بندقية اليانكي وأشلاء التعديل الثاني/ صبحي حديدي
الراغب في الاطلاع على أبحاث جدية معمقة تتناول ظواهر إطلاق النار العشوائي على التجمعات البشرية في أمريكا، حيث تستوي المدرسة والكنيسة والمتجر؛ لن تفوته أنساق التشابه الهائل في الأسئلة المطروحة، ومثلها التطابق المدهش في الإجابات، وكيف تنتهي هذه وتلك إلى استعصاء مذهل في تلمّس الحلول. الحصيلة بأسرها، في ابتداء إشكالياتها مثل بلوغها العجز والعطالة، لا تغادر بندَين اثنين؛ على ما يفرّق بينهما أو يجمع، وكيف تسفر هذه الحال عن نتيجة صاعقة: توافق التناقض وتصالح التنافر.
البند الأوّل هو التعديل الثاني على دستور الولايات المتحدة، الذي يعود إلى أواخر 1791 ويحمي حقّ المواطن الأمريكي في حيازة الأسلحة بقصد الدفاع عن النفس؛ والذي يواصل الصمود في وجه عشرات حوادث القتل المأساوية الناجمة عن سهولة التسلّح، وضدّ محاولات شتى لتعديله أمام المحكمة العليا أو التضييق على اقتناء الأسلحة قياساً على السنّ أو السجل العدلي أو الحالة النفسية.
وأمّا البند الثاني فهو «الرابطة الوطنية للبندقية»، ويعود تأسيسها إلى سنة 1871، وتفاخر بعضوية سبعة من رؤساء أمريكا (ثيودور روزفلت، وليام تافت، دوايت أيزنهاور، جون كنيدي، ريشارد نكسون، رونالد ريغان، جورج بوش الأب، ودونالد ترامب). إنها بين أقوى مجموعات الضغط في أمريكا، وتزعم كتلة من خمسة ملايين منتسب، ويندر أن يسلم من نفوذها عضو في مجلس الشيوخ أو النوّاب، خاصة في صفوف الحزب الجمهوري. والمعادلة بسيطة هكذا: إمّا أن يقاوم التعديل الثاني، فتواصل الانتعاش تجارة بيع السلاح إلى العموم؛ وإمّا أن يتعدّل التعديل أو حتى تُعاد صياغته، فتغلق أبوابها متاجرُ المسدسات والرشاشات الخفيفة منها والثقيلة.
وأفضل المجلدات التي تتناول الظاهرة لا تغفل مناقشة أسئلة مثل: هل حوادث القتل العشوائية الجماعية مشكلة جدية، ولا غرابة في طرح السؤال هكذا، إذْ ثمة من يقول (وأشهرهم اليوم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وعضو مجلس الشيوخ الحالي تيد كروز) إنها ليست مشكلة على الإطلاق؛ وهل وضع القيود على اقتناء الأسلحة يمكن أن يخفّض حوادث القتل تلك، أم لا تأثير لأيّ إجراءات تقييدية؛ وهل ألعاب الفيديو التي تُدرج العنف المفتوح بالسلاح ذات أثر، أم أنّ ثقافة العنف العريضة هي الأصل؛ وهل تلعب حالات الاعتلال النفسي دوراً مباشراً في تغذية حوافز العنف، أم أنّ الصلة غائبة؛ وأخيراً، وليس آخراً أغلب الظنّ، أليست ثقافة العنف ضاربة الأطناب في بنية نفسية أمريكية مستقرّة ومتجذرة، لم يبدأها راعي البقر وحده ولم تنحسر مع مذابح الجيش الأمريكي في فييتنام ثمّ ضدّ شعوب أخرى عديدة؟
وثمة قاسم مشترك بين العديد من حوادث القتل هذه يؤكد انطلاقها من دوافع التمييز العنصري وكراهية الآخر وما بات يُسمّى «المركزية البيضاء»؛ كما في إطلاق النار الذي شهده مخزن بوفالو، نيويورك، مطلع هذا الشهر؛ حيث كان القاتل قد وضع على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي «مانيفستو» من 180 صفحة يبشّر فيه بالتفوّق الأبيض، ويحذّر من سود ساعين إلى استبدال البيض، ويسوق سلسلة أفكار حول تدنّي تكوينهم الخَلْقي وأنّ جيناتهم مسؤولة عن ميلهم إلى الجريمة، كما يحضّ على رفض اللاجئين لأنهم بمثابة «غزو» منظّم يجتاح أمريكا. وهذا القاتل لم يكن يتجاوز الـ18 سنة، والسلاح الذي استخدمه كان هدية قدّمها له والده في مــناسبة عيــد الميلاد.
وليست سمة عجيبة، قياساً على هذه الحال من التعبّد للبندقية والسلاح الناري الثقيل، أن يكون مستوى قادة «الرابطة الوطنية للبندقية» ضحلاً غالباً وهابطاً أقرب إلى الجهل؛ كما في المثال الذي قد يظلّ الأبرز: الممثل الشهير شارلتون هستون، الذي تولى رئاسة الرابطة خلال أعوام 1998 وحتى 2003، واعتاد أن يختم خطابه في كلّ مؤتمر برفع بندقية والهتاف: لن تُنتزع إلا من أصابع باردة قتيلة! وذات يوم، في سنة 2001، وخلال المحاضرة الافتتاحية لمركز الآداب الآسيوية والأفريقية في جامعة SOAS البريطانية؛ تحدّث الراحل إدوارد سعيد عن ظاهرة الجهل التي تعمّ المجتمع الأمريكي، صغاره وكباره.
ولقد ضرب المثل الأوّل في يافع لا يعرف أين تقع إيطاليا، على خريطة العالم؛ والمثل الثاني في شيخ (وأيّ شيخ!) عجز عن تسمية دولة واحدة تشترك في الحدود مع العراق، إذْ قال بعد تردّد: روسيا، ربما؟ كان هستون هو صاحب الحدود المشتركة بين العراق وروسيا، وكان أيضاً من أشدّ المتحمسين لاجتياح بغداد، هو ذاته الذي لعب دور موسى في الفيلم الشهير «الوصايا العشر»، جاهلاً أنّ بلاد الرافدين هي نفسها العراق الحديث.
وقد تكون المصادفة وحدها وراء انعقاد المؤتمر السنوي لـ»الرابطة الوطنية للبندقية» في هوستون، تكساس، بعد أيام على مجزرتَيْ بوفالو ومدرسة يوفالدي، في سنة شهدت حتى الساعة 213 واقعة إطلاق نار عشوائية جماعية؛ غير أنّ الصدفة لا صلة لها البتة بحضور أسماء مثل ترامب، والسناتور عن تكساس كروز، وحاكمة ساوث داكوتا كريستي نويم، وحاكم نورث كارولاينا مارك روبنسون… لا فارق عند هؤلاء بين تمزيق أشلاء التعديل الثاني وتقديس بندقية اليانكي، بل قد يكون التماهي بين الدماء والرصاص هو الراية المشتهاة، الأحبّ والأعلى.
القدس العربي