سيزير ضدّ أراغون: القصيدة أم الحزب؟/ صبحي حديدي
في أزمنة اليسار الفرنسي الراهنة، حيث التشتت والتفرّق والتخبّط أو حتى فقدان البوصلة وخسران الهوية، يبدو تطوّراً منتظَراً أن تُفتح ملفات الماضي لدى بعض أطراف هذا اليسار، ثمّ الحزب الشيوعي الفرنسي بوصفه أبرز الواجهات (تاريخياً، على الأقلّ)؛ وأن تكون السجالات الفكرية، وكذلك الأدبية والفنّية والجمالية عموماً، في صدر ما يغري بالفتح والتقليب والمراجعة النقدية، فضلاً عن استخلاص الدروس، إنْ أمكن بالطبع.
وفي هذا السياق عاد المخرج الفرنسي المارتينيكي غي ديلورييه إلى شريطه «سيزير ضدّ أراغون» وهو عمل سينمائي تسجيلي يرصد سجالاً غير مسبوق، فريد الشكل والمحتوى في الواقع؛ دار في مطلع خمسينيات القرن المنصرم بين شاعر المارتينيك الكبير إميه سيزير (1913 ـ 2008) وشاعر فرنسا الذي لا يقلّ شهرة ومقاماً وقامة لوي أراغون (1897- 1982). كلا الشاعرين كان عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي، والأوّل كان نائباً عن المارتينيك على لائحة الحزب في الجمعية الوطنية، والثاني كان شاعر الحزب غير المتوّج والأبرز على صعيد اليسار.
والخلاف بين الرجلين بدأ حول الشعر وعلاقته بالمؤسسة الحزبية ومدى ارتباط القصيدة بالخطّ السياسي، أو سلسلة المفاهيم المقترنة بأدب الالتزام؛ لكنه سرعان ما تطوّر إلى مواجهة عاصفة حول العرق (الأبيض مقابل الأسود، في هذه الحالة) وما إذا كانت «أستذة» أراغون على رفاقه الشعراء أبناء المارتينيك والمستعمرات وأفريقيا تستبطن، أيضاً، شيفرات هيمنة وإخضاع و… تمييز عنصري! ولم تكن جذور خلاف أخرى أقلّ تأثيراً في إذكاء المناوشة وإطلاقها إلى العلن، عبر القارّات هذه المرّة، إذْ من المتفق عليه أنّ أراغون كان متشدداً في مسائل الانضباط الحزبي، والبعض يتحدث عن درجة من الأصولية (السوفييتية شبه الستالينية)؛ وكان سيزير أقرب إلى تفكير أبناء المستعمرات، لجهة المرونة النظرية والانعتاق التنظيمي، الأمر الذي يفسّر رسالته إلى زعيم الحزب موريس توريز خريف 1956، بعد نشر تقرير نيكيتا خروتشوف الشهير، والتي ذيّلها بالاستقالة من الحزب.
في الجذور، كذلك، تصويت الحزب حول المسألة الجزائرية، الذي منح حكومة غي موليه لاكوست سلطات قصوى في سياساتها على نطاق شمال أفريقيا قاطبة؛ ويومها كتب سيزير: «نحن، فئات الملوّنين، في هذه البرهة المحددة من التطوّر التاريخي، نحمل في ضمائرنا كامل مساحة تفرّدنا، ونحن على استعداد لتحمّل مسؤولياتنا على جميع المستويات وفي كلّ الميادين». بل لقد ذهب أبعد، فكتب: «في كلّ حال، من الثابت أنّ نضالنا، نضال الشعوب الاستعمارية ضدّ الاستعمار، ونضال الشعوب الملوّنة ضدّ العنصرية، أكثر تعقيداً، وأستطيع القول إنه من طبيعة أخرى غير نضال العامل الفرنسي ضدّ الرأسمالية الفرنسية». ويعلّق ديلورييه، بلسان السينمائي التسجيلي أوّلاً، أنّ انزلاق النقاش من الشعر إلى السياسة، ثمّ إلى طبائع العلاقات بين رفاق «بيض» ورفاق «سود»؛ أفضى تلقائياً إلى اصطفافات غير مسبوقة، بدورها، في تاريخ الحزب الشيوعي الفرنسي: بين شعراء/ مثقفي الحزب في المركز من جهة، ونظرائهم في الأطراف والمستعمرات من جهة أخرى.
والأرجح أنّ ذلك السجال المشهود كان حاضنة متجددة، أكثر سخونة وحيوية إذا جاز القول، لتطوير مفهوم «الزَنْوَجة»؛ ذلك المصطلح الصادم الذي تولى نحته سيزير نفسه، كي يكون منهجاً تطبيقياً في دراسة ما سُمّي في حينه بـ»الكتابة السوداء» وكي يتيح مادّة فكرية ونقدية لمقاومة الهيمنة الثقافية الفرنسية، التي ظلّت جزءاً لا يتجزأ من سيرورة المشروع الاستعماري. ولقد كان للمفهوم – حين حظي بإطراء حماسي من جان ــ بول سارتر، بصفة خاصة – فضل كبير في تحديد الثقافة السوداء والهوية السوداء، رغم سلسلة الإشكاليات التي اكتنفته منذ البدء، وكانت على رأسها معضلة تنميط «علم الجمال الأسود» بوصفه نقيض «علم الجمال الأبيض» ليس أكثر.
ولم يكن غريباً أن يتصدّر سيزير تلك المجموعة اللامعة من الكتّاب أبناء المستعمرات، المنخرطين بصفة شبه جماعية في الحزب الشيوعي الفرنسي خصوصاً، فالشاعر لم يكن أيقونة المارتينيك الشعرية والإنسانية الكبرى الحديثة، فحسب؛ بل كان أحد الكبار في تلك الأحقاب – الحافلة، الشريفة، النبيلة، والإشكالية – التي شهدت تحالف النصّ الأدبي والبيان السياسي، واقتران المخيّلة الفنّية الطليقة بالواقع الملموس الأسير، وما نجم عنهما من حصيلة اندماج التحرير الجمالي بالتحرّر من الاستعمار. لقد كان سيزير آخر ثلاثة لعبوا، منذ لقائهم للمرّة الأولى في باريس سنة 1931، دوراً حاسماً بالغ الحيوية والفاعلية في تنظيم المقاومة الثقافية ضدّ أنظمة العبودية ومشاريع الاستعمار في آن: الأوّل كان الشاعر والسياسيّ السنغالي ليوبولد سيدار سنغور، والثاني كان الشاعر والكاتب الغوياني ليون غونتران داماس.
والهبوط الفاضح الذي يطبع أداء اليسار الفرنسي عموماً، والشيوعي أوّلاً، يفسّر الكثير من وهج استعادة هذه السجالات المرتدّة إلى الماضي، حيث لا يخفى أنّ حسّ النوستالجيا هو الباعث الطاغي؛ خاصة وأنّ استطلاعات الرأي لا تمنح مرشح الشيوعيين في الرئاسيات المقبلة أكثر من 3,5%، ومرشحة الحزب الاشتراكي 2%؛ وأمّا المرشحة الوحيدة المنتمية إلى المستعمرات وإرث سيزير وسنغور ودامس، كريستيان توبيرا، فقد اضطرّت إلى الانسحاب من السباق.
وثمة مَن يردّد أنّ حصيلة اليسار الراهنة جزاء وفاق، لأنّ زارع الريح قد لا يحصد سوى العاصفة.
القدس العربي