بسطات الكتب في دمشق: الذاكرة والمحو/ محي الدين ملك
على طرف جسر الرئيس الشهير في دمشق، جلست أتأمل هذا العدد الهائل من العناوين، عناوين تحاكي حكاية أقدارًا متشظيّة؛ الباعة والكُتّاب والطلاب والهواة.. إلخ، حكاية أجزاء من عُمرٍ مهدور، حكاية تحاول لملمة أقدارنا جميعًا، الأقدار المخفيّة والمُخيفة، حكاية مرتبطة بأناس نثروا حيواتهم فوق عراء الأرصفة، حين قضوا أعمارهم في شراء وجمع الكتب، وفي النهاية صار كلّ شيء أثرًا بعد أثرٍ، فإمّا دُمِرت مكتباتهم أو نُهِبَت أو صارت رمادًا. هذا ما فعلته بالضبط حرب السنوات التي بدأت ولم تنتهي بعد. “أطاحت بالحدود. ضيَّقَت الحدود. في حين تعلّمت من شكسبير أن لا نؤمن بالحدود”.
في كتاب ما، نقرأ العبارة التالية: “نحن نغنّي رغم أنّه لا وجود لمن يسمعنا، ولا أحد يدفع أجورنا…”. يتّسع المكان هنا ليضيق هناك -على بُعد أمتار- بشراسة. في صفحة أخرى، نقرأ: “كافحت بأقصى ما أستطيعه لأبلغ ما لا أستطيعه، نحن الكائنات البشريّة التي يتهدّدها الفناء كلّ آونة، ينبغي أن ننهض من ثقل الطين والتراب ونُنَقِّبَ عن جذوةٍ عتيقةٍ تلبّست في دمائنا من الشهب والنيران، نوقظها لنستدل على أحلامنا التي تتهدّدها المخاطر والأضداد، هكذا استطعت أن أتجاوز مستحيلات العيش وسط الحروب والدَّم والهلع.”، والموت.
ليس من السهل القبض على كامل العنوان بكلّ دلالاته، لأنّه، بالنسبة لي، وَلك، ولهم، ذاكرة سنين ممتلئة بعناوين الكتب في مدينة كانت تنبض بالحياة، وأنا أعلم أن ذاكرتي لن تسعفني أن أروي الحكاية كلّها، الحكاية المُتصلّة بأصحاب بسطات الكتب في أوثق صلة، فمنهم من مات، ومنهم من ترك بسطته وكُتبه والمكان كلّه، ومنهم من بقي حيًّا. ذاكرة تستجيب للخراب وما إلى ذلك من الملاحظات المتواشجة.
ولكنني، أجهد نفسي لأكتب عن سيرة مدينة انطلاقًا من أجزاء مكانيّة: بسطات على امتداد جدار التكيّة السليمانيّة المطل على شارع الحلبوني، بسطات كتب مُكدّسة تحت الجسر… أنظر بمرارة، وفي قرارة نفسي ديباجة وردت في رواية كنت قد قرأتها، ذات ليلة كنتُ متيّمًا فيها بالقمر: خرج من البيت كالمجنون، لكنه بدل أن يجد القمر، عثر على كتاب، وصار ذلك الكتاب سبب إعيائه.
الآن، الأمر المهم هو أنّ كثيرًا ما تكون هذه البسطات ملاصقة لحقيقة الإنسان والمكان والزمان. ترافق اللحظة كظلّها، ظلٌّ تقتنصه رائحة الكتب المرصوصة بشكل جذّاب أحيانًا، أو بشكل فوضوي أكثر الأحيان، فتتكشّف عوالم مسروقة لذوات هي في تلك اللحظة مكشوفة. من هنا، تبدأ حساسيّة الكتب بالنهوض، بالماضي وبالحاضر وبالغد، بالتصعيد والتوسّع في دوائر أعرض داخل خبيئة الجميع: البائع والشاري والمكان، عندها تستجيب تلك الحواس النائية والتائهة، وتنعي تأثيرات البسطات وتردّدات الكتب وما تردّده الكلمات المعتّقة وما تسعى إليها.
إنّها البسطات، الكتب، الناس، المكان، الوعي. إنّها قوة تغطّي مساحات هائلة من العاطفة ومن ذاكرة المكان الأليف والمعادي في نفس الوقت. تُوازِن بين أنفاسنا وأنفاس هذا المكان الكبير الذي يتنفّسنا بصعوبة بالغة، وتجادل سيولة الأشياء والزمن. هي، في ارتحالاتها، إمكانات معينة لتوثيق المكان وأرشفته، ليترك العابر/ الزائر/ القارئ كيانه، ويستسلم للآفاق الما ورائيّة، على حدّ تعبير “بريخت”، وما عليه لكي يتأكد إلا أن يتأمّل قوة ومباشرة هذه البسطات المجبولة بالحنين والأنين الخفي.
سألتُ “أبو زينب” أحد باعة هذه البسطات: “لو خُيّرت أن تبقى تعمل على هذه البسطة أو تُقدَّم لك مكتبة، ماذا تختار؟” قال إنّه سيختار هذه البسطة التي يقف بجانبها: لأنّه و”بصفتي بائع كتبٍ قديمةٍ، أحبّ البساطة، وأنبذ الرسميّات. هنا لا توجد حواجز بيننا وبين القرّاء. في المكتبات ينتهي الحوار خلال دقائق، أما هنا، فيمتد الحوار لساعات وساعات”.
نقرأ هذه الإهداءات على كتب مختلفة، وقد تحوّل اللون الأزرق الذي كُتبت به إلى ألوان مختلفة مع مرور الزمن: “سأتمزق مثل كتاب، ولن أجد قبري. سأتذكر وقتها أن أحزن”، “إلى ميم.. الكتب تشكّل أشياءًا كأوهام بصريّة.. من خفق كلمات تسقط كشيء..”، “إليك.. ترمينا الكتب نحو قاعنا، وبينما ننظر إليها في النهاية ينتهي بالألم، لكنّها الحياة، وتُتْرَك متعبة من الطيش تنتحب وتتنهّد، حتى تنتهي آخر صفحة.. حتى تنتهي المأساة بسلام”.
“لماذا نقرأ؟” سألني “أبو طلال” ثمّ فتح كتابًا، وقرأ التالي: “لماذا نقرأ؟ أحيانًا أشعر بالرّاحة، العزاء، الإلهاء أو الترفيه. في أوقات أسعى إلى تعلّم أشياء جديدة، ووضع نفسي في منزلة الآخر. رّبما وخاصة عندما أقرأ المذكرات، أريد أن أعرف وأستوعب الآخر باستدعاء عالمه الجميل”.
كان أبو طلال يملك بسطةً لبيع الكتب. رجل نحيف ووديع، يضع نظارة عتيقة تذكره بقريته الواقعة على أطراف مدينة سلمية، تمّ تسريحه من عمله لأسباب صحيّة، وظلّ منشغلًا بحل مشكلة العيش. لكن، وبفضل الكتب تعلّم كيفيّة العيش والعمل وقراءة الكتب. استمر في هذا العمل قرابة ثلاثة عقود، وفي يوم ما، وعلى بعد خطوات من بسطته، وتحديدًا عند زاوية التكيّة السليمانيّة وقع ميتًا. ذلك المكان الذي بدأ عمله منه قبل أن تقوم المحافظة بـ”حشْكِ” البسطات في زاوية الجسر.
الأمر، يتعدى متون الكتب المُلقاة هناك، والاستعارات التي تستجيب لمنتهى القارئ ومشتهاه. إنّها رحلة في ذاكرة المكان فعليًا وعمليًا، أو مجازيًا إذا شئتم. يتعلق الأمر بالنور وبالعتمة الضالة التي تختلط بعوالم لا نهائيّة يعيشها البشر في عشوائيّة قاسية، وأشكال شبحيّة لا عقلانيّة تحاكي عبثيّة هذا العالم وفراغه المضطرب. الأمر يتعلق بالمكان، وبالناس وكتبهم الوحيدة القادرة على نبش لحظة تحمل معان كليّة أكبر من محتواها وأصغر من كثافة المكان.
صادفتُ أحد القراء وعلى وجهه علامات تشبه كتابًا عتيقًا، قال لي: “تحوي هذه البسطات آلاف الكتب وفي كلّ كتاب آلاف، وربما مئات الآلاف من الكلمات، والذي يفكر إحصائيًا قد يُصاب بالجنون، لذلك، أُفضّل التأمل الصامت”. سكت قليلًا ثمّ قال باستغراب: “هل كان وعي دوستويفسكي مكتملًا عندما كتب: «الجمال سينقذ العالم»؟ هل أدرك دوستويفسكي رعب العالم، وشعر بالقوة الكامنة في الجمال، وبالكاد، أراد أن يتوازن، كي لا يسقط؟”
قال إنّه يتذكر دوستويفسكي، لأنّه كان عونًا له حين أتت النار على منزله بسبب الحرب، واحترقت مكتبته، “شقاء عقود. وجُلَّها كان من، هنا، كتبٌ اشتريتها من هذه البسطات.”
أمام بسطة أخرى، أجلس مع رسّام، فيحكي لي سيرته: “ربّما كانت الكتب واللوحة بطريقة ما الشيء ذاته. اليوم، تمر الأحلام بمستويات أدنى، فصرت أقرأ كثيرًا، وأكتب النذر اليسير. ما زالت اللوحة بالنسبة لي جمالًا أعيش مستحيلهُ الذي يفصل بين منطقتين، إلا أنّه أيضًا يفصل بين كتلتين، مكانين. هنا تبدأ حياة الخط في متاهة الزمن، لتغادر ككتلة عشوائيّة لا قيمة لها من دون فراغ بهيٍّ، يهيئ الحدود وعتبات المداخل. قراءة الكتب تجعلني أرسم بطريقة مختلفة”. قال الجملة الأخيرة ثمّ نهض راحلًا.
قبل فترة، كنت أحدِّث “أدهم” (شاب يتقاسم وأبو العز واحدة من البسطات) عن اللا منتمي، وعن مجيء كولن ولسون إلى دمشق، في الخامس والعشرين من أيار من العام 1974، “ما الذي ذكَّرك بالكتاب وبالقصة؟”/ “لأنّه من أوائل الكتب التي أقتنيها من هذا المكان، أيّ تقريبًا في العام 1997، قرأته مرات ومرات.”/ “وما الجديد في الأمر؟”/ “الجديد هو: لا فرق بين المنتمي واللا منتمي. الكلّ سواء، على حافة اليأس!”.
أتردد على هذه البسطات دائمًا، من هناك أقتني كتبي. في إحدى المرّات، قادتني الصدفة إلى المكان نفسه. أتيه في شوارع المدينة لأجد نفسي واقفًا هناك. صادفتُ سيّدة تتمايل مرتديّة السواد، وجهها لطيف وهي تتأمل صفوف الكتب، دنتْ مني حين كنت مشغولًا بكتب جلبها لي “أدهم”. سألتني بهدوء: “حول ماذا تقرأ؟”/ “حول حياة الكتب وعلاقتها بسيرة المكان/ المدينة/ دمشق.”/ “سيرة عميقة..”/ جدًا. منذ شهر كان يجب عليَّ أن أكتبها. لكن، في كلّ مرة كانت الفكرة تختفي بين شقوق المكان، وتذهب مع الزمن العاري..”/ “أعطِ الموضوع حقه من التأمل.. ليس المكان فقط، ولكن الزمن: بلحظاته. بمفارقاته وانسجاماته.. وكلّ ذلك في حميميّة اللحظة مع الكاتب وعمقه الإنساني. موضوع رائع كما أتخيله.”/ “هل لديكِ رغبة في الحديث عن الكتب؟ لربّما تنكسر قيود خيالي..”/ إن كنتَ تثق في رأسي الخاوي..”/ “أُجرّبْ…”/ “إذا وجدتَ فيما أقولهُ شيئًا مجديًا، لكنّي أشك.”/ “حدثيني عن تأملاتك عندما تصادفين بسطة كتب عتيقة وقديمة؟ عن علاقة الكتاب بالمدينة.”/ “لا أعتقد أنّ لي مرجعًا يجيب عن هذا كلّه. علاقتي بالكتب غريبة.”/ “غرابة! كيف؟”/ “الكتب بالنسبة لي كأرض جديدة حين أطأ أرض المكتبة أو أيّ مكان تُعرض فيه أو عليه الكتب. تخيّل معي أنك تطأ أرض بلاد جديدة، وتسأل في قرارة نفسك: هل في هذا البلد وطن؟ أم أنّ ما فيه سيبقيني في غربتي بين الناس؟ أنا هكذا مع الكتب. ولا أستبعد –عند الوهلة الأولى- أن أعثر على وطن حميم، ولا أستبعد أن أظلّ غريبة.. فما الذي أفعله؟ حين أفتح كتابًا يجذبني، وأجد فيه انتماءًا، أعتبره وطنًا. مثلًا كتب «باشلار» أعتبرها وطنًا، وهو رفيق، وكتب «يونغ» و«ميرسيا الياد، مؤرخ الأديان». إذا وجدتُ كتابًا لا أنتمي إليه أعتبر نفسي على أرض غريبة. لم يحدث يومًا أتممت كتابًا لا أنتمي له.”
ضلّت تحدثني، وأنا مندهش بها، عن “الانتقائيّة الحميمة” في القراءة، وعن بحثها في الكتب عن رفقة سعيدة كي تستطيع تحمّل غربتها. قالت الكثير عن تبادل الحديث مع كتّاب وكاتبات الكتب، وعن الشغف والصمت، وعن أنّه “لولا القراءة لكان الوقت كلّه هدرًا للأنفاس التي نستهلكها في اتجاه الموت”، قالت لي أخيرًا: “عندما تقرأ الكتب، لا تعود كما كنت، بل تصبح شخصًا آخرًا بمنظور آخر للزمان والمكان”.
بفضل هذا الحوار البليغ زال الحاجز بيني وبين الغرض من العنوان، كما لو أنّ لوحة مفاتيح الذاكرة ظهرت أمامي بوضوح. بعد ذلك، جلست مع “أدهم” و”أبو زينب”، واقترحت على الاخير، بنيَّة المساعدة، أن يُدْلي برأيه حول عمله كصاحب بسطة، فوافق بسهولة، وهو الذي يمتلك شيئًا من بلاغة شعراء العصر الجاهلي، وبفصاحة متحمسة، وتأثر واضح، بدأ الكلام دفعة واحدة: “وإياك من إفراط المزاح فإنّه جدير بتسفيه الحليم المُسَدَّد. أريد أن أقول إنّ بعض الناس يتخذ المزح للسخريّة والهزء بالآخرين، والأمر هنا يتعدى الدعابة، وهذه منقصة. فقط، للتحذير من المسألة”.
ثمّ صار يحدثني عن عالم الكتب الواسع والجميل، وقسّمه إلى قسمين، واحدٌ بطبعات جديدة غالية الثمن وأغلبها فارغة من المحتوى الجيد، حسب تعبيره، وآخر قديم يتميّز بالأصالة ورخص الثمن والنُدرة، لذلك من يرتاد السوق القديم يجد ضالته المنشودة، على الأغلب. قال إنّ الكتب الإلكترونيّة لا تغني عن الكتاب، لأنّ بإمكان المرء أن يمسك الكتاب بيده ويتحقق من مؤلفه ومحقّقه وطبعته ودار نشره بشكل مباشر.
صار أبو زينب يحكي عن نفسه كقارئ لا كبائع، قال إنّ شعاره هو “لا تصدّق كلّ ما يُكتب ويُقال، استمع طالما عندك أذنان ولسان واحد، كي تستمتع كثيرًا وتتكلم قليلًا”. قال إنّه يقرأ كلّ شيء، حتى لو كان هذا الشيء جريدة مُلقاة في الشارع.
سألته عن الكتاب إن كان يحمل أقدار المكان، عن المكتبات التي دُمرت في الحرب، والمكتبات التي سُرقت، والمكتبات التي صارت رمادًا، والمكتبات التي أغلقت. سألته إن كانت الكتب تحتفظ بمثل هذه الصور. فأجابني بقصة حدثت في الهند” “أذكر قصة حدثت مع «نهرو غاندي»، عندما سألته ابنته «أنديرا غاندي»: لو حدثت الحرب، ما هي النتيجة؟ قال: ينهار الاقتصاد. ثمّ سألته: وإذا انهار الاقتصاد؟ قال: تنهار الأخلاق. ثمّ سألته: وإذا انهارت الأخلاق؟ قال: يسود السفلة. ثمّ أضاف: وما يبقيكِ في بلد تسود فيه السفلة!. بمعنى، في الحرب. تتحجم الثقافة ويتحجم الفكر”.
لأنّي أعرف “أبو زينب” وأعرف من أين أتى، سألته عن مدينته الأصل الواقعة على نهر الفرات، سألته إن كان هناك كتبٌ تذكره بمكانه الذي أتى منه، فقال إنّه ابن الفرات مهما ارتحل، وإنه عاشقٌ للأشعار البدويّة وللنهر العظيم: “قرأت للمفكر العبقري «محمد الفراتي»، ولـ«عبد السلام العجيلي»، وأحب مطالعة الكتب الدينيّة. هذه العوالم تشغل بالي، وأحتفظ بها. في الشام، ومع هذا العمل، بدأت أتعرف على الأدب الفرنسي والروسي، وكتب التاريخ”.
أعلم، وأنا أنهي كتابة هذه الحكاية، أنّ هذه الكلمات ستضاف إلى مثيلاتها من آلاف الكلمات التي دُونتْ عن الكتب الوحيدة في كونها دعامة من دعامات ذاكرة تلهث حين تعاني من الـ”محو”ٍ وهي مستندة على جدار التكيّة السليمانيّة الشهيرة. وأعلم أنّ شارع الحلبوني لم يعد كما كان سابقًا. أعلمُ أنّ سوق الكتب القديمة تحت جسر المدينة الرئيسي يحكي بتثاقلٍ سيرة المدينة، ليل نهار، يحكي عن الأسماء، وعن من رحلوا أو من جاؤوا، عن سباق الزمن الجنوني بوصفه تيهًا، عن المكان الذي لم يعد كما هو. أعلمُ وأنا أكتب، أنّ هناك الكثير الذي لم أكتبه عن هذه الحكاية، لكنها أشياء لن أنساها أبدًا.
حكاية ما انحكت