صفحات الحوار

حسام الدين درويش: الصراع للديمقراطية ومناهضة الاستبداد له الأولوية

أشرف الحساني

على الرغم من التأثير الفكري الذي مارسته فلسفة بول ريكور (1913 ـ 2005) داخل أنساق المعرفة المعاصرة، ما يزال هذا الفيلسوف غريبًا داخل الثقافة العربيّة المعاصرة، رغم تعريب وترجمة كثير من مؤلّفاته الفلسفيّة المُؤسّسة لمشروعه الفكري. وفي هذا السياق، يبرز مؤلّف الباحث الأكاديميّ السّوري، الدكتور حسام الدّين درويش، بعنوان “إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كأحد أهمّ المُؤلّفات الفكريّة الرصينة التي تُعيد قراءة الفلسفة الريكورية على ضوء مناهج معاصرة. ويتمتّع الكتاب بكمّ هائلٍ من الأفكار، وقدرة متينة على تحليل بعض المفاهيم، وتركيب بعض الأفكار الفلسفيّة التي تميّز بها ريكور داخل الفلسفة المعاصرة، سيّما وأنّ حسام الدّين درويش يُعدّ من أبرز الباحثين المُجدّين في كتاباتهم الفكريّة وقدرتهم على إعادة طرح أفكار وقضايا وإشكالات قد تتناساها الثقافة المعاصرة، لكنّه يُعيد التقاطها وتأصيلها وجعلها تدخل إلى مختبر الحياة الفكريّة المعاصرة، كما هو الأمر في كتابه الجديد “المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر” (2022). بمناسبة صدور كتابه الأخير، كان لنا معه هذا الحوار:

(*) أوّلًا، ما الذي جعلك كباحث وأكاديمي تهتم بالكتابة عن فكر بول ريكور، وتفرد له مؤلفًا بعنوان “إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية: نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار”؟

اخترت (هيرمينوطيقا) بول ريكور موضوعًا لرسالتي الماجستير والدكتوراة. وكتابي المذكور هو حصيلة رسالة الدكتوراة التي نُشرت في كتابين باللغة الفرنسية، قبل ترجمتها ونشرها باللغة العربية. وبغض النظر عن الأسباب العملية والعرضية التي أفضت بي إلى هذا الاختيار، أود الإشارة إلى بعض سمات فلسفة بول ريكور التي أرى أنه بإمكانها التشجيع على البحث في هذه الفلسفة والكتابة عنها، وقد تحدثت في كتابي عن أهمها، وأقصد السمات الحوارية والنقدية والجدلية التوفيقية، والتواضع والتراكم المعرفي، وإمكانية البناء على هذه الفلسفة، والاختلاف عنها أو معها، في الوقت ذاته.

غلافي كتاب “المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر”

فلسفة ريكور قائمةٌ، بالدرجة الأولى، على الحوار الداخلي مع الفلسفات التي تنتمي إليها وتتقاطع معها (الفلسفات الفينيومينولوجية والهيرمينوطيقية والتفكرية)، بالإضافة إلى الحوار الخارجي ثلاثي الأبعاد، مع الفلسفات الأخرى (الفلسفة التحليلية، خصوصًا أو تحديدًا)، والعلوم عمومًا، والعلوم الإنسانية والاجتماعية خصوصًا، بالإضافة إلى الدين واللاهوت والفكر الديني (المسيحي). والبحث في فلسفة ريكور يقتضي الانفتاح المبدئي والفعلي على مبدأي الحوار والاختلاف، وعلى كل أطراف الحوار المذكورة المختلفة. لكن الانفتاح على الاختلاف والحوار مع المختلفين، في فلسفة بول ريكور، يترافق مع تشديدٍ دائمٍ على السمة النقدية. وفي محاكاة جزئيةٍ للنقد الكانطي، يعني النقد عند ريكور إظهار مشروعية أو معقولية الموضوع المُنتقد، وحدود هذه المشروعية أو المعقولية، في الوقت نفسه. وانطلاقًا من السمتين الحوارية والنقدية، اتسمت الفلسفة الريكورية بنزوعها الجدلي التوفيقي، بين الاختلافات/ المختلفين، وإيجاد جسور التواصل بينها/ بينهم. والجدل عند ريكور أقرب إلى الجدل، الهيغلي، الإيجابي منه إلى الجدل الأدورني/ الدريدي السلبي، لكنه يختلف عن الجدل الهيغلي برفضه لوجود (تركيبٍ) مطلقٍ يجمع كل المتناقضات؛ وبذلك يقر الجدل الريكوري، جزئيًّا ونسبيًّا، مع الجدل الأدورني/ الدريدي، بوجود أشياءٍ لا يمكن تحقيق المصالحة بينها، وبتعدُّديَّة أنساق الفكر والتفكير، وبأنه ليس ثمَّة ميتافيزيقا وحيدة يمكننا معها حسم هذه التعدُّديَّة، كما يعتقد هايدغر.

ولضيق المجال أكتفي بذكر سمة أخرى مزدوجة أرى أنها تحفز على البحث في الفلسفة الريكورية، والكتابة عنها، وهي سمة التواضع والتراكم المعرفيين. فعلى العكس مما رآه فؤاد زكريا في كتابه “التفكير العلمي”، تُظهر فلسفة ريكور وجود السمة التراكمية في المعرفة الفلسفية. ففلسفة ريكور تستند استنادًا صريحًا وقويًّا إلى فلسفات كثيرين ممن سبقوه أو عاصروه، وتحاول، في حوارها النقدي معها، أن تغتني بها، وتغنيها، في الوقت نفسه. ولم يكن لهذه السمة التراكمية أن تكون موجودةً، بهذه الصيغة، لولا التواضع المعرفي الذي تتسم به الفلسفة الريكورية والمتمثل في الإقرار، ليس بأهمية ما قدمه الآخرون فحسب، بل بمحدودية ما يمكن للذات، أو الفرد الواحد، تقديمه، أو إضافته أيضًا.

(*) كيف تنظر إلى عملية تلقّي الفلسفة الريكورية داخل العالم العربيّ؟

تتسم عملية تلقّي الفلسفة الريكورية داخل العالم العربيّ، عمومًا، بكل سمات تلقّي الفلسفة في ذلك العالم. ولعل السمة التبشيرية هي أهم تلك السمات. وأعني بتلك السمة تقديم فلسفةٍ ما، أو الحديث عنها، بصيغة الإشادة والتعظيم، مع محاولة تحويل أفكارها وأطروحاتها إلى معارف أو معلومات وقيمٍ ينبغي تبنيها والتفكير بها أكثر من مناقشتها والتفكير فيها. إن تجميد أو تخثر الفكر (الفلسفي) من خلال تحويله إلى معلومات معرفية وقيم معيارية هو، في حدوده الدنيا، أمرٌ ضروريٌّ لحياة الفلسفة والفكر عمومًا؛ لكنه، في حدوده العليا المتطرفة، هو موتٌ أو مواتٌ للفكر (الفلسفي). والتخثر المذكور يجعل الفلسفة أقرب إلى الأيديولوجيا منها إلى الفكر النقدي المتسائل، الذي يعيد التفكير والتفكُّر، دائمًا، في منطلقاته وافتراضاته وأدواته وغاياته وعلاقته بذاته وبالآخرين، أو يجعل منها دينًا، ومن الفيلسوف نبيًّا أو رسولًا مهديًّا وهاديًا.

(*) إلى أيّ حدّ في نظرك ساهم هذا المفكّر في خلق الدهشة والابتكار داخل الفكر العربيّ المعاصر، سواء تعلّق الأمر بالموضوعات، أو بالمنهج؟

في الحد الأدنى المذكور من التلقي العربي لريكور، ساعدت الفلسفة الريكورية على تذكيرنا بأنْ ليس ثمة تعارضٌ أو عداءٌ ضروريٌّ أو جوهريٌّ بين الفلسفة من جهةٍ والعلم والدين من جهةٍ أخرى، بين الفلسفة الهيرمينوطيقية/ الفينومينولوجية (القارية)، والفلسفة التحليلية (الأنغلوسكسونية)، بين الانفتاح على الآخر والمختلف ونقده. ولعل هذا التفاعل الإيجابي بين الأطراف المذكورة، وإقامة الجدل الإيجابي بينها هو ما ينبغي التشديد على أهمية حضوره في التلقي العربي للفلسفة عمومًا.

وفي دراستي لفلسفة ريكور، حاولت الاستناد إليها، في الخروج عنها وعليها؛ واقترحت تأسيس هيرمينوطيقا للخطاب الشفهي عمومًا، وللحوار خصوصًا، انطلاقًا من فلسفته الهيرمينوطيقية، تحديدًا، على الرغم من تشديده الكبير والمستمر على أن موضوع الهيرمينوطيقا هو النص والمكتوب، وليس الكلام أو الخطاب الشفهي. وعلى هذا الأساس، وبهذا المعنى، تحدثت، في كتابي المذكور، عن إمكانية تجاوز الهيرمينوطيقا الريكورية، وضرورة هذا التجاوز، في الوقت نفسه.

يمكن للفكر أن يسلم من الأيديولوجيا من دون أن يخلو منها..

(*) صدر لك هذه الأيام كتاب فكري جديد بعنوان “المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر” (2022). بداية، عن أيّ أيديولوجيا تتحدّث، مع العلم أنّ مُختلف أنساق الفكر المعاصر لا تكاد تسلم من مفهوم الأيديولوجيا؟

يمكن للفكر أن يسلم من الأيديولوجيا من دون أن يخلو منها. وثمة شكوكٌ كبيرةٌ ومحقةٌ في إمكانية خلو الفكر في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية من الأيديولوجيا، خلوًا كاملًا. وفي كل الأحوال، ليست الأيديولوجيا داءً، بالضرورة، بل يمكن القول إنها قد تتضمن ترياقًا ودواءً.

وعلى هذا الأساس، يمكن الدفاع عن الأطروحة القائلة بضرورة تبني الجدل الإيجابي بين المعرفة والأيديولوجيا، انطلاقًا من أن “المعرفة من دون أيديولوجيا عمياء، والأيديولوجيا من دون معرفة جوفاء”. وهذا جزءٌ مما حاولت إبرازه في كتابي المذكور الذي يبين أن الأيديولوجيا، بوصفها رؤيةً معياريةً لما ينبغي أو يجب أن يكون، محايثةٌ للمعرفة، بوصفها وصفًا و/ أو تحليلًا لما هو كائنٌ، وذات علاقة متعددة الأبعاد بها، في الوقت نفسه. ويمكن للأيديولوجيا المحايثة للفكر أن تؤدي دورًا إيجابيًّا في هذا الفكر، بقدر ما تنضبط بضوابط المعرفة (الموضوعية)، وتتضمن قيمًا معياريةً إيجابيةً، لكن يمكن لها، بالتأكيد، أن تكون ذات دورٍ سلبيٍّ، بحيث تفضي إلى معرفةٍ تعبر عن رغباتنا وتحيزاتنا المشوِّهة للمعرفة، أو المنتجة للمعرفة الزائفة، أكثر من تعبيرها عن رؤيةٍ موضوعيةٍ مسوَّغةٍ ومضبوطةٍ ونزيهةٍ، بالمعنيين المعرفي والأخلاقي للنزاهة.

(*) لدى الفكر السوري المعاصر أسماء لافتة، مثل الطيب تيزيني، وبرهان غليون، وغيرهما.. إلى أيّ حد يُمكن الحديث داخل الفكر السوري الآن عن امتدادٍ حقيقي؟

كتابي يتناول الفكر السوري عمومًا، وليس فكر مفكِّرين محدَّدين. فهو يتناول فكر كتَّاب وباحثين وسياسيين وشخصيات عامة في المجال السوري العام. ولا أعتقد مثلًا بوجود، أو بوجوب وجود امتداد حقيقي داخل الفكر السوري المعاصر لمشروع الطيب تيزيني في علاقته بالتراث الماركسي. وأرى أن الماركسية بوصفها رؤية تقول بالأساس الاقتصادي الاجتماعي/ السياسي والجدلي للفكر، وتنحاز للتغيير والمساواة والعدالة (الاجتماعية)، أشبه بالبديهية أو المسلمة التي (ينبغي ألا) يختلف عليها كثيرًا. وهي حاضرة في الفكر السوري المعاصر حضورًا قويًّا عمومًا. أما الماركسية، بوصفها تمذهبًا أرثوذكسيًّا، ورؤيةً أحاديةً، ومنهجًا مسبقًا وناجز الصنع، وجاهزًا للتطبيق ميكانيكيًّا، فقد أصبح حضورها ضعيفًا، بشكلٍ مضطردٍ.

(*) ألاّ تعتقد أنّ أغلب المشاريع الفكريّة الرائدة في تاريخ الفكر العربي المعاصر تبدو اليوم وكأنّها تختفي تدريجيًا من المشهد الفكري لصالح ثقافة الترفيه والاستهلاك، أو بتعبير آخر: إلى متّى ستظلّ الثقافة العربيّة تُعاني من آفة النّسيان في ما يتعلّق بقاماتها الفكريّة والأدبيّة؟

لا أعتقد أن حال الثقافة العربية في الماضي القريب، أو البعيد، كان أفضل أو أسوأ بكثيرٍ من حالها اليوم. ولكل عصرٍ سلبياته وإيجابياته. ومعك حقٌّ في الإشارة إلى الاختفاء التدريجي للمشاريع الفكرية الرائدة من المشهد الفكري الراهن، لكن ينبغي التشديد على أن هذا الاختفاء ليس كاملًا من جهةٍ، وهو مرتبطٌ، ارتباطًا وثيقًا، بتطور الأحوال السياسية في العالم العربي، من جهةٍ أخرى. ويبدو أننا ما زلنا نجتر أسئلة عصر النهضة والفترات التاريخية التي تلته، وبعض الحلول التي رُسِمت مسبقًا بعض أهم معالمها. فعلى سبيل المثال، بعض أهم أسئلة الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وتشخصيهم لمشكلات الواقع، ورؤيتهم للحلول لتلك المشكلات، نجدها، جزئيًّا ونسبيًّا، عند حسن حنفي، الذي أعلن بوضوحٍ نيته في أن يكون “أفغانيًّا جديدًا”، أي أن يسعى إلى تحقيق ما سعى الأفغاني إلى تحقيقه، والمتمثِّل في “تحويل الإسلام إلى منهاج إسلاميٍّ عامٍّ”. وترافقت المشاريع الفكرية العربية، لفترةٍ طويلةٍ، مع قراءاتٍ شاملةٍ للتراث العربي الإسلامي (الجابري، تيزيني، مروة،… إلخ)، تنوس بين القول بوجوب التأسس على هذا التراث، وتأمين سبل التواصل والاستمرارية معه، حفظًا للأصالة والهوية، والقول بوجوب القطع والقطيعة مع هذا التراث، لصالح التكيف مع متطلبات الحداثة والمعاصرة. وما زلنا نجد بقايا مثل هذه المشاريع الفكرية، لدى طه عبد الرحمن مثلًا.

وقد تضاءل وجود أو حضور هذه المشاريع لأسباب متعددةٍ، من أهمها أن المشاريع الفكرية السابقة ارتبطت بالاعتقاد، المحق أو غير المحق، بوجود مشاريع قومية لدى القيادات والنخب السياسية، وبجماهيرية هذه المشاريع في مواجهة الاستعمار القائم، أو الراحل حديثًا. وعلى الرغم من أن ثورات الربيع العربي قد أعادت الاعتقاد بوجود أوضاع عربية مشتركة تستدعي ردود فعلٍ أو مشاريع فكريةٍ وواقعيةٍ مشتركةٍ، إلا أن هناك وعيًا متزايدًا بوجود اختلافاتٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ بين أجزاء العالم العربي/ الإسلامي، ينبغي أخذها في الحسبان، عند تشخيص مشكلات ذلك العالم، واقتراح الحلول لتلك المشكلات.

وعند الحديث عن معاناة الثقافة العربيّة من آفة النّسيان في ما يتعلّق بقاماتها الفكريّة والأدبيّة، ينبغي لنا أن ننتبه إلى أن فاعلية تلك الثقافة، في هذا الخصوص، مرتبطةٌ بفاعلية الدولة وتوجهاتها، و/ أو فاعلية المجتمع (المدني)، وممكنات كونه مدنيًّا وحرًّا وفاعلًا. ويصعب تحميل المجتمع مسؤولية الآفة المذكورة، بسبب التضييق المقصود، أو غير المقصود، الذي تمارسه الدولة حياله، بما يمنع تحوله إلى مجتمعٍ مدنيٍّ، بالمعنى السياسي والقوي للكلمة. ولا يقتصر الدور السلبي للدولة، في هذا الخصوص، على نسيان أو تناسي القامات الفكرية، أو الأدبية، وإنما يمتد ليشمل اصطناع وجود قاماتٍ معينةٍ تناسبها، وتتبنى أجندتها وتروِّج لها، مع عرقلة وجود قاماتٍ أخرى ناقدةٍ لها، أو مستقلةٍ عنها. ولقد تناولت مشكلة العلاقة بين الثقافة والسياسة في كتابٍ صدر حديثًا عن دار المتوسط/ مركز دراسات ثقافات المتوسط بعنوان “الاعتراف والهوية: نقد المقاربة الثقافوية والعنصرية في الثقافة العربية الإسلامية”.

(*) لماذا بقي الفكر العربي المعاصر مُرتبطًا في مُجمله بالسياسة والاجتماع والاقتصاد والتاريخ على حساب مفاهيم فلسفية أخرى أكثر ارتباطًا بحياتنا اليوميّة، مثل الصورة، والمتخيّل، والجسد؟

لا أرى أن المفاهيم الفلسفية المذكورة منفصلةٌ، بالضرورة، عن مسائل السياسة والاجتماع والاقتصاد والتاريخ، كما أنها ليست، بالضرورة، أكثر ارتباطًا بحياتنا اليومية من المسائل المذكورة، في كل الأحوال. ويبدو مفهومًا ومعقولًا الحضور الكثيف للمسائل المذكورة في الفكر العربي. وينبغي الانتباه إلى أن الفكر الذي يُحجِم كليةً عن تناول مسائل السياسة هو فكرٌ سياسيٌّ أيضًا؛ لكنه، غالبًا على الأقل، فكرٌ سياسيٌّ مهادنٌ للسلطات (السياسية/ الاستبدادية) القائمة، و/ أو خاضعٌ لها، و/ أو خائفٌ منها ومتجنبٌ لغضبها وقمعها.

يمكن بالتأكيد تفهم رؤية من يرى، مع غادامر، في السياسة “إلغاءً ذاتيًّا للفلسفة”، بل وللفكر والتفكير عمومًا، حيث يقتصر الشخص، حينها، على اتخاذ المواقف وتبني رؤيةٍ أيديولوجيةٍ مانويةٍ تقسم العالم إلى قسمين لا توسط بينهما: خيرٌ وشرٌ، حقيقةٌ وباطلٌ،… إلخ. الفلسفة والفكر، عمومًا، يعملان في المناطق الرمادية، ويتحركان بين الأقطاب الأيديولوجية من دون أن يتموقعا، أو يستقرا، كليةً، في أحدها. وليس نادرًا أن تفضي سياسوية الفكر العربي إلى فقره الفلسفي والفكري والمعرفي عمومًا. ولهذا شدَّدت في كتابي الأخير “المعرفة والثقافة …”، على ضرورة تحقيق التوازن بين المعرفة والأيديولوجيا، بين الوصف أو التحليل المعرفيين والتقييم أو التقويم المعياريين، بين أحكام الوجود وأحكام القيمة.

الأولوية ينبغي أن تكمن في الصراع من أجل الديمقراطية ومناهضة الاستبداد

(*) بعيدًا عن المنزع الأيديولوجي الذي ينحر الفكر المعاصر، ما الملامح والخصائص والسمات التي ترسمها كأكاديمي للفكر السوري، سواء في مصادره الحديثة، أو تجلّياته المعاصرة؟

الفكر السوري/ العربي المعاصر فكر سياسيٌّ بالدرجة الأولى، وعلى هذا الفكر السياسي تحديدًا ينصب اهتمامي عمومًا، في كتابي المذكور.

السمة السياسية للفكر سمة حيوية فيه، لكن تكمن فيها ممكنات موته، أو مواته أيضًا. ولم يعد ممكنًا، أو مرغوبًا، أو كافيًا، توصيف الفكر (السياسي) وفق التصنيفات التقليدية التي كانت مهيمنةً في النصف الثاني من القرن العشرين (يمين مقابل يسار، رجعي مقابل تقدمي، محافظ مقابل تحرري). ولعل الانقسامات الأكثر شيوعًا في هذا الفكر (السياسي) تتعلق بالدين والعلمانية من جهةٍ، والاستبداد والديمقراطية من جهةٍ أخرى. وقد حاججت في كتابي عن “الاعتراف والهوية…” بأن الأولوية (ينبغي أن) تكمن في الصراع من أجل الديمقراطية ومناهضة الاستبداد، وليس في الصراع من أجل أو ضد الدين/ الإسلام (السياسي)، أو العلمانية.

الفكر السوري/ العربي المعاصر فكرٌ جذريٌّ عمومًا. وجذريته تظهر في اعتقاده بضرورة إحداث تغييرٍ جذريٍّ ما. وهنالك من يرى أولوية، أو ضرورة، حدوث، أو إحداث هذا التغيير في الفكر أو الثقافة أو المجتمع. وهنالك من يرى أولوية، أو ضرورة حدوث، أو إحداث، ذلك التغيير في الدولة والأنظمة الحاكمة. وهنالك من يتحدث عن إمكانية وضرورة حصول ذلك التغيير في المستوى المحلي، أي مستوى دولةٍ ما. وهنالك من يرى أن التغيير المنشود لا بد أن يكون تغييرًا عالميًّا.

الفكر السوري/ العربي المعاصر يتحرك بين انتماءات ما فوق الدولة/ الانتماءات الإنسانية الكونية، وانتماءات ما قبل أو ما تحت الدولة (الانتماءات الإثنية، أو الطائفية، أو المناطقية… إلخ). وفي صدىً لسياسات الهوية المتزايدة الحضور والانتشار عالميًّا ومحليًّا، ثمة محاولاتٌ طريفةٌ ومثيرةٌ للانتباه والتفكير للتوفيق بين الاتجاهين المذكورين. ويمكن لهذه المحاولات أن تنجح بقدر تبنيها لمفهوم الدولة الوطنية، وبقدر اتساق مفهوم الوطنية الذي تتبناه مع مفاهيم الديمقراطية والحريات (الفردية) والعدالة الاجتماعية.

الفكر السوري/ العربي المعاصر فكرٌ متنوِّع المضامين والمنطلقات والتوجهات إلى درجةٍ تفضي إلى التشكيك في وجود وحدةٍ قويةٍ تجمع بين مختلف تنويعات الفكر المذكور، غير جنسيات أو انتماءات منتجيه. وثمة عوامل متعددةٌ يمكن أن تساعد في تفسير التنوع المذكور، لعل أهمها يكمن في تمتع عدد أكبر من السوريين العرب بحرية التعبير نتيجة ثورات الربيع العربي، أو فقدان الأنظمة للقدرة على ضبط مواطنيها، أو منعهم من التفكير، أو نتيجة لتطور وسائل التواصل (الاجتماعي)، والتعبير في العالم الافتراضي،… إلخ.

(*) وفق هذه الرؤية الفكريّة، هل يُمكننا الحديث اليوم عن توطين فكر سوري جديدٍ تتبنّاه أقلامٌ بحثية بعيدة عن عالم السياسة والسلطة منذ بدايات الربيع العربي؟

ثمة حضورٌ أكبر للأقلام البحثية في الفكر السوري/ العربي المعاصر؛ وعمومًا، لم يعد هذا الفكر (مجرد) فكر مفكرين، أو فكر نخبةٍ محدودةٍ من الشخصياتٍ الفكرية التي كانت غالبًا أقرب إلى المفهوم الفرنسي للمثقف. السمة البحثية زودت الفكر المذكور بترياقٍ سمح بتجنيبه بعض المثالب الممكنة والسائدة لأيديولوجية الفكر وتأمليته التفكرية. كما أن تخلص ملايين السوريين من هيمنة الاستبداد السياسي الأسدي عليهم، أو في حياتهم، سمح لهم بمساحةٍ هائلةً من الحرية لم يسبق للأغلبية الساحقة/ المسحوقة من السوريين أن حظيت بها في العقود الخمسة الأخيرة، على الأقل. ولا يعني ذلك ابتعاد الفكر المذكور عن عالم السياسة والسلطة، وإنما يعني تمتعه بمساحةٍ غير مسبوقةٍ من الحرية والحركة في العالم المذكور. وثمة آمالٌ معقودةٌ على أن تُستثمَر تلك المساحة بأفضل طريقةٍ ممكنةٍ.

ضفة ثالثة

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button