تفييش، تفتيش، تعفيش/تميم إمام
في تشرين الأول 2007، أعلنت الحكومة البريطانية عن تطبيق برمجية هي الأولى من نوعها، تقوم على التحقق من الأشخاص الداخلين إلى أراضيها بشكل أوتوماتيكي عبر ما يُسمى بـ«الحدود الإلكترونية». بُنيت هذه البرمجية على خوازرميات رياضية معقدة، تعتمد البحث العميق أو «التنجيم» في بيانات الأشخاص على الإنترنت بهدف البحث عن أية شبهة أو سبب للشك في الداخلين عبر هذه الحدود. هذه الاستراتيجية، التي اندفعت كثير من الدول بعد ذلك لاتباعها، وُصفت بأنها «اعتماد على أحداث الماضي لتفادي الأخطار المحتملة التي قد تأتي مع الوافدين إلى هذه الحدود في المستقبل». تعتمد هذه البرمجية بشكل أساسي على سلوك الأفراد وبصماتهم الإلكترونية المسجلة على الإنترنت، والمجالات التي نشطوا فيها، وما إذا كانت لهم سوابق إجرامية أم لا. فالداخل إلى هذه الحدود غير موجود على نظامها أو في سجلّاتها، وبالتالي يجب التأكد منه بالطريقة المذكورة.
وهكذا، ليس غريباً ما يحدث في سوريا منذ 2011، إذ يمكن القول إن الحدود والحواجز في سوريا تقوم بالعمل نفسه مع فارق بسيط: أن نظام البحث لا يكترث بمن هو جديد، بل يركز بحثه في بيانات السوريين الموجودين مسبقاً في سجلاته، ويفتش فيما إذا كانت تحوم حولهم شبهة الاضطلاع بنشاط سياسي. تعتمد السجلات الأمنية منذ عقود على استخباراتها في تحديث قوائمها وتوزيعها على نظامها الداخلي، الذي تتشاركه على كافة الحدود الخارجية، والتي ما لبثت أن تمدّدت إلى الداخل لتفصل بين المدن والبلدات بعد انطلاق الثورة السورية على هيئة حواجز عسكرية.
يعود تاريخ الدولة الأمنية في سوريا إلى الخمسينات. ابتدأه رئيس المخابرات آنذاك عبد الحميد السراج، عندما نظم جهازي الشرطة والأمن، اللذين أصبحا أساس الدولة البوليسية في سوريا. مع مرور الوقت، وصولاً إلى استلام الأسد للسلطة، تطورت الأجهزة الأمنية وتعدّدت، ومُنحت صلاحيات واسعة وأذرعاً متطاولة تتدخل في جميع جوانب الحياة للسيطرة عليها والتحكم بمفاتيحها. فقد تم تقسيم المدن مناطقياً بين الأفرع الأمنية، فيما سيطرت الفرق العسكرية على المناطق خارجها. فمثلاً، عند الحديث عن دمشق، يمكن القول أن الفرع المسمى «فرع الخطيب» سيطر على شارع بغداد والقصاع، وأصبح يتحكم في كل شاردة وواردة فيهما، وأضحت تلك المناطق تتبع لأوامره وتتحرك تحت عيونه المزروعة في الأكشاك ومخبريه الذين في الشوارع. وكذلك الأمر بالنسبة لما عُرف بـ«فرع فلسطين» لاحقاً، التابع لجهاز الأمن العسكري، عندما سيطر على المناطق الواصلة من دوار المطار إلى مخيم اليرموك، مروراً بالزاهرة والصناعة والطبالة.
أدى ذلك التقسيم إلى تفرّد وسيادة الأفرع الأمنية، كلٌّ في منطقته، على مبدأ «فرّق تسد»، ليتغلغل كل منها في الحياة اليومية للسوريين، ويشترط عليهم طلب الموافقات الأمنية لكل نشاط تجاري أو صناعي، حتى على صعيد استئجار منزل أو محل أو فتح بسطة لبيع الدخان. ذلك التقسيم المساحي للسلطة بين الأجهزة الامنية وفروعها، تجسّد بعد الثورة في الظهور العلني لحواجز أمنية يمتزج فيها العسكري بالمدني – كلٌّ على أرضه أيضاً – خلال الحياة اليومية، على الطرقات والطرق السريعة، وفي أبنية الدولة وعلى أبواب مؤسساتها.
التقسيم المساحي للسلطة بين الأجهزة الامنية وفروعها تجسّد بعد الثورة في الظهور العلني لحواجز أمنية يمتزج فيها العسكري بالمدني خلال الحياة اليومية.
مدينة دمشق، التي ستكون موضع تركيز هذا المقال، شهدت حضوراً عسكرياً كثيفاً، وتأثرت أنماط الحياة والسكن في أبنيتها والتنقل والحركة في شوارعها. من هنا يحاول هذا المقال فهم ما قد تتسبّب به الحواجز، المتمثلة ببعض السواتر الإسمنتية والجنود المسلحين، من تأثير على البيئة العمرانية والحياة المدينية. وسيستعرض أولاً تاريخ الحواجز وسبب نشوئها، بالتركيز على مدينة دمشق كونها «الأكثر أمناً»، وكوني عشت فيها طوال فترة دراستي الجامعية.
الحواجز كإعلان حرب
بعد الشهر السادس من الثورة، بدأ تشكيل وتنظيم كتائب الجيش الحر، والتي أدت شيئاً فشيئاً إلى خروج عدد من المناطق والمدن السورية عن سيطرة النظام. انتشرت المظاهرات في بعض أحياء العاصمة، واندفع النظام إلى حماية مناطق سيطرته عبر تعزيز حضوره الأمني والعسكري داخل المدينة وحولها. بدايةً، فرض النظام وجوده في شوارع المدينة بالدوريات الأمنية المؤقتة (الطيارة) التي كانت تعترض الطريق لساعات معينة باليوم، خصوصاً على الطرق المؤدّية إلى المدن والبلدات الثائرة، كالطريق الواصل إلى داريا بعد كفرسوسة، أو على طريق برزة، أو عند مداخل حي الميدان وأبو حبل. وكان ذلك الحضور أكثف بعد مظاهرات أيام الجمعة أو بعد تشييع الجثامين. ثم ما لبثت هذه الحواجز الطيارة أن استُبدلت بعد فترة بمتاريس ترابية أو إسمنتية وعدد من عناصر الأمن أو الجيش المتمركزين بقربها بصفة دائمة، وهو ما أصبح يسمى بالحاجز.
انطلقت كل تلك الحواجز، الطيارة منها والثابتة، من وظيفة رئيسية هي إيجاد المطلوبين للأفرع الأمنية عبر «تفييش» الهوية، أي مسح الباركود الموجود على بطاقة الهوية، والتي يُعاقب بشدة من يفقدها أو ينساها. ثم بعد تدخل الجيش في المعركة وبدء كثير من الشبان بالتهرب من الخدمة العسكرية الإلزامية امتدت عملية البحث لتشمل إيجاد المطلوبين لهذه الخدمة. ثم ما لبثت وظيفة الحواجز أن تطورت، لتضيف التفتيش الدقيق لكل ما يمر من خلالها عبر الأجهزة الكاشفة للأسلحة والمواد الكيميائية والأدوية؛ أو لتمنع الحركة بشكل كامل عن منطقة معينة، أو تسمح بالمرور المشروط لبعض الناس وبعض حاجيّاتهم وفقاً لجنسهم وعمرهم. وكل ذلك يعتمد بشكل أساسي على طبيعة المنطقة الأمنية ونشاطها الثوري، وما يستتبع ذلك من تعليمات أمنية.
إن التحرك بين المناطق السورية محكومٌ بالطبيعة الأمنية لهذه المناطق ونوع الحواجز الموجودة فيها، سواء كانت تلك المناطق تحت سيطرة النظام أم خارجها. أصبح كل وجود عسكري جديد بعد 2011، سواء كان حائطاً إسمنتياً أم مجموعة من الجنود، يسميه السوريون حاجزاً، فلا يسعهم التمييز بين هذا الحاجز أو ذاك سوى بتبعيته لفرع أمني ما أو لضابطٍ معروف بقيادته لهذه المنطقة. ولكن عند النظر لما تسببه هذه الحواجز من عرقلة للحركة في المدينة من الناحية العمرانية، ولعواقب تلك العرقلة على الحياة المدينية، يمكن تصنيف الحواجز العسكرية مجازياً ضمن ثلاثة أنواع: حواجز مفتوحة؛ حواجز مغلقة؛ وحواجز نصف مغلقة. يتغير تصنيف كلّ حاجز بتغير الزمن، ويتعلق بتطور الأوضاع الأمنية في المنطقة التي يقع فيها، وهو ما يمكن اعتباره بديهياً للسوريين المتابعين للواقع الأمني اليومي والمُعايِشين لنتائجه. ولكن هذا التصنيف سيساعد في تبسيط وفهم الحياة المدينية، وكيف كانت طبيعتها مشروطة بهذه الحواجز وأسباب إنشائها. ولهذا قد تكون الأمثلة تبسيطاً لحالات أكثر تعقيداً، أو قد تُغفِل بعضاً من جوانب الأثر الأكبر لهذه الحواجز.
لو بدأنا بالحواجز المغلقة، فهي بالتعريف جدران إسمنتية أو أهرام ترابية تُقام حول منطقة معينة بقصد فرض الحصار عليها، وتَمنعُ أي تفاعل بينها وبين محيطها، بما في ذلك خروج المدنيين المقيمين في فضائها منها أو دخول آخرين إليها. وعلى المدنيين داخلها أو خارجها أن يتجنبوا التّماس مع الحواجز المغلقة كلياً، لأنهم قد يتعرضون للقنص أو للاعتقال. ولذلك فإن أثر هذه الحواجز على البيئة العمرانية التي تحاصرها لا يمكن استيعابه بشكل كامل بمعاينتها من الخارج، فقد شكلت عازلاً يمنع مَن هم أمامَه أن يروا أو يعرفوا ما يجري وراءه أو يقدّروا ما يخلّفه على البيئة المدينية ككل
الحواجز المغلقة جدران إسمنتية أو أهرام ترابية تقام حول منطقة معينة بقصد فرض الحصار عليها، أي منع أي تفاعل بينها وبين محيطها بما في ذلك خروج المدنيين المقيمين في فضائها منها.
كانت الفظائع المرتكبة بحق البيئة العمرانية في هذه المناطق سبباً إضافياً لتأزيم الوضع الإنساني، المتأزّم أصلاً جرّاء الحصار. فعلى سبيل المثال، كان قطع الخدمات والكهرباء عن مشافي المناطق المحاصرة من أبرز عوامل التأزيم الواردة في التقارير الإنسانية المأساوية من داخل تلك المناطق. أضف إلى ذلك أن التجمعات السكانية التي خلقتها تلك الحواجز، ناهيك عن الممارسات الإجرامية، أنشأت جدار عزل عنصري مبنيّ على أساس هوياتي، وهو ما أدى إلى حرمان السكان من حقهم في التنقل عبرها، فأصبحت مناطقهم أشبه بسجن يستعصي على زائريه أكثر من سجن عدرا. لقد أدت هذه الحواجز والسياسة المتّبعة عبرها بحق السكان إلى خنق المناطق التي تطوّقها، وإلى منع أي نشاط اقتصادي يساعد في تخفيف حدة الحصار على أهلها، ما دفعهم للاعتماد على ما توفره الأرض من حولهم، أو على ما يتمكن تجار الحرب من تزويدهم به بأسعار تفوق الخيال. ولا يمكن إهمال ما فعلته الحواجز بالأراضي والعقارات في محيط هذه المدن المحاصرة، والتي تناقصت قيمتها السوقية بسبب استحواذ الحواجز عليها أو قربها منها.
المدينة المقطّعة
لست بصدد التفصيل في أثر الحواجز المغلقة، لأنني لم أكن يوماً داخلها أو بقربها، ولا بقرب الحواجز نصف المغلقة؛ أي تلك التي، رغم قيامها بوظيفة حصار مدينة ما، تسمح ببعض الحركة المشروطة عبرها في حال وجود هدنة بين الطرفين. ففي بعض هذه الحالات، يسمح الحاجز للمدنيين بالدخول والخروج المشروط في ساعات معينة، وقد يفرض رسوماً على المواد الغذائية المدخَلة إلى هذه المنطقة. من هذه الحواجز حاجز مدخل مدينة التل حتى عام 2017، وحواجز مداخل مدن الغوطة عام 2012، والتي كان عناصرها يطالبون أيضاً بإبراز فواتير الكهرباء والمياه للسماح لأصحابها بالدخول والخروج.
ما سيتم تفصيله باستفاضة في هذا المقال هو الحواجز المفتوحة الموجودة في قلب مدينة دمشق وعلى أطرافها، والتي شكلت جزءاً أساسياً من الحياة اليومية للمارّين عبرها. وبالرغم عدم منطقية اسمها – فالحجز يفيد الإغلاق والمنع التام – كانت «الحواجز المفتوحة» تسمح بالحركة عبرها بعد التفتيش والتفييش. وهي موضع الحديث الأوسع باعتبارها الأكثر احتكاكاً مع عامة السكان، والأكثر شيوعاً وانتشاراً، حيث تتواجد في قلب كل المدن والبلدات الخاضعة لسيطرة النظام. في عام 2017 تم تقدير عدد الحواجز في مدينة دمشق لوحدها بنحو 287 حاجز، تتوزع في شوارعها وأزقتها أو على أبواب بعض مبانيها الحكومية، للقبض على المطلوبين أمنياً أو عسكرياً وللتحقق من المركبات والحقائب.
في عام 2017 تم تقدير عدد الحواجز في مدينة دمشق لوحدها بنحو 287 حاجز.
إن سبب هذا العدد الغفير هو السعي للتحكم بكل ما هو متحرك في المدينة، فكل حاجز يُنشأ، يقود بالضرورة لإنشاء حواجز أخرى لإجراء عمليات التحقق. بعبارة أخرى، يؤدي إغلاق طريق واحدة لزيادة كمية الحركة على الطرق الأخرى، وبالتالي يستلزم إنشاء حواجز جديدة عليها لإحكام مراقبة تلك الحركة المتزايدة، وهذا بدوره يدفع المركبات والمدنيين إلى شوارع جديدة لم تُغلق أو يُنشأ عليها حاجز بعد، وهكذا دواليك. وقد شلّ تكاثر الحواجز هذا انسيابية الحركة داخل العاصمة، فمن النادر جداً أن يخلو شارع ما من أية حواجز. كما أدى ذلك إلى ما يشبه كاميرات مراقبة بشرية ذات سلطة، تتحكم في حركة السكان ضمن نسق يضمن على الدوام مرورهم من طرق معينة، من خلال حواجز لا يمكن تجنبها، ما يضعهم تحت المراقبة على مدار الساعة، ومن دون الاكتراث لما قد يخلّفه ذلك من نتائج على حيواتهم.
على سبيل المثال، عندما تم إغلاق دوار كفرسوسة القريب من «فرع المنطقة» لمنع الاقتراب منه، تحوّلت خطوط المواصلات – كخط الدوار الجنوبي وخط مهاجرين-صناعة – لتمرّ من شارع الفحامة، الذي يستقبل المواصلات من جانب المجتهد ومن أوتوستراد درعا، ما أدى لنشوء طوابير طويلة في انتظار المرور عبر حاجز الفحامة. وهكذا أصبحت رحلة الذهاب إلى العمل أو الجامعة تستغرق وقتاً أطول من المعتاد، وزاد العبء المالي أيضاً على الذين يترجّلون من الباص ليأخذوا باصاً آخر بعد تجاوز الحاجز.
أدى ذلك التلاعب المفتعل في تيارات الحركة لأسباب أمنية إلى تشكيل ازدحام مروري شديد، كانت له آثار اقتصادية سلبية على وسائل المواصلات. فقد دفع ذلك الزحام أصحاب الباصات الصغيرة – «المكاري» – للتوقف عن العمل في ساعات الذروة، فالانتظار الطويل على طابور الحاجز يعني بالنسبة للسائق خسارة للمال. وبدلاً من 20 رحلة من أول الخط لآخره أضحت يوميته مقتصرة على 10 رحلات نتيجة أوقات الانتظار على الحواجز. وبهذا بررت الحكومة حلّها المقترح لمشكلة تناقص وسائط النقل، حيث فتحت المجال للشركات الخاصة لجلب باصاتها الكبيرة العاملة في كل الأوقات، والتي تستوعب أعداداً كبيرة مقارنة بالميكروباصات التي تستوعب 14 راكباً على الأكثر. أصبحت هذه الشركات تحصل أيضاً على امتيازات الوقود الرخيص من خلال عقودها مع الحكومة، في الوقت الذي كان يقضي فيه أصحاب الباصات الصغيرة 3 ساعات كل صباح على طوابير تعبئة الوقود.
صناعة الغرباء
تقوم العلاقة بين الحاجز العسكري والمدنيين أساساً على الشك المتبادل. فكل مدني يمرّ على الحاجز هو متّهم أو متهرّب من الخدمة حتى يثبت العكس. ولذلك يقوم الحاجز بالتدقيق في بيانات المارّين لإيجاد من «يشكلون خطراً على الأمن» حسب زعم السلطات. وبالنسبة لفاقدي بطاقة الهوية، التي تعد بمثابة جواز سفر داخلي، فيتم إيقافهم على ذمة التحقيق. وبالعكس، يغلب التوتر على المدنيين المارّين من الحاجز، فهو مكان عسكري معزول بسلطة مطلقة، وقد يقود أمر بسيط مثل تشابه الأسماء إلى الاعتقال، في الوقت الذي يتعذر فيه استعمال الهاتف أو طلب المساعدة. ولذلك فإن حالة الترقب وعدم اليقين تتملك الطرفين على مدار الساعة. غير أنه في حالة مدينة كدمشق، العاصمة التي تشكل بيئة عمرانية حاضنة لتنوع كبير جداً، يصعب تحديد ما هو الخطر الواضح، وقد تأخذ عملية تحديد الخطر وفلترته أبعاداً جديدة. إذ يمكن لعوامل بسيطة أن تكون مدعاة للشك والقلق لدى عسكريي الحاجز، ولذلك يبدأ الحاجز بالشك من اللحظة الأولى. ابتداءً من شكل السيارة القادمة من بعيد – شاحنة أم بيك آب أم سيارة فاخرة – وصولاً إلى بطاقة الهوية، والتي تعطي فكرة واضحة عن ماهية الشخص: إذ سيعرف الجندي من خلالها معلومات عن مكان ولادته ونشأته وطائفته والثقافة السائدة في منطقته، فلو كان رقم الخانة على الهوية أو نمرة السيارة من منطقة خارجة عن سيطرة النظام، ستزداد دقة التفتيش، وتالياً يزداد وقت الانتظار على الحاجز بالنسبة للشخص المعني، وكذلك بالنسبة لمن يقفون خلفه بانتظار دورهم. يضاف إلى ذلك الشكل والمظهر الخارجي، الذي قد يسبب انتظار المواطن لساعات للتحقيق معه بحجة أنه ليس من أهل المنطقة ولا شأن له يقضيه فيها. فليس باستطاعة كل من يمرّ من حاجز العباسيين إلى قلب المدينة، مثلاً، أن يمر من الحاجز الواصل بين ساحة الأمويين والمالكي – حاجز مشفى الشامي – حيث يقطن أهم مسؤولي النظام.
كل مدني يمرّ على الحاجز هو متّهم أو متهرّب من الخدمة حتى يثبت العكس
يحتاج الحديث عن النظرة الدونية الطبقية هذه أبحاثاً مطولةً لشرحها في المجتمع السوري. لكنني سأكتفي بالقول إنه لا يمكن لشخص بلباس قرويّ وبلهجة ريفية أن يمرّ من معظم الحواجز القريبة من المهاجرين أو المزة جبل أو المزة 86، لكونه ببساطة لا يتماهى مع سكان المناطق المارّين إليها بشكل يومي، وبالتالي لا مبرر لعبوره من تلك الحواجز. هذه المساءلة، المأخوذة بنظرة مسبقة لأبعاد مظاهرية ومناطقية ودينية، خلقت منظومة فلترة قائمة على سياسات هوية مجحفة، ومنعت كثيراً من المدنيين من التحرك بحرية في فضاءات المدينة العامّة، وحرمتهم من الوصول إلى مساحاتها وفرص العمل فيها، بل ووصل الأمر حدّ تجريمهم واعتبارهم خطراً على الموجودين وراء تلك الحواجز.
أدى كل ذلك إلى خلق ما يشبه مستعمرات سكانية معزولة داخل المدينة، تتّسم كل منها بهوية معينة وانتماء طبقي اجتماعي معين، تقوم عدة طبقات من البوابات (الحواجز) على حمايتها من بعضها البعض. لا تشبه أيّ من الطبقات تلك التي تليها أو تسبقها في هويتها السياسية أو في وضعها الاقتصادي والاجتماعي، بل إن الوصول من طرف العاصمة إلى قلبها أصبح يشبه الوصول من قشرة البصلة إلى لبّها، ويتطلّب المرور عبر كل تلك البوابات التي تُفَلتِر الهويات شيئاً فشيئاً وتمنع المشبوهين وغير المرغوب بهم من الدخول.
وبالمقابل، أدى ازدياد أعداد النازحين في أطراف المدينة، وهي المناطق التي يسهل الوصول إليها والعمل فيها، إلى اختلال الكثافات السكانية بين مناطق دمشق، مما سبب تضخماً مزدوجاً في أسعار سوق العقارات. وقد لا يكون هذا التضخم مفهوماً لكثيرين، فكيف يمكن لأسعار العقارات أن تتضخم في ظل الحرب والنزاع؟ ومن الذي يرغب أصلاً في أن يشتري أو ينافس على العقارات الموجودة في أخطر بلدان العالم؟
لكن من جهة أولى، كان احتكار قلب العاصمة من قبل شريحة معينة من المقتدرين مالياً والموثوقين أمنياً، بالإضافة لمكاتب السفارات والمنظمات الدولية، قد أدى إلى رفع السوية الطبقية لهذه المناطق بين تجار العقارات بأكثر مما كانت عليه سابقاً، وبالتالي رفع سعرها وأسعار الاستئجار فيها، خاصة وهي محمية بعدد كبير من البوابات العاملة يومياً على استبعاد الغرباء. فسعر الشقة في حي المالكي، مثلاً، ارتفع إلى أكثر من نصف مليار ليرة سورية (أكثر من مليون دولار) عام 2017. هذا بالإضافة إلى أن هذه المناطق لم تتأثر بالحرب فيزيائياً ولا خدمياً، وأن لها الأولوية في الحصول على أكبر حصص من الكهرباء والمياه، على عكس الجانب الآخر من المدينة. فبالإضافة لكونها مناطق ذات كثافة سكانية عالية وخدمات سيئة، كان البعض يتوقع انخفاض الأسعار فيها، خصوصاً أن معظمها عشوائيات بدون «طابو أخضر». غير أن الطلب المتزايد على السكن من قبل المدنيين النازحين أدى إلى رفع أسعار الاستئجار والشراء فيها، ليكون العرض والطلب هو المبدأ الرئيسي في تقييم العقارات والملكيات.
الهندسة السكانية
لم يتوقف دور الحاجز عند السماح أو عدم السماح لعامة السكان بالدخول إلى منطقة معينة، بل وصل إلى التحكم في مَن يستطيع العيش في تلك المناطق ومن لا يستطيع؛ حتى لو كان مستأجراً منذ ما قبل إنشاء الحاجز نفسه، فالمنطقة بكل الأحوال تحت سيطرة الفرع أو الجهة التي يتبع لها عسكريو الحاجز. مع بداية عام 2013، عندما ازدادت حركة النزوح الداخلي وازداد الطلب على السكن، بدأت الحواجز بتوسيع مجال عملها ليشمل بيوت المناطق المحيطة بها وأسماء الساكنين إلى جوارها، حيث صار الحاجز يطالب المستأجر بإبراز موافقة أمنية من الفرع المسيطر على المنطقة. تتمثل هذه الموافقة بطلب يتقدم به الشخص إلى أقرب مخفر شرطة، ليتم إرساله إلى الفرع والتحقق من معلوماته، وبعدها إما قبول إقامته في في هذا الحي أو رفضها. أصبحت الموافقة الأمنية لاحقاً جزءاً أساسياً من إبرام أي عقد إيجار في كافة أنحاء المدينة، سواء في مركزها أو في محيطها. ولكن مشكلة الموافقة الأمنية هذه أنها غامضة تماماً، فلا يمكن لأيّ شخص أن يعرف سبب الرفض أو سبب الموافقة، مما زاد من التلاعب بمصالح الأشخاص واستغلال حاجاتهم ودفعهم للرشاوى بقصد إتمامها خشية الطرد. وهكذا غدت الموافقة على يحق له السكن في تلك المناطق خاضعة لتفتيشات أدقّ وتحرّيات أوسع داخل الأفرع الأمنية، وأصبح بذلك الحاجز العسكري هو المتحكم في مَن يستطيع الحركة والتجول والعيش في فضائه وفي مناطق سيطرته.
يظهر تأثير الحاجز على المدينة خلال سنوات عديدة في تحويل بنيتها الديمغرافية. فالبحث الدائم عن مطلوبين للخدمة العسكرية دفع معظم شباب البلد إلى الهجرة خارجها تفادياً للتجنيد الإلزامي أو الاحتياطي، كما فرض ضغوطاً كبيرة على من بقي في داخلها؛ فالنقص الشديد في الموارد البشرية في الجيش أدى لطلب المزيد من الشباب الذكور للخدمة الإلزامية، وجعلهم أكثر الفئات استهدافاً من قبل الحواجز، بالإضافة لعدم تسريح من هم في الخدمة منذ سنين. تجلّى ذلك في تفادي وسائل النقل العامة، والتي فرَغت من الشباب في عمر التجنيد الإجباري والرجال في عمر التجنيد الاحتياطي، ليتّجه هؤلاء إلى قضاء رحلاتهم على الدراجات أو مشياً لتفادي التّماس مع أي حاجز. وهو ما دفع النظام للعودة إلى الحواجز الطيارة التي لا يمكن التنبؤ بمكانها، لاعتراض طريق المشاة وراكبي الدراجات وإيجاد من هو مطلوب للخدمة الإلزامية. وقد ترافق كل ذلك مع حضور أقوى للإناث في الشارع والمواصلات العامة ودوائر الدولة، حيث أصبحن أقل عرضة للخطر في ظل الاستهداف المباشر للذكور، وهو ما أدى إلى قلب كثير من الأدوار الجندرية في نمط الحياة المديني.
تتأتى حالة الشك وعدم اليقين نفسها أحياناً من المزاجية العسكرية، التي يقرر فيها الجندي أن يقبل أو يرفض أي مدني مارّ من هذا الحاجز حسب ما يُمليه عليه مزاجه، دون تحقق أي من الأسباب المناطقية أو الطبقية أو الأمنية المذكورة آنفاً. وهو ما كان يدفع الركاب في كثير من الأحيان، خصوصاً الشباب أو الذكور عموماً، إلى الترّجل من وسائل النقل العامة والعبور من طريق فرعي بعيد عن الحاجز تفادياً لأي مشادّة كلامية أو تعنيف لفظي. وفي حالة مستقلّي السيارات الخاصة فلا بد من اتخاذ الاحتياطات اللازمة لشراء رضا العسكري، كباكيت دخان أو علبة متّة، بما يسمح أحياناً بالتملّص من تفييش الهوية وتفتيش السيارة.
الرأسمالية العسكرية
دفعت تلك التصرفات المدنيين لإطلاق التسميات على الحواجز التي يطلب عناصرها عمولة (رشوة) لتمرير أي سيارة منها. فهناك مثلاً «حاجز المالبورو» على طريق دمشق-بيروت التابع للفرقة الرابعة، والذي يطلب باكيت مالبورو من كل سيارة متجهة من وإلى لبنان ليسمح لها بالمرور بسهولة، وإلا يتم ركنها رهن التفتيش لأكثر من ساعة. وهناك كذلك «حاجز المليون» على باب سوق الهال في الزبلطاني، والذي اشتُهر بأن إيراداته تصل إلى مليون ليرة سورية يومياً. والأمر نفسه يسري على الحواجز المغلقة وشبه المغلقة. فالحاجز عند مدخل مدينة التل، المدينة التي عقدت هدنة مع النظام لسنوات، استطاع باستغلال حاجة المدنيين فيها للمواد الغذائية أن يفرض رسوماً على كل كيلو من المواد الغذائية المدخلة طوال تلك السنين، وبلغت الإيرادات اليومية لهذا الحاجز لوحده ملايين الليرات. بل إن عسكريي هذا الحاجز أحضروا ميزاناً تقف عليه السيارات ليتم وزنها وهي فارغة وتسجيل بياناتها، ليتم التأكد لاحقاً ما إذا كان سائقها يخبّئ أي مواد في داخلها دون أن يدفع الرسوم.
أبرز هذه الحواجز تلك التي انشأتها ميليشيات «الدفاع الوطني»، والتي تشكلت خلال سنوات الحرب كقوات رديفة للجيش السوري، وعُرفت بتجنيدها المدنيين عبر إغرائهم بالنهب و«التعفيش» عند الاقتحامات. وبملاحظة العمليات العسكرية إلى جانب القوانين والتحويلات المرورية، يتضح كيف طوّعت السلطة القوانين لإحكام قبضتها، وكيف استغلت كل حالة نزاع لنهب المال العام وإقحام هذا النوع من الحواجز في طريق المارّة وفي حياة المدنيين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما استولى تنظيم جيش الإسلام على أوتوستراد حرستا الواصل بين دمشق وحمص، تم تحويل الطريق ليمر من المتحلق الشمالي المعروف بطريق التل، وهو أطول من أوتوستراد حرستا بنحو 45 دقيقة بسبب كثرة الحواجز فيه وطبيعة المنطقة الطبوغرافية، وبدورها فرضت الحواجز المنشأة عليه طريقاً إجبارياً للمواصلات العامة عبر ضاحية الأسد، ليتم إنشاء حاجزين إضافيين للدفاع الوطني قبل الضاحية وبعدها، لا يقومان بأي تفييش أو تفتيش أو تعفيش، بل فقط يأخذون عمولةً على كل سيارة تعبر منهما.
يحتاج استذكار حوادث وممارسات الحواجز في الفضاء العمراني في سوريا وقتاً وشهادات طويلة للشرح والتفسير، وما ورد في هذا النص كان مبنياً على مشاهداتي الشخصية واستماعي للأحاديث التي تدور حول الحواجز بشكل يومي. نستطيع أن نسمّي كل ما سبق بالنموذج السوري الدمشقي لعسكرة المدينة، فلعل المدن الأخرى اتبعت نهجاً مختلفاً في تعاملها مع الحواجز والعسكر. أزيلت الكثير من حواجز دمشق عام 2018 بعد انتهاء معارك ريف دمشق وانتهاء الخطر المزعوم المحدق بها، لكن بينما اختفى الحاجز ككيان تابع لفرع أمني أو جهة عسكرية معينة وعمله المنظّم، إلا أنه بقي على شكل مساحة تجمع أعداداً من العساكر المقيمين في خيمة أو في غرفة صغيرة، أو على شكل دوريات طيارة في البقعة ذاتها، ترافقها سيارات أمن على مدار ساعات اليوم. لقد خلّفت هذه الحواجز على مدى السنين السبع الماضية آثاراً يصعب تجاوزها عمرانياً وديموغرافياً واقتصادياً وبيئياً، حتى في حال إلغاء جميع المظاهر العسكرية في المدينة.
*****
تميم إمام: مهندس مدني سوري، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية التخطيط العمراني من وحدة تخطيط التنمية في كلية لندن الجامعية UCL. يعمل في مجال التنمية مع منظمات دولية غير ربحية. مهتم بالخرائط الرقمية ويستخدمها من أجل توثيق حقوق الملكيات في مبادرته «خرائط من أجل سوريا».
المواد البصرية المُرفقة للفنانة علياء أبو خضور (فيسبوك –إنستغرام).
موقع الجمهورية