هل يمكن “التقاط” لحظة “نهاية” الحبّ؟/ عمار المأمون
يشير الأرجنتيني ريكاردو بيجيليا في كتابه “القارئ الأخير” إلى اللحظة التي تعرّف فيها فرانز كافكا على فيليس باور، ليشرح فرضيته عن الحبيبة القارئة التي اختبر كافكا “حُبها” عبر مواظبتها على قراءة رسائله، أثناء ذلك، ينوّه بيجيلا إلى أننا نعلم بدقة لحظة بداية علاقتهما، فكافكا سجل كل شيء في يومياته، واصفاً كيف التقى بفيليس لأول مرة في منزل ماكس برود، إذ نقرأ في رسالة مؤرخة في 13 آب عام 1912، كيف وقعت عينا كافكا على فيليس، كانت “جالسةً على المنضدة… وجهها طويل ونحيف”، ويضيف صاحب المحاكمة في ذات الرسالة: “نظرت أولّ مرة إليها محدقاً، وبعد أن جلست، كونت رأياً راسخاً فيها”.
نقرأ لاحقاً كيف كتب كافكا لأول مرة في العشرين من أيلول عام 1913 إلى فيليس: “يا آنستي، أمام احتمالية كبيرة بألا تتذكريني بأقل قدر، أقدم لك نفسي مجدداً، اسمي فرانس كافكا، وأنا من حيّاك للمرة الأولى ذات ظهيرة، ببيت السيد المدير برود في براغ…”.
تسعفنا يوميات كافكا كونها ترصد لحظة اللقاء الأول، من وجهة نظر كافكا طبعاً، إذ نتلمس اعتباطيّة اللحظة واعتياديّتها، اللحظة التي أضحت خلالها فيليس موضوع حب كافكا، الذي لم يتردد، بل حاول تدوين لحظة الفانتازم المؤسس لحبهما، مركّزاً على المكان، وموقفه الأول من تلك التي ستغدو موضوع حُبه.
تلك اللحظات الأولى تحفر في الذاكرة حين “نُحب”، وتدخل في تكويننا الذاتي، أشبه بلحظة ولادة، لكن على العكس من تلك البيولوجية، هي لحظة نذكرها بدقة، لا تتلاشى في اللاوعي، هي صورة اللقاء الأول، لحظة القرار اللاواعي أو الحدس، بأن هذا الآخر جزء مني، وأنا جزء منه. هي لحظة شرخ في الانضباط الذاتي وانفتاح نحو “الآخر”، ذاك الذي أُحبّ منذ هذه اللحظة التي لا تمتلك قيمة سوى أنها لحظة البداية بين غريبين، لحظة مبتذلة إن صحّ التعبير، فكافكا نفسه وصف فيليس بـ”الخادمة” حينها، وأضاف أنها لم تثر اهتمامه، ولم يكن لقاؤها هدف زيارته، بل كانت موجودة مصادفة بينما كان يُسلّم مخطوط إحدى قصصه لبرود، لكن صورة ما التقُطت في حجرة الدماغ المظلمة لحظتها، وأطلقت طيف الحب.
…
نقيض صورة البداية، يتمثل بـ”لحظة” النهاية، فالحب ليس بسرمدي ولابد من انقطاع وإن تأخر، ما يجعل النهاية ثواني مُفرِطة في العاطفية، فإن كانت البداية فانتازماً، صورة متخيلة ترسخها الأنا لتؤسس عليها العلاقة مع الآخر، النهاية “حقيقة” يختبرها الجسد واللحم، ومن النادر تدوين لحظتها بدقة، كوننا نستعيدها لنبني خلفها حكايةً، فالنهاية جهد تأويليّ للماضي، وإعادة قراءة له.
النهاية نتيجة، لا لحظة عشوائية كالبداية، ولابد للنهاية كي تكون حقاً، أن تسبقها عملية تختمُ أو تلئمُ الجرح الأول، جرح الحُب، فالنهاية ليست هُنيهة عشوائية، لماذا ؟ لأن الحب (ربما) قد يحصل من النظرة الأولى، يفتح باب السماح والإباحة، أما الفراق والنهاية، فعراك مديد، أو كما في جذر “نهى” منع وتحذير، ولا نقصد الفراق هنا بصورته الشعرية-الرومانسية، كأن تلقي الحبيبة نظرة على الحبيب وتمضي تحت ذرات المطر، بل نقصد الفراق بمعنى أن حياتين اجتمعتا ولا بد لهما من الانفصال، واقتسام شؤون المنزل والعالم في بعض الأحيان، والبحث عن آخر، وإعادة توضيب الأثاث، أي إعادة النظر بكل ما يرتبط بوضعية الحبيبين في المجتمع، لا ممثلين على الشاشة.
لحظة النهاية يمكن تلمسها ومشاهدتها وقراءتها في معرض التصوير “قصة حب أخرى” المُقام في منزل التصوير الأوروبي في باريس، للفنانة كارلا هيرالدو فولو، الذي توظف فيه نص الحوار المطبوع والصورة الفوتوغرافية الحميميّة، كوسائط تستعيد فيها علاقتها مع X، الحبيب المخادع ذي الحياة المزدوجة. هو شخص تعرفت عليه مصادفة، وأحبته، ثم قررا العيش معاً في منزل جديد بعد عام من علاقتهما، إلى حين اكتشافها ذات صباح، إثر اتصال هاتفي مفاجئ، أنه يسكن مع أخرى وفي علاقة مستمرة معها، وكأن كارلا غير موجودة في حياته البتة.
اختصار حكاية الحب الفاشلة أو الخديعة بالشكل السابق لا يفيها حقها، وهذا بالضبط ما يهمنا، أي كيف يمكن رصد “النهاية”؟ أو كيف يمكن ترتيب العواطف والذكريات والمعلومات الجديدة عن الخيانة ضمن معرض ذي جدران بيضاء؟
ما تقوم به كارلا بسيط للوهلة الأولى، إذ نشاهد على الجدران نص سيناريو مطبوعاً على أوراق A4، يحكي عن مكالمة صباحيّة قامت بها كارلا بمجرد استيقاظها، بعد أن وصلتها وهي نائمة رسالة نصيّة تطلب منها الاتصال بـ”هذا الرقم” لشأن ضروري. تتصل كارلا، ويتدفق الحديث بينها وبين المرأة المجهولة بصيغة اعتراف متبادل، تريد المجهولة إخبار كارلا بأن “حبيبها” الذي تسكن معه، كاذب ومخادع. هو في يعيش حياة مزدوجة، ويخدع الاثنتين. نتتبع صفحات السيناريو الـ12 طوال المعرض لنصل إلى النهاية، فبعد أن قاطعت كارلا والمرأة المجهولة معلوماتهما، كان قرارهما اللقاء لاحقاً لحل “المشكلة”.
لكن ما سبق لا يكفي، تاريخ الأدب مليء بهذه اللحظات، وهنا يأتي دور الفوتوغرافيا، إذ نتتبع بين الصفحات المعلقة، إطارات تحوي صوراً التقطتها كارلا لحبيبها المخادع (بالتعاون مع ممثل يؤدي دور X)، هذه الصور بعيدة كل البعد عن “الفوتوغرافيا” بالمعنى الفني، هي صور حميمية، لحظة الخروج من الحمام والكاميرا مرتجّة، ألعاب السرير الهاوية، حلمة هنا، فخذ هناك، تحضير وجبة طعام بالثياب الداخلية، صورة لـX غاضب في المحطة إثر تأخر القطار. هذه ليست لوحات، بل شكل من أشكال اللعب بين حبيبين يستبيح الواحد منهما الآخر لذةً وحُباً.
الفوتوغرافيا في المعرض توثّق على مدار عام تفاصيل هامشية، تلك التي للمفارقة تتداعى لحظة إدراك النهاية، أحداث لا قيمة لها سوى للـ”أنا”، أشبه برد فعل طارئ كي تستعيد الذات اتزانها مدللةً ندماً من نوع ما، يتردد إثره في مؤخرة الدماغ لحظة النهاية التالي :”ليتني لم أعطه كأسي المفضل ليشرب به”. “كان من الأفضل ألا أخبره عن صديقتي التي كنت أكرهها في المدرسة”، “كان علي أن لا أجامل ولا أتنازل عن حقيقة أني لا أحب الجبنة مع الباستا”، وهنا مفارقة أخرى، الحديث الذي نقرأه بين المرأتين شديد الجدية، لحظة مكاشفة، بعيد كل البعد عن الحميمي الذي نراه في الصور، وكأن كلاً منهما تكشف للأخرى كيف خدعنا ذاك الرجل، لا كيف خُدعنا نحن الاثنتين به.
…
إن كانت لحظة البداية صورة ناصعة، تفاصيلها لا تنسى، أشبه بأساس لا يتزحزح، لحظة النهاية تكاثف للذاكرة، وانهيار للعالم في لحظة واحدة، تتدفق كل الصور سويّةً، لا تتمزق، بل تحضر وتختفي، وكأنها عملية Un-doing. أو إن أردنا التحذلق، هي تشابه عملية الـ”بلمهة” المستمدة من عالم الكيمياء، أي نزع الماء من المركبات المختلفة. وهذا ما يحصل حين تتدفق الصور، “تتبلمه” الأنا، تنزعُ ماء الحبيب وصوره والذكريات معه لتعود الأنا صافيةً، دون ذاك الآخر، خاليةً من لحظات اللعب والغواية، تلك التي “نؤدي” فيها للآخر، كي نقول إننا الأفضل والأمثل لحبّه، فـ”أنا” لست أنا الغاوي، بل نسخة تشابه رغبة الحبيب، فنعيش في غربة عن “الأنا” وخوف أن “وهم” الغواية قد ينكشف، وهنا تتجلى قسوةُ لحظة النهاية عبر صدمتين، الأولى فقدان تلك الأنا الغاوية والمغوية، والثانية إعادة اكتشاف الأنا بعد نزع/بلمهة الغواية والآخر المُشتهى منها، لأنها وفي تلك اللحظة، قد تكتشف أساها الذاتيّ، أي أنها دون غواية وحب، لم تعد الأنا كما تريد، مثال بعين الآخر لا يتبدّل أو يستبدل.
….
سبع دقائق كانت مدة المكالمة التي دارت بين كارلا والمرأة الثانية، سبع دقائق كشفت الحقيقة ورسخت لحظة “النهاية”، سبع دقائق فقط تدفقت عبرها صور عام كامل، بعدها أغلقت كارلا الهاتف، وضعت أغنية I will survive، وكتبت نهايةً “أغني بقوة، أرقص، أفعل كل ما بوسعي لطباعة هذه لحظة السعادة هذه في ذاكرتي. يجب علي أن أعيد كتابة كل شيء”.
…
الملفت أن كارلا اختارت أن تدون الحادثة بينها وبين الفتاة المجهولة بشكل سيناريو سينمائي، أي مشاهد يتخللها حوار مقطع، وهنا الاختلاف عن لحظة البداية التي نراها في أول المعرض كبطاقة بريدية تركها لها الشاب X، فالنهاية حدث مستمر (7 دقائق)، وشكل النص كسيناريو سينمائي يسمح لنا بتلمس تدفق الزمن والأنفاس وانقطاعها، لنرى أنفسنا إن نظرنا إلى المعرض من بعيد، أي وقفنا في أول الصالة، أمام وسيطين يتحاوران، وسيطين متناقضين نوعاً ما، حوار سينمائي، آني، نقرأه بينما يحدث، وصور حميمية من الذاكرة، المفترض أن لا يطلع عليها أحد، إما بسبب جودتها أو نوعيتها، أي ما يقال في المحادثة يختلف كلياً عما نراه في الصور، وربما هكذا هي “النهاية”، فصام بين حقيقة ما نقوله ووهم ما اختبرناه وما فعلناه، وأسى لفقدان الذات صفتها كموضوع للحُب.
رصيف 22