شبكات سمسرة ضحاياها المواطنون بتغطية من النظام السوري… لتمويل “النافذين” فيه/ محمد حردان
باتت السمسرة سياسةً متّبعةً من قبل أجهزة النظام السوري ومؤسساته، في التعامل مع تقديم الخدمات العامة للسكان في المدن السورية. وتنتشر شبكات سمسرة منظمة تعمل على تسهيل حصول السكان على خدمات في مختلف المجالات، في حين أنّ حكومة النظام فشلت في تحسين جودة الخدمات المقدمة.
ويضطر سوريون كثيرون في داخل البلاد وخارجها، إلى دفع مبالغ كبيرة لقاء حصولهم على وثائق حكومية، إذ يرفض النظام منحهم أيّ وثيقة بحجّة أنّهم مطلوبون. وعلى الرغم من الرسوم المحددة لتلك الوثائق، يسعى سماسرة، بالتعاون مع جهات أمنية ومدنية في داخل الإدارات الرسمية، إلى تقديم تلك الوثائق مقابل مبالغ مالية كبيرة.
وأصبحت لكل ضابط في النظام السوري أذرع من السماسرة الذين يقاسمونه الأموال مقابل الحصول على وثائق تأجيل الخدمة أو كفّ بحث الاحتياط، بالإضافة إلى انتشار سماسرة المحامين الذين استغلوا حاجة الأهالي إلى معرفة مصير أبنائهم المعتقلين لدى النظام، عبر دفع أموال كبيرة مقابل الإفراج عنهم، أو معرفة أخبارهم.
شبكة واسعة
يدير هذه شبكات “السماسرة” هذه ضباط ومسؤولون كبار، وقد عمدوا إلى هذا الأسلوب في ابتزاز المدنيين واستغلالهم وسرقة أموالهم لأسباب عدة، من أبرزها العجز المالي الذي لحق بهم طوال السنوات الماضية من الحرب، والتي أضعفت اقتصاد البلاد، ليتم نتيجة ذلك تحويل تقديم خدمات أساسية للسوريين إلى مصدر للتمويل.
كما أن هناك نوعاً آخر من “السماسرة” الذين لا يعملون تحت مظلة النظام، وقد امتهنوا هذه المهنة لجمع الأموال في ظل غياب الدور الرقابي والفلتان الأمني وسهولة الوصول إلى الضحايا الذين يقعون في مصيدتهم، والذين يبحثون عمّن يقدم لهم هذه الخدمات وهم مستعدون لدفع الأموال.
يقول مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، لرصيف22، إن “أحد أهم الأسباب التي دفعت النظام السوري إلى توسيع دائرة المطلوبين، هي دفع هؤلاء الأشخاص إلى التعامل مع شبكات السمسرة للاستفادة منهم مادياً. وهذا يعاني منه جميع السوريين داخل مناطق سيطرة النظام وفي المناطق الأخرى، بالإضافة إلى السوريين في الخارج. وما يجبر السوريين على اللجوء إلى ذلك الخيار، ودفع مبالغ مالية كبيرة، هو عدم اعتراف الدول الأخرى بالأوراق الصادرة عن المعارضة، وما من جهة أخرى يمكنها تزويد السوريين بالوثائق الرسمية”.
الإقبال على الهجرة
وتنشط عمليات السمسرة بشكل كبير، خصوصاً في ظلّ فشل حكومة النظام في حلّ أزمة جوازات السفر المستمرة منذ سنوات. كما أن بعض السماسرة يقومون بتزوير أختام رسمية وتنظيم معاملات جوازات سفر غير نظامية، مقابل مبالغ مالية كبيرة.
ومع ازدياد إقبال المدنيين على الهجرة من مناطق سيطرة النظام، بحثاً عن حياة أفضل في أوروبا أو دول عربية، بدأ النظام السوري يستثمر ذلك، إذ يقوم “سماسرة” مرتبطون به، باستغلال حاجة المدنيين الراغبين في الهجرة، ليسرقوا منهم الأموال بحجة استخراج الجواز للهجرة بشكل رسمي، أو تأمين طرق للهجرة بشكل غير شرعي.
وتشهد دوائر الهجرة والجوازات التابعة للنظام أزمةً تكمن في العدد القليل من الجوازات التي تُستخرج للمدنيين مقارنةً بالأعداد الكبيرة للمتقدمين للحصول عليها، وتبرر حكومة النظام تأخرها في استخراج الأعداد الكافية من الجوازات بشح المواد الأولية التي تُصنع منها الجوازات.
وبسبب تأخر استخراج الجوازات، يتوجه سكان تلك المناطق إلى “السماسرة” الذين يأخذون مبالغ كبيرةً تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة ملايين ليرة سورية مقابل تسريع الدور واستخراج الجوازات خلال فترة قصيرة جداً، ويضطر الكثيرون إلى دفع هذه المبالغ الكبيرة.
يقول عبد السلام فارس، وهو أحد المدنيين في مدينة حلب: “قررت الحصول على جواز سفر على الرغم من أنّني مطلوب للخدمة الاحتياطية، وذلك بسبب رغبتي في الخروج من سوريا، فتوُجّهت إلى سمسار يعمل في فرع الهجرة والجوازات في حلب، ليضعني أمام خيارَين؛ الأوّل استخراج الجواز وأنا في داخل سوريا، والثاني بعد خروجي منها إلى لبنان عن طريق التهريب، وتالياً يكون استخراج الجواز من السفارة في بيروت، لكنّي اخترت الأوّل كونه أقلّ تكلفةً ماديةً، وتبلغ ألفَي دولار أمريكي تُدفع منها 500 دولار قبل البدء، والمبلغ المتبقي بعد استخراج الجواز في خلال أسبوع واحد فقط”.
ويضيف في حديثه إلى رصيف22: “أخذ مني السمسار صورةً للهوية وبصمتي على ورقة صغيرة وتوقيعي وصوراً شخصيةً، وكان شرطه لاستخراج جواز السفر عدم استخدامه داخل سوريا. ويعني ذلك أنّه لا يمكنني استخدامه للمغادرة من سوريا، ولا يمكنني تجديده من إحدى السفارات السورية، كي لا يكشف السمسار نفسه، وتالياً تُكشف الشبكة بكاملها. كما طلب مني بعد انتهاء صلاحية الجواز (مدّته سنتان ونصف السنة)، وخروجي به من لبنان إلى أيّ بلد آخر، إتلافه واستخراج آخر جديد. هنا أيقنت أن الجواز مزور أو أن هناك خطباً ما، لكني في كل الأحوال خسرت الدفعة الأولى”.
هم الحل
ولا يُحصَر عمل شبكات السمسرة في استخراج جوازات سفر فحسب. آسية حوا، سورية مقيمة في لبنان تريد السفر إلى تركيا للعمل، تروي لرصيف22 أن “سفارة أنقرة في بيروت طلبت مني وثيقةً عدليةً تفيد بأنّي غير محكومة. تواصلت مع محامٍ في دمشق وطلبت منه وثيقةً تفيد بأنّي غير محكومة. وبعد نحو عشرة أيام، أبلغني المحامي بإمكانية ذلك مقابل 600 دولار، وبشرط عدم استخدامها داخل سوريا. فأرسلت له المبلغ المطلوب وصورةً عن هويتي، وبعد ثلاثة أيام فقط استلم أخي في دمشق الوثيقة مترجمةً ومصدّقةً من وزارة الخارجية”.
من جهته، يوضح أحد السماسرة والذي تحفّظ عن كشف هويته، لرصيف22، أنّ “القصر العدلي يعجّ بالسماسرة، وبمختلف القضايا المتعلقة بحياة الناس، ثمّة ما يحتاج إلى تعامل بطرق غير شرعية، علماً أنّها قانونية نوعاً ما، فاستخراج وثيقة تخرّجٍ من الجامعة لشخص موجود في خارج البلاد، على سبيل المثال، أمر يحتاج إلى موافقة أمنية. ولا يمكن الحصول عليها إلا عبر شبكات السمسرة المرتبطة بجهات أمنية”.
يروي السمسار أن لدى جميع العاملين في هذا المجال علاقات مع موظفين في جميع المؤسسات والدوائر الحكومية. وكل معاملة أو وثيقة لها تكلفة مختلفة، ويقول: “نقوم بإضافة 10 إلى 20% على المبلغ المطلوب. والمحامون أيضاً يقومون بالتواصل معنا لاستخراج بعض الوثائق، فبعض السماسرة لهم علاقات قوية مع شخصيات رفيعة المستوى يمكنها حل جميع المعضلات واستخراج جميع الأوراق”.
وتنتشر السمسرة بين السوريين بشكل كبير، وتحوّلت من مهنة كانت مقتصرةً على البيع والشراء قبل الحرب، إلى استغلال، خاصةً في مسألة استخراج الأوراق والوثائق الرسمية.
ويلجأ البعض إلى شبكات السماسرة لتسريع استخراج أوراقهم وتلافي الدخول في روتين معاملات الجهات الحكومية وبيروقراطيتها. إذ يعاني السكان في مناطق سيطرة النظام من بطء سير معاملاتهم وعرقلة بعضها من قبل موظفين مرتبطين مع شبكات سمسرة تستغلّ حاجتهم إلى استخراج أوراق رسمية، وخاصةً في ما يتعلق بتأجيل الخدمة العسكرية أو الإفراج عن المعتقلين.
ويكون دور “السماسرة” متابعة استخراج هذه الأوراق المطلوبة بأسرع وقت ممكن، بمساعدة موظفين تُقدَّم لهم الرشاوى المالية. ويجني “السماسرة” أرباحاً كبيرةً في عملهم هذا، حسب ما روى بعضهم لرصيف22.
رصيف 22