الثورات وأكل البطيخ… الخميني الأحمر وعرب نيوليبراليون/ محمد تركي الربيعو
بعد فترة من اندلاع الثورة الإسلامية في إيران 1979، كانت طهران وباقي المدن الإيرانية على موعد مع ما عرف بإضرابات العمال ومطالبتهم بعيش أفضل، وفي هذا الأثناء بدا الخميني، كما ينقل لنا الصحافي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه «مدافع آية الله» لا يرى في نفسه رجل اقتصاد أو سياسية، وانما كان يؤمن بأن الشهيد هو روح التاريخ، لذلك لن تروق له هذه الاحتجاجات العمالية، ما سيدفعه في عام 1981 إلى القول «إننا لم نقم بثورتنا من أجل بطيخ رخيص، لقد قمنا بها من أجل الإسلام». ولذلك سيعود آصف بيات للتذكير بهذه العبارة، وهو يقرأ في أحوال الانتفاضات العربية وعدم نجاحها في كتابه «ثورة بلا ثوار» الصادر مؤخرا عن مركز دراسات الوحدة العربية، ترجمة فكتور سحاب.
هذه المرة لا يحاول بيات محاكمة الخميني ومريديه، بل يتذكرها للقول إن موقف الإيرانيين من الثورة كان أكثر راديكالية من العرب في انتفاضاتهم بعد ثلاثة عقود، ولذلك نجحوا في ثورتهم (بغض النظر عن المآلات) خلافا للعرب، الذين تبنوا وفق ما يراه خطابا إصلاحيا في أحر يوميات الثورة، في الوقت الذي كان عليهم أن ينتهجوا رؤية ثورية راديكالية تقوم على إزاحة السلطة والمؤسسات القائمة، حتى لو أدى ذلك إلى حدوث اضطرابات أوسع. ولعل موقف بيات من الثورة الإيرانية، ليس جديداً على صعيد اليسار الإيراني ومراجعاته في السنوات الأخيرة، فهذا اليسار وإن بدا لاحقا مخالفا ومطاردا من قبل جنود ولي الفقيه، لكنه في المقابل بدا في رواياته لا ينفي دور الإسلاميين في إشعال الثورة في طهران ، وهو ما يراه مثلا عالم الاجتماع والسجين الإيراني الأسبق بهروز قمري في كتابه «فوكو والثورة الإيرانية» عندما يشير إلى نجاح الخميني في صناعة خطاب ثوري أزعج غالبية آيات الله الذين هيمن هدؤهم السياسي على المعاهد الدينية لعقود، وتفوق أيضا على السلوك الإصلاحي لليبراليين القوميين والدينيين، ولذلك لم يجد الآخرون أي بديل سوى قبول قيادته.
بيات أيضا وإن بدا معترفا بهذا الجانب، لكن عودته للثورة الإسلامية هذه المرة لم تأت من درب قمري الباحث عن قراءة جديدة لأحداث 1979، وانما كان يعود لها للمقارنة بينها وبين ما جرى في البلدان العربية. فهو يرى أن سبب نجاح الإيرانيين في عام 1979 نجم عن وجود رؤية اعتنقت نبرة قومية اشتراكية معادية ومناهضة للرأسمالية ومنادية بالعدالة الاجتماعية، بينما كان الثوار العرب أكثر اهتماما بعموميات حقوق الإنسان، والمحاسبة السياسية، والإصلاح القانوني و»أكل البطيخ» (الاقتصاد) إذا ما اعتمدنا مصطلح الخميني. وهو تطور يفسره كون العقود الممتدة بين الثورتين كانت تشهد انهيارا في الأفكار الثورية لصالح سيادة الأفكار النيوليبرالية، كما أن الإشكالية الأعمق من ذلك، تكمن في غياب رؤية للدولة في أجندات الثوريين العرب، بينما نرى أن التاريخ الفكري الذي سبق أحداث الإطاحة بالشاه في إيران شهدت ولادة فكر ثوري يفكر بالدولة وكيفية تغييرها، وهو ما يوضحه من خلال تخصيصه فصلا لدراسة الثورة ومفهوم التغيير عند علي شريعتي.
بيات ما قبل الانتفاضات
في فترة ما قبل عام 2010 وحرق البوعزيزي لنفسه، كان بيات يتجول مرارا وتكرار في شوارع القاهرة راصدا ما يحدث من تغيرات في هذه المدينة، يومها وجد أن هناك تغييرا يحدث في الشرق الأوسط، خلافا لتلك الصورة التي ترى أن «زمن الأبد» للحاكم هو السائد، وأن ما يميز هذه الحركة أنها لا تخوض معركتها في العلن أو في الساحات السياسية، بل في الحياة اليومية، وهو ما سيدعوه بـ»الزحف الهادئ» والسلوك «اللاحركي» مقارنة بسلوك الحركات الاجتماعية المسيسة (النقابات). ولن يتوقف بيات عند هذا الحد، بل وجد يومها أن الناس العاديين هم الذين باتوا يقودون ويعيدون تعريف المجال العام ويتفاوضون مع السلطة حوله، ولعله بذلك كان يعكس خلاصة عمل واسع للباحثين الغربيين في القاهرة بالأخص، الذين درسوا هذا الأمر من زوايا عديدة، كما وجد أن مقولته حول «ما بعد الإسلاموية» التي أطلقها على الحركة الإسلامية في إيران مع قدوم الإصلاحيين، وتقوم على فكرة أن الإسلاميين في إيران باتوا يركزون على الحقوق والتنمية أكثر من الأيديولوجيا، هو ما بات ينطبق على حالة الإسلاميين في مصر، أو من خلال حزب العدالة والتنمية التركي، الذي قام مشروعه كما سيراه على فكرة البلديات والإصلاح وتحسين الأوضاع الاقتصادية. مع ذلك، هناك من خالفه من الباحثين الأتراك، وتبين لاحقا دقة بعض تحليلاتهم، إذ وجد السوسيولوجي التركي جيهان توغال أن مشروع العدالة والتنمية في تركيا ليس إسلاميا بالمعنى الذي يراه بيات، وإنما هو أقرب للتيار المحافظ، وأن الرؤية الاقتصادية لهذا الحزب لا تعبر عن رؤية اقتصادية إسلامية جديدة، بل تعكس انغماسا في السياسات النيوالييرالية، لكن في كل الأحوال كان بيات في ما يكتبه متفائلا بدور الإسلاميين وعقلانيتهم ، وبدور الناس العاديين في تغيير المنطقة.
بيات وانفجار العالم العربي
مع مرور أشهر على الانتفاضات العربية، بدا بيات كغيره من الباحثين، محتارا في ما يجري، وعلى الرغم من أن كتاباته ما قبل 2010 كان توحي وكأن تحليلاته قد أثبتت دقتها، مع ذلك ستبدو له فترة الاحتشاد في الميادين التي عرفها عدد من المدن العربية، فترة طقوسية مؤقتة (تجمع بين الواقع والخيال) كما سيؤكد لاحقا في دراسة أخرى له بعنوان «عوام الربيع العربي» على أن الناس العاديين عادوا لانتهاج سياسات الزحف الهادئ بعد أن تعرضوا للقمع من قبل الحرس التقليدي.
آصف بيات
وفي كتابه المترجم حديثا (صدر عام 2017 بالإنكليزية) سيبدي نقدا أكثر جذرية للواقع العربي، إذ سيرى أن من خرجوا لم يكونوا سوى «نصف ثوار» لأنهم عند اللحظة الحاسمة سعوا لأن تقوم مؤسسات النظام بالإصلاحات الواسعة بالنيابة عن الثورة، في حين كان الإيرانيون قبلهم قد قلبوا النظام القديم رأسا على عقب، من خلال فكرة الإسلام الأحمر الذي هيمن على مخيلتهم. وفي سياق تفسيره لهذه الحالة، أو لماذا انتهج الثوار العرب هذا الطريق، يرى أن الإشكالية تكمن في أن الشباب العرب ثاروا في زمن مختلف، فحتى التسعينيات، كان ثمة ثلاثة تقاليد عقائدية تنطوي على فكرة للثورة بوصفها استراتيجية لتغيير أساسي: القومية المعادية للاستعمار، والماركسية والعقيدة الإسلامية، لكن الصورة تبدلت تبدلا كبيرا عند انهيار الكتلة السوفييتية، إذ كان مفهوم الثورة لصيقا بمفهوم الاشتراكية (وهو ما نجح شريعتي في تبيئته إيرانيا) ومع انهيار المعسكر الشرقي كنا أمام نهاية فكرة الثورة، وتولي الدولة مهمة الإنماء، وهو ما أدى لاحقا مع انتصار النيوليبرالية إلى الاستخفاف بفكرة الدولة، بل محاربتها باعتبارها مرادفا لانعدام الكفاءة والقمع.
ولذلك بدلا من اعتناق فكرة الدولة والثورة، فإن ما حدث مع الألفية الجديدة هو أن النخب الثقافية العربية، أخذت تتحدث عن المنظمات الأهلية، والدوائر العامة واللاعنف والتغيير المنظم، وصار التغيير المتدرج هو السبيل الوحيد المقبول للتحول الاجتماعي، وحتى الحركات الإسلامية التي تأثرت بالرؤية الماركسية للثورة، كانت تسير في ركاب الرؤية النيوليبرالية، ما حولها إلى حركة إصلاحية بعد أن كانت تحمل طابعا ثوريا وانقلابياً. ويبدو بيات خلافا لكتاباته السابقة عن ما بعد الإسلاموية، التي بدا فيها متفائلا بمستقبل الإسلاميين، أكثر قناعة بآراء أوليفيه روا وحسام تمام، اللذين وجدا أن الإسلاميين باتوا أكثر تسلفا من ناحية، وأكثر اندماجا من ناحية أخرى بالاقتصاد العالمي الجديد، بدلا من مقاومته. وفي ظل هذه الظروف (غياب الفكر الثوري وتلبرل الإسلاميين) جاء الحراك العربي، دون أن يرتكز على أرضية ثورية راديكالية.
وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة، وهي أن بيات وإن كان يؤسس لثنائية إشكالية (راديكاليين/نيوليبراليين) لكن فكرته حول عجز النخب العربية على فهم الدولة وتبنيها تبدو فكرة وجيهة ودقيقة، وهو ما وجدناه مثلا من خلال إقبال الشباب الثوري على قراءة كتاب وائل حلاق «الإسلام المستحيل» الذي جاء في الأساس ليشن هجوما على فكرة الدولة، ما دفع المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي في إحدى الندوات في إسطنبول (2015) إلى الرد يومها على حلاق بالقول بما بمعناه أن الدولة هي أهم نتاجات الحداثة (بالمعنى الإيجابي) وأننا بحاجة إلى الدولة وليس القطعية معها، ولذلك فإن الأساس هو التركيز على بناء الدولة، ويومها لم يرق كلام المرزوقي للكثيرين، خاصة أن هناك من كان يرى البلاء في الدولة، فإذا بنا بعد سنوات نتحسر على غيابها ونحلم بعودة الدولة العربية التي تشكلت في الستينيات والسبعينيات، بوصفها تمثل الماضي الجميل مقارنة بواقع اليوم، وهو ما لاحظه بذكاء الأنثروبولوجي الأردني أحمد أبو خليل في سياق قراءته لقصص الأردنيين عن الملك الحسين.
السائح بيات
قبل سنوات أيضا، كان بيات قد وجد في إحدى مقالاته بعنوان «استشراق السيرك القصير» أن إشكالية عدد كبير من الباحثين الغربيين هو أنهم يزورون مناطق الشرق الأوسط ومخيمات اللاجئين لبضع ساعات، ثم يعودون للكتابة عنها، دون أن يكون هناك بحث ميداني واسع، وكأنهم يجبرون الناس العاديين الذين يراقبونهم على لعب دور لاعب السيرك، الذي يقوم بتأديه بعض الألعاب ومن ثم يختفي، أو بالأحرى لا ينتظره الباحث لتأدية حركات جديدة. وعلى الرغم من وجاهة هذه الملاحظات أيضا، فإن هناك من بات يتهم بيات مؤخرا بتبني هذا المنهج، فهو كما يرى العديد من الناشطين والباحثين في مصر مثلا، لا يزور سوى أماكن معينة، ولا يلتقي سوى بنخب محددة، مع أنه يذكر في دراساته زيارته المتكررة لأحياء الفقراء، كما أنه يلتقط أحيانا بعض التفاصيل دون أن يضعها في سياقاتها، فمثلا يأتي على ذكر تفاصيل لقائه بناشط من حركة 6 إبريل، الذي سيقول له «لم نكن نفكر في صنع ثورات، بل لاحظنا مما كان يدور حولنا، أن الثورة تصنع نفسها بنفسها» ويقتبس هذه المقولة للتأكيد على رؤيته السابقة بأن الثورات العربية كانت ثورات من غير ثوار، لكن ما لا يقف عنده بالمقابل هو أن الذكريات لا يمكن جمعها بمعزل عن فهم الأطر الاجتماعية التي يعيش فيها هؤلاء الرواة، وأن الذكريات ليس مجرد قصة تروى بصيغة واحدة، بل تعيد تكوين نفسها جراء الظروف، ولذلك لا نعلم إن كان الناشط سيقول الكلام ذاته لو نجحت الثورة، أو أن الإسلاميين نفذوا مشروعا شبيها بالمشروع الخميني. ولعل ما دعانا إلى ذكر هذا المثال، هو للقول إن واحدة من النقاط التي تسجل على كتابه، هي غياب عشرات التفاصيل اليومية، وإهمال قراءة بعض السياقات، وهو ما كان أكثر حذرا وولعا في تسجيله في سنوات ما قبل الانتفاضات.
وعلى الرغم من هذه الملاحظات، فإن ما يحسب للمؤلف قدرته على الكتابة عن المدينة العربية والأوسطية بشغف ومتعة قلما نراها لدى المثقفين العرب، كما أن الأدوات التي يعتمدها، وهو يسير في شوارع القاهرة وإسطنبول، مختلفة وتتأسس على أرضية معرفية جديدة، بالأخص على صعيد دراسات المدينة والأنثروبولوجيا، كما يحسب له قدرته على التقاط صور هامشية، ومن ثم صنع حكايا أخرى عن التغيير واستمراره في هذه المنطقة، في الوقت الذي فقدنا فيه هذه الحساسية، ولم يعد لنا أي أمل بالتغيير، ولذلك لا مفر من قراءة آصف بيات مرارا.
كاتب سوري
القدس العربي