صفحات مجهولة من تاريخ حلب… لماذا أطاح السلطان عبدالحميد بالوالي رائف باشا/ عمرو الملاح
يعزو مؤرخ حلب كامل الغزي في كتابه الشهير «نهر الذهب» السبب الرئيس وراء إقالة السلطان عبدالحميد الثاني لوالي حلب رائف باشا في عام 1900 إلى استبداله «قسطل السلطان» الذي بناه السلطان سليمان القانوني في حلب عام 1533 بعدما أوشك على الاندثار في «برج الساعة الذي هو من بدع الفرنج».
لا تخلو الحادثة هذه، التي هي أقرب إلى السرديات الشفاهية، من التبسيط المخل الذي لا يلامس الأسباب الجوهرية للإطاحة بهذا الوالي، فمن المعلوم أن تشييد «برج ساعة باب الفرج» الذي جرى الانتهاء من عمارته إبان عهد رائف باشا عام 1899 تزامن مع إقامة مشيدات مماثلة في العديد من الحواضر العثمانية، ومن بينها إسطنبول؛ بإيعاز من عبدالحميد ذاته، الذي كان يعدها رمزاً للحداثة والتغيير.
ولئن أشار الغزي، في سياق عرضه للظروف التي أحاطت بعزل رائف باشا إلى أن عبدالحميد كان «يحذره ويسيء به ظنونه، لاعتقاده بأنه يسير في الدولة على منهاج مدحت باشا بطل الدستور العثماني، لأنه كان معاونا له» إلا أنه لم يتناول هذه المعطيات، على الرغم من أهميتها وما تنطوي عليه من دلالات في الوقوف على نهج السلطان في الحكم، بأي قدر من العمق والشمول والتفصيل.
وسنحاول في هذه المقالة التعرف على حقيقة الأسباب التي أدت إلى الإطاحة بوالي حلب رائف باشا، الذي عُرف عنه أنه كان يعد أحد أبرز رجال مدحت باشا، الذي يعتبر أشهر رجال التنظيمات، ممن تبنوا فكرة الإصلاح الدستوري على النمط الأوروبي، على نحو يمكننا معه استعارة وصف المؤرخ والأكاديمي التركي رمضان غوللو لرائف باشا بـ«ربيب مدحت باشا».
من هو رائف باشا؟
تشير الحوليات التاريخية العثمانية إلى أن رائف أفندي ولد في جزيرة كريت التابعة آنذاك للسلطنة العثمانية عام 1836. وبعدما أنهى تعليمه في إسطنبول انتظم في سلك الإدارة المركزية. لكن حياته المهنية الحقيقية بدأت مع إحداث ولاية الطونة في البلقان (1864) وتعيينه معاوناَ لواليها مدحت باشا، ثم معاوناً له حينما ولي بغداد (1869). وبناء على تزكية الأخير عين متصرفاً لبيروت (1878) وكانت يومئذ متصرفية تابعة لولاية سوريا، بينما كان مدحت باشا والياً عليها. وفي عام 1880 أوفده مدحت باشا إلى إسطنبول للمذاكرة في بعض الشؤون الإصلاحية مع المركز، فما كان من السلطان إلا أن استبقاه فيها معيناً ناظراً-وزيراً للتجارة. واصل «السلطان المعمار» إسناد العديد من المناصب المهمة لرائف باشا في مرحلة ما بعد تحطيم مدحت باشا، في مسعى لاحتواء التوتر القائم بينه وبين النخبة التنظيماتية العمرانية الحديثة، وتعويله عليها في تنفيذ برنامجه العمراني التحديثي. فشهد عام 1884 ترقيته إلى رتبة «وزير» مع منحه لقب «باشا». واستمرت خدمات رائف باشا في حقبة ما بعد عزل السلطان عبدالحميد، نظراً لكونه يمثل أحد قادة تيار الحداثة السياسية في السلطنة، فضلاً عن خبرته الطويلة في الإدارة. وقد توفي في إسطنبول عام 1911.
رائف باشا والياً على حلب
ولي رائف باشا حلب مطالع عام 1896 في فترة اتسمت بقدر عظيم من الاضطراب، بلغت فيها أعمال التمرد المسلح، التي نفذتها الحركة الانفصالية الأرمنية، ذروتها في عدد من الولايات العثمانية التي يسكنها الأرمن، وشهدت وقوع حوادث خطيرة في العديد من أنحاء ولاية حلب. ولم يكد يهدأ التمرد الأرمني حتى اندلعت الحرب العثمانية اليونانية عام 1897 وعين المشير أدهم باشا، وهو القائد العام للقوات العسكرية، التي تولت إخماد التمرد الأرمني في ولاية حلب، قائداً عاماً للجيوش العثمانية، التي توجهت لمحاربة اليونان، بينما عين الفريق علي محسن باشا، وهو أحد المرافقين العسكريين للسلطان والقادة العسكريين الذين شاركوا في إطفاء جذوة التمرد، «قائداً فوق العادة على ولايتي حلب وأضنة وحواليهما» في دلالة واضحة على الصلاحيات الواسعة الممنوحة له. وقد يرجع ذلك إلى حرص عبدالحميد على ضمان التوازن بين الوالي رائف باشا والقائد العسكري الجديد علي محسن باشا، سواء على الصعيد الشخصي، أو على صعيد الإدارتين المدنية والعسكرية في فترة حرجة سمتها الاضطراب.
ويشير غوللو من خلال حفرياته في الأرشـيف العثماني، إلى أنه سرعان ما احتدم الصراع بين هذين المسؤولين على خلفية اختلاف مقاربتهما لهذا التمرد، ما قد يعود للتباين في نشأتهما المهنية؛ فبينما كان القائد العسكري بحكم تأهيله المهني يميل إلى الحل الأمني لاحتواء الأزمة تلك، رأى الوالي الذي أمضى حياته المهنية في سلك الإدارة المدنية ضرورة الأخذ بخيار الحل السياسي في إدارة هذه الأزمة.
ولسوف يتعمق هذا الصراع ابتداء من عام 1897 ويطبع ما تبقى من مدة ولاية رائف باشا على حلب بطابعه، بفعل الاتهامات التي ما فتئ يوجهها أحدهما للآخر إلى أن أقيل رائف باشا من منصبه في نهاية المطاف.
الوالي والقائد العسكري يتبادلان الاتهامات
اتخذت المواجهة بين هذين المسؤولين في مرحلة ما بعد إخماد التمرد الأرمني شكلاً أشبه بـ«حرب التقارير» التي دأب كلاهما على توجيهها إلى دائرة «المابين الهمايوني» – الديوان السلطاني. وقد تمحورت الاتهامات التي ساقها القائد العسكري بحق الوالي، وفقاً للأرشيف العثماني، حول سعيه لزيادة نفوذه الشخصي في الولاية، عبر نسجه علاقة قوية بالنخبة الحلبية، وانتهاجه سياسة تتسم بقدر كبير من اللين، إزاء الأحداث الأرمنية ومعالجة تداعياتها، مطالباً بضرورة إطلاق يده في إدارة شؤون الولاية، باعتباره وكيل الوالي بحكم المنصب الذي يشغله في قيادة الجيش، نظراً لاعتقاده بأن الانفصاليين الأرمن يعتزمون إشعال انتفاضة جديدة. ولئن بادرت إسطنبول في صيف عام 1898 إلى إرسال هيئة خاصة إلى حلب، عُهد إليها بالتحقيق في هذا الخلاف، إلا أنها لم تكن قادرة على حل هذه المشكلة الآخذة في التفاقم. من جانبه نفى الوالي في تقرير كتبه بعد بضعة أشهر على مغادرة هيئة التحقيق، أن تكون المشكلة بينه وبين القائد العسكري نابعة عن أسباب شخصية، وإنما أرجعها إلى الاختلافات العميقة القائمة بينهما في كيفية إدارة شؤون الولاية، متهماً علي محسن باشا بالتدخل في عمله، فضلاً عن استغلال موقعه للإثراء والمنفعة الشخصية، مستدلاً على ذلك بابتياعه مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية بعدما انتزعها من أيدي أصحابها بأبخس الأثمان.
الصراع على موقع رئاسة البلدية
ألقى الصراع بين هذين المسؤولين ظلاله السلبية على سير العمل في الإدارة العامة للولاية، وفقاً لنتائج البحوث التي أجراها غوللو. وتكشف القراءة الدقيقة والمتأنية للصحف العثمانية عن نشوب أزمة إدارية في رئاسة بلدية حلب في صيف عام 1899. إذ أفاد مراسل صحيفة «لسان الحال» البيروتية في حلب في تقرير له أنه «عين لرئاسة دائرة البلدية عندنا حضرة وطنينا النزيه السري سعادتلو ملاح زادة محمد مرعي أفندي» مشيراً صراحة إلى سعي طرف لم يسمه لانتزاع منصب رئيس البلدية من النخبة البيروقراطية المحلية من ملاك الأراضي الحلبيين، وإسناده إلى شخصية من خارج المدينة وغير مدرجة أصلاً على قوائم دافعي الضرائب السنوية المباشرة للدولة، وهو ما عبر عنه بالقول «وقد توهم البعض أن هذا المنصب سيحال لعهدة أحد الذوات الذين لم يحسبوا أصولاً ونظاماً من سكان هذه المدينة، ولم يدخلوا في دفتر المنتخبين والمنتخبين توفيقاً لنظام البلدية» مبرزاً مبادرة الوالي إلى إجهاض هذه المحاولة وإعادته الحق إلى نصابه وأصحابه بالقول «لكن ما عتم الأمر إلا وظهر خلاف ما توهموه، كيف لا وأن ملجأ ولايتنا السامي الفعال دولتلو رائف باشا هو يجل عن أن يبخس رجال الشهباء حقوقهم القانونية، فنحن باسم الوطن نرفع لمعالي دولته فريضة الشكر والثناء لإعطائه الحق إلى ذويه، وتقليده هذه الوظيفة إلى شهم وطني ملء نفسه نزاهة وحزم وفضل وعزم، وسوف أعطر المحافل بما يجريه بهذه الخطة من الأفعال المبرورة التي تشف عن سلامة الذوق وبعد العزيمة، فيصبح الناس شاكرين في البدء والختام، وهذا ما يتمناه لحضرته الأصفياء ويتوخاه الألباء» في إشارة إلى وجود طرف يضع العراقيل أمام رئيس البلدية الجديد المدعوم من رائف باشا.
والواقع إنه لئن لم يسم التقرير الطرف الذي كان يسعى لبسط نفوذه وهيمنته على البلدية في صيف عام 1899 وهو ما أجهضه الوالي، إلا أن الصراع على رئاسة البلدية لا يمكن فصله عن الصراع الأشمل الذي كان محتدماً آنذاك بين رائف باشا وعلي محسن باشا.
عزل رائف باشا
استمرت الشكايات ضد رائف باشا، وكان على السلطان في النهاية الانحياز إلى طرف ضد الآخر، فما كان منه إلا أن قرر بعد طول تردد الانحياز لصالح علي محسن باشا، لاسيما بعدما تلقى تقارير تتعلق بالإجراءات المشددة التي كان ينفذها الوالي لمنع ومكافحة تهريب التبغ والتنباك، ما يصب في مصلحة إدارة احتكاره وحصره «الريجي» التابعة لإدارة الدين العام المهيمن عليها من جانب الدائنين الأوروبيين. وتلكم هي إجراءات تعد مخالفة للنهج الحكومي القائم على دعم عمليات تهريب التبغ بإغضاء الطرف عنها والإعراض عن التعاون مع «الريجي» في قمعها، والتي تنظر الدولة إليها باعتبارها شكلاً من أشكال المقاومة الشعبية لهيمنة الدائنين على موارد السلطنة المكرسة لسداد الديون، وفقاً للمخرجات البحثية للمؤرخ البريطاني دونالد كواترت. وقد أشار مؤرخ حلب راغب الطباخ في كتابه الشهير «إعلام النبلاء» إلى ذلك في ترجمة شيخ أعيان حلب أحمد أفندي كتخدا بقوله «حتى إن رائف باشا لما تلقى أمراً بتحويله من حلب… سأل المترجم عن خطيئاته أثناء ولايته.. فلم يتأخر عن بيانها له، وكان من جملتها مدّ يد معونته إلى دائرة الريجي التي أضرت بالأهلين أضراراً فاحشة».
وهكذا أقال السلطان عبدالحميد والي حلب رائف باشا من منصبه، وعين أنيس باشا خلفاً له في تموز/ يوليو من عام 1900. وكان اللافت في توقيت الإقالة أنه جاء قبل قرابة شهرين على إحياء اليوبيل الفضي للجلوس السلطاني، الذي سيشهد تدشين عدد من المشروعات العمرانية التي أنجزتها بلدية حلب في عهد رائف باشا، وفي عدادها برج ساعة باب الفرج، ومخفر العزيزية، من جملة مشروعات حيوية أخرى يطول حصرها.
لقد حاول بعض المشتغلين بـ«التأريخ المحلي» أن يرفدوا المكتبة العربية بكتب ومقالات ومدونات تتناول تاريخ حلب في الحقبة العثمانية المتأخرة، بالاعتماد بصورة رئيسية على مؤلفات مؤرخيها من أمثال الغزي والطباخ، والتقاويم السنوية العثمانية (السالنامات) أحياناً، دون رجوعهم للوثائق الرسمية المحفوظة في الأرشيف العثماني؛ فبقيت أعمالهم قاصرة.
والواقع إن أي محاولة لكتابة التاريخ في العهد العثماني تهمل وثائق الأرشيف العثماني وسواه من الأرشيفات الغربية ستبقى ناقصة، وبعيدة كل البعد عن الأسس العلمية التي تقوم عليها الكتابة التاريخية، والشروط التي يجب أن تتوافر فيها.
باحث ومترجم سوري
القدس العربي