السلوفيني المرح سلافوي جيجك: بحثا عن الحياة بعد الكارثة/ عبد السلام دخان
ما انفك الفيلسوف سلافوي جيجك SlavojŽižek يثير الجدل في جل المجالات المتعددة التي يساهم فيها، مثل الفكر، والسياسة، الاقتصاد السياسي، والتكنولوجيا الرقمية، إلخ. وقد ساعده في سعة أفقه إلمامه بعدة ألسن، مثل السلوفينية، والكرواتية، والصربية، والفرنسية، والإنكليزية والألمانية. وهو مفكر شديد الارتباط بالإعلام؛ حيث لا نعدم حضوره في القنوات التلفزيونية، والوسائط الرقمية، مناقشا التحولات التي يمر بها العالم، من ظواهر اجتماعية وحروب، وصراعات وأوبئة (كوفيد19). وربما عد اليوم المفكر الأوروبي الأكثر صيتا في الولايات المتحدة بعد جاك دريدا.
ولد سلافوي جيجك في أواخر الأربعينيات في الجزء السلوفيني من تشيكوسلوفاكيا القديمة. درس جيجك في جامعة ليوبليا، وتأثر بفلسفة بوجيدار ديبينياك السلوفيني ماركسي النزعة، وانفتح على تراث مدرسة فرانكفورت النقدية، وأنجز أطروحتي دكتوراه، الأولى عام 1981، والثانية عام 1985؛ وقد أظهر فيهما اطلاعه الجيد على أعمال المفكرين الذين أثروا في القرن العشرين، من أمثال جاك لاكان، وجاك دريدا، وجوليا كريستيا، وكلود ليفي ستروس، وجيل دولوز. اشتهر منذ شبابه بنزعته نحو التمرد، ولهذا لم يسلم النظام الستاليني من نقده، وكذلك الفكر الشمولي، ويعد صورة لمفهوم المثقف الذي يترجم فكره في الشارع؛ ويظهر هذا في مشاركته في الحركات المناهضة للعولمة وغيرها، بيد أن الطريقة التي يفعل بها تتصف بمزاجية شديدة؛ الشيء الذي أكسبه سمعة سيئة في جل البلدان الأوروبية. ولعل هذه المزاجية تنعكس في فكره، إذ يظهر ما يكتبه وكأنه ردود أفعال تتحكم في الموضوعات التي يختارها، وفي نقدها.
يصف سلافوي جيجك نفسه بكونه يؤسس لتوجه تفسيري مغاير في المجال السياسي للميراث اللينيني، من دون التخلي عن استرشاده بالفكر الماركسي، بيد أنه لا يعد في هذا النطاق صاحب نظرية ثابتة المعالم. وربما ما يمكن وصفه به في توجهه هذا هو اهتمامه الصريح والشديد بأمر الأيديولوجيات، وطرائق تأثيرها في المجتمعات، وسبل التحرر منها. وجعله هذا الاهتمام يجهر بنقده اللاذع على كثير من التصورات النقدية التي سبقته، بل تلك التي كانت مؤثرة فيها، ومساهمة في نضجه الفكري؛ وأخص بالذكر – هنا- التصورات الفكرية النقدية التي طورتها مدرسة فرانكفورت، خاصة في فهم الكيفيات التي تتطور بها الأيديولوجيات في فعل تأثيرها في الأفراد وتوجيههم.
يبدو سلافوي جيجك صاحب «الفلسفة في الحاضر» غير منهجي، وغير خطي في تطوره الفكري. لا لأن اشتغاله متعدد الوجهات؛ حيث لا يكف عن الانتقال بين مجالات مختلفة (الفلسفة، السياسة، الأدب الشعبي، السينما، الموسيقى، إلخ) حسب، بل لأنه يصر أيضا على عدم الأخذ بالأنساق الفلسفية، مفضلا بدلا منها النزعة النقدية. ويصعب تصنيفه نظرا لطريقة اشتغاله هذه؛ فتارة يلبس رداء هيغليا، وتارة جبة المحلل النفسي (اللاكاني) وتارة لا يتورع عن الممارسة الكلبية (Cynicism) وتارة ينخرط بحماس في اليوتوبيا الشيوعية. ويسمح منزعه هذا بوصفه، الفيلسوف الذي يهدم الأسوار بين الفلسفات والأفكار.
يعد نزوع الناس إلى إظهار أنفسهم، والكشف عنها، في الفضاء العام، ونشر صورهم الأكثر حميمية على الإنترنت، ونشر اعترافاتهم المرعبة في «يوتيوب» أو في القنوات التلفزيونية، دليلا على تغير جارف في منظور الحياة الخاص، وفي الحضور داخل الفضاء العام. ويستوجب هذا التغير- حسب سلافوي جيجك – إعادة قراءة الديالكتيك الهيجلي، من حيث صيرورته المطمئنة إلى هدفية العقل الكلي في التاريخ، ولا تتيسر إعادة القراءة هذه إلا بمراعاة أهمية التحليل النفسي، خاصة اللاكاني، بنقد الأسس الفكرية التي قامت عليها الأيديولوجية الرأسمالية، خاصة الجانب المدمر المتأصل في الإنسان الرأسمالي، لا بوصفه أنانيا مغرما بالمتعة والاستهلاك؛ بل على العكس من ذلك، بصفته مكرسا متعصبا لمهمته المتمثلة في زيادة ثروته، بما يعينه هذا استعداده لإهمال صحته وسعادته من أجل تحقيق أهدافه، واستعداده لأن يدمر كل شيء – في طريقه – يمنعه من مواصلة مراكمة أرباحه، ولعل أهم شيء في هذا النقد هو الكشف عن مظهر التظاهر الأخلاقي الرأسمالي؛ حيث يخفي شروره وراء ادعاء الإحسان والحرية.
ينزع سلافوي جيجك إلى اختبار نزعته النقدية التي تحلل تأثير الأيديولوجية الرأسمالية في الأفراد في المجالات الأكثر ارتباطا بالنزعة الجماهيرية، أو وسائل التواصل الفنية وغيرها التي تصل بسرعة إلى الناس وتؤثر في أفعالهم، خاصة المجال البصري السمعي، وفي مقدمته فن السينما التي يعدها ساحة مثلى للصراع الأيديولوجي. ولا يقتصر تفكيكه الوسائط الأيديولوجية على الفنون البصرية السمعية، إذ يهتم بالوسائط الرقمية أيضا كاشفا عن طبيعة تأثيرها في المجتمعات المعاصرة. وقد اهتم فيلسوفنا هذا برصد عمل الثقافة الجماهيرية في فن السينما لدى مخرجين عديدين، من بينهم روبرتو روسيليني Roberto Rossellini، وألفريد جوزيف هتشكوك Alfred Joseph Hitchcock، وريدلي سكوت Ridley Scott. وقد اهتم في رصد هذه الأعمال بالشخصية السلطوية، والانصياع للسلطة ولأيديولوجيتها. كما اهتم بالكشف عن السبل التي يستبعد بها النظام الرأسمالي المعارضين وتهميشهم. ودلل جيجك على الاستبعاد بعلماء البيئة وناشطيها الذين تصفهم الأيديولوجيا الرأسمالية – في الأغلب – بكونهم مثيري الشغب. ولم يوفر فيلسوفنا في نقده الصارم هذا السرديات الكبرى، وإن كان يفعل ذلك من دون التخلي عن وعود مرجعياتها الهيغيلية والماركسية، غير أن نقده هذا لا يتصف بالصرامة والحفر الأكاديميين.
لم يفض نقد السرديات الكبرى بجيجك إلى تبني موقف تشاؤمي حيال إمكان العيش في العالم، وتحسين هذا العيش عن طريق إمكان تغييره. بيد أن هذا المطمع لا يتيسر إلا بتحرير الذات من سلطة الأيديولوجيا. ولا يشك لحظة في كوننا نعيش عصر ثورة، لكنها ثورة هادئة تنبذ العنف الثوري الذي ميز الثورات السابقة. ومهما كان شكل هذه الثورة في نظره فإن مهمة التغيير تبدو صعبة في عالم ينحو إلى الضبط الذاتي، ومراقبة نفسه بنفسه بفعل تسليم ذاته إلى الوسائط الاجتماعية. ويرتدي جيجك لباس الوعاظ وهو يلح على ضرورة قبول الحقيقة المؤلمة، وعيشها بالكامل، ريثما يتاح إمكان حدوث التحول الذي يحررنا من سلطة الأيديولوجيا التعددية المهيمنة التي تنسب كل شيء، والقضاء على مظاهر العنف في مختلف أشكاله. قد يتبادر إلى الذهن – في هذا النطاق- أن جيجك من المؤمنين بنهايات العالم المأساوية، بعد أن دخل النظام الرأسمالي العالمي مرحلته النهائية، من جراء الأزمة البيئية العالمية، والثورة البيولوجية الجينية، والتسليع الصنمي، والنمو والانقسامات الاجتماعية المتفجر، لكن الأمر ليس كذلك، فالنهاية هي نهاية نظام متعب، لا بد من أن تعقبه بداية جديدة تنبع من عمق الأزمة. وما على الإنسان تحمله هو ألم هذا المرور القاسي من مرحلة إلى أخرى.
ويقدم لنا كتابه الموسوم بـ»العنف، تأملات في وجوهه الستة» الصادر في إطار سلسلة ترجمان عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وترجمة فاضل جتكر، صورة واضحة لطريقة تفكير جيجك، وكيفية رصده الظواهر الاجتماعية والسياسية، وفي مقدمتها ظواهر العنف المادية والرمزية. وينطلق جيجك من مقدمة أساس مفادها أن العنف المُترسّخ في النظامين الاجتماعي والاقتصادي الرأسماليين، خاصة العنف الرمزي المُتجسّد في اللسان. وتكشف هذه المقدمة عن مرجعيات العنف وتمثلاته. بينما يقارب الفصل الأول منه أشكاله، خاصة الشكل المادي المباشر مثل القتل الجماعي والإرهاب، والعنف العقائدي الأيديولوجي الذي لا يقبل بالآخر وثقافته. ولا يمكن فهم العنف من دون فهم النسيج الاجتماعي الذي يمارس فيه؛ ولهذا يخصص الفصل الثاني من الكتاب لهذا الأمر راصدا الطابع الأخلاقي المهيمن فيه، من قبيل الخوف والتسامح، والاعتراف والاغتراب.
ومرد تردي أخلاق التسامح هو النظام الليبرالي الراديكالي الذي يخصص له جيجك الفصل الثالث؛ حيث يرصد حالات العنف الأوروبي القاسي في حق طالبي اللجوء هربا من ويلات الحرب في الشرق، وما يقابله من غياب للتسامح، ورفض صريح للتعدد الثقافي، بما يتضمنه هذا من تفاوت بين الممارسة والخطاب، الذي يروج له في مختلف الوسائط الليبرالية. ويستأنف في الفصل الرابع الكشف عن الطابع العنيف للسياسة الليبرالية، فيصف نظامها بالطاعون، خاصة حين تهدد مركزيتها محيطها بما تمارسه من عنف تجاه الدول الأخرى التي تقف حجر عثرة أمام هيمنتها. ويخصص سلافوي جيجك الفصل الخامس لفهم تناقض الليبرالية مع أصولها المرجعية الماثلة في فكر الأنوار وأخلاقه؛ حيث إن ما يسم الليبرالية هو التعصب الأيديولوجي، لا التسامح والمساواة؛ الشيء الذي يجعل من القيم التي تدافع عنها مجرد شعارات جوفاء تتهاوى أمام النزوع نحو تكريس السطوة الاقتصادية والتبعية السياسية. أما في الفصل الأخير فيجنح به الفكر نحو مقاربة العنف وفقا لتأرجح بين الثيولوجي والسياسي، وعلاقة هذا التأرجح بكل من القانون والأخلاق.
يقف قارئ سلافوي جيجك حائرا أمام منظوراته الفكرية المختلفة غير المستقرة التي تكمن خلف مواقفه المتناقضة، وغير المفهومة؛ فهو ظاهرة إعلامية بامتياز تتراوح بين مهادنة وسائل الإعلام والجرأة عليها، وقبول حشر حضوره داخل مواد تخدم الدعاية الليبرالية (الإشهار) وأخرى تروج لخطاب سياسي مناقض له، وثالثة تشوه الحقائق. هذا فضلا عن اختياره المنابر الغربية المؤثرة لتقديم حواراته، وتزداد غرابة شخصية سلافوي جيجك حين نلمسه يتحايل على الفكر الماركسي، ونصطدم بمواقفه من الأحداث السياسية المختلفة، ونرى دفاعه عن شخصيات سياسية مثيرة للجدل مثل وزير المالية اليوناني السابق يانيس فارو فاكيس صاحب «المينوتور العالمي» والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي وصفه جيجك بصاحب الجاذبية الشعبية، وفرحه بهزيمة اليسارية هيلاري كلينتون.
كاتب القدس العربي