تروين قصصاً عن الماء/ بيير جورجيو فيتي
1
يبدو لي النّومُ مضيعةً للوقت.
لذا أخالُني كلّ ليلة أطوف الشوارع الخالية
حيث يستعِرُ اللون البرتقالي لإشارات المرور
وتهتزّ بِِرَك الماء على وقع رعشات عتيقة.
وبمجرّد وصولي إلى البحر،
أبقى لساعات
أُصغي إلى الموج وهو يخاطبني
بألسن السّمكات الفضّية.
وعندما لا أجد ضالّتي،
أصعد إلى جبل كونيرو،
حيث يمكن لأيّ امرئٍ أن يُخطئ بي
ويعتقدني ناسكاً
فيسألني الشفاء
من وجع الأسنان
من الصداع
ومن جميع الأمراض،
بما في ذلك تلك العلّة
التي توقظنا في بعض الليالي،
تُخاطبنا،
ولا نعرف لها اسماً.
■ ■ ■
2
أردتُ أن أكتب لكِ
قصيدةَ حُبّ
أتت ركيكةً.
لكن إن أتتْ قصيدةُ حبّي لكِ
ركيكةً
فهذا لا يعني أني لا أحبك.
فكّري فقط في كمّ الأشياء
التي أعددتها لكِ بحُبّ،
ولكنّها أتت سيّئة:
عندما صنعت لك مرّة طبقَ رُزّ بالهليون،
قلتِ إنه لذيذ
لكنّك لم تكوني تعتقدين ذلك.
أو
عندما أعطيتُكِ هديّة
ولم تعجبكِ،
ومع ذلك قلتِ:
هذا ما كنتُ أريده.
اقبلي إذاً حُبّي لكِ
حتى لو لم أعثر على الكلمات المناسبة،
الأمر أشبه بسحّاب
لا ينطوي على شيء،
لكنه يُبقي شيئاً ما
إلى الأبد
متماسكاً.
■ ■ ■
3
عندما أفزع، أُدركُ ذلك،
قلبي كورق زجاج
يغدو بخفّة جناح قبّرة…
وأنت تندمجين في اللُّعبة،
وتروين له قصصاً عن الماء
الذي يمرّ من تحت الجسور.
وتُخبرينه عن زُرقة السماوات
التي تتفتّح بعد عواصف الشتاء.
تُطمئنينه كمصباحٍ يدويّ
عندما يتراقص ليلاً وهجُ المستنقعات.
تُمسكين يدي بقوّة،
ترتدينها كقفّاز،
وتقولين لي كلمةً واحدة،
سخيّة، شاهدة،
تُثمر داخلي
كشجرة الكرز في الظهيرة.
■ ■ ■
4
ثلاثة أشخاص في ثلاث غرف منفصلة
(إلى والدي)
أراكَ على السرير،
تغطّ في نوم الأطفال،
طعمُ أنفاسك كأنه الورد،
وأنت في السبعين
تحرّك عينيك وأناملك بدهشة
كأن الحياة تخبّئ لك طفولة جديدة.
في غرفة ثانية، هناك أيضاً ممرّضتُك،
تتلمّس غرضاً ما،
تتحقّق من الأدراج،
ترتّب الملابس، لا أدري،
هي أيضاً مشغولة برعايتك،
ضمن تِعداد أيّامٍ لمَن فقد القدرة على العدّ.
وأخيراً أنا.
موجود في الحمّام
أطالع المرآة،
أرى نفسي أكبر سنّاً ممّا أتمنّى:
أوّل شعرات بيضاء،
سالفان رماديّان،
بلون سماء مكفهرّة
ينعكس لونها أيضاً على البلاط.
صنبور الماء البارد، أفتحه،
أشعر بالماء يجري بين أصابعي،
وبينما يتدفّق، ويتدفّق مرّةً أُخرى،
أفكّر بيني وبين نفسي
في ضرورة أن آخذ
هُدنة.
■ ■ ■
5
كان سائقَ حافلة
كلّ يوم يسافر على نفس الخطّ.
كلّ يومٍ، تقريباً، يرى نفس الوجوه
تصعد وتنزل
بحركات آليّة.
والواقع أن سائق الحافلة
كان ليضع حدّاً لحياته بكلّ سرور.
والواقع أنه في عطلة نهاية الأسبوع،
كان يذهب دوماً للتقيّؤ في مكانٍ ما،
نعم، للشرب بلا تحفّظ والتقيّؤ بعدها،
بينما فجرُ الحليب يتلألأ
فوق مواقف السيّارات التي لا تزال فارغة.
ذاتَ اثنين،
شعرَ سائق الحافلة بالإرهاق
أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
جرّب فنجان قهوة، وبعدَه آخَر.
عقارٌ من الجيب. لا فائدة.
تدحرجت عيناه.
الرحلة، للأسف، غدت ذكرى بعيدة.
وهكذا وجد نفسه في زقاق
لم يستطع الخروج منه.
لا من الأمام ولا من الخلف.
في نفس اليوم سائق الحافلة
تمّ تسريحه فوراً من الخدمة.
وما زال الجميع يعلم حتى اليوم،
أن حياته تسير على هذا النحو.
لا إلى الأمام ولا إلى الخلف.
■ ■ ■
6
ميليسا تعيش خلف شاشة.
حياةٌ معتمة.
لا صورة واحدة لها،
ولا جزئيّة من طرف شفتها
أو طلاء أظافر من إصبعها.
لا أحد يعرف بأيّ عينين تستيقظ هي.
لا أحد يعرف ممّا تكسب عيشها،
إن كانت طالبة أم موظّفة،
وإن كنت تقف في الطابور كلّ أسبوع داخل مكتب البريد.
ميليسا تبدو وحيدة.
امرأة تفضّل البقاء مع القطط
على المواعدة، أو تلبية دعوات العشاء.
امرأة ترتدي البلوزات الفضفاضة.
تحتسي شاي العرعار أمام شاشة التلفاز.
لكنها كلّ أسبوع
تذهب لتنظيف الشاطئ بالقُرب من منزلها.
تجمع القوارير والزجاجات
والأغطية البلاستيكية.
ترتبها بهوَسٍ جنونيّ،
تجمعها وسط الشاطئ.
تلتقط صورة لوسائل التواصل الاجتماعية.
أنتم هؤلاء، تقول لنا.
أنتم وحوش مروّعة.
وحوش لا فائدة منها فرّت من أقفاصها.
أنت سرطانٌ مُصاب بالسرطان.
سِرب فراشات نشاز عالق على الجدران.
أنتم لعنة البوليستر.
أنتم يتامى أنفسكم.
وبعد النشر،
تغطّ في سُبات رقمي.
تختفي ميليسا
في ميغا بايت من العزلة
وربّما نفدت باقَتُها،
تذهب إلى مكان ما
للتكفير عن خطايا العالم،
لسداد هذا الدَين
الذي نحمله جميعاً
في حساب مزدوج
أمام ضمائرنا.
بطاقة
PIERGIORGIO VITI شاعر ومؤلّف مسرحي، مِن أكثر الشعراء الإيطاليين ترجمة إلى اللغات الأجنبية. في رصيده خمس مجموعات شعرية، وقصائد منشورة في العديد من المختارات العالمية. كتب للمسرح عدداً من الأعمال، وتعاون مع فنانين من مختلف أنحاء العالم، على غرار جون هيويت وإيلاريو فيورافانتي وريتا فيتالي روزاتي، ضمن مشاريع تمزج بين الكلمة والصورة. أسّس مهرجان Versus للشعر في مدينة ريكاناتي بإيطاليا.
* ترجمة عن الإيطالية: أمل بوشارب. والقصائد أعلاه مقتطفة من ديوانَيْ “مفتوح للجرْد” الصادر عام 2019، و”عندما كانت الريح تخشى نورييف” الصادر عام 2021.