بين نقيضين.. ما الاختلاف بين تجربتي رأس العين وتل أبيض السوريتين؟/ ثائر المحمد
سيطر الجيشان الوطني السوري والتركي على مدينتي رأس العين وتل أبيض وعشرات القرى التابعة لهما شمال شرقي سوريا، عبر عملية “نبع السلام” التي أُطلقت في 9 تشرين الأول 2019، ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وبعد نحو ثلاث سنوات من تلك العملية، شهدت المنطقة تطوراً خدمياً ملحوظاً وزيادة في عدد المشاريع الخدمية، في حين بقي الواقع الأمني هو العائق الأكبر أمام السكان للعودة إلى حياتهم الطبيعية، كونه أسهم بتغلغل خلايا وشبكات تهريب بنسب متفاوتة، وسط جهود أمنية لا يمكن نسفها أيضاً، لكنها لا تصل إلى حد الآمال المعلّقة عليها.
من الناحية الأمنية؛ بينما تعيش مدينة رأس العين شمالي الحسكة فوضى أمنية، ينتج عنها اشتباكات فصائلية أو عمليات اغتيال وتفجيرات، تشهد مدينة تل أبيض شمالي الرقة بالمقابل تحسناً أمنياً، يمهد لبيئة شبه آمنة مقارنة برأس العين، ويدفع ذلك للتساؤل عن الفارق بين المدينتين والعوامل التي أدت إلى وجود فوارق بينهما على مستوى الاستقرار والحد من الانتهاكات.
فوضى أمنية في رأس العين
خلال الفترة الممتدة من 1 كانون الثاني 2021 حتى 30 نيسان 2022، شهدت منطقة “نبع السلام” 89 انتهاكاً وحادثاً أمنياً، شملت اشتباكات داخلية مسلحة، واشتباكات مع “قسد”، وقصفاً على المنطقة، وتفجيرات بعبوات ناسفة، وعمليات اغتيال، بحسب دراسة لـ “مركز الحوار السوري”.
ومنذ العام الأول لسيطرة الجيش الوطني على المنطقة، بدأ يُلحظ الفارق الأمني بين رأس العين وتل أبيض، إذ يؤكد مركز “عمران للدراسات”، أن خلافات فصائل الجيش الوطني في تلك المنطقة، خاصة رأس العين، أسهمت بتعقيد وصعوبة ضبط البيئة الأمنية، حيث شهدت المنطقة عدة اشتباكات متقطعة بين الفصائل المسيطرة عليها، الأمر الذي يسهم بالضرورة في زيادة الخلافات بين تلك الفصائل وبالتالي ضعف التنسيق الأمني فيما بينها، ما يؤدي إلى تسهيل وزيادة هامش الخرق الأمني، كما أشار إلى أن مدينة تل أبيض، سجّلت تحسناً أمنياً نسبياً قياساً برأس العين وغيرها من المناطق.
الصحفي زين العابدين العكيدي، المطلع على واقع منطقة “نبع السلام”، يقول في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، إنه “لو تمت المقارنة بين تل أبيض ورأس العين، يتضح أن الأخيرة أسوأ بمراحل من الناحية الأمنية، وهذا لا يعني أن الواقع في تل أبيض ممتاز ومثالي، لكنه أفضل بكثير”.
ووفقاً لـ”العكيدي”، فإنه زار تلك المنطقة لفترة من الزمن، ولاحظ الفرق بين المدينتين، إذ يقول إن الفيلق الثالث هو المسؤول عن تل أبيض وضبط الأمن فيها، في حين تتشارك عدة فصائل السيطرة على رأس العين، منها فرقة السلطان مراد، وفرقة المعتصم (وهما ضمن هيئة ثائرون للتحرير) وفرقة الحمزة، مضيفاً أن بعض هذه الفصائل يندرج تحت أذرعها كتائب “أشبه بالمافيات”، وينتج عن ذلك سرقات في رأس العين وريفها، وعمليات “تشليح” على الحواجز.
ويقول الصحفي العكيدي، إن الأمر لا يقتصر على ذلك، إذ يوجد تساهل مع تهريب عناصر من “قسد” وتنظيم الدولة نحو “نبع السلام”، على أساس عشائري، وذلك عبر 100 دولار فقط يمكن أن يدفعها العنصر لحاجز عسكري في المنطقة، واصفاً رأس العين بـ “عاصمة التهريب في الشمال، والمنفذ الأبرز للدخول إلى تركيا”.
تجاوزات وخطة إصلاح غير واضحة
تحدث مصدر أمني خاص لموقع تلفزيون سوريا، عن تغلغل كبير لعناصر كانوا على ارتباط مع تنظيم الدولة، داخل مناطق متفرقة في أرياف رأس العين، وعمل بعضهم ضمن الفصائل أو فروع الشرطة، مستغلين القرابة والعلاقات العشائرية مع بعض القادة، مضيفاً أن عدداً من هؤلاء العناصر استمروا في العمل مع التنظيم حتى إعلان القضاء عليه في الباغوز بريف دير الزور.
وفي سياق متصل، أدت التجاوزات برأس العين في وقت سابق، إلى تعليق فرع الشرطة المدنية لعمله هناك، إذ أكدت مصادر لموقع تلفزيون سوريا، أن “الدوريات والحراسات والمهام والهندسة والألغام والأمن الجنائي والمرور والمخفر ومكافحة التهريب علّقوا أعمالهم، بسبب ما قالوا إنّها تجاوزات متكرّرة من بعض عناصر الجيش الوطني”. كما انسحبت الشرطة المدنيّة من المخافر والمشافي والدوائر الحكومية في المدينة، ومن الحواجز المنتشرة على أطرافها، قبل أن تعود للعمل عقب اجتماعات مع الجانب التركي.
وفي شهر نيسان من عام 2021، أعلن القيادي في هيئة ثائرون للتحرير مصطفى سيجري، التصديق على “خطة الإصلاح في منطقة عمليات نبع السلام”، وقال في تغريدة على تويتر، إن “الخطة صيغت بأياد وطنية محلية من أبناء رأس العين وما حولها وبدعم من الحلفاء في الجمهورية التركية وقيادة الفيلق الثاني في الجيش الوطني السوري -القائم على حماية المنطقة- من التنظيمات الإرهابية”.
وللاطلاع على نتائج الخطة والمرحلة التي وصلت إليها، والخطوات التي يتم اتخاذها للارتقاء بالواقع الأمني وضبط التجاوزات في رأس العين، تواصل موقع تلفزيون سوريا مع القيادي نفسه، الذي قال إنه “لا يمكن إعطاء أي معلومة حول الأمر”.
لماذا تفوقت تل أبيض على رأس العين؟
ترجع المصادر المحلية التي تواصل معها موقع تلفزيون سوريا، التحسن الأمني في مدينة تل أبيض، إلى إدارتها من قبل فصيل واحد تقريباً، وهو الفيلق الثالث، عكس مدينة رأس العين التي تتنازع عدة تشكيلات على إدارتها، ما يتسبب بخلافات تتطور إلى مواجهات مسلحة أحياناً.
ولفتت المصادر إلى أن الفصائل التي تكفلت بالسيطرة على تل أبيض خلال معركة “نبع السلام”، هي “الجبهة الشامية” و”لواء السلام” و”الفرقة 51″ و”فيلق المجد”، وجميعها ينضوي ضمن “الفيلق الثالث”، وقد اتفقت في عام 2020 على تسمية “حسام ياسين” (القائد العام للفيلق الثالث حالياً) قائداً عاماً لمنطقة تل أبيض وريفها، ليؤدي ذلك مع مرور الوقت إلى قلة التجاوزات والحد من المواجهات الداخلية.
ويشير عضو مكتب العلاقات العامة في الفيلق الثالث، هشام اسكيف، إلى أن الاستقرار الأمني والعسكري في مدينة تل أبيض يعود إلى أسباب عدة، أهمها أن القيادة العسكرية كانت واحدة مما أتاح الفرصة القوية لمنع الاضطرابات الناتجة عن تعدد مستويات القرار وتعدد مصدره.
وفي حديثه لموقع تلفزيون سوريا، قال اسكيف: “لذلك نرى أن المنطقة مالت للاستقرار وتم ضبط الوضع الأمني بشكل ممتاز، هذا الأمر الذي افتقدته مدينة رأس العين للأسف رغم الخطوات التي تم اتخاذها هناك على مستوى السعي لتوحيد مستويات القرار، ولكن بقيت بطيئة نظراً للأخطار المحيطة بالمنطقة، ونحن نتابع الخطوات التي تم اتخاذها هناك، ونتمنى أن تصل إلى مستوى أفضل لجهة الضبط الأمني والعسكري”.
وحول “خطة الإصلاح” التي تم الإعلان عنها سابقاً في رأس العين، أوضح اسكيف أن “الخطة طموحة ولكن اتسمت خطواتها بالبطء ولم تكن على مستوى الآمال المعلقة عليها، وأنها ما زالت على الطاولة، وقيد التنفيذ، ولكن تحتاج إلى تسريع خطواتها أكثر”.
إنجازات أمنية
قال مصدر أمني في الفيلق الثالث، إنه في بداية السيطرة على تل أبيض، عملت قيادة الفيلق على تكثيف الجهود وتقوية الجهاز الأمني في المنطقة بسبب كثرة الخلايا الإرهابية، وقد تكللت الجهود بالقبض على عدة خلايا، وعصابات تمتهن السرقة والخطف.
وبحسب المصدر، فإن من أبرز الإنجازات الأمنية، فرض الرقابة الشديدة على المنطقة، وقد كان ذلك أحد أهم أسباب توقف “العمليات الإرهابية” والتفجيرات، والقبض على منفذي التفجير بشكل فوري وتسليمهم للجهات القضائية.
وأفاد المصدر في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، بأن الإنجازات تتمثل أيضاً بضبط كميات كبيرة من المواد المخدرة التي تسبب بدورها انتشار العصابات والدعارة والخطف، إضافة إلى تفكيك خلايا تنظيم الدولة واعتقال الولاة المسؤولين عن منطقة “نبع السلام” واعتقال خلية قتالية للتنظيم، تسمى “الاستشهاديون”.
وأكد اعتقال قادة وعناصر من نظام الأسد والميليشيات الإيرانية وقسد وتنظيم “داعش”، في أثناء محاولة العبور نحو الأراضي التركية، وتفكيك خلايا وشبكات تنشط في عمليات تهريب البشر إلى تركيا، فضلاً عن مداهمة ورشة تابعة لخلايا “داعش”، لصنع الكواتم والعبوات الناسفة.
#الفيلق_الثالث
انتشار قوّات الفيلق الثالث على الطرق الرئيسية والحواجز لضبط الأمن وحماية الأهالي في منطقة تل أبيض بريف الرقة الشمالي.https://t.co/DQqxVnXmmh pic.twitter.com/Bm7cRJBgIC — الفيلق الثالث (@legion3td) August 30, 2022
ما المطلوب؟
خلص مركز “جسور” للدراسات، في دراسة سابقة أعدها الباحث فراس فحام، إلى أن الواقع الأمني وإشكالياته في مناطق سيطرة الجيش الوطني، مرتبط بشكل وثيق بالمشهد العام، أي أن عدم الوصول إلى النموذج المرغوب به للمؤسسة الأمنية المنشودة، هو انعكاس لعدم تحول الفصائل المسلحة بشكل فعلي وحقيقي إلى مؤسسة تحمل تسلسلاً هرمياً واضحاً، والتفرغ للمهام المنوطة بالجيش، وهي حماية الحدود الخارجية، من دون إقحام نفسها في مسألة الحوكمة والإدارة الأمنية.
كما أن استمرار الفصائلية القائمة على حوامل محلية، وعشائرية أو حتى عائلية في بعض الأحيان، من شأنه تكريس حالة تضارب المصالح، والتقلبات المستمرة في آلية التعامل مع الأجهزة الأمنية التي يتم تشكيلها كل فترة.
وقد يكون الحل المتاح، القيام بعملية إصلاح تشمل الفصائل ذاتها، بحيث يتم تخفيض حجم الانتهاكات والخروقات من قبل المجموعات غير المنضبطة التابعة لها، بالتوازي مع تدعيم الأجهزة الأمنية الحالية كالشرطة المدنية والعسكرية، وزيادة كوادرها، وزيادة حجم تمويلها وتزويدها بالمعدات اللازمة، مع إلزامها بمعايير محددة لضم العناصر، تراعي الهواجس التي تطرحها الفصائل.
ومن الممكن تأسيس جهاز استخبارات يركز بشكل أساسي على تتبع تحركات الجهات المعادية للمعارضة، والتي تقوم بتنفيذ عمليات أمنية بين الحين والآخر، بهدف إحباط تلك العمليات قبل تنفيذها، والتوصل إلى مرجعية قانونية حقيقية متوافق عليها من جميع الفاعلين في المنطقة، وذلك من شأنه أن يقلل من حجم الاعتراضات على عمل المؤسسات القضائية والأمنية الحالية، المرتبطة بالحكومة المؤقتة، إلى حين الوصول إلى مرحلة تشكيل جيش حقيقي لا يتدخل في إدارة المدن والموارد.
تلفزيون سوريا