حينما تكون الأزمة بداخلك.. لماذا افترست الوحدة حياة الكثيرين؟
لم يتجاوز عمر “دانيال فورنيس”، الشاب البريطاني، الرابعة والثلاثين عندما قرّر إنهاء حياته إثر عزلته الشديدة في ظل التزام الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، كان “دانيال” يعاني من الشعور بالوحدة بسبب العزلة الذاتية للدرجة التي جعلته يُقدم على الانتحار، كانت أسرته معتادة على التواصل معه عن طريق مكالمات الفيديو، وعندما انقطع اتصاله بهم أصابهم القلق، وفي يوم 27 مارس/آذار أبلغت الأسرة الشرطة التي وجدته ميتا في منزله الذي يعيش فيه وحيدا. كان “دانيال” يُعاني من اضطراب ثنائي القطب، وكان يعاني أيضا من كونه بمفرده بعد أن كان مُعتادا على الخروج كل يوم.
“دانيال” أيضا كان مُصابا بمرض السكري من النوع الأول، مما أرغمه على الانصياع التام للحجر ولزوم المنزل، فقد وضعه مرض السكري في خطر أكبر للإصابة بعدوى كورونا المُستجد، لذلك اضطر أن يلتزم العزلة الذاتية التامة، وخلال هذا الوقت كان يُشارك بعض الأشياء على صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي حول شعوره بأنه سيواجه مشكلة في التغلب على الوحدة والعزلة.
تقول أخته عنه: “كان لديه الطاقة لجلب الفرح والابتسامات للناس من حوله، وكان قادرا على تبادل الحديث مع أي شخص، لا يهم مَن هو، لقد كان مُشرقا للغاية، وكان دائما يرتدي ألوانا مشرقة وجريئة، لكني لم أكن أتوقع أن يصل به الأمر إلى حد الانتحار على الإطلاق، خاصة أنني أعلم أن الجميع في الوقت الحالي يعاني من صعوبات الوحدة والعزلة”.(1)
RIP DANIEL: A man, 34, who suffered bipolar disorder has taken his own life after being unable to cope with self-isolation during the #COVID19 pandemic. Daniel Furniss died last week after struggling with the lockdown. #coronavirus #corona #coronavirusuk https://t.co/b43nMH4xew
— Paul Ashworth (@pauldashworth) April 4, 2020
فهل من الممكن أن يدفع الشعور بالوحدة صاحبه إلى الانتحار؟ رُبما الإجابة كانت “نعم” وفقا لحالة “دانيال”، لكن “دانيال” كان يكافح اضطرابا نفسيا، فماذا عمّن تلتهم الوحدة أرواحهم دون أن يكونوا مُصابين باضطراب نفسي ما؟ كيف يتعاملون مع هذا الوحش الكاسر خاصة في أوقات العزلة التي أوجبها الحجر الصحي؟
كانت “منى” تعرف أنها تستفز متابعيها وأصدقاءها على وسائل التواصل بنوعية منشوراتها المثيرة للجدل، وأنهم في واقع الأمر حولها لأنها تُثير فضولهم وحبهم للاستطلاع، يقتربون منها للسببين السابقين، لكن لا بأس، المهم أن يبقوا حولها، تزيد جُرعة ما تفعل كلما رأت أنهم قد اعتادوا عليها، فكلما أصبحوا يشعرون أنه ليس لديها جديد فعلت ما يُثير فضولهم ويُزيد من استفزازها لهم، تُبالغ في العنف، تُثير دوما حولها الشجارات والخلافات الحادة دون سبب كافي، وتُحاول أن تسير عكس اتجاه القطيع، كلما رأت أن جميع من حولها يتبنّى رأيا، تبنّت هي الرأي المُخالف له، فقط كل ما كانت تريده “منى” الفتاة ذات الخامسة والعشرين عاما أن تُبقي الأعين مُعلقة بها، أن يبقى الناس حولها، هكذا كانت تسير حياتها.
كل ما كانت تتمناه “منى” هو أنه حينما يأتي الوقت الذي تجلس خلاله في غرفة مُغلقة عليها، كما هو الحال خلال فترة الحجر الصحي الحالية، ألا يكف هاتفها عن استقبال الرسائل والتنبيهات التي تخص التعليقات التي تأتي على مُشاركاتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
تعترف “منى” لنفسها أن ما يجعلها تسلك هذا السلوك هو رُعبها المُبالغ فيه من “الوحدة”، أيًّا ما كان الثمن يجب أن تتحمله في مُقابل تجنب هذا الرعب، حتى وإن كانت تفعل ما لا ترغب في فعله في حقيقة الأمر، حتى وإن أظهرت صورة لا تُعبر في الحقيقة بشكل كامل عنها، لا يهم، كل ما يهم أن تبقى محط الاهتمام، ألا ينفضّ الناس من حولها، حتى وإن كانت آراؤهم فيها سلبية.
على عكس الكلمات السابقة تماما والتي قالها ديفيد ليفيثان المؤلف والكاتب الأميركي، وجدت “منى” أن طريقها في الحصول على الأُنس ووجود الناس حولها هو أن تُثير استنكارهم، وأن تجعلهم يرفضونها قدر المستطاع، وبمقدار الرفض يأتي الفضول وحب الاستطلاع ومن ثم الوجود حولها، هكذا كان منطقها.
“منى” هي واحدة من كثير من الشباب الذين أصبح شبح “الوحدة” هاجسا وخوفا دائما لديهم لا يعرفون كيف يتعاملون معه، ما زالوا في مقتبل حياتهم، ما زالوا لم يخرجوا للحياة بعد، لكن الشعور بالوحدة ينهش قواهم ويستنزف طاقاتهم، ويجعلهم غير قادرين ولا راغبين في التجربة وتحمل الفشل واحتمال الهزيمة ثم إعادة المحاولة والقيام مرة أخرى بعد السقوط، هذا الشبح الذي ازداد تغوّلا بعدما لزم الجميع منازلهم، وأصبحوا واقفين أمام مرآة ذواتهم بلا أي قدرة على تشتيت انتباههم في الذهاب والمجيء أو في صخب الأصدقاء ومُشكلات العمل.
تخرجت “منى” منذ خمس سنوات في كلية التجارة جامعة القاهرة، لتجلس بعدها في المنزل مُنتظرة الزوج الذي سيخرج بها من بيت العائلة، ولا شيء آخر يمكن أن تفعله حتى يتحقق هذا، لم يكن يشغلها كثيرا تطوير مهاراتها حتى تحصل على فرصة عمل، ولم يشغلها الحصول على عمل من الأساس، فالعمل يعني التزاما بواجبات بعينها وستجد مَن ينتقدها ويلومها فيه إذا قصّرت، ارتضت “منى” أن تمر أزهر سنوات عمرها وأكثرها نضارة في حالة من الانتظار.
تقول لـ “ميدان”: “كان يجب أن تكون حالة الانتظار هذه ممتعة ومسلية إذن، لا يعرف أحد من أهلي أن لدي العديد من الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تحمل صفحاتي اسمي الحقيقي، لكي أكون حرة، أقول ما أشاء، أقول على صفحاتي الآراء ووجهات النظر التي تجذب المتابعين والفضوليين، ليس من المهم أن تُعبر هذه الآراء عني بالفعل، المهم هو ألّا أكون وحدي أبدا، وأن يكون الناس حولي دائما، ومنذ أن بدأت فترة الحجر الصحي ازداد نشاطي على هذه الصفحات، أرى الجميع يفعل ذلك، لكن ما يُفرّق نشاطي المُبالغ فيه عنهم هو أن نشاطي هذا نابع من شعوري بأن الوحش الذي لا أُطيق تصوره يقترب أكثر فأكثر”.
رُبما تُعبر الكلمات السابقة للكاتب الياباني هاروكي موراكامي عن آلاف الأشخاص الذين قرّروا أن يختاروا العزلة، حتى قبل أن تُصبح العزلة إجبارية بسبب الحجر الصحي، فالبعض يُفضّل الوحدة على عالم يجعلهم يتعرضون للكثير من الصدمات المُتتالية، وكانت “مها” واحدة ممن أخذ هذا القرار بكامل إرادته.
في شتاء عام 2017، كان صوت الرعد بالخارج مُرعبا، إلى الحد الذي جعل “مها” الفتاة الثلاثينية تستيقظ من نومها مفزوعة، تعيش “مها” بمُفردها بعد وفاة والديها ولحاق زوجها بهم، تجد صعوبة في مرور المناسبات والأعياد حيث لا تجد مَن يُشاركها أو يُشعرها باختلاف الأيام عن بعضها بعضا، كان هذا بالنسبة لها قاسيا، لكنها اكتشفت في هذه اللحظة أن القاسي أكثر هو صوت الرعد بالخارج، والذي لا يرحم مخاوفها ولا الهواجس التي يمتلئ بها عقلها في هذه اللحظة، وكل ما يدور بذهنها أنه رُبما لو معها أحد ما كانت تشعر بكل هذا الخوف فقط بسبب صوت المطر والرعد، فقط لو كان معها أحد كانت ستُحكم الغطاء عليهما وتُكمل نومها في أمان.
كانت “مها” قد تعرضت للكثير من الصدمات في أصدقائها وأقاربها إلى الحد الذي جعلها تبتعد وتبقى وحيدة تماما، اختارت الوحدة في سبيل ألا تُجرح أو تُصدم ثانية في شخص قريب أو حتى بعيد، في لحظة الرعب هذه، أمسكت بهاتفها، وفتحت حسابها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك لتقرأ المشاركات التي كتبها الأصدقاء على صفحاتهم، شعرت ببعض الاستئناس، وبأنها ليست وحدها، شعرت ببعض الأمان حين رأت البعض يكتب عن مشاعره تجاه الأمطار المتساقطة بالخارج.
في هذه اللحظة عرفت “مها” عن قُرب معنى الوحدة وقيمة الأُنس، رُبما يكون شيئا مُرعبا، كالرعد بالنسبة لها في هذه اللحظة، لكنه لا يصبح مُرعبا كما كنت تتصور بعدما تتشارك مع شخص آخر، حتى وإن كان هذا التشارك مُتمثِّلا فقط في قراءة كلمات كتبها شخص رُبما لا تعرفه ولم تُقابله من قبل في حياتك.
فعلت “مها” أغرب ما يمكن فعله بعد هذا الموقف، لم تتراجع عن موقفها القديم من اختيار الوحدة، لم تُحاول أن تُجرب حظها مرة أخرى في العلاقات مع الناس، كل ما فعلته، منذ هذا التاريخ، هو أنها أصبحت تختار بعناية بالغة مجموعة من الصفحات الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك لتُتابع مُشاركات أصحابها دوما، كأنهم أشخاص يُشاركونها الحياة، تدخل دوما إلى صفحاتهم لترى ما كتبوه وما شاركوه، وتنسج صورة لهم من فعل خيالها فقط، صورة لا يعرفون هم عنها شيئا وقد لا تُعبّر عن أي شيء في شخصياتهم في الواقع، و”مها” من جانبها لا تُحاول أن تُكلمهم أبدا، تخشى على الصور التي نسجتها لهم وتحافظ عليها حتى من الاقتراب منهم والتعرّف عليهم في الحقيقة، وهو الأمر الذي يروق لـ “مها” ويُناسبها.
تقول “مها” ل “ميدان”: “كل ما أتعجب منه هو الأشخاص الذين يُقرّرون بين الحين والآخر إغلاق صفحاتهم على فيسبوك لبعض الوقت، كيف لهم أن يرفضوا هذا الأُنس المجاني، والذي لا يُكبّدهم الخسائر أو الصدمات والأزمات النفسية المُتلاحقة التي نتكلّفها عند التعامل مع بعضنا بعضا عن قرب، على أي حال نحن دوما نتخيل صورا لبعضنا ونتعامل على أساسها إلى أن يسقط البناء الذي بنيناه على رؤوسنا وتظهر الحقيقة، فماذا يُضيرنا لو لم نتعامل عن قُرب أبدا، وظللنا مُحتفظين بصورنا الخيالية عن بعضنا بعضا، وكسبنا الأُنس؟”.
أقصى درجات الإحباط بالنسبة ل “مها”، خاصة بعد أن توقفت عن النزول للعمل بسبب الحجر الصحي، هو أن تدخل إلى الصفحات التي اختارت متابعة أصحابها لتجدهم لم يُشاركوا أي شيء على الإطلاق في هذا اليوم، لتنام مُحبطة وغاضبة من انشغالهم عنها!
“أصواتهم في الخارج تُثير استيائي بشدة، لماذا لا يصمتون قليلا؟!”، كان هذا هو الخاطر الذي يتردد دوما في ذهن “عمر. م” حينما يسمع أصوات ومُحادثات أفراد أسرته خارج جدران غرفته المُغلق بابها، يعيش “عمر” بمفرده رغم كونه يحيا مع والديه وإخوته، رغم أنه يعمل ولديه الكثير من زملاء العمل، والكثير من الأصدقاء خارج نطاق العمل الذين كان يُشاركهم جلوسهم على المقاهي، لكنه رغم كل هؤلاء حوله فإنه يشعر بالوحدة تفترس عقله وقلبه، لأنه لا يوجد بحق مَن يستطيع مُشاركته مشاعره وأفكاره، وهو الأمر الذي ازداد حِدّة بعد أن أصبح لزوم المنزل إجباريا، فلا عمل ولا مقاهي يشتتون شعوره بالوحدة، قد يكون التصوير الأمثل لما يحياه “عُمر” ويشعر به هو كلمات الكاتبة الإيرانية الأميركية طاهرة مافي التالية:
يُعبّر “عمر” عن وحدته لـ “ميدان” قائلا: “ماذا يُفيد وجود عشرات الناس حولك وأنت لا تُحدِّث أحدهم عما يختلج في صدرك أو يثور في قلبك؟ كلما هممت بالتحدث أتراجع، وأقول لن يفهم أحد، لم أُصدر نتائج سابقة وأصدقها، بل بالعكس، حاولت التحدث كثيرا جدا ولم أجد رد فعل يجعلني أستمر في التحدث، فالجميع يتخذ موقفا من اثنين: إما إنهم لا يفهمونني تماما، وإما إنهم يبدؤون في المزايدة عليّ، ويخرجون من كلامي إلى الكلام عن مواقفهم وحياتهم وما حدث لهم هم، مُسفّهين بذلك مما كنت أتحدث فيه مُعتبرينه “كلام فاضي” أو تفاهة، ما فائدة إذن أن يوجد حولك مئات الأشخاص لو كانت هذه مواقفهم منك ومن مشاعرك؟ كيف لا تشعر بالوحدة إذن؟!”.
ما سبق جعل “عمر” لا يستطيع خلال فترة الحجر الصحي أن تكون وسيلة تسليته وتواصله مع العالم هي الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كما الآخرين، وهو ما جعل “عمر” ينصرف إلى القراءة وسماع الكتب الصوتية التي أنهى العشرات منها حتى الآن، ويُعلّق عن هذا قائلا: “هذه هي الوسيلة التي اهتديت إليها لتحقيق أُنس أصدّقه!”.
“شكل الحياة، حتى قبل الحجر الصحي، كان يقود للوحدة بكامل قوته”، هكذا تقول “نسرين سليمان” (اسم مستعار)، الباحثة الاجتماعية لـ “ميدان”، وتُضيف قائلة: “لا يقتصر الأمر على مجتمع بعينه، أصبح الأمر أكثر انتشارا من ربطه بمجموعة مُحددة، للأسف القواعد واحدة، الإنسان يتكوّن من عقل وروح وجسد، وكلٌّ منهم يحتاج إلى طريقة مُخاطبة مُختلفة، حتى تشعر بالإشباع والامتلاء النفسي والمعنوي، وتستطيع أن تجد الأُنس وأن تُحدد بدقة ما مقصودك ومساحتك في علاقاتك المُختلفة”.
وفقا لـ “نسرين”، أصبح شكل الحياة الذي تُسيطر عليه التكنولوجيا والهواتف الذكية لا يجعلنا نستطيع أن نُلبّي احتياجاتنا كافة، لن يجعل هاتفك الذكي جسدك يشعر بالانتعاش والحيوية مثل ممارسة الرياضة، ولن يجعل عقلك حيّا نابضا متجددا مثل قراءة كتاب أو معرفة معلومات جديدة ورؤية مناظر مُختلفة عن طريق السفر، لن يجعل هاتفك الذكي روحك مُشبعة لأنه لن يستطيع أن يجعل لك حياة روحية ثرية.
تقول “نسرين”: “نحن أصبحنا نمكث على هواتفنا طوال وقت فراغنا، رُبما أيضا نترك أمورا مهمة وراءنا ونمكث على هواتفنا، كُنّا نجد الأصدقاء عندما يتفقون للمقابلة أو الأهل عندما يجتمعون في مناسبة كلٌّ منهم يضع رأسه في هاتفه، فكيف إذن نحصل على الأُنس؟!”.
ترك الهواتف الذكية قليلا والنظر حولنا وتلبية احتياجاتنا الإنسانية المُختلفة هو ما يجعلنا نحصل على الأُنس بصحبة أنفسنا أولا والمحيطين بنا ثانيا
تُشير إحصائيات(3) استخدام الهواتف الذكية إلى أن الشخص العادي يقضي ساعتين و51 دقيقة يوميا على أجهزته المحمولة، علاوة على ذلك، 22% منا يقومون بفحص هواتفهم كل بضع دقائق، و51% من المستخدمين ينظرون إليها عدة مرات في الساعة. وقد امتلك 2.71 مليار شخص في العالم هاتفا ذكيا في عام 2019، أكثر من 5 مليارات شخص في العالم يمتلكون أجهزة محمولة، يحصل الأطفال على أول جهاز محمول خاص بهم في عمر 12 عاما، تم تنزيل 194 مليار تطبيق للهاتف المحمول في عام 2019.
ترك الهواتف الذكية قليلا والنظر حولنا وتلبية احتياجاتنا الإنسانية المُختلفة هو ما يجعلنا نحصل على الأُنس بصحبة أنفسنا أولا والمحيطين بنا ثانيا، هذه هي النصيحة التي تختتم بها “نسرين” كلامها. وتُضيف آملة أنها تعتقد أن فترة الحجر الصحي الحالية ستُغير الكثير في تركيبتنا النفسية، رُبما ستجعلنا نشعر بأهمية التواصل مع الآخرين، ونُقدّر قيمة أن ننظر للسماء والشوارع من حولنا.
بحسب مقال للكاتبة “جريتشين روبين” على مجلة علم النفس اليوم(2)، فإن أحد التحديات الرئيسية في الشعور بالسعادة هو الشعور بالوحدة، لكي نكون سعداء، نحتاج إلى روابط حميمة، نحتاج إلى أن نكون قادرين على الشعور بالثقة، نحتاج إلى أن نشعر بالانتماء، نحتاج أيضا إلى أن نحصل على الدعم وأن نُقدّمه، وفي الواقع يكون السبيل لتحقيق كل هذا هو الحصول على علاقات قوية، وربما تكون هذه العلاقات هي المفتاح للحياة السعيدة.
ووفقا للموقع السابق نفسه، فهناك عدة أنواع من الشعور بالوحدة، بالطبع، ليس كل شخص يشعر بأنواع الوحدة جميعا إذا تحققت أسبابها، على سبيل المثال، لا يريد الجميع شريكا رومانسيا، لكن بالنسبة لبعض الناس، فإن عدم وجود أنواع معينة من العلاقات يجلب الشعور بالوحدة، وبمجرد تحديد النوع المحدد من الشعور بالوحدة الذي نواجهه قد يكون من الأسهل تحديد طرق لمعالجته، ومن أنواع الوحدة:
الشعور بالوحدة بعد تغيير الوضع الذي اعتدت عليه
تغيير حياتك وبدء وضع جديد، مثل ذلك الظرف الذي يتعرض له الجميع خلال فترة الحجر الصحي الحالية، هو أمر كفيل بلا شك بخلق الشعور بالوحدة، فتغيير إيقاع الحياة الذي اعتدت عليه وتوقف الأنشطة المُختلفة التي كُنت تقوم بها قادر على إشعارك بأنك وحيد.
الشعور بالوحدة الناتج عن الاختلاف الحاد مع المحيطين
قد تشعر بالوحدة إذا كنت تشعر بأنك مختلف عن الآخرين المحيطين منك بطريقة حادة لا يُمكنك التأقلم معها وتدفعك إلى الشعور بالعزلة، ربما يكون إيمانك أمرا مهما حقا بالنسبة لك، ولا يشاركك الأشخاص من حولك ذلك، أو العكس، ورُبما أيضا يحب الجميع القيام بأنشطة في الهواء الطلق، لكنك لا، أو العكس، في هذه الحالات مثلا يكون من الصعب عليك التواصل مع الآخرين بشأن الأشياء التي تجدها مهمة، مما يُسفر عن الشعور بالوحدة.
الشعور بالوحدة لعدم وجود علاقة حميمية
حتى لو كان لديك الكثير من أفراد العائلة والأصدقاء، فأنت تشعر بالوحدة لأنك لا تملك علاقة حميمة مع شريك رومانسي، أو ربما لديك شريك لكنك لا تشعر باتصال عميق بهذا الشخص.
الشعور بالوحدة لعدم وجود حيوانك الأليف
كثير من الناس لديهم حاجة ماسة إلى التواصل مع الحيوانات، إذا كان هذا يصفك، فستتعامل مع هذه العلاقات بطريقة لا تحل محلها العلاقات الإنسانية، الكثير من الناس يشعرون أن هناك شيئا مهما مفقودا إذا لم يكن لديهم كلب أو قطة في حياتهم.
الشعور بالوحدة بسبب انشغال المُقربين
أحيانا تكون محاطا بأشخاص يبدون ودودين بدرجة كافية، لكنهم لا يرغبون في التواصل العميق الذي تحتاج إليه، ربما يكونون مشغولين جدا بحياتهم الخاصة، أو لديهم الكثير من الأصدقاء بالفعل، لذلك بينما تريد أنت اتصالا أعمق، يكونون هم من الجهة الأخرى غير مهتمين وليس لديهم استعداد حقيقي لفعل هذا، أو ربما دخل أصدقاؤك الحاليون في مرحلة جديدة من حياتهم وهذا يعني أنه لم يعد لديهم وقت للأشياء التي اعتدت أن تفعلها بصحبتهم، فقد بدؤوا مثلا عملا يستغرق ساعات أطول من يومهم، أو رُبما بدؤوا في تأسيس عائلة.
الشعور بالوحدة الناتج عن الشك
في بعض الأحيان، قد تواجه موقفا تبدأ بعده في الشك فيما إذا كان أصدقاؤك يتمتعون بنيات حسنة ولطيفة ومفيدة بالنسبة لك حقا أم لا، في هذه الحالة، تكون غير واثق بأصدقائك بالدرجة الكافية، وأحد العناصر المهمة للصداقة هي القدرة على الثقة، لذلك إذا فقدت ذلك، فقد تشعر بالوحدة، حتى إذا كنت تستمتع بصحبة أصدقائك.
من المهم أن ندرك سبب شعورنا بالوحدة، لأنه عندئذ فقط يمكننا أن نرى كيف يمكننا التعامل معها
الشعور بالوحدة لأنك تعيش بمفردك
قد يكون لديك دائرة اجتماعية نشطة في العمل، أو لديك الكثير من الأصدقاء والعائلة، لكنك تعيش بمفردك، وتفوت على نفسك أن تستأنس بشخص ما عندما تكون في المنزل، سواء كان ذلك يعني العيش مع زميل في الغرفة، أو أحد أفراد أسرتك، أو زوجك، مجرد شخص يقوم بشرب فنجان قهوة في الغرفة المجاورة، أو يقرأ على الأريكة بينما تستلقي أنت بالداخل يخلق شعورا بالأُنس.
النصيحة الأخيرة التي توجّهها “جريتشين روبين” أنه من المهم أن ندرك سبب شعورنا بالوحدة، لأنه عندئذ فقط يمكننا أن نرى كيف يمكننا التعامل معها، وتذكر أن الوحدة هي عامل رئيسي في الشعور بالتعاسة، لذلك تُعدّ من المشكلات المهمة التي يجب معالجتها إذا كنت تعمل على جعل نفسك أكثر سعادة.
“إيديا في جيوبي وقلبي طرب
سارح في غربة بس مش مغترب
وحدي لكن ونسان وماشي كدا
ببتعد معرفش أو بقترب”
الكلمات السابقة غناها الفنان المصري محمد منير، وهي تحمل الأفكار نفسها التي تتفق معها “ريهام حلمي”، باحثة وكاتبة متخصصة في مجال الذكاء العاطفي وتطوير العلاقات الأسرية، في كتابها “سكن”، فترى “ريهام” أن الوحدة لا تأتيك لأنه لا يوجد أشخاص حولك، الوحدة وحش يبدأ خلقه من داخلك من عالمك الداخلي، وبقدر أُنسك بنفسك وتصالحك معها ومحبتك لها، ستستمتع بكل ما تفعل بدءا من ارتشاف مشروبك الساخن المُفضل بصحبة رواية طيبة، وصولا إلى أي فعل أو تصرف تقوم به، عندما يحدث هذا ستكون العلاقات حولك مهما كانت درجتها مُرضية بالنسبة لك، لأنك بالفعل استطعت أن تُحقق الامتلاء والإشباع لنفسك، ولست بحاجة إلى أن يُحققه لك المُحيطيون بك.
بحسب “ريهام”، مشكلة الوحدة التي تبدأ من الداخل أنه لا يوجد شيء قادر على إشباعها، أي تصرف جيد أو لطيف يفعله أي شخص مُقرب منك بهدف إسعادك يكون غير كافٍ، هناك دوما توقع لشيء أعلى، لأداء أفضل، لن يصل الآخرون بالطبع لتحقيقه لأنهم لم يطّلعوا عليه وليس لديهم أدنى علم به من الأساس، وعندما تستطيع تحقيق الإشباع لنفسك وملء تلك الفجوة من الوحدة بالأُنس، ستستطيع أيضا أن تصل إلى الرضا والامتنان من التصرفات الطيبة التي يقوم بها الآخرون لأجلك مهما كانت درجة بساطتها، وحينها أيضا حتى لو لم تجد أي شخص حولك يؤنس وحدتك، حتى وإن كنت حبيس منزلك، فلن تشعر بوحشة الوحدة، ستصل إلى الشعور بـ “وحدي لكن ونسان” الذي غنّاه محمد منير.
المصدر : الجزيرة