سوريا… الانتحار الجماعي والانتحار الفردي/ أدهم حنا
تتزايد حالات الانتحار في سوريا، النظام لا يمنع الحصول على الإحصائيات، ويُشير دوماً إلى أنها ضمن الحد الطبيعي مقارناً الحد مع الدول الاسكندنافية الأكثر رفاهاً واستقراراً. أحد مسؤولي النظام صرح بهذا من دون خوف أو قلق من سخرية المقارنة. خلال العامين الماضيين، وصلت حالات الانتحار إلى حوالى 300 حالة.
شيءٌ من هذا يدفعنا إلى السؤال المعاكس عن المتوقع، لماذا لا تتضاعف حالات الانتحار في سوريا وفقاً لحيوات البشر التي تبدو بائسة إلى حدٍ لا يمكن وصفه؟ في الدراسة الأشهر والأولى من نوعها عن الانتحار، يُشير دوركهايم إلى أنواع الانتحار ضمن تقسيم تجريبي إحصائي أجراه بنفسه. ما يُميز دوركهايم هو تحويله لفكرة الانتحار من الشكل الأناني الفردي الجزئي، أي كعلم نفس الفرد، علم اجتماع الفرد، نحو فهم الانتحار كظاهرة اجتماعية، تخضع لمتحولين التكامل، والتنظيم. في هذا مثلاً نستطيع القول إن كل ضحايا الحرب السورية هم منتحرون، فأغلب الذين واجهوا عنف النظام، كانت الإيثارية التي وجهتم واضحة المعالم، وفق التقييم الدوركهايمي للانتحار المرتبط بالتضحية. فمواجهة النظام في مظاهرة سلمية قد تؤدي للموت، هذا المعيار جعل الكثيرين ينتقلون بعدها إلى مواجهة أكبر، أي عنف أكثر. اتضاح المعالم حولت السوريين لمنتحرين إيثارين في وجه نظام لا يملك إلا عقوبة واحدة هي الموت لمن يخالفونه. من هنا سكن بُعد مخيالي ديني عقل السوريين، وانتشر الإسلاميون بعقيدة إيثارية جهادية، كإلباس قيمي ديني للتضحية السورية. وليس من باب الاكتمال والتنظيم كمعيارين لإنشاء الروابط الوطنية أو الإنسانية.
هنا الخفوت للمعاني الحديثة يتأتى من وعي المجتمع السياسي المتأخر بفضل حكم النظام، وشيوع الروابط التقليدية الدينية على حساب الهوية الجمعية. في المقابل كان النظام يدفع منتحرين إيثارين عبر الطائفة العلوية، في العامين الأخيرين أيضاً شهد النظام نفوراً من قاعدته بناء على تقييم متأخر للعلويين بأنهم قد رموا أولادهم للموت من أجل النظام، أي أن إيثارهم كان انتحاراً أيضاً وحتى قيمة الشهادة لم تعد تعنيهم في شيء. هذا الوعي للانتحار متأخر لدى كل الأطراف السورية. شيءٌ من هذا تعيشه كل عقيدة إيثارية في المجتمعات القلقة على مستوى استقرارها، وما زالت الحروب تحمل ندماً مؤجلاً ما إن تنتهي. هذا شكل من المعرفة الضمنية، أو الإدراك الضمني، والتي لا تصعد إلى السطح أو التعبير، بل تظهر بتعبيرات رمزية ومحدودة الوضوح. بإمكان أي أحد مشاهدة المقاطع أو الكتابات التي يُعبر فيها السوريون عن ندمهم من الوقوف مع النظام، أو المشاركة في الحرب، أو حتى بقائهم في البلاد. هذا إدراك ضمني بلا شك.
في هذا يغيب عن الإحصاءات أو عن الوعي اندفاع آلاف الشبان للموت، فلن تُشير إحصاءات النظام أو منظمة الصحة العالمية إلى هذا الموت بوصفه انتحاراً. في مكمنٍ أكثر وجاهة واعتياداً، يظهر انتحار الشابات والشبان بوصفه حجثاً جللاً، في دمشق وغيرها يظهر انتحار الشُبان، وكثيراً ما تتم التعمية عن الأسباب الاجتماعية، أي تحويل الانتحار لظاهرة أنانية، مشاكل الفرد، ولوم عائلته، أو الإشارة إلى الفراغ الديني والأخلاقي. هنا تنحاز الانطباعات عن الانتحار بطرق مختلفة، عند الشبان كثيراً ما يتم لوم الذات، تنشأ روابط عاطفية حادة حينما ينتحر شاب أو شابة، ولوم النفس يأخذ طابعاً فردياً أيضاً. وإن كان دوركهايم قد أشار للضياع كشعور الفرد في المدن الحديثة والمجتمعات الصناعية كدافع للانتحار، فإن ضياعاً وشتتاً ينشأ مع الفرد السوري منذ ولادته، فلا معايير قيمية تشترك فيها الذات جماعياً، ولا نشاط سياسياً أو اجتماعياً، ولا نطاق للأعمال التي تُخرج الفرد عن نمط قطيعي يحدد معالم الشخصية والفرادة.
من هنا يشرح النظام عبر موظفيه أن سوريا شهدت أقل نسبة من المنتحرين على مستوى العالم ما قبل الثورة العام 2011، وهذا ليس أمراً إيجابياً، بل فقط كانت درجات الانفتاح السوري أقل معيارية، درجات تواصل الشباب مع العالم كانت أقل حِدة، وحجم الرغبات كان مقنناً. خلال الأعوام العشرة الأخيرة شهدت سوريا تطور ثقافياً أيضاً، ليس بالمستوى المعرفي المنشود ليهيء لمجتمع سويّ أو علمي بديل، بل بالمعنى الثقافي العولمي، فالاطلاع على الثقافات الأخرى، والتفاعل اليومي مع أحداث العالم عبر وسائل التواصل جعلت الشبان أكثر إحباطاً، وأكثر تحرراً من الروابط العضوية العائلية والاجتماعية الدارجة، لقد تحول كل شيء نحو الانجذاب لواقع آخر. ولأن السياسة أو التفاعل الفردي نحو الجماعة لا يتم عبر حزب، ولا عبر تجمعات مدنية، فإن أواصر الارتباط بين الأفراد لنزع العزلة الفردية لا تحمل قيمة، أو حتى سلوك مُراقب أخلاقياً وغائياً. فلا تندرج الروابط ضمن القبول الاجتماعي، وتبقى مؤسسات الإرغام العائلية والسلطوية مانعة لتشكيل بُعد جماعي لدى الشبان، فتنهال ثقافة من وادٍ، ويكون الواقع في وادٍ. هذا ما لم نتحدث عن انهيار العائلة التي هي أصل المجتمع، بسبب الانصياع لنظام سياسي اقتصادي لا يُلبي الحاجات الأساسية للغذاء، ولا يُلبي حاجة التعبير في أدنى معاييرها.
لا شك أن تزايد عدد المنتحرين ما زال يخضع للشروط التي حددها النظام، خصوصاً في التعبير العنيف عن الشخصية والذات، ما زالت أدوار معينة يخضع لها الشبان بتحفيزهم لبُعد عنفي يجعلهم أقل التصاقاً بمعايير اجتماعية غير تسلطية أو الاهتمام بالروابط العضوية. أو طرح قنوات النظام الدينية أبعاداً محددة للشخصية السورية وما عليها أن تكون، أي درجات تنميط ناجعة وناجحة في ضبط الآخرين. لا ينجح النظام مع عدد هائل من الشباب، خصوصاً من تنور جيد ولو بشكل سطحي، ذلك أن وعي أبناء الطبقة الفقيرة والوسطى بات أكثر تجذراً نحو رفض الآليات الارغامية، والانتقال نحو حالة أكثر تمرداً من أي ارتباطات عضوية تقليدية، واحباطات التمرد في الفشل في إيجاد عمل والاستقلال الفردي عن العائلة، أو ممارسة حياة يومية دون ذل الفقر، يجعلهم إما محاولين للسفر، أو منتحرين، أو مضطربين نفسياً وجسدياً. وتعليقاً على الإحصاءات الرسمية، فنميل نحن لعدم دقتها، ذلك لتهديد المؤسسات الدينية بعدم دفن المنتحر، بالتالي خوف الأهالي من إبراز العار، فالانتحار يحمل وصمة العار اجتماعياً ودينياً، مما يجعل حالات الانتحار غير موصفة بدقة. لم نتطرق إلى الدين أبداً، فمنذ القرن التاسع عشر تطورت فكرة الانتحار نحو مركزية المجتمع، أكثر من كونها فكرة تخص الفرد، لكن كل هذا لا يتم البحث فيه. تظهر سوريا دوماً بوصفها دون مجتمع، ولا يمكن طرح أي مشكلة من باب اجتماعي.
انتحار ثلاثة شابات خلال يومين في إدلب وجرمانا في دمشق أثار الموضوع لمرة أخرى كما سيتكرر دائماً. رفض مشايخ الطائفة الدرزية الصلاة على الجثمان، وفي إدلب تم إخفاء الانتحار،.. ماذا نأخذ من هذا كله، سوى الركود الذي نعتاد عليه؟ في ظروفنا الاقتصادية والثقافية علينا أن نحاجج في تراجع ثقافة الإيثار، هذا لا شك فيه، ليس لأحدٍ في سوريا أن ينتمي إلا لثقافة الركود والاستسلام، فلا يُمكن الثورة على النظام، ولا إعادة تأسيس قدراتنا لنواجه.
المدن