جون بيرجر.. الصورة قبل النص والكلام/ بشير البكر
كان التصوير الفوتوغرافي، لكل من الناقد رولان بارت، والروائي والناقد البريطاني جون بيرجر، والروائية والناقدة الأميركية سوزان سونتاغ، مجالًا ذا أهمية خاصة، لكنه لم يكن تخصصاً لأي منهم. لقد تعاملوا مع التصوير ككتاب. بقي بارت في الأوساط الأكاديمية طوال حياته المهنية، وصدر له قبل وفاته العام 1980، كتاب “العلبة المضيئة”، وهو عبارة عن قراءة طويلة فلسفية وحسية لما هو غير مرئي في الصورة الفوتوغرافية. واتبعت سونتاغ صاحبة التصريح الشهير “اختراع الكاميرا أهم من إختراع المطبعة”، مسارًا راسخًا إلى حد ما في الدراسة الأكاديمية، قبل أن تصبح كاتبة مستقلة. بينما كانت الحياة الإبداعية لبيرجر متجذرة في الفنون البصرية.
ترك بيرجر المدرسة بفكرة واحدة “أردتُ رسم نساء عاريات.. طوال اليوم”، والتحق بالمدارس الفنية في حي تشيلسي الذي يسكنه الأثرياء، و”سنترال” لندن، في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. وبعدها بدأ الكتابة عن الفن وأصبح ناقدًا منتظمًا متمردًا، ماركسيًا، يحظى بإعجاب كبير، وكانت روايته الأولى “رسام عصرنا” (1958) نتيجة مباشرة لإنغماسه في عالم الفن وسياسة اليسار. وبحلول منتصف الستينيات من القرن الماضي، وسع نطاقه، وبدأ التعاون مع المصور جان موهر. ومن آثار هذه العلاقة أن بيرجر، لسنوات عديدة، لم يكتف بمراقبة موهر في العمل، بل كان موضوع العمل، وأصبح على دراية بالجانب الآخر من التجربة، المتمثلة في التصوير. وباستثناء صورة واحدة، من قبل صديق آخر (هنري كارتييه بريسون)، فإن كتب بيرجر موشحة دائمًا بصور موهر؛ وهي تشكل السيرة البصرية لصديقه المصور. وغالبًا ما تركز كتابات بيرجر في التصوير الفوتوغرافي على التجربة والحياة المصورة لأولئك الذين تم تصويرهم، وعن التصوير الفوتوغرافي وعلاقته بالرسم، لأنه كان رسامًا، واستحق لقب المفكر والكاتب البصري.
وفي محادثة بينه وبين الروائي مايكل أونداتجي، صاحب رواية “المريض الانكليزي”، أشار إلى أن قدرات التحرير السينمائي قد أثّرت في كتاباته، وحدد قدرة السينما على الانتقال من المشاهد الواسعة إلى اللقطات المقربة، على أنها أكثر ما يتعلق به ويطمح إليه. كان هذا هو الهدف الذي تشاركه بارت وبيرجر، وهو التعبير عن جوهر التصوير الفوتوغرافي، أو “فكرة التصوير” في نظرية التصوير الفوتوغرافي. وتبدو طريقة بيرجر، كما هو الأمر لدى بارت، دائمًا شخصية للغاية، بحيث لا يمكن الاستسلام لنوع الخطاب وهوس السيميائية الذي استحوذ على الدراسات الثقافية في السبعينيات والثمانينيات. ويبرز هنا تركيز بارت على قراءة دلالية للمشهد ورمزيته بعيداً من الخبر، إضافة إلى تجاهل المعطيات الصحافية بالتركيز على وجود المصور كجزء من الصورة. وأخيراً، طريقة أخرى للقول.
المهم، في نظر الكتّاب الثلاثة، هو أن الصورة ليست موجودة لتوضيح النص، وعلى العكس من ذلك، لا يُقصد من النص أن يكون بمثابة شرح موسع للصورة. رفضًا لما يعتبره بيرجر نوعًا من “الحشو”، توجد الكلمات والصور، بدلاً من ذلك، في علاقة متكاملة تعزز بعضها البعض. تم تشكيل وصقل شكل جديد. ومن دون أي التباس، يعلق بيرجر أهمية كبيرة على الصورة، أكثر بكثير من النص، وعلى أي وسيلة أخرى في تقديم شهادة عن العالم المحيط بنا، وعن الماضي وعن بشر آخرين عاشوا في أزمنة أخرى. ويجد في الصورة دقة وغنى أكثر من الأدب، ويؤكد على أن هذا الاختلاف في الرؤية قد أصبح واقعاً بعد اختراع الكاميرا، التي أثبتت بطلان فكرة أن كل رسم أو لوحة تستخدم المنظور، تقترح على الناظر أن يكون مركز العالم، وهذا ما كانت قد أرسته النهضة الأوروبية، عندما أطلقت مصطلح المنظور، حيث يتركز كل شيء في عين الناظر. وفي الوقت نفسه، هذا لا يعني من وجهة نظره، إلغاء السمة التخيلية للفن، والإبقاء على النظرة التوثيقية، بل يجد أن التخييل يوفر فرصة ثمينة لكي نتشارك بعمق مع الفنان في تجربته. وبناء على ذلك، يطرح تساؤلاً عن السبب الذي لأجله صنعت الصورة؟ ويرى أن الإجابة يمكن العثور عليها في محاولة الإنسان استحضار شيء كان غائباً، وبالتدريج بدا واضحاً أن بمقدور الصورة أن تديم ما تمثله، كما أنها تظهر الهيئة التي كان عليها شيء ما أو أحد ما، وبالتالي فقد تضمنت الصورة في حيثياتها، الكيفية التي رأى فيها الآخرون الموضوع ذات مرة، على اعتبار رؤية صانع الصورة جزءاً من التسجيل، أي الصورة بوصفها تسجيلاً للكيفية التي رأى فيها المصور الشيء. ويرى بيرجر أن ذلك نتيجة لتزايد الوعي بالتاريخ، ويتقاطع ذلك مع التحليل الذي يقدمه بارت لصورة جيروم – شقيق نابليون بونابرت – ويقول: “أنظر لعينين نظرتا للإمبراطور”، ويكون بذلك قد تجاوز الظاهر في الصورة وما هو مرئي؛ إلى ما هو أعمق من ذلك من الناحية الوجودية والرمزية للصورة.
الصور بحاجة إلى روايات لفهمها، هذا ما تقوله مقالات وكتب بيرجر عن الصورة، كي تنزع الغموض السياسي للمعنى في الصورة. وعليه، تحتاج الصور الفوتوغرافية دائمًا إلى لغة، وتتطلب سردًا من نوع ما، حتى يكون لها معنى، ويحرص على التمييز بين كيفية اعتماد رد فعلنا تجاه صور الأحباء، على علاقتنا بالشخص الذي يُصوّر. وفي كتاب “الرجل السابع” ، وهو كتاب مشترك مع جان موهر حول العمال المهاجرين الأتراك إلى ألمانيا في السبعينيات، يقول بيرجر: “صورة لصبي تحت المطر، صبي مجهول لك أو لي، عند رؤيتها في الغرفة المظلمة للطباعة، أو المشاهدة في هذا الكتاب عند قراءته، تستحضر الصورة الحضور الحي للصبي المجهول بالنسبة لوالده، سيحدد ذلك غياب الصبي”.
ما دفع بيرجر للكتابة على مر السنين هو الحدس، بأن هناك شيئًا ما يجب إخباره، وأنه إذا لم يحاول إخباره، فإنه “يخاطر بعدم إخبار”، وهو يدرك جيداً أن للكتابة حدودها. ولا تستطيع الكتابة بحد ذاتها أن تعيد التوازن إلى عدم المساواة في الحاضر، أو أن تنشئ طرقًا جديدة للرؤية. ومع ذلك فقد كتب بأمل. لقد أظهر لنا في عمله إمكانات أخرى لعيش حياة ملتزمة، بنقد عدم المساواة، مع الاحتفال بالجمال في العالم، والاهتمام بلونه وإيقاعه ومفاجآته السعيدة. وما زلنا مدينين له. لقد غيّر اختراع الكاميرا طريقة النظر، فأصبح المرئي يعني شيئًا مختلفًا بالنسبة لنا، وانعكس هذا فوراً في الرسم. كما غيّر اختراع الكاميرا الطريقة التي ينظر بها الناس إلى طريقة رسم الأعمال الفنية، الذين رأوا لوحات مرسومة قبل الكاميرا بزمن طويل. وفي بعض الأحيان، في وقت مبكر، تترك كنيسة عصر النهضة لدى المرء شعوراً بأن الصور على الحائط هي سجلات للحياة الداخلية للمبنى، إنها معًا تشكل ذاكرة المبنى وجزءاً من خصوصيته.
وفي كتابه “طرق الرؤية” العام 1972، يقدم بيرجر دعوة لرؤية العالم ومعرفته بشكل مختلف، ويعتبر أن “العلاقة بين ما نراه وما نعرفه لم تتم تسويتها أبدًا”. وسبق الكتاب مسلسل تلفزيوني من أربعة أجزاء عرض في “بي بي سي” وحمل العنوان نفسه: Ways of Seeing، وظهر فيه منهج بيرجر في الفن بشكل مباشر، وتجلى أسلوبه في المزج بين الحساسية الماركسية ونظرية الفن، مع الاهتمام بالإيماءات الصغيرة والمشاهد والقصص الشخصية، من خلال تقنيات بصرية درامية، بارعة في كثير من الأحيان، أثارت أسئلة بحثية حول كيفية قيام الصور من الرسم الزيتي الأوروبي، إلى التصوير الفوتوغرافي والإعلانات الحديثة، بالإعلام والتغلغل في الحياة اليومية والمساعدة في تشكيل عدم المساواة. ماذا نرى؟ كيف رأينا؟ هل يمكن أن نرى بشكل مختلف؟ وترك بذلك تأثيراً عميقاً في الفهم الشعبي للفن والصورة المرئية. وبرز على هذا النحو مثالاً حيوياً للمفكر العام، حيث استخدم مكانته للتحدث ضد الظلم الاجتماعي، ولتقديم دعمه للفنانين والناشطين في أنحاء العالم.