“الهولودومور” السوريّ/ عبير نصر
ولأجل أن يُعيدَ النظامُ السوري ثقافةَ “القطيع عبر التركيع” التي اشتهر بها، والتي بدا أنها ستُجتثّ من جذورها مع اندلاع الثورة السورية، كان مستعداً، ومنذ البداية، لاعتماد كل الأساليب الخبيثة التي بين يديه، مهما كانت بعيدة عن الإنسانية وعن أبسط القوانين الدولية والحضارية.
ولعلّ أهم أدواته المتوحشة، استخدامه سياسة “التجويع” بقصد صناعة ثورة شيطانية مضادة تزعزع أركان الحلم السوري في دولة حرة ديمقراطية. ملامح هذه الإبادة الناعمة وصلت الفرع السوري لمركز البحوث الزراعية الدولي “إيكاردا”، ومقره في ريف حلب الجنوبي، في أبريل/ نيسان عام 2012، الأمر الذي دفعه كي ينقل معداته الثمينة، وعينات من بذور القمح، وبذور أخرى وجيناتها إلى خارج البلد. عملية الإنقاذ تلك، تبعها محاولات علماء أمريكيين للعثور على طريقة تُنقذ المحاصيل الزراعية في بلادهم، خاصة القمح، من التأثيرات الجوية وتغيّر المناخ، وظلوا عاجزين عن إيجاد حلّ، حتى وجدوا ضالتهم في بذور أحد أنواع القمح السوري لتحقيق أهدافهم، بحكم كونها الوحيدة التي لم تصبها الأمراض والحشرات من بين آلاف الأنواع من النباتات التي دمّرتها الآفات، خلال تجارب حصلت في حقلٍ بولاية كنساس الأمريكية. ميزة هذه البذور قدرتها على التطوّر جينياً والحفاظ على خصائصها التي تمكّنها من الصمود مع تغيّر الطبيعة المناخية للمكان. رغم هذا.. سوريا -البلد الأول في العالم الذي زرع القمح، وحصده، وجمعه، والذي اكتشف أول مطحنة عبر التاريخ- تجوع الآن، لأنّ النظام الحاكم وحلفاءه لم يتوانوا عن حرق آلاف الهكتارات من الأراضي التي كانت مزروعة بأجود أنواع القمح. يحرقونها وقت حصادها، ويحرقون قلوب فلاحيها وناسها.
تأسيساً على ما تقدّم، ووفق دراسة نشرتها جامعة “هومبولت” الألمانية في 2020، خسرت سوريا، التي كانت تتمتع بالاكتفاء الذاتي من إنتاج القمح، حوالي 943 ألف هكتار من الأراضي المزروعة بين 2011 و2018، بسبب العمليات العسكرية، وتهجير المزارعين، وسوء إدارة موارد الدولة، والتكاليف المرتبطة بالنزاع، بما في ذلك تغيّر الجهات المسيطرة على أجزاء من البلاد.
إنّ التجويع، كسلوكٍ وفعلٍ قصدي، يترافق عادةً مع الحصار العسكري الذي تفرضه قوات محاربة على منطقة محددة أو مدن بأكملها، وهذا ما يميّزه عن مجرّد الحصار الاقتصادي، الذي قد يكون له الهدف العسكري نفسه، ولكنه يختلف عنه من حيث الوسائل المتبعة. وفي الحقيقة مفهومُ التجويع غير مقتصر على معناه الضيق، أي حرمان السكان من الغذاء، وإنما يتعدّى ذلك إلى استخدامه كعقوبةٍ جماعية بهدف إيصال مناطق بأسرها إلى قيعان التهلكة. بالتساوق مع ما سبق، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقريرها الصادر بتاريخ 11 آذار/ مارس من عام 2019، مقتلَ 921 مدنياً، بينهم 398 من الأطفال و187 من السيدات، بسبب نقص الغذاء في المناطق التي حاصرها النظام السوري منذ عام 2011.
وحول حرمان آلاف العوائل من دعم مادة الخبز، مؤخراً، زعم رئيس وزراء النظام السوري في إحدى تصريحاته العجائبية المستفِزّة، أنّ الخبز ما زال خطّاً أحمر، لكن ليس بمفهوم سعر ربطة الخبز، بل باستمرار الحكومة في دعم القطاع الزراعي، وتأمين مادة القمح والدقيق وتوفيرها للأفران، وبأسعار “مقبولة” للمواطن. يزيد الطين بلّة أن سوريا لن تنجو، حكماً، من شبح الحرب الأوكرانية وتأثير ارتداداتها داخلياً، بينما تتسع دائرة المخاوف أعقاب هزات باتت تطال اقتصاد السوريين المتأزم أصلاً منذ عقد من الزمن. فالحرب الروسية الأخيرة، ومنذ إعلانها، رفعت أسعار المنتجات الغذائية، وسط تحذيرات أممية من “تفاقم حالة التجويع التي تصل لـ12.4 مليون سوري، وفق برنامج الأغذية العالمية بزيادة 5.4 مليون على عام 2019، ويزداد الأمر سوءاً مع استمرار مواسم الجفاف وشح المياه”.
في غضون ذلك، حكومة النظام السوري التي خفضت إنفاقها مع اندلاع الحرب الأوكرانية، تتطلع إلى ما سيُفضي إليه تنفيذ اتفاقها مع الحلفاء الروس، لا سيما وصول شحنات القمح المتفق عليها، وسط تطمينات “زائفة” أطلقها وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، لافتاً إلى “وفرةٍ في مخازن القمح والدقيق”. مؤكداً “ما زلنا نستقبل سفناً من القمح بأعداد جيدة، مع وجود جدول بالتوريدات مستمر حتى نهاية العام”. يبدو هذا الكلام عارياً عن الصحة، بطبيعة الحال، بعد تصريح السفير الأوكراني في لبنان، منذ أيام، أكد فيه أنّ سفينة سورية آتية من روسيا الاتحادية، ترسو في ميناء لبناني بينما تحمل حبوباً أوكرانية مسروقة، حاثاً القضاء اللبناني على منع السفينة من مغادرة الميناء.
ولا يتوقف التعويق عند هذا الحدّ، إذ يبدو أنّ لعنة الجوع تطال السوريين في كلّ مكان. ففي مقطع مصور تمّ تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، ضربت مجموعة من الرجال في حيّ قريب من العاصمة اللبنانية صبياً سورياً بالعصي وركلوه على وجهه بالقرب من مخبز، بحجة أنّ لهم الأحقية في الحصول على الخبز، لتعلن السلطات اللبنانية، على إثره، عن تشكيل لجنة أمنية لقمع الاشتباكات في المخابز.
تنصّ المادة /24/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حقّ كل شخص في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك المأكلَ والملبسَ والعنايةَ الطبيةَ، كما تؤكد المادة /11/ من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على حقّ كلّ إنسان في التحرر من الجوع. مع هذا أعلنت (منظمة الأغذية والزراعة)، فاو، ومنذ 29 ديسمبر/كانون الأول 2015 أنّ المجاعة ضربت نصف الشعب السوري دفعة واحدة. ولنزد من الشعر بيتاً.. ذكر برنامج الأغذية العالمي في بيان له بتاريخ 18 شباط/ فبراير 2016، أنّ فريق الإغاثة الذي دخل مدينة المعضمية، شهد على أرض الواقع أشخاصاً يبدو عليهم الهزال والإنهاك، فيما بدا الأطفال أصغر من عمرهم الحقيقي، وأنّ المدينة لم يكن الوصول إليها ممكناً لأكثر من عام ونصف، وكان سكانها يعيشون على العشب، وكميات محدودة من الأرز تُباع بأسعار أعلى بنحو خمسين مرة مما هي عليه في العاصمة دمشق، التي لا تبعد عنهم سوى بضعة كيلومترات.
جديرٌ ذكره أن (الهولودومور) كلمة أوكرانية تعني القتل المتعمد بالتجويع، ويستخدم الأوكرانيون هذا الاسم إشارةً إلى الكارثة الوطنية التي وقعت بعد سيطرة الروس على أوكرانيا إبان الثورة البلشفية، وفرضوا عليها ما يسمى بسياسة الشيوعية الحربية.
وبالنظر إلى مقاومة السكان لأساليب الحكم الستاليني في الاستيلاء على أراضيهم ومحاصيلهم، ظهرت الدعوات في الإعلام لتدمير هؤلاء، باعتبارهم من الأعداء، وكان ذلك حجر زاوية لسياسة الإبادة الجماعية التي تمثلت بمنع الفلاحين من تخزين الحبوب، ثم المصادرة الجماعية لجميع أنواع الطعام من القرى، وأدى ذلك إلى حدوث المجاعة الكبيرة بين عامي 1932- 1933 التي أدت إلى موت ملايين الأشخاص.
وعليه لم يكن السوريون أول من تعرض للحصار والتجويع عمداً، باتجاه تأسيس حقبة “الهولودومور السوري”، لكن الاختلاف ينحصر في الطرف الذي يفرض الحصار. فبينما كانت الشعوب تتعرض للحصار والتجويع من جهة قوة أجنبية معادية، وهذا قد يكون مفهوماً، على عدم أخلاقيته، نجد أنّ الإرادة التي منعت الغذاءَ ووسائل البقاء عن المدنيين السوريين، كانت إرادة سورية بأيدٍ سورية، وهنا يكون الجور والقهر أكثرَ فظاعةً وأعمقَ أثراً.
ليفانت – عبير نصر