتقطع أسباب حماية النفس والمال والكرامة، وإزالة السياسة من المجال العام، وإضعاف وسائل الحماية الفردية والاجتماعية في مواجهة سلطات عاتية، جائعة العين على الدوام، تلك السبل التي وفرتها في ما مضى الأحزاب والنقابات والمنظمات الأهلية. وإن عودة الإسلام السياسي إلى البروز، وفي مصر على سبيل المثال (وفي تونس إلى درجة أقل، رغم أن المجتمع التونسي، بجهازه السياسي القديم الذي كان بن علي دخيلاً عليه، وبحراكه المدني المنظم والأقل تنظيماً، يشي بتطور اجتماعي غير قابل للرد وفّرته الهندسة الاجتماعية البورقيبية)، ركوباً على موجات الانتفاضات التي تمت، هو المقابل السياسي لانسداد الآفاق السياسية الذي ترتجي السلطة الاستناد إليه.
أما في سوريا، فإن تأسلم قطاعات كبيرة من الشعب بسبب انسداد الآفاق الذي سبق الكلام عليه، وإفقار الثقافة، يشي بمسار معقّد، ولو أننا على الاعتقاد الجازم بخطأ النظرة العامية المحببة إلى كثير من المثقفين، والذاهبة إلى أن كل مسلمٍ، بالسليقة، إسلامي الهوى في السياسة. فالمسلم مسلم، أما الإسلامي فهو ملتزم إما بالإسلام السياسي أو بمكملاته المجتمعية من أسلمة المجال العام والأخلاق والسلوكيات الفردية والنظام القضائي بل والدولة.
يؤثر الكثير منّا، باسم بهجة الديموقراطية، عدم التنبه إلى هذا الأمر، وتأجيل الحديث فيه باسم الكتلة التاريخية الجامعة وما يضارعها من العبارات – ومن هذا عدم مساءلة الناس توقيت التظاهر بمواقيت الصلاة، رغم أن أيام الجمعة مناسبة للتظاهر في أي وقت: ولسنا على اقتناع بأن التدين الاستعراضي ناظم مناسب للحراك السياسي. علينا النظر بشيء من الحصافة والإحكام إلى ما هو قد بدأ بالتفتح من إمكانيات، ليست كلها بهيجةً. إن محاولة الاستئثار بنتائج تفتح المزاج الديموقراطي من قبل قوى معادية للديموقراطية إيديولوجياً وثقافياً واجتماعياً، متعددة الألسن، مطبوعة على المراوغة – وهي محاولة لا بد أنها آتية، وذلك حكم على النيات، إذ ما من موقف سياسي عاقل لا ينطوي على حكمٍ على النيات- أمر ينبغي التنبه إليه الآن في سياق التركيبات المتنامية البالغة التعقيد، وذلك درءاً لتبدد ما ابتدأ بالحصول، ودرءاً لما ينطوي عليه طموح الإسلام السياسي من محاولة لمعاودة إغلاق التاريخ علينا. ليس مستبعداً أن تكون منظمات أصولية مسلّحة ناشطة في تضاعيف التظاهرات القائمة في سوريا، ولكن هذه المنظمات ليست تلك التي يُخشى منها بنيوياً. وإن صح هذا، فإنه ليس مؤشراً إيجابياً على كفاءة المقدرة الأمنية لدولة الأمن بما يتجاوز اطلاق النار على الجنازات والتظاهرات ومحاصرة المدن.
وأخيراً، علينا التنبه إلى أن الحرية ليست قيمة مجردة وليست هي فوضى وتَنَادي الأصوات المتعددة البهيجة التعدّد، ولا قيمة تاريخية لها في هذا الظرف بالذات إلا تطلعها نحو التقدم والترقي. أما إذا فهمت على أنها الفرصة لاستصلاح مهملات التاريخ، وهي هكذا تفهم من قبل الإسلام السياسي الذي ما فتئ يحاول إغراقنا في “الأصالة” إنقاذاً لنا من مفاتن التقدم وموبقاته، فإنها لا تعدو أن تصبح إلا المكمل للخروج عن التاريخ الذي رعته السلطات، والذي ترعاه كما يبدو، السلطة في سوريا في توسلها الأعيان والعشائر والمشايخ، والذي – أخيراً- قد لا تتنبه إليه بعض فئات الخارجين على السلطة والقائمين ضدها باسم حرية مرسلة لا رابط لها مع ما هو ممكن، وما هو متاح، وما قد يقوم باسمها ويراوغها على السيادة ويراودها على سيادته.
إذا كان للوضع في سوريا أن يستقر على بدايات عملية سياسية جديّة، تعيد الاعتبار للجسم السياسي للسوريين، بدلاً من أن يفضي إلى تفجرٍ أو إلى هدوءٍ طاغٍ يمهد لخرابٍ مؤجلٍ، فإن ذلك سيكون وضعاً يسمح ببروز سيّدات ورجال دولةٍ وقادةٍ من عيارٍ محترم للاجتياز بالبلد إلى السلامة استناداً إلى تبصر المصلحة الوطنية العامة بدلاً من الانغلاق على اللحظة الراهنة بمكونيها الأساسيين، الارتهان للاعتبارات الآنية للسلطة من جهة، والتغني بالهدير وكأنه هديل من جهة ثانية. وفي جميع الأحوال، فإن القيادة من هذا العيار ستكون قيادة من الأمام: أما القيادة من الخلف أي الارتهان لما هو راهن من مزاج السلطة وعاداتها أو مزاج الجمهور، فإنه لن يؤدي الا إلى طريقٍ مسدودٍ ينتج عناصر متفجرةً متعاظمة المدى والصدى.
(باحث سوري)
————————
انتفاضة شعبيّة (لا شعبويّة) ضدّ السّلطة (لا الدولة)/ بدرخان علي
(مناقشة مع د. عزيز العظمة حول الانتفاضة السورية والعلمانية والحركة الاحتجاجية)
المثقّف النخبويّ العربيّ والسوريّ في ضائقة شديدة أثناء الأيام العاصفة هذه. فالأنظمة العربيّة التقدميّة والعلمانيّة التي يصطفّ وراءها أو إلى جانبها مثقّفون عرب نخبويّون، آيلة إلى السقوط الواحد تلو الآخر. وتبيّن أنّ العلمانيّة التي من المفروض أن تكون حصن الأنظمة هذه ـ كما جرى التصويرـ لم تسعف الأنظمة العربية التسلطيّة ولم تشفع لها في لحظتها الحرجة. وهذه النظريّة أُسقطت على يد جموع المواطنين المنحدرين من بيئات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة متنوّعة، لا من “الإسلاميّين” وحسب.
لكن المثقف العلماني المفتون بقدرة هذه السلطات الغاشمة على إسكات الإسلامييّن لبرهة من الزمان في حرج شديد وبعضهم يعاني من قلق وحزن بليغين. هل الأمر خطأ في الرهانات وحسب أم أنّه اصطفاف سياسيّ وتموضعٌ قيميّ؟
ينبغي أن نسجّل للدكتور عزيز العظمة جرأته الفائقة في توجيه بعض النقد للنظام السوري هذه الأيام، كمفكّر سوريّ تجنّب هذا الموقع طويلاً، لاعتبارات يعيدها هو إلى بُعد شخصيّته عن السياسة والعمل السياسيّ، وانهماكه في قضايا الفكر والمعرفة. لكن ينبغي أن نضيف هنا أنّ الرجل لم يتجنّب الخوض في سجالات سياسية كما قد يُفهم. بل أنّ “القضية المركزيّة” في فكره وتوجّهه لا تغيب عنها نبرة السجال السياسيّ المباشر أو غير المباشر. أعني قضية العلمانيّة وتحليله لقضايا التراث وحضوره في الخطاب الثقافي والسياسيّ العربيّ، وما يتفرّع من ذلك إلى الممارسة السياسيّة العربيّة. لكن هذا الخوض في مسائل ذات طابع سياسيّ يعاني من ترفّع كبير لدى العظمة على الوقائع والحيثيّات الحافّة بالمسائل ذات الصلة، أو هكذا يوحي.
البعد عن السياسة الواقعيّة ـ لا نقول اليوميّة بالضرورة ـ ليست فضيلة علميّة أو أخلاقيّة وموضع اعتزاز على الدوام كما يتظاهر بعض المفكّرين العرب، ومنهم الدكتور العظمة وهو صاحب كتب هامة وجديرة بالقراءة رغم مرور أعوام على صدورها، وعلى رأسها كتابه القيّم “العلمانيّة من منظور مختلف”. ذلك أنّ المعرفة الخالصة والنقيّة الخالية من “الشوائب” الواقعيّة غير موجودة. “السياسة في كلّ مكان” قال الراحل إدوار سعيد.
على أيّة حال ثمّة تطورٌ محمود نسبيّ في مسيرة الرجل الذي لم يكتف بالصمت على غياب الحريات الشخصيّة والعامّة وانتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة في بلده، بل اقتصرت قراءته النقديّة للواقع السياسيّ السوريّ على توجيه أقسى النقد والتقريع “المعرفيّ” لثلّة من المثقّفين والنشطاء السوريين الذين تداعوا لتشكيل بعض المنتديات غير المرخّصة (في منازلهم) وبعض الجمعيات الحقوقيّة والسياسيّة وإصدار بعض النداءات والبيانات مع ما كابدوه من قمع سافر، أودى بالكثير منهم إلى السجون جرّاء كلمة أو موقف أو مقال. (مقالته في الحياة بالاشتراك مع فيصل دراج إبّان نشاطات المثقفين السوريين في ربيع دمشق ودعواتهم لإعادة السياسة إلى المجتمع، والمقالة تتجنب أية إشارة للقمع السلطويّ كما تثقل كاهل المثقفين بقضايا كبيرة جلّها مفتعل).
غير أنّ في التنظير عن بعد مجازفة أخرى كذلك. ليست أخلاقية أو سياسيّة وحسب، بل معرفيّة وفكريّة هذه المرّة. إذ تختزل المسائل السياسيّة كلّها بصراعات فكريّة من قبيل “علمانيّين وغير علمانييّن”. أو التثبّت عند فكرة واحدة “دولة ومن يسعى إلى هدم الدولة”. وهذه الفكرة يعاني منها السيد العظمة عميقاً وتكاد تكون محور مساجلاته ومداخلاته في الشأن السياسيّ، والسوري تحديداً. فضلاً عن تحفّظ ثابت لديه على “الحرّيّة” شعاراً ومطلباً، وكذلك مقتاً خاصاً لـ”الشعبويّة” (التي يحبّ أنّ يطلقها على منقوديه). الناظم الأساسي وراء رؤيته يكمن في قراءة الواقع السياسيّ والاجتماعيّ السوريّ من زاوية: صراع العلمانية مع الحركات الإسلامية، والإسلاميين عموماً.
للأستاذ عزيز العظمة افتنان خاص بـ”الدولة” العربيّة (أيّا تكن كما يحبّ أن يضيف ويشرح دوماً) حيث هي الفاعل التاريخيّ الذي “اخترق” المجتمع وأعاد تشكيله على صورة وطنيّة تامّة الأركان، وهي مناط المواطنة والجامع الأساسي للمواطنين. لا يجد العظمة ما ينتقدها عليه أبداً. لا يهمّ هنا آليات انبثاق السلطة واستمرارها. لا تهمّ كيفيّة ممارسة السلطة أو القوانين الناظمة للدولة كي تستحقّ اسمها. لا يهمّ الالتزام بالدستور الذي وضعه الحاكم على هواه. والأهمّ هو مماهاته ـ وهو المفكّر الضليع والمدقّق والناقد ـ بين السلطة والدولة (وإن ميّز مؤخراً) حين يتّهم أيّ معارض سوريّ ـ لم يفرّق يوماً ما بين تياراتهم ـ بتفتيت الدولة حين يطالب هذا الناشط أو ذاك المثقف بدولة القانون والكفّ عن الاعتقال الكيفيّ مثلاً! ومادامت الدولة هذه تقمع الحركات الإسلاميّة فهي تستحقّ ثناءً إضافياً. كما في ثناءه على قمع المملكة الأردنية للإخوان المسلمين (في كتابه””دنيا الدين في حاضر العرب”)، وابتهاجه الذي لم يخفيه بقمع حركة الإخوان المسلمين في سوريا (في حوار له مع المثقف السوري ياسين الحاج صالح في موقع الأوان).
إنها الثنائية التي تستحكم في تفكير السيد العظمة: كل ما هو ضد الحركات الإسلامية جيّد، وعلمانيّ، ودولتيّ (من الدولة). وفي ذلك تسطيح كبير للسياسة وحيثيات الصراع السياسيّ. ففي سورية مثلاً: كيف يمكن الاكتفاء بمقولة إنّ الدولة حققت إنجازاً تاريخياً، لوجه العلمانية والتقدّم والتاريخانيّة و”الدولة”، في صراع السلطة والإخوان المسلمين في الثمانينات حين ردّت السلطة على عنف جناح الطليعة المقاتلة الطائفيّة لحركة الإخوان المسلمين بعنف وحشيّ وانتقاميّ للمدن والبشر وقتلت عشرات الألوف من المواطنين شيبة وشباباً، أطفالاً وشيوخاً، وسجنت مئات الألوف وقصفت السجناء في سجن تدمر بوحشيّة قلّ نظيرها؟ قطعاً لا. ثمة في ملف صراع السلطة وحركة الإخوان المسلمين العديد من العوامل التي تقع تماماً خارج محور الصراع العلمانيّ ـ غير العلمانيّ، وخارج محور الصراع بين أنصار الدولة ـ وأنصار هدمها. وتقع تحديداً على محور غياب الدولة الجامعة المتعالية على الحساسيات الأهليّة والطائفيّة، التي يتغنّى بها السيد العظمة ويطالب الجميع بتبجيلها حتى وهي على هذه الصورة من العدائيّة واللاشرعيّة الدستوريّة، ومنخرطة في الصراع الأهليّ كطرف فيه لا متعالٍ عليه. ولم تزد السلطة الحاكمة سوى في شحن المشاعر الدينيّة والطائفيّة وزيادة الانقسام الوطنيّ. فضلاً عن ملف كارثيّ على الصعيد الحقوقيّ والإنسانيّ في حاضر ومستقبل سوريا. ودفعت سورية عقوداً من عمرها وحياة أبناءها بالمعنى البيولوجيّ والمعنويّ بعد انتصار السلطة الساحق على المجتمع بحجة الصراع مع الرجعيّة والعملاء، عقود من استعباد المواطنين ونزع حرياتهم وكرامتهم، واستتباعهم كخدم ورعايا أذلاّء، ترافقاً مع اضمحلال “الدولة” لصالح نواة سلطويّة بدأت تضيق باضطراد، وتتحوّل الدولة إلى ملك شخصيّ عضوض أكثر فأكثر.
الدولتيّة هذه تبدو في فكر العظمة ميتافيزيقاً معلّقاً: “الدولة التي ـ على علاّتها وترهّلها واستتباعها للسلطة ـ تبقى الجامع الأساسي للمواطنة والمواطنين بغض النظر عن الأصول والدم، وإنجازاً تاريخياً غير قابل للمفاوضة”. نتساءل لماذا؟ هل بهذا التعميم والإطلاق يجري الكلام عن كيانات سياسية؟ أليست هناك شروط وتعيينات للدول والسلطات؟ هل دولة صدام حسين كانت مثل دولة السويد مثلاً؟ هل دولة القذافي وحافظ الأسد وابنه مثل ألمانيا وسويسرا؟ وهل أشباه الدول القائمة لدينا هي حقاً الجامع الأساسي للمواطنة والمواطنين..؟ يحتاج المرء لأن يفكر في دول أخرى حتى يقتنع بأحكام العظمة عن الدولة العربية، والسوريّة تحديداً.
هي دولة وحسب. ولهذا السبب فإن أيّ قيام في وجه هذه الدولة الموقّرة عبر كتابة مقال أو عقد حلقة نقاش أو احتجاج جماهيريّ، كما يجري اليوم، تعتبر دعوة لتخريب الدولة!! المثير للغرابة أنّ دعوات المثقّفين السوريين السلميّة جداً والواقعيّة تماماً قوبلت باستهجان وسخرية من قبل السيد العظمة ولنفس السبب والحجة: الحرص على الدولة؟ لا ندري أيّ اعتداء على الدولة السورية تأتّى من مطالبة السلطات بالرضوخ للقوانين والدستور السوري نفسه ـ على علاّته ـ والإفراج عن معتقلي الرأي والسماح بصحافة حرّة.
في بضع مواقع لا سيما في كتابه “دنيا الدين في حاضر العرب”، هناك، على سبيل المثال، كلامٌ عن عراق صدّام حسين، فتستوقفه عبارة عابرة لمعارض عراقيّ مغمور تفيد ضرورة كون الدولة صورة عن المجتمع. لكن كلّ الطغيان والإرهاب السلطويّ والحطام المجتمعيّ لم يعني للسيد العظمة أي شيء، حتّى من منظور الحرص على “الدولة” التي يبجّلها مفكّرنا ولو بنيت على أنقاض مجتمعها وأشلاء “المواطنين” الرعيّة؟ كيف يستقيم الأمر فكريّاً وسياسيّاً، كي لا نقول أخلاقياً، ونتّهم بالسذاجة والبساطة من قبل الأستاذ العظمة؟
عند العظمة فتوى شبه ثابتة بهذا الخصوص: أيّ نقد للدولة العربية الراهنة (وهي في الواقع “شبه دولة” بتعبير ياسين الحافظ، أو أقل من ذلك، كي لا نقول مع برهان غليون أنها “دولة ضد الأمة”) التي ابتلعت من قبل السلطة الشموليّة وأفضت إلى نتائج كارثية على صعيد الدولة أولاً والمجتمع تالياً، يصنف في خانة “النيل من هيبة الدولة”، وفق لغته العالِمة المتعالِمة؟ (التهمة الأخيرة تطلقها محاكم النظام السوري اللاشرعية الخارجة عن الدستور السوري نفسه ـ على علاّته ـ تطلقها على المعارضين وأصحاب الرأي وتضيف إليها تهم أخرى من قبيل “وهن نفسية الأمة”).
في الانتفاضة السورية الرّاهنة:
في مداخلتين له حول الانتفاضة السورية (“الحراك الجماهيري وتأزّم الحسّ السياسيّ” الجمعة 9 أيلول (سبتمبر) 2011، “الانتفاضات العربيّة في لحظتها السوريّة” الجمعة 22 نيسان (أبريل) 2011، موقع الأوان الالكتروني) يقدم الأستاذ عزيز العظمة رؤيته ـ المتوقّعة ـ إلى الحراك الجماهيريّ في سوريا. وهي رؤية موسومة بالكثير من التحفّظ والارتياب على حصيلة الحراك والانتفاضة. لكن الرؤية هذه تنتظم إلى حد بعيد في محور قراءته السياسيّة- الفكريّة للواقع السوريّ، والعربيّ استطراداً.
من غير المستغرب والحال هذه إزاء موقفه من نشاطات المثقفين السوريّين أن ينظّر السيد العظمة للانتفاضة السوريّة كما لو أنّها ثورة دينيّة في سوريا من جهة، وتستهدف “الدولة” في المحصلة من جهة ثانية. ويقف المرء باستغراب على عملية الإسقاط الذاتية الإيديولوجيّة التي يمارسها الدكتور العظمة حيال المنتفضين، والمعارضة عموماً.
“الشعبويّة” و”الشارع”:
من غير تدقيق في السياق والواقع والحيثيات الملموسة للحركة الاحتجاجية في سورية يطلق العظمة العنان لأحكامه التي تصلح لأيّ زمان ومكان عن المعارضة السورية. “السياسة لا تُصنع من الشارع” يقول العظمة. والواقع أنّ السياسة الحقيقيّة تُصنع في الشارع اليوم لأنه جرى نزعها من المجتمع والدولة، بل هو المكان الطبيعي لصنع السياسة وهذه العملية ديمقراطية تماماً ومشروعة بعرف الحقّ والعدالة وليس بعرف الطغيان. يفوت منظّرنا أنّ المجال العام هو (ساحة وميدان وشارع وجامعة…) للتداول والمعارضة والنقد والاحتجاج حتّى في الدول الديمقراطيّة المؤسساتيّة، فما بالك بسلطات احتكرت الدولة والثروة والقوة والمجتمع وميادينه العامّة وحياة المواطنين الخاصة. بديل الشارع (=الاحتجاجات والمعارضة) لصنع السياسة هو “مجلس الشعب”، مجلس العبيد ومنبر التصفيق والهتاف والصّغار، أو الجبهة الوطنية التقدميّة (الجثّة السياسيّة الهامدة من لحظة نشوءها) أو الانتساب لحزب السلطة للانتفاع أو وقاية المخاطر الأمنيّة إلى حدٍّ ما. صناعة السياسة الرسميّة (احتكار الدولة والسياسة) تتم في دائرة ضيقة جداً لا يحقّ لأيّ مواطن أن يشارك فيها. وهذه الصناعة الاحتكارية هي بالضبط ما يعترض عليها المحتجّون السوريون اليوم. لا بد من فتح هذه الدائرة المغلقة.
لكن الملفت هو وسم جمهور الحركة الاحتجاجيّة السوريّة بالشعبويّة (فضلاً عن الفتوى الثابتة بالطبع: معاداة الدولة والنيل منها). والواقع أنّ الانتفاضة السوريّة أبعد ما تكون عن الشعبويّة ليس لأسباب “فكريّة” و”رقيّ” المنتفضين أو تأهيلهم الأكاديمي أو تنعّمهم بحياة الغرب الوادعة، بل لأنهم يناضلون ضدّ أوضاع بالغة التعيين والتجسي، لا من أجل مثالات إيديولوجيّة أو أوهام ذاتويّة أو ماضويّة ؛ فالمحتجّون ينتفضون على واقع ملموس ومشخّص: الاعتداء على ذواتهم وآدميتهم واستباحة كرامتهم بالإضافة إلى سرقة لقمة عيشهم. أيّة شعبويّة في جسارة المنتفضين وهم يواجهون موتاً مرجحاً في مطالبتهم بأهداف عيانيّة ومباشرة؟ هل من شعاراتهم الواضحة ضدّ التسلط والطغيان ورموزهما وأعلامهما توصّل السيّد العظمة إلى كونهم “شعبويين”؟ أم أن اصطفاف بعض “النخبة” الاقتصادية والثقافية العلمانوية والدينيّة الرجعيّة مع السلطات الغاشمة يجعل من المعارضين لها “شعبوييّن” بالضرورة؟
نشير هنا أيضاً للمناسبة إلى كمّ الاحتقار والإهانة الذي يقذفها إعلاميّو النظام ومنظّروه إلى المنتفضين (هم حثالة المجتمع السوري بحسب بسام أبو عبدالله، “أستاذ” علوم سياسية)، أو الدعوة الصريحة إلى محوهم عن الوجود فهم يستحقّون الحرق دون رحمة (طالب إبراهيم مدافع عن النظام في الإعلام، وشريف شحادة)، ويجب توجيه ضربة حاسمة وحيدة بحيث تقضي على “الفتنة” مرّة واحدة و”إلى الأبد” لأن إطالة الضربة يستجلب غضب المجتمع الدولي (بحسب “أستاذ” علوم سياسية آخر) . وفي الوسط “الفكريّ” لا تفوتنا الإشارة إلى الدفاع الركيك عن النظام الذي يقدمه فراس السواح (يستغرب المرء من فقره المدقع في التحليل والمقاربة دون أن يستغرب من موقعه السياسيّ طبعاً) عن الانتفاضة؛ إذ عابَ ـ مؤخراً ـ على المنتفضين فقرهم وسوء أوضاعهم المعيشيّة! واعتبر ذلك اختراقاً للثورة! يا للرصانة حقّاً.
“الإسلاميّون”:
ليس العلمانويّون بحاجة إلى شعارات تُرفع في الاحتجاجات كـ” لن نركع إلا لله” أو”الله أكبر” و”الشهيد حبيب الله” والخروج من بعد صلاة الجمعة للتظاهرات كي ينعتوا الانتفاضة بالسلفية والدينيّة.
الواقع أن جمهوراً من المتدينين يشارك في فعاليات الانتفاضة كما غير المتدينين، وهذا حقّ للجميع إن لم نقل واجبهم. المتديّنون ليسوا كتلة واحدة. فيهم المتشدد وفيهم المتسامح والديمقراطي. فيهم السلفي ومنهم من يناهض السلفية والطائفية ويعمل لذلك. منهم دعاة لاعنف ونضال سلمي ودولة مدنيّة. ومنهم من يصلي ويصوم فقط، وليس مكترثاً لأكثر من ذلك. أمّا غير المتدينين ففيهم طيف واسع كذلك، لكن ليس بينهم علمانيّون من الصنف الذي يرى في النظام الحالي حجّة في العلمانيّة والحداثة يتعرض لهجوم متخلّفين وسلفيّين.
بيئة الانتفاضة كذلك متنوّعة. فدرعا مثلاً ـ التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات ـ لم تعرف يوماً ما بنزوعها السلفيّ و”الإرهابي”، على العكس كانت درعا بيئة معروفة للعروبة التقليدية وحزب البعث، وخرج منها العديد من الساسة والعسكر ورجال الأمن في ظل النظام الحالي. وفي سوريا، وبدرجة مختلفة عن مصر وتونس، لم تبدأ الانتفاضة من حركات وتيارات إسلاميّة، بل من الريف الذي شكّل قاعدة اجتماعية وإيديولوجية للنظام البعثيّ، “التقدميّ” يوماً ما.
في بقية المناطق المحتجّة يشارك في الاحتجاجات سوريون من مشارب متعدّدة وفيها حضور مدنيّ وعلمانيّ ودينيّ محافظ ، أي كما هي حقيقة المجتمع السوريّ وتكوينه. على جبهة السلطة يمكن العثور على شيء من “التعددية” هذه. لكنها هنا تفقد أيّ معنى ومضمون للتعددية بسبب ارتهانها لنواة السلطة الضيّقة جداً المقررّة لكلّ شيء والمحتكمة لأنانية مفرطة ومصالح متطرفة جداً. لا بدّ من نظرة أخرى للواقع السوري إذن غير التي ترى في الدولة المختزلة في النظام والسلطة معقل الوطنيّة ومناط المواطنة. مجتمعنا السوري لا يتكون من علمانيين وسلفيين أو أنصار الدولة وأنصار هدمها كما هي قراءة الدكتور العظمة.
بصرف النظر عن حجم الهتافات دينية المنبت فإنّها ليست طائفيّة ولا هي ضد المواطنة أو الدولة. شعار “لن نركع إلا لله” يكتسب دلالة ديمقراطية وإنسانية، وعلمانية كذلك، إن وضع في سياق الأحداث. معلوم أنّ السوريين أجبروا على الركوع والسجود، واقعاً لا مجازاً، لأصنام الرئيس وعائلته ورموز السلطة المنتشرة في طول البلاد وعرضها طوال عقود. وبرزت في الأحداث الأخيرة حالات من الاستعباد الذليل للمواطنين بالطلب منهم السجود على صورة الرئيس أو إجبارهم على قول “لا إله إلا بشار”. لا يحتاج المرء لأن يكون متديناً وسلفيّاً لينبذ هذا السلوك الأرعن واللاأخلاقي. إلا إذا كان هناك من يعتقد بأن هذا السلوك يخدم تمتين بنية “الدولة” الموقّرة المعرّضة لهجمة السلفيّين الشعبوييّن! وكذلك حال شعار “الله أكبر” الذي يردده السوريون العزّل أمام آلة القتل والتدمير. لكن ماذا يتوجب على مشيّعي القتلى والشهداء والجرحى أو مشاريع الشهداء أن يرددوا في مظاهراتهم؟ “العلمانيّة هي الحل” مثلاً؟ أم تبجيل “الدولة”؟
لا بدّ أنّ عنف النظام الوحشيّ سوف يستجلب كل ما يخطر في البال من مقاومة رمزية ممكنة، ومنها الاتكاء على رموز دينيّة سيما التي تحظى بانتشار شعبي في كافة الأوساط الشعبية المتدينة وغير المتدينة.
الأكراد:
أنتهزُ الفرصة هنا للتدليل على خطأ معرفيّ كبير، واستعلاء عنصريّ مقيت، يقترفه السيد العظمة المرّة تلو المرّة كلّما حلّت المناسبة، كما هو في حديثه عن الانتفاضة السورية. فالدكتور العظمة يندهش ويستفظع وجود أناس يسمّون أنفسهم أكراداً. ودهشته تنبع من علم في التاريخ حسمه العظمة ولخّصه كالتالي: الأكراد اكتشفوا كرديّتهم بعد العام 1991؟ يا للاكتشاف حقاً (التاريخ ذاك يشير إلى وقت إصدار مجلس الأمن الدولي قرار فرض الحظر الجوي على نظام صدام حسين في منطقة كردستان، شمال العراق بعد فرار مليون إنسان إلى الجبال حيث الثلوج إثر انتفاضة شعبية كردية كبيرة ضد سلطة صدام حسين. وقد أعلن الدكتور عن هذه “النظرية” في مؤتمر العلمانية في المشرق العربي في دمشق قبل بضعة أعوام وسمعتها منه مباشرة، وهي مدوّنة في كتيب صدر بنفس العنوان عن منظمي المؤتمر). الحركة القومية الكردية التي نشأت قبل قرن ونيف تقريباً ـ نعم وليس عقد ونيف مثلاً ـ ونادت باستقلال كردستان وناضلت لأجلها وحققت مكاسب هنا وهناك وانتكاسات مريرة، لم تنقطع يوماً ما في ظل الإمبراطورية العثمانيّة وبعد انهيارها. القوميّة الكرديّة ليست شعارا زائفاً اخترعه أبناء اليوم وبتحريض من مؤامرة على العرب والعروبة أو على تركيا وإيران.
إنها حقيقة موجودة لا ينفع معها التعامي والاكتفاء بنظرات من علٍ. لا داعي لتصنّع المفاجأة بوجود مواطنين يزعمون أنهم أكراد ويعرّفون أنفسهم على أنهم غير عرب. لكنهم بنفس الوقت سوريّون ويطالبون بحقوق ديمقراطيّة وإنسانيّة، وكذلك اعترافاً بخصوصيتهم القومية في إطار وحدة البلاد، كما تنادي عموم فصائل الحركة السياسية الكردية في سوريا التي تأسّست رسمياً في صيغة حزب سياسي عام 1957 كامتداد للحركة القوميّة الكرديّة لتمثيل مطالب أكراد سوريا ضمن إطار سورية ديمقراطية. أمّا لماذا ظلّ أناس يقرّون بهوية متخلّفة جداً ومن مستحاثات التاريخ فهذا شأنهم وحقّهم في تقرير مصيرهم. يقول العظمة بعنصرية غير خافية: أن الأكراد يفضلون “إيثار النسب على الحسب اليوم”، والدلالة واضحة طبعاً. العروبة حسبٌ ومباهاة. الكردية نسبٌ معيب.
يُخشى أن يكون الدكتور العظمة قد استقى فكرته عن “حَسَب” الأكراد من بعض الأكراد المندمجين في المجتمع الشاميّ الذي هجروا لغتهم الأم ونالوا حَسَباً راقياً بمجرد تخليهم عن نسبهم المتخلّف. لم يلحظ ولم يقرأ ولم يسمع عن ملايين الأكراد، في تركيا وسوريا والعراق وإيران وغيرها في الشتات الكردي، الذين لا يتكلمون سوى الكردية ولا يعرفون غير الكردية هوية لهم هم وأجدادهم. كيف يقارب المفكر والمؤرخ ( والسياسيّ) هذه الواقعة؟ كي يريح نفسه من عناء التواضع وقراءة التاريخ المزعج له يستحسن أن يقول: هناك عرب أضلّوا حسبهم وبحثوا عن نسب آخر فسمّوا أنفسهم أكراداً! كم هو شبيه كلام الدكتور العظمة بمقولات الفاشية الأتاتوركية في تركيا! حيث تجلّى التجسيد السياسي العنيف والمدجج بجبروت أقوى جيش في المنطقة بغية محو هوية الشعب الكردي منذ ولادة الجمهورية التركية الحديثة. لكنها باءت بفشل ذريع. فلا تمكّنت الفاشيّة التركية من محو قومية ثانية وصهرها في القومية التركية، ولا هي تمكنت من اصطناع دولة ـ أمة متجانسة بلا “شوائب”، كما حلم منظرو تلك الفلسفة والسياسة العنصرية البغيضة على امتداد ما يقارب قرن من الزمان.
ولولا احترام المكانة الأكاديمية والعلمية للدكتور عزيز العظمة لأوردت هنا بعض المراجع والمصادر الرصينة عن تاريخ الأكراد الحديث أو القديم وتاريخ دعوتهم القومية (قبل العام 1991!). لأن تلك المقولة العامة والاستعلائيّة التي يستند إليها بثقة فائقة هزيلة ولا تليق به قطّ.
المواطنة والديمقراطيّة والمستقبل:
الانتفاضات الراهنة تسعى إلى تأميم الدولة وتعميمها. ومن ثمّ فتح المجال كي يعبّر المجتمع عما يعتمل في داخله بإيجابياته وسلبياته، وتراكمات السنوات المنصرمة والتوتّرات الاجتماعيّة.
نفترض مبدئيّاً أن لهذه العملية التحويليّة حصيلة ديمقراطية مرجّحة. بصرف النظر عما ستؤول إليه الأحوال فيما بعد، أو هي خطوة حاسمة على طريق الديمقراطية. لكن لن تحلّ أوضاع البلدان المنتقلة من الأنظمة التسلّطية بصورة أوتوماتيكية بعد سقوط الأنظمة (تونس ـ مصرـ ليبيا)، كذلك في اليمن وسورية بعد إسقاط أنظمتها المستولية. ويبقى الأمر متوقفاً على صراعات القوى السياسية التقليدية والجديدة، وبعض القضايا الخاصّة بكل بلد. لا نتوقع انتقالاً فوريّاً إلى الديمقراطية بعد الدمار الشامل الذي شهدته هذه البلدان، جرّاء الديكتاتورية والنهب والاستيلاء على الفضاء العام، وتغييب السياسة وتصحير المجتمعات.. هناك العديد من المعضلات الوطنية سوف تكون مطروحة على برنامج الانتفاضات المنتصرة، لتتحوّل إلى ثورات تطال مجمل البناء السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ للنظام والدولة. وستبرز خلافات وصراعات. لكن من العسف الاستنتاج من ذلك أن بقاء تلك النظم المستبدّة الفاسدة خير من إسقاطها، لأنّ ذلك يؤدي إلى انكشاف مجتمعاتنا وسيادة فترة من الاضطراب ربما؛ على العكس فإنّ النظام الديكتاتوريّ هو العائق الأكبر أمام تطور المجتمعات والدول. ثم أنّ المشكلات الكبيرة التي تعتمل في داخل هذه الدول موجودة دائماً، لكن بسبب القبضة الحديدية وتجميد الحياة السياسية يبدو وكأنها غير موجودة لمن يأخذ بهذه النظرة التشاؤميّة العدميّة، غير البعيدة عن الاستقطاب السياسيّ.
يبقى السؤال المركزيّ مستقبلاً هنا: كيف يمكن استيعاب التعددية الاجتماعيّة في سوريا الموجودة حقيقة لا افتعالاً في ظل رابطة مواطنة حقيقية، وفي ظل دولة متصالحة مع مجتمعها، لكن تعلو بنفس الوقت على البنى الأهليّة. هذا سؤال راهنيّ وتاريخيّ. نجزم أن النظام السوري ليس في صدد بناء هذه الدولة المنشودة كما يعتقد الدكتور العظمة بثقة دوماً. هذا سؤال لسورية المستقبل الديمقراطية الحرّة، ما بعد حكم العائلة والمخابرات والشبّيحة.
الحركة الاحتجاجية الراهنة ليست حركة ملائكة وأناس مطهّرين بالإطلاق ولا هي فوق النقد والاختلاف، سيما بعض الناطقين باسمها وراكبي الموجة ومقتنصي الفرص.
سورية المستقبل سوف تواجه كافة قضاياها الوطنيّة المتراكمة. النظام الحالي لا يساهم في ذلك أبداً، سياسياً، بل يزيد من أعباء سورية والسوريّين. أمّا أخلاقياً فلا يحبّذ أن نتكلم فيه لأن الدكتور العظمة لا يستسيغ الكلام الأخلاقويّ لأنه ـ ربما ـ يمنح المتدينّين حقّ الصراخ والشعور بألم الرصاص والتعذيب في السجون، وهذا محرّمٌ “علمانيّاً”.
——————–
====================