“لنتظاهر أنها مدينة”.. فران ليبويتز كمواطنة نيويوركية مثالية/ محمد صبحي
هذا تلفزيون عاطفي، عن مدينة لا يمكن السفر إليها حالياً، وقد لا تتاح تلك الفرصة أبداً لأن هذه المدينة في طريقها للزوال. والعاطفية تأتي أيضاً من مركز اهتمامه، وهي امرأة تجسّد صورتها الذاتية وتصوُّرها أسلوب وفكاهة القرن العشرين، لدرجة يمكن معها تخيُّل اندفاع الدموع من عيون مشاهديها الأكبر سناً والأوثق خبرة بتلك المدينة المغادرة. فران ليبويتز هو اسمها، رفيقة مشاهير سكان نيويورك (ليونارد برنشتاين، فرانك سيناترا، تشارلي مينغوس)، وشاهدة على الاضطرابات الكبيرة في تاريخ هذه المدينة، من حركات التحرُّر الاجتماعي والجنسي في الستينيات إلى الازدهار المدوي لحركة التشييد والعقارات في الثمانينيات، مروراً بكابوس 11 سبتمبر 2001، وصولاً إلى ما آلت إليه المدينة وجعلها منطلقاً مستمراً لشكاواها.
تماماً مثلما قدّم وودي آلن قبل خمس سنوات سلسلته التلفزيونية “أزمة في ستة مشاهد”، ولم تكن في حقيقتها سوى فيلم مقسَّم إلى ستة أجزاء/حلقات، فإن السلسلة القصيرة لمارتن سكورسيزي بعنوان “لنتظاهر أنها مدينة” هي عبارة عن فيلم مدته ثلاث ساعات ونصف الساعة، مجزّأ إلى سبعة فصول، حتى لا يخيف المشاهد ربما مثلما حدث مع آخر أعمال مخرجه مارتن سكورسيزي، ملحمته السينمائية “الأيرلندي”، وشكوى البعض من طول مدته واقتراح البعض الآخر تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء لمشاهدته كمسلسل تلفزيوني قصير. لكن الجميل هنا في هيكل العمل هو فضفاضيته، بحيث يمكن للمرء أن يبدأ مشاهدته من الخلف إلى الأمام ولن يفقد أياً من فاعليته أو تأثيره، كبورتريه شخصي من صديق لصديقته ولمدينتهما المشتركة.
تطهير “التايملاين” هو أحد تكتيكات التواصل الاجتماعي الشائعة، وفيه ينشر المستخدمون شيئاً إيجابياً أو خفيف الظل أو صحياً، مثل صورة لكلب أو قطة لاهية أو قفازات بيرني ساندرز، من أجل تشتيت انتباههم لفترة وجيزة عن كل الكوارث الماكثة والطارئة في العالم. لا تمتلك ليبويتز حساباً في فايسبوك أو تويتر، ولا حتى هاتفاً ذكياً أو لابتوب، ولهذا وصفتها “نيويورك ماغازين” بـ”اللودية التي تعرف ما تريده” (واللوديون هم مناهضو الآلات والتكنولوجيا)، لكن هذه المرأة المبتعدة بإرادتها عن السوشال ميديا تفعل بفيلمها الوثائقي هذا ما يفعله ذلك التكتيك المعاصر الشائع، فالفيلم الذي بدأ عروضه الإنترنتية بعد يومين فقط من اقتحام الكابيتول، هو إلهاء غير مقصود عن ترامب وكورونا وبقية الأمور السيئة التي تحدث في العالم. وإن كان مسموحاً لإلهاء ما أن يأخذ حيزاً في جدول أيامنا الحالية، فهو من نوع هذا الفيلم تحديداً: وثائقي من عالم ما قبل كورونا، يجول مدينة صارت مركزاً عالمياً للوباء، نشاهده في أعقاب خروج الرئيس البرتقالي من البيت الأبيض، وبطلته امرأة استثنائية ثرثارة ومشاغبة تتحدث عن أي شيء وتملك رأياً بخصوص كل شيء.
تتذمّر ليبويتز من الرائحة في محطات مترو الأنفاق، وسائقي سيارات الأجرة المتهورين بشكل متزايد، بالإضافة إلى حقيقة العيش في واحدة من أغلى المدن في العالم. لكن خلف تلك الشكاوى المعتادة، تتحدث عن قضايا أخرى أكثر تجاوزاً مثل مفهوم المال، والفن كمنتج (“في المزاد يصفقون عندما تباع اللوحة وليس عندما يعرضون اللوحة”)، وثقافة الإلغاء (التي تملك رأياً لافتاً بشأنها)، ورفضها للتكنولوجيا، ونفورها من الرياضة، وغير ذلك من موضوعات. ورغم حضور بعض اللحظات المتحذلقة وصعوبة الإلمام في بعض الأحيان بمجمل المراجع المذكورة في حديثها (هي، مثل سكورسيزي، تتحدث بسرعة كبيرة وتحرك يديها بلا توقف)، إلا أن حدة حُججها، وهيكل أفكارها وسلطتها المتأتية من الاستمرار في العيش لسنوات عديدة في تلك المدينة من دون أن تفقد روح دعابتها الممميزة، تطرّز تجربة المشاهدة بالمتعة.
زيارة ثانية
في إحدى الحلقات تقول ليبويتز “أعتقد أنه لا يمكنك فهم سوى أفراد جيلك”. وليس هناك من مجايليها أفضل من سكورسيزي، الذي خصّها للمرة الثانية بفيلم وثائقي تنطلق فيه ضحكاته عالية كلما انفتح فمها بالكلام. يفصل بين ولادة سكورسيزي وليبويتز أقل من عِقد من الزمان، وعلاقتهما أكثر مما يربط مخرج بموضوعه، فهما صديقان منذ سنوات طويلة، نيويوركيان غاضبان، عاشقان لتلك المدينة الرمزية التي كانتها في سبعينيات القرن الماضي قبل أن يلحق التغيير بوجهها وملامحها على مدار الثلاثين عاماً الماضية، ويصبح هذا محور شكاواهم ومناقشاتهم. قبل عشر سنوات، أعاد سكورسيزي اكتشاف ليبويتز في فيلمهما الأول معاً، “بابليك سبيكينغ” (2010) لصالح شبكة “إتش بي أو”، كوجه فريد باقٍ من العصر الذهبي للصحافة الثقافية وأعطاها المساحة لاستكشاف وجهات نظرها حول تأثير النخب على الحياة الثقافية في نيويورك، والتنامي الحثيث لخطابات العنصرية وكراهية النساء في المجتمع الأميركي. في الفيلم الوثائقي الجديد، المصوَّر قبل تفشّي الوباء مباشرة، يقرر استكشاف روابطه العميقة مع مدينة تخصّه أيضاً، تمرَّس بأسفارها في العديد من أفلامه، كأرض أمجاد وعجائب وذروة هذا العالم المشترك الذي يربطه بصديقته، التي بدورها تصبح نظرتها أكثر نقداً وسخرية حين الحديث عن طقوس وأحوال الأشخاص الذين، على طريقتها، يعيشون في/ومع نيويورك علاقة حب/كراهية دائمة.
في مقابلة نشرت في موقع Curbed التابع لـ”نيويورك ماغازين”، سُئل سكورسيزي عن سبب قراره إنجاز فيلم وثائقي جديد عن فران ليبويتز، فأجاب: “رغبتُ دائماً في إعادة زيارة الأشياء مع فران لأنها لا تنضب، شخصيتها، ومعرفتها، وألمعيتها، وخاصة روح دعابتها. إنها تضحكني”. وهذا واضح في كل حلقة من الحلقات التي بالكاد يظهر فيها سكورسيزي بصورته الظلّية من حافة الكادر، كمحاور محترم، غير قادر على تغيير تدفق المحادثات، أو الدخول في فيضانه إلا بإيضاحات موجزة أو إيماءات تأكيدية، ممهداً الطريق لمزيد من الاسترسال والحكي. اللافت أن سكورسيزي، الذي خصَّص فيلمين وثائقيين لبوب ديلان، ورغم تفانيه الكبير للفنان موضوع فيلمه، لم يستطع تحرير نفسه تماماً من أي اختلاف فكري ربما يكون قد مارسه مع بعض زملائه الذين وثقهم أيضاً، مثل إيليا كازان أو مخرجي طفولته الإيطاليين. مع ليبويتز، الأولوية هي للأخوة والتواطؤ، جالساً في مقهى نيويوركي وصورتها على جدارية في الخلفية، يضحك بلا كلل على نكاتها، مستسلماً لآرائها كما لو كانت الأكثر إثارة للعواطف.
كانت فران ليبويتز المواطنة المثالية لنيويورك في السبعينيات. ولدت في بلدة صغيرة في نيو جيرسي، وكان لقاءها مع المدينة المجهولة طريقاً للاستكشاف والاكتشاف. يهودية، مثلية، طردت لتوها من المدرسة الثانوية، قارئة متأصلة، عملت كسائقة تاكسي ومنظّفة منازل لتتمكّن من استئجار شقة صغيرة في “غرينيتش فيلدج” (مركز حركة الثقافة المضادة في المدينة في الستينيات)، وجالت الحانات وجالست الفنانين البوهيميين، وشكّلت نموذجها الخاص من الذكاء الاجتماعي الحاد بتلك المعرفة المستديمة التي يوفّرها الشارع. عملت في مجلات مثل “تشانجز” و”مادموزيل”، وصادقت تشارلز مينغوس، العدو السري لآندي وارهول، وهذا الأخير أعطاها الفرصة لتصبح كاتبة عمود نجمة في مجلته “إنترفيو”. نشرت في السابعة والعشرين كتابها الأول، بيعت منه مليون نسخة. منذ ذلك الحين، أصبحت رمزاً ثقافياً لنيويورك، يُشار إليها على أنها النسخة المعاصرة من دوروثي باركر رغم إعلانها دائماً محبتها الشديدة لجيمس ثوربر؛ مدعوة مفضّلة على الموائد، رفقة سيجارتها وقلمها، ضيفة منتظمة في حفلات العالم المثقف، محاضِرة معتادة في الجامعات والبرامج التلفزيونية. الفطنة الحادة التي أظهرتها في كتاباتها صارت رطانتها المتقنة في مقابلاتها وعروضها، مع رأي متشكل وحاضر حول أي موضوع، مطبوعاً بذلك التعسف المميز لمَن لا يملك إلا يقينيات.
نيويورك، نيويورك
في مقابلة مشتركة مع “لوس أنجليس تايمز”، حاول سكورسيزي وليبويتز تذكُّر مكان لقائهما الأول. “أعتقد أنه كان في عرض أدبي لنيك بيلجي في الجانب الشرقي الأعلى من مانهاتن”، يقول سكورسيزي مُضارباً. “لا، لا يمكن أن يكون هذا أنا”، تردّ ليبويتز. يصرّ المخرج على أنه “ربما كان ذلك في حفلة عيد ميلاد جون ووترز الخمسين”. “لا أعتقد ذلك، كان ذلك قبل 25 عاماً فقط”. الأمر ذاته يحدث في الفيلم، ولا يُحلّ اللغز أبداً، لكن كلاهما يتفقان على أنه ربما كان في حفلة أو تجمّع في نيويورك. منها وإليها يعودون، تستدعيهم المدينة وتكشف النقاب عنهم. فيها، وُلد سكورسيزي قبل 80 عاماً، في ضواحي كوينز ثم انتقل إلى ليتل إيتالي (حيّ المهاجرين الإيطاليين)، تلك المدينة التي ظهرت مرات لا تحصى في أفلامه، وتحولّت إلى مشهد ذهني مثل “روما” فيديريكو فيليني. بالنسبة إلى ليبويتز، كانت مانهاتن خاصتها بعيدة كل البعد من البطاقات البريدية السياحية، فهي تلك التي بها مخارج طوارئ وغرافيتي على جدران وعربات المترو، بصفائح معدنية في الرصيف وحركة مرور جهنمية ورائحة لا تطاق في مترو الأنفاق عدد أقل من ناطحات السحاب المستوردة من مدن الخليج الصحراوية، مدينة ما قبل عصر رودي جولياني (عمدة نيويورك السابق بين عامي 1994-2001، وحالياً محامي دونالد ترامب)، مدينة تضيع فيها وسط الزحام.
“عندما قرروا إنقاذ نيويورك من الإفلاس عن طريق تحويلها إلى منطقة جذب سياحي، تغيَّر كل شيء”، تشرح ليبوفيتز في “بابليك سبيكينغ”، “قرروا تحويلها إلى مكان مشابه للمكان الذي أتى منه السائحون. وبعد ذلك فكّرتُ،” لا، هذه نيويورك. لسنا بحاجة إلى الاستحمام في روايات سنكلير لويس. ماذا سنفعل بتايمز سكوير إذا لم يكن هناك سائحون؟ إنه مكان مبني من أجلهم. كان في الماضي مجرد حيّ آخر. الآن إذا واجه أحد سكان نيويورك ساكناً آخر من سكانها في تايمز سكوير، فهذا يشبه السبعينيات عندما تصادف شخصاً تعرفه في حانة للمثليين. يبدأ كلاكما في تقديم الأعذار”. تلك المدينة الجهنمية المجيدة التي تستدعيها ليبويتز دائماً هي صحوة تشارلي في فيلم مين ستريتس” (1973) على إيقاع “Be My Baby”، وهي نفسها المدينة الملموحة من نوافذ تاكسي ترافيس بيكل في “تاكسي درايفر” (1976)، تلك التي غذَّت طموحات عازف الساكسفون جيمي دويل في “نيويورك، نيويورك” (1977)، والتي بلورت مخاوف وكوابيس شباب الطبقة الوسطى في “أفتر آورز” (1985)، الأشخاص ذاتهم الذين سيقاتلون لاحقاً من أجل تحويلها إلى مدينة آمنة.
“لم تكن نيويورك أفضل في السبعينيات لأنها كانت أكثر خطورة، ولكن لأنها كانت أرخص. عندما تكون تكاليف العيش في مدينة ما باهظة للغاية، يمكن فقط لمن لديه الكثير من المال العيش هناك. وهذه هي المشكلة. قد تحب أو لا تحب مَن يملكون الكثير من المال ولكن لا يمكنك أبداً القول إن مدينة بأكملها يسكنها أثرياء، مكان مثير للاهتمام. إنها ليست كذلك”. عبارات ليبويتز النارية تنطبع على صور نيويورك التي تظهر في الفيلم الوثائقي. الصفائح المثبتة في أرضيات الأرصفة والتي تقرأها بينما المارة يحدّقون في هواتفهم المحمولة، المطاعم التي تقضي فيها فترات بعد الظهيرة والأمسيات لتتفادى النظرات الفضولية لأولئك الذين يعتبرونها جزءاً من المشهد الحضري، نموذج المدينة الضخم في متحف كوينز، واحدة من الرحلات القليلة خارج مانهاتن التي اتفقت عليها مع سكورسيزي عندما قررا تصوير الفيلم. وعباراتها أيضاً هي ما حددت العنوان وما يعنيه. “هذا ما أمضيت 15 عاماً أصرخ به على الناس في الشارع. عندما أقول الناس، أعني السياح. الناس في نيويورك يتجولون وكأنها صحراء، فلنتخيل للحظة أننا نعيش في مدينة. تظاهر بأنها مدينة وتحرَّك، استمر في المشي. إنها ليست غرفة المعيشة الخاصة بك”.
حياة ميتروبوليتانية
تلك النبرة الغاضبة المتسللة وراء عنوان الفيلم هي ما يحدد أسلوب فران ليبويتز، ككاتبة في ما مضى، واليوم كمتحدثة بارزة. إنها النبرة ذاتها التي أقلقت معلميها في المدرسة في موريستاون، مسقط رأسها، وهي ما جعلت والدتها تداوم على إرسالها إلى الفراش في السابعة مساءً، لأنها سئمت الاستماع إليها. ولدت ليبويتز في عائلة يهودية، وأعلنت نفسها ملحدة منذ أوائل مراهقتها، وطُردت من المدرسة الثانوية لأنها كانت تقرأ بدلاً من أداء واجباتها المدرسية، وفي سن الثامنة عشر قررت الذهاب إلى نيويورك لتجربة حظها. هناك فعلت كل شيء من تنظيف المنازل، وقيادة سيارة أجرة، وبيع الأشياء في الشارع، لجني ما يكفي لدفع الإيجار و تدخين السجائر والتسكع في حانات مانهاتن. أول وظيفة لها في الكتابة حصلت عليها في مجلة “تشانجز” التي أسستها المنتجة الموسيقية سوزان جراهام أنغارو، الزوجة الرابعة لعازف الجاز الأسطوري تشارلز مينغوس. وهناك كتبت مراجعات لكتب وأفلام، وباعت إعلانات، وبدأت في الاحتكاك بالمشهد الفني النيويوركي.
“حين وصلتُ نيويورك كان تاريخ الفنّ يتشكّل في حاناتها، حيث اجتمع جيل كامل أكبر سناً للحديث وتدخين السجائر. كان جميع أصدقائي أكبر مني، وكان معظمهم مثليي الجنس. عندما تتحدث عن تأثير الإيدز على الثقافة، فقد كان ذلك الجيل المختفي في غضون سنوات قليلة، وكذلك جمهوره، الذي رفع مستوى الإنتاج الثقافي. أول جمهور لي هو مجلة “إنترفيو”، التي كان قرّاؤها من الجمهور المطلع على جميع الظواهر الثقافية ولديه اهتمام حقيقي بمجموعة متنوعة من الموضوعات. كان هذا الجمهور مهماً مثل الفنانين”. انضمت ليبويتز إلى “إنترفيو” بالمصادفة تقريباً. التقت صاحبها أندي وارهول في “ذا فاكتوري” (الاستديو الخاص به) في نفس اليوم الذي ذهبت فيه للتقدم للوظيفة. انفتح الباب وظهرت لافتة كُتب عليها “اقرع بصوت عالٍ وأعلن”. كانت في العشرين من عمرها حينذاك، وفي ذلك اليوم تحديداً كان مزاجها رائقاً. طرقت الباب وعندما سألها وارهول عمَن تكون، أجابته “فاليري إي. سولاناس”، الكاتب الذي حاول اغتياله عام 1968. وبالطبع، فتح آندي الباب على الفور.
كانت “إنترفيو” هي المنصة المثالية لكتابة ليبويتز. هناك حصلت على عمود بعنوان “أنا أغطّي الواجهة البحرية” حيث أصقلت عباراتها الشائكة وملاحظاتها الدقيقة حول الحياة الحضرية. كانت نصوصاً متفاوتة الطول، تلعب بتصنيفات وقوالب الكتابة الصحافية المعتادة بطريقة يصبح من العبث إدراجها تحت تصنيف معيّن. أحياناً كانت تجمع فقرات روائية متخيّلة، وقصصًا عن حياة جدّتها في روسيا قبل هجرتها لأميركا، وذكريات أيام دراستها، كتوريّات تشرّح من خلالها ديناميات المدينة. كانت هذه المادة الأساسية لكتابها الأول، “حياة متروبوليتانية”، المنشور في عام 1978. “عندما نُشر الكتاب كان عمري 27 عاماً. أخبرني الناشر ألا أضع آمالي في أن يبيع العديد من النسخ لأنه لم يحدث منذ عشرينيات القرن الماضي أن باع كتاب مقالات وفكاهة العديد من النسخ”. في النهاية، باع الكتاب مليون نسخة. واصلت ليبويتز الكتابة لمجلة “مدموزيل”، وفي عام 1981 نشرت كتابها المقالي الثاني، “دراسات اجتماعية”، وفي التسعينيات نشرتهما معاً تحت عنوان “قارئ فران ليبويتز”.
فانيتي فير
“على الكُتَّاب معرفة أشياء عن الحياة. فنانون آخرون، مثل الموسيقيين، لا يتوجّب عليهم ذلك. لهذا السبب يوجد أطفال معجزات في الموسيقى، مثل موتسارت. لا يوجد مَن يعادل موتسارت في الكتابة. مع تقدمك في السن، قد تتعلم أو لا تتعلم أشياء عن الكتابة. هناك أشخاص يكتمل تكوينهم بالفعل في كتابهم الأول، مثل فيليب روث. منذ البداية لديهم صوت خاص بهم. بعض الكتاب يتخصصون في موضوعات اليافعين وبالتالي يزدادون سوءاً مع تقدّمهم في. آخرون تنفد موادهم، كما حدث مع فيتزغيرالد”. يبدو أيضاً أن مواد ليبويتز نفدت منها منذ التسعينيات فصاعداً، تماشياً مع التغييرات اللاحقة بمدينتها واختفاء العالم الذي شكَّل صوتها وهويتها ككاتبة. في العديد من البرامج التلفزيونية تمازح حول “البلوك” الإبداعي الممتد معها لمدة تطاول نفس سنوات حرب فيتنام، وحول قدرتها الخارقة على التباطؤ وتجنُّب الكتابة بدافع الاحترام المفرط للكلمة المكتوبة، وعن المتعة الجديدة التي وجدتها في إلقاء المحاضرات والمقابلات في جميع أنحاء الولايات المتحدة. “أحب إلقاء المحاضرات لأن هذا ما أردت فعله طوال حياتي، أن يدفع لي الناس مقابل آرائي”.
في العام 1994 نشرت آخر كتبها، وهو قصة للأطفال بعنوان “السيد شاس وليزا سو يلتقيان الباندا”. لم يلق الكتاب استحسان المتخصصين في حياة الباندا وشؤونها، لأنهم اشتكوا من أن الدببة الصغيرة اللطيفة لا تأكل البيتزا كما ادّعت ليبويتز في قصّتها. وفيما خلق هذا الجدل اللطيف معرضاً جديداً لنكات ليبويتز، إلا أنه أخمد في النهاية استعدادها للنشر مرة أخرى. كتبت أعمدة عَرَضية في مجلة “فانيتي فير” منذ عام 1997 وعملت أيضاً كمحررة استشارية لتغطيات المجلة الخاصة. كما زادت من عدد المحاضرات والمؤتمرات، حيث قامت برحلات إلى جميع المدن الأميركية وحتى خارج البلاد، رغم نفورها من مشاركة الأماكن المغلقة مع آخرين. في تلك السنوات، اكتسبت شخصيتها الجودة المميزة التي التقطها سكورسيزي في “بابليك سبيكينغ” وأعاد التأكيد عليها بعد عشر سنوات في “لنتظاهر أنها مدينة”.
في محادثة مع توني موريسون، إحدى أقرب صديقاتها والمُهدَى هذا الفيلم إلى ذكراها، تلخّص الأمر: “هناك فارق بين الفكاهة والكوميديا في الكُتَّاب، وهو اللطف. هناك الكثير من الكوميديين لأن الناس يحبونهم، والناس يحبونهم لأن الكوميديان يسخر من شخص ليس مُحاوره. لكن في الكتابة، الفكاهة شيء آخر. إنها باردة، ويجب أن تكون كذلك. الذكاء الفكاهي دائماً ما يتضمن حُكماً. مثل برودة أسلوب أوسكار وايلد، لكنه فريد من نوعه لأن لا أحد يشبهه. الفكاهة موجزة وزاخرة بالفهم الزائد، وهذا شيء لا يحبه الأميركيون. لا يريدونك أن تفترض أو تعتبر أو تحكم على أي شيء. لأن هذا نخبوي. ولا أحد يكره النخب أكثر من الأميركيين”. جادلت ليبويتز منذ زمن بعيد بأهمية الموهبة في الإنتاج الفني وأكدت أنه لا يمكن لكل مَن نشر كتاباً أن يسمّي نفسه كاتباً. “هناك عدد كبير جداً من الكُتّاب اليوم لأن الجميع تعلّموا حُبّ الذات. لذلك يفكّر الواحد منهم: “تعرف، لا ينبغي أن أبقي هذه الأفكار لنفسي. يجب أن أشاركها مع العالم”.
عنصرية ونسوية
كان إعجاب ليبويتز العميق بجيل ما بعد الحرب الذي شكَّل الثقافة الأدبية الأميركية، ثابتاً دائماً في أفكارها وخواطرها. بهذا المعنى، كان عمل روائي وكاتب مسرحي مثل جيمس بالدوين أحد مفاتيح تكوينها. “أتذكر عندما رأيت جيمس بالدوين لأول مرة على شاشة التلفزيون. لم أسمع قطّ أي شخص يتحدث بهذه الطريقة. لطالما قلت إنني اليهودية الوحيدة في أميركا التي كان انطباعها الأول عن المثقف أن يكون رجلاً أسود”. دور العنصرية في أميركا كان شيئاً اسكتشفته ليبويتز في مقالٍ شهير نُشر في “فانيتي فير” العام 1997، اقتبست منه توني موريسون في إحدى محادثاتهما العامة بعد فوز باراك أوباما. تقول ليبويتز: “أعتقد أن الناس يخشون التحدث عن العرق لأنهم لا يريدون الإساءة للآخرين، أو لأن الطريقة التي يتحدثون بها عن ذلك عادة ما تكون مسيئة، على الرغم من أنهم يحاولون التوصل إلى طريقة غير هجومية لتناوله. لا أعتقد أن العنصرية ستنتهي في أميركا. قد تنتهي، لأن أساسها هو فانتازيا التفوق، لكنني أشكُّ في أن ذلك سيتحقق على أرض الواقع. وبهذا المعنى، أعتقد أن انتخاب أوباما لا يعني نهاية العنصرية ولكنه دليل على أعلى ما يمكن أن نطمح إليه. في الحقيقة، أعتقد أن الكثيرين منّا اندهشوا من أن الأميركيين فعلوا أخيراً شيئاً جيّداً.
لطالما هربت ليبويتز من فلك النسوية، رغم أنها نفسها تحدّتْ القيود المفروضة على المرأة وصورتها في زمنها. عندما تتذكّر المهن التي جرّبتها في سنوات شبابها، تعيد التأكيد على تجنّبها الدائم العمل كنادلة، لما ينطوي عليه ذلك من احتكاك دائم بصاحب المطعم أو مديره، الأمر الذي سيستدعي لاحقاً الذهاب معه إلى السرير لضمان عدم طردها. كما هو الحال مع العنصرية، فهي تعتقد أن عدم المساواة بين الرجال والنساء لن تنتهي، رغم إحراز تقدم كبير في الوقت الحالي. “الرجال لا يريدون للمرأة أن تتمتع بالسلطة لأنهم يمتلكوها بالفعل. والناس لا يريدون أن يمتلك الآخرون ما لديهم”. بشكل أو بآخر، تكمن قوة ليبويتز في بلاغتها أكثر مما في قوة حججها. تريد دائماً أن تكون على حق، والشعور بأن لديها إجابة لكل شيء هو ما يسمح لها بإلهاء أي مُحاوِر عن غرابة استنتاجاتها. “أعرف أن هناك أشخاصاً يكرهونني بشدة، ولكن لا يبغضني أي منهم لخشيته أن أجيب على شيء ما بصورة أسوأ. ذات مرة كنت ألقي محاضرة في إحدى الجامعات في نيو أورلينز وكان هناك مجموعة كبيرة نسبياً من الأولاد، وليس جمهوري المعتاد. كانت السماء تمطر وكان شعري منتصباً من الرطوبة. بعد حديثي لفترة طويلة، صرخ أحدهم في وجهي: “من يصفف شعرك؟ ثم أجبته بلا تفكير: هل تريدني أن أقدمك إليه؟ بعد شهر، كتبت إلي والدته قائلة إنني دمّرت حياته. أخبرتني أنه اضطر إلى ترك الجامعة بسبب ما يسمّيه به أقرانه. بالطبع لم تستخدم كلمة “مثلي الجنس”. ثم فكّرتُ، “هل كان عليه حقًا ترك الكلية بسبب ما كان يطلقون عليه؟ إذن فعليه أن يشكرني لإخراجه من هذه الجامعة الغبية”.
الحياة المعاصرة
لا تملك ليبويتز وصلة إنترنت ولا حى اشتراك نتفليكس لمشاهدة فيلمها. “عندما أسأل أياً من أصدقائي عما إذا كان لديهم نتفليكس، أشعر أنني أسألهم عما إذا كان لديهم كهرباء،” توضّح في مقابلة فيديو أجرتها مع “لوس أنغلوس تايمز” من أحد مكاتب شركة “الستريمنغ”. كان إجراء تلك المقابلة مستحيلاً في منزلها لأسباب تقنية واضحة، ولكن أيضاً لأنها تخشى السماح لأياً كان بالدخول إلى شقتها. هناك، تحتفظ بمجموعتها المكونة من 12000 كتاباً (وفقاً لما اكتشفته في جردها الأخير)، ومطبخ لا تعرف كيفية استخدام فُرنه، وهاتف أرضي، وسترات لا حصر لها وجينزات “ليفيز” Levi’s تمنحها مظهرها الرجالي المعتاد. لم تعش أبداً مع أي شخص في حياتها البالغة (“علاقتي الزوجية الوحيدة تلك التي كانت مع سيارتي، شيكر ماراثون موديل 78، التي اشتريته من عائدات كتابي الأول”)، ولم تُقم حفلة بمنزلها باستثناء أحد أعياد ميلاد والدتها، وحينها تشدّقت بعدم وجود ما يكفي من منافض السجائر قبل أن يذكَّرها أحد أصدقائها بأنها مضيفة الحفلة.
حكاياتها لا تنتهي ومُسلّية. القصة التي ترويها عن عشاء نوبل عندما مُنحت توني موريسون جائزة نوبل، لا تُصدَّق: “عندما فازت توني موريسون بجائزة نوبل للآداب، اصطحبتْ مجموعة من الأصدقاء إلى الحفل وحفل العشاء بعده في ستوكهولم. عندما وصلنا، كان هناك شخص عند الباب يخصّص أماكن على الطاولات. جلس جميع أصدقاء توني على الطاولة نفسهل باستثنائي، ووضعوني مع أطفال جميع الفائزين الآخرين. كان أكبرهم في الثانية عشر. سألني صبي في الثامنة يجاورني عما قُدِّم إلينا على الغداء، فقلت له إنه لحم، وهذا صحيح. وعندما انتهى من تناوله، أخبره شقيقه أنه غزال. لقد أكلت “بامبي”. نظر إليّ بسخط وقال: “لقد كذبتِ علي، لن أثق بك بعد الآن”. أجبته بغضب: “لا أهتم! أنا لست والدتك! أنت عمرك ثمانية أعوام وتعيش في كانساس، لذا فلن تراني مرة أخرى أبداً!”.
ختام الفيلم الوثائقي، كما حدث في نهاية “بابليكك سبيكينغ”، يسمح للوبيتز بتقييم مستقبل الثقافة المعاصرة ومستقبل المدينة التي عاشت فيها لمدة خمسين عاماً. ثقافة تؤمن بأنها غارقة في النوستالجيا، محصورة في إعادة تدوير مستمرة للماضي. ربما كان نتاج الأجيال الحديثة متركز على ذواتهم وليس على الارتباط بالآخرين لخلق شيء جديد. “في الماضي، كان الناس ينتقلون إلى مدينة كبيرة لكي لا يلاحظهم أحد، للقيام بأشياء لا يستطيعون فعلها في قريتهم، حيث يعرفهم الجميع. القدرة على فعل ما تريد القيام به كان الهدف الرئيسي عندما جئتُ إلى نيويورك. ولكن الآن إخفاء الهوية هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث للناس. هناك رغبة جيلية في الشهرة غيّرت كل شيء. في السنوات الخمس والثلاثين الماضية أضحت الشهرة ذات قيمة في حد ذاتها، فوق كل شيء آخر. وهذه غلطة آندي وارهول. أحد الأشياء التي فعلها آندي هو جعل الشهرة مشهورة. في البداية أخذتْ شكل مزحة، ثم انتهى الأمر بتدمير العالم. هذا ما يحدث عندما تتحوَّل نكتة إلى شيء خطير”.
استحالت مانهاتن مدينة شبحية منذ الإغلاق الوبائي، لكنها لا تزال صامدة في نظر ليبويتز، رغم التغييرات المستمرة في بروتوكولات الصحة العامة ومرأى المكتبات المغلقة، والمطاعم بروَّادها على الرصيف، وانخفاض كثافة أسراب المارة الذين صنعوا دائماً حياة هذه المدينة. في المقابلة مع “لوس أنغلوس تايمز”، تتذكر ليبويتز مع سكورسيزي المباني التي لا تزال قائمة رغم التحولات العقارية. بناية أوزبورن، حيث عاشت 26 عاماً تحمّلت خلالها مشاكل السباكة وتجديدات المصاعد، أو المبنى في “ليتل إيتالي” حيث عاش سكورسييزي مراهقته والذي لا يزال قائماً. هذه الأماكن المغلقة حالياً تمدّ المشهد بصورة مختلفة عما يمكن رؤيته في جولات ليبويتز في الفيلم، في نيويورك لا تزال نابضة بالحياة قبل نهاية عام 2019. لكن كلاهما، ليبويتز وسكورسيزي، يتطلع إلى ولادتها الجديدة، على طريقة بعض اللبنانيين في مصائبهم. “لطالما وُلدت نيويورك من جديد مثل طائر الفينيق”، يتنهدان. تتذكر ليبوفيتز برعب تأثير مشاهدة طوابير الموتي أمام المستشفيات، وتعاين بسخرية اعتيادية وصول السياح ليعطسوا عليها بدلاً من إنفاق المال، وتتوق للتجول في الحانات والزوايا وأركان المكتبات كما في يوم عادي. “الأشخاص الذين يعتقدون أن فكرة نيويورك قد انتهت، من الأفضل لهم الخروج من المدينة. لسنا بحاجة إليهم، إلى مَن يعتقد أن مركز البلاد الثقافي لن يعود هنا، أود أن أسأل: أين برأيك تعتقد أنه سيكون؟ في ساراسوتا؟ في أوماها؟ لا يا عزيزي، لا يزال هنا”.
(*) “لنتظاهر أنها مدينة” من كتابة وإخراج مارتن سكورسيزي. 7 حلقات، 30 دقيقة لكل حلقة. متاح الآن في “نتفليكس”.
المدن