أصوات اللجوء في بيروت/ المعتصم خلف
إعطاء صوت للمعاناة هو الطريق نحو الحقيقة: ثيودور أدورنو
مطر وهواء وكيس عدس صغير تحتضنه خولة أم عمر، لاجئة سورية من ريف حلب، بين يديها. تنقل الكيس إلى تحت إبطها، بينما ينهمر الماء بغزارة في أزقة مخيم «مار الياس» للاجئين الفلسطينيين في بيروت. تُحاول أن تتفادى برك الماء التي تشكلت على عجل تاركة وراءها خطوط الطين، لتدخل إلى غرفة تشبه نتوءًا ظهر فجأة في جدار، بلا شكل هندسي واضح أو كهرباء، بينما ضوء النهار يُضيء بقعًا خضراء تشكلت على الجدران تنبعث منها رائحة تشبه الموت.
كيسُ عدس يكفي تقريبًا لأربعة أيام في أحسن الأحوال بحسب تقديرات خولة، فبعد أن هرب زوجها المصري إلى بلده ورفض الاعتراف بابنها الوحيد عمر (ثلاث سنوات)، اكتشفت أن الوجبات التي لا تحتاج إلى خبز أوفر من الوجبات التي تحتاج إلى تغميس اللقم مع نتف الخبز التي صارت لا تمتلك رفاهيتها. صارت وجباتها أما الخبز مع اللبن أو العدس والأرز، لتحيط نفسها، كما وصفت لنا، بدائرة هشّة من الأمان. تقول لنا: «هيك قسمت حياتي من أول الانهيار بلبنان. ما حدا بيموت من الجوع، بس الجوع بِنخر بالعضام متل البرد وأحقر».
تفتح خولة طرف كيس العدس بسكين وتسكب ربعه في ماء مغلي، بينما تتكدس خلفها أكوام من الثوم، تلال صغيرة بيضاء، تعمل طوال اليوم على تقشيرها بعد أن تعود من عملها في تنظيف مستوصف المخيم. تعمل ما يقارب ثلاث ساعات في الأسبوع وتأخذ على الساعة 30 ألف ليرة لبنانية، أي ما يقارب الواحد ونصف دولار على سعر الصرف في السوق السوداء؛ 30 ألف قد لا تكفي ثمن ثلاث ربطات من الخبز.
تجلس خولة في وسط المطبخ الذي هو ذاته غرفة للضيوف، والذي سوف يتحول بعد رحيلي إلى غرفة للنوم. تحمل رؤوس الثوم الكبيرة وتجمعها حولها: «بتعرف لمّا فكّر أنو هالمكان أنا أجيت هربانة ألو بضحك. أنا أجيت على لبنان لأنو ما ضل ألي شي بسوريا، كل شي راح. وصلت على لبنان تهريب، هربانة عم دور على فرصة لأبدأ حياتي من جديد، بس شوف حوليك، شو رأيك؟ مو كل شي عم ينتهي من جديد؟».
تنتزع خولة القشور البيضاء عن الثوم، تدقها بلطف، ثم تنظر نحو ابنها الذي حوَّلَ أكوام الحرامات إلى خيام مضحكة يتدحرج في داخلها، خيام لطالما خافت خولة أن تلجأ إليها خاصة بعد أن فقدت الأمل من منظمة الأمم المتحدة، التي كانت تجلس أمام بابها لساعات على أمل أن تحصل على المعونة المخصصة لها. كان طلبها دائمًا يُقابَل بالرفض، ففي المرة الأولى رُفِضت لأن زوجها مصري، وعندما أكدت هروب زوجها، طلبت منها المنظمة إظهار ورقة تثبت زواجها في المحكمة لتسجيل ابنها، ولكنها اكتشفت أن زوجها لم يسجّل زواجهما في المحكمة، الأمر الذي لن تستطيع معه تسجيل ابنها في الأوراق الثبوتية ولا التسجيل في الأمم المتحدة.
مع استمرار الانهيار الاقتصادي في لبنان، وفقدان العملة الوطنية لأكثر من 85% من قيمتها أمام الدولار، يعيش اللاجئون السوريون ظروفًا تُعتبر الأخطر، مع غياب الحماية لأوضاعهم في ظل جائحة كورونا والانهيار الذي يعيشه لبنان. اعتبرت منظمة الأمم المتحدة أن تسعة من بين عشرة لاجئين سوريين، والذين قدّرت أعدادهم الرسمية في لبنان بـ 839,788 لاجئ، يعيشون في فقر مدقع. واقعٌ فرض على اللاجئين السوريين التأقلم مع ظروف غير صالحة للحياة، خاصة بالنسبة للنساء اللواتي تُقدَّر نسبتهنّ حسب إحصاءات الأمم المتحدة بنصف اللاجئين السوريين المسجلين في لبنان. في ذات الوقت، أصبح وضع 40% من العائلات التي ترأسها نساء أكثر هشاشة، بسبب فُرَص العمل المحدودة والأجور القليلة التي يتقاضينها في ظل الانهيار.
لا عودة إلى الطبيعي
لا يعرف عبد الكريم، 15عامًا، الحياة الطبيعية، أو يقول إنه يراها أحيانًا في التلفزيون أو يتذكرها في الأيام التي كان يذهب فيها إلى المدرسة. يقول وهو يحاول أن يعقد حبالًا قصيرة فوق مقعد دراجته الصغيرة: «الحياة يعني… كيف بدّي قلك، إني ما أتأخر الصبح على الشغل، إني لاقي شي آكل قبل ما أنام».
يواصل عبد الكريم: «أنا بتمنى صير متل باقي الناس، بس كبرت لاجئ وما صار عندي فرصة أني أكبر متل باقي الناس، كبرت وأنا حاسس إني ناقص، ما بعرف كيف بحس لمّا شوف العالم عم تطّلع عليّ من ورا شبابيك السيارات».
يصل عبد الكريم عند الحبل الأخير، يعقده بيديه الصغيرتين بإحكام فخورًا بقوته الهشّة وبقدرته على صنع كرسي خلفي صغير لأخيه عبد الجبار، 13عامًا، الذي لم يتجاوز طوله الإطار الخلفي للدراجة إلا بسنتيمترات. يعمل عبد الكريم وعبد الجبار في ورشة خياطة في منطقة «زقاق البلاط» في بيروت، الحي الذي اكتسب اسمه من طابعه الارستقراطي، بعد أن رصفت الدولة العثمانية أزقته بالأحجار. يعملان بدوام قد يصل إلى 12 ساعة في اليوم، يتشاركان فيه تنظيف الملابس من الخيطان الزائدة، وتنظيف الورشة والأزرار من الوبر، ويمدان القماش فوق طاولة القص الكبيرة ويحلمان بتعلّم القص بالمقص الكهربائي الكبير، على أمل أن يتحسن راتبهما مع الوقت. الآن يتقاضيان 150 ألف ليرة في الأسبوع لكل واحد منهما، أي ما يعادل سبع دولارات في الشهر حسب سعر الصرف في السوق السوداء. لا يكفي ذلك احتياجات والديهما أبدًا. لذلك يستخدمان الدراجة للذهاب إلى العمل، في محاولة ناجحة منهما لتوفير ثمن المواصلات. يقبض عبد الكريم على مقود الدراجة بحزم بينما أخوه يحتضنه بهدوء من الخلف واضعًا قدميه على الأرض، في حركة تُنبِئُ كلَّ مَن يراهما بأنهما يستعدان للذهاب إلى العمل. يقطعان الأمتار الأولى بسرعة، وكأنهما يقطعان باحة متّسعة الأرجاء، ثم تبتلعهما أزقة مخيم «مار الياس» بهدوء، في مشهد يترك في النفس شعورًا يشبه الخسارة.
لا تمتلك حياة عبد الكريم وعبد الجبار ما هو طبيعي أبدًا، لا يعرفان حدود الممكن في حياة مستحيلة يفرضها الانهيار الاقتصادي في لبنان. لقد أخرجهما والدهما من المدرسة بعد نحو ستة أشهر على الانهيار لتعويض نقص الأجر الذي يعاني منه، وغلاء الأسعار الذي وضعهم أمام تحديات صعبة. يرى والدهما أنَّ «هذا هو الحل في ظل الانهيار. خسرت كتير من شغلي بعد ما خسرِت العملة اللبنانية قيمتها. كنّا قبل الانهيار قادرين نعلّم الولاد بس هلأ عم يساعدوني بالمصروف. لو بترجع الأمور إليّ والله ما بطلعهم من المدرسة، بس الظروف عمّ تفرض عليّ خليهم يشتغلوا وهمّ صغار». يجلس عبد الكريم على كنبة بنية اللون من الواضح أنها كانت بيضاء في يومٍ ما، ويحكي عن تجربته مع المدرسة: «أنا ما طلعت من المدرسة لأني مَا بحب التعليم. أنا ما أخذت فرصة لأعرف شو هوي التعليم، بس طلعت لأنو التعليم ما بِطعمي خبز بهي البلاد، وما عندي فرصة أرجع أتعلم طالما الوضع هيك رح يضل».
يوضح تقييم أجرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، بعنوان «البحث عن الأمل»، أن نسبة الطلاب السوريين الذين تم تسجيلهم في العام الدراسي 2021-2022 هي 12% فقط، بينما نسبة مَن توقفوا عن التعليم هي 69%. ووفقًا للتقييم، قال 70% من الطلاب السوريين المدمجين فيه إن حياتهم قد ساءت في 2021. ومع استمرار الانهيار الاقتصادي، «من المرجح أن تتفاقم هذه الأزمات إلى حدود قصوى لا يعود بالإمكان التعامل مع ارتداداتها».
عندما لا تعرف إلى أين
يستعيد محمود، وهو لاجئ سوري من حمص، حكايته عن التحولات الكبيرة التي طرأت على المدينة. يرى بيروت كأرض مفتوحة للخوف والفوضى، يخوض فيها صراعه الشخصي مع الرفوف الفارغة التي خَلَّفها الانهيار وراءه في محلّه الصغير. يضع فيه بعض مكعبات الجبن المتآكلة وما يشبه أكياس الخبز المتكومة فوق براد أكلته الرطوبة، وصناديق ماء مكسورة تنساب من حولها بقع ماء كبيرة. هذا كل ما تبقى، يقول محمود: «هاد مو مستودع ولا محل بدو يسكّر، هاد كلشي تبقى من محلّي بعد الانهيار الاقتصادي بلبنان. محلّي كان فيه بضاعة بما يقارب عشرة آلاف دولار، وهلأ فيه شوية جبنة ومي وخبز. كل البضاعة يلي فيه ما بيجي حقها 400 دولار. انتهت حياتي بالكامل. خسرت من جديد كل احتمالات الحياة الكريمة بهي البلاد».
وصل محمود إلى بيروت في 2012 بعد أن خسر كل أملاكه في حمص من أرض زراعية، وسيارة كبيرة للبناء، ولم يبقَ له إلا سيارة صغيرة باعها لكي يفتح هذا المحل الصغير في بيروت، ليوفر لأطفاله حياة كريمة: «بتعرف شو أقسى شي صار بحياتي، إني وصلت لمرحلة آكل وجبة واحدة باليوم. شعور صعب جدًا لمّا صرت نام بالمحل لأني بعرف إني ما رح أقدر أرجع على البيت وأنا حامل أساسيات الحياة لمرتي وولادي، والقسوة أنو ما بدي ولادي يكبروا لاجئين».
يجلس محمود أمام محله الصغير في انتظار رسالة الأمم المتحدة، التي يعني عدم وصولها عودته إلى مرحلة صعبة عاشها قبل الآن عندما كان من غير المشمولين بالمساعدات. يحصل محمود على 800 ألف ليرة لبنانية في الشهر من الأمم المتحدة، ويؤمن المحل ما يقارب مليون ونصف المليون ليرة لبنانية، أي ما يقارب 75 دولارًا في الشهر. لا يوجد طريقة لتحديد المشمولين بالمساعدات أو حتى استبعادهم، ولكن التحوّلَ الذي طال حياة محمود بعد الانهيار الاقتصادي، وإغلاقات كورونا، فرضَا عليه الاعتماد على مساعدات الأمم بشكل أساسي كي تصير حياته قابلة للعيش.
يقبض محمود على قفل المحل ويغلقه بإحكام، ثم ينفض يديه من الغبار ويقول: «أكتر شي بفكر فيه أطلع من هالبلد، بس ما بعرف لوين. مجرب شعور أنك ما تعرف لوين لازم تروح. عندي أمل أطلع من هي البلاد بس ما بعرف لوين، لأنو الحياة مو هيك بتنعاش».
موقع الجمهورية