رياض الصالح الحسين.. شاعر “قصيدة التفاصيل اليومية”/ علاء زريفة
تعدُّ تجربة الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين (1954 ـ 1982) واحدةً من أبرز التجارب الشعرية السورية، رغم قصرها بسبب وفاة الشاعر المبكرة في سن الثامنة والعشرين، والتي كان لها وقع الصدمة على أصدقائه وقرائه، ما جعل صديقه الشاعر السوري منذر المصري يصف موته بـ”الانتحار العاطفي”.
التجربة تركت أثرًا لافتًا في الشعر السوري المعاصر، بملامحها وأسلوبها (السهل الممتنع)، وفرادتها العالية الممزوجة بروح صاحبها المتألمة الغاضبة المتمردة، رغم ما يؤخذ عليها، من خروجها من عباءة الماغوط الشعرية كسائر أبناء جيله من الشعراء، وعدم اكتمالها واتضاحها بسبب رحيل الشاعر الذي مر كشهاب في سماء عالمنا سرعان ما غاب جسدًا، ولكنه حاضرٌ أبدًا روحًا وشعرًا.
في هذا التحقيق عن شاعرنا، خص عدد من أصدقاء الراحل، وشقيقه، والمهتمين بتجربته، “ضفة ثالثة” بآرائهم حول الشاعر الذي عاش بصمت، ورحل بصمت تاركًا خلفه أربعة دواوين شعرية خلدته في الذاكرة الشعرية السورية، وترك من خلالها بصمته عليها إلى يومنا هذا.
الشعر قرين الألم
عانى الراحل مع المرض منذ بداية فتوته، فالتهاب المجاري البولية لديه سرعان ما تحول إلى قصور كلوّي حاد. وفي سن الثالثة عشرة، أجريت له أول عملية جراحية فقد على أثرها قدرته على السمع والنطق شبه التام. ليكون، في ما بعد، الألم والمرض والفقر الشديد والتشرد، أحد أهم مولدات قصيدته التي سكنها هاجس الحرية أبدًا.
يروي صديقه الشاعر منذر المصري حيثيات مرضه في شهادته الملحقة بالأعمال الكاملة للراحل، من دون أن يحدد أسبابه قائلًا: “لا نعرف إذا ما كان هذا المرض طارئًا، أم مع الولادة، أم التهابًا في الكبد. كان يجعله عطشًا دائمًا، ما جعله يضطره إلى الاستيقاظ ليلًا وشرب كثير من الماء”.
هذا المرض اضطره لترك دراسته متوقفًا عند الصف السابع. ثم انتقل عبر عربات العمال إلى حلب ليعمل في شركة خاصة للغزل والنسيج، قبل أن يقابل الشاعر علي كتخدا، وينتقل للعمل معه في مؤسسة (الأماني) الجامعية في فرز الأوراق. تعرف في ما بعد على كل من صديقه نذير جعفر، وبشير البكر، ليدخل في زمرة شعراء حلب وكتابها. وفي عام 1976، كتب أولى قصائده التي نشرتها مجلة “جيل الثورة”. وفي العام التالي، انتقل إلى العاصمة دمشق ليعمل في مكتب الدراسات الفلسطينية.
تعاون مع بعض الشعراء في دمشق، منهم خالد درويش، وفرج بيرقدار، ووائل السواح، في إصدار مجلة “الكراس”، التي توقف نشرها في العدد التاسع، واعتقل أغلب أعضائها، ومن بينهم رياض. ويروي السواح في إحدى مقالاته عن تجربة “الكراس” قائلًا: “كان هدفنا الخروج من على سلطة الرقابة والشعر التقليدي والأحزاب السياسية المهيمنة على الأدب والفن”.
وبعد خروجه من السجن مثخنًا بالأوجاع وندوب الروح التي لا تشفى أبدًا في عام 1979، أصدر أول مجموعاته الشعرية بعنوان “خراب الدورة الدموية” عن وزارة الثقافة السورية. ثم تتابعت إصدارته خلال أعوامه القليلة المتبقية فصدرت له “أساطير يومية” عام 1982. وقبل وفاته بخمسة أشهر، صدرت له مجموعة “بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس”. وبعد وفاته بعام صدرت مجموعته الأخيرة بعنوان “وعل في الغابة”، التي تضمنت مرثيته لسورية:
يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب.
“أثر ماغوطي” أم خلطة؟
يمكننا اعتبار رياض من رواد قصيدة “التفاصيل اليومية” المشبعة بالفطرة والعفوية، والتي غلب عليها الطابع الطفوّلي. لقد بدأ في كتابة قصيدة التفعيلة في عام 1974، ثم اتجه نحو قصيدة النثر، التي تميزت لديه بالبساطة والوضوح، وتحمل من الدهشة والخصوصية الشيء الكثير. ورغم ذلك، حافظت قصيدته على الإيقاعية، ولم يتخل عنها تمامًا.
تتكئ قصيدته على مفردات مألوفة تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن الشأن الشعري، أو ما يمكن تسميته “البساطة المستحيلة”، وهي بذلك تقارب قصيدة الماغوط التي يرى بعضهم أن رياض لم يخرج من عباءتها، وربما لو عاش أكثر من العمر الذي عاشه لوصلت قصيدته إلى قمة النضج الفني. ومن هنا، يربط منذر مصري، صديق الراحل، بين شعرية رياض، وموته المفاجئ الذي حوله إلى “ما يشبه الأسطورة”، فيقول: “لا أحد في سورية، أو من المطلعين عن قرب على المشهد الشعري السوري، إلا ويعلم تلك المكانة التي يحتلها الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين. وإذا كان يحلو للبعض، وأنا منهم، أن يعتبر أن موته الفاجع عن عمر 28 عامًا فقط، لا ريب، لعب دورًا كبيرًا في ولادة ما يشبه الأسطورة”.
ويتابع مصري محللًا تركيبة تلك الخلطة السحرية التي اعتبر فيها أثر الماغوط جزءًا من مؤثرات شعرية أخرى، فيقول: “هذه الخلطة الشعرية السحرية التي قام بها رياض لأهم مؤثرات القصيدة السورية في السبعينيات من القرن الماضي تقوم على ما يلي:، أولًا، الإغواء الذي لا يقاوم لأدوات محمد الماغوط، المؤثر السوري الطاغي على قصيدة النثر السورية، وثانيًا، تلك العفوية والاستسهال الذي اتصفت به قصيدة بندر عبد الحميد، وثالثًا، الانفعال والحرارة التي ميزت شعر نزيه أبو عفش الإيقاعي والنثري على السواء.. هذه التركيبة أوحت بقابليتها تحويل أي كلام إلى شعر”.
زيد قطريب
بينما يقدم الناقد الأدبي والصحافي السوري زيد قطريب حول تجربة الحسين رأيًا مخالفًا لمصري مؤكدًا على الأثر الماغوطي، وغلبة الانفعال في قراءة ودراسة تجربته قائلًا: “خرجت قصيدة رياض صالح الحسين من معطف محمد الماغوط، على صعيد الصورة والأسلوب ومفردات المعجم. ورغم أن بعضهم سيتحفظون على هذا التوصيف، إلا أن التعاطف مع رياض كثيرًا ما ينحرف عن معايير النقد الأدبي ليؤخذ بالمشاعر والانفعالات وحتى المواقف السياسية. وجميعها عوامل لا يعترف عليها النقد إذا ما أراد أن يكون موضوعيًا صارمًا وغير مهادن”.
ويرجع قطريب أهمية التجربة إلى رحيل الشاعر السريع، مؤكدًا أنها كانت في طور التطور والنضوج، لكن قطار الموت أوقفها قائلًا: “ربما تكمن أهمية رياض في إنتاجه المبكر، وموته المبكر، قبل اكتمال تجربته، أو اتضاحها”.
ويؤكد صديق الشاعر، الروائي نذير جعفر، الذي رافقه في آخر سنواته، أنه “بين العملِ المُضني في مؤسسة الأمالي الجامعيّةِ، والقراءات المتنوّعة للشعر العربي والعالمي، والعلاقات المتعددة بالوسط الأدبيِّ في حلب ودمشق في سبعينيات القرن الماضي، وجدتْ موهبةُ رياض الصالح الحسين التربةَ الخصبةَ لنموّها واحتضانِها والإعلانِ عن نفسِها بجرأةٍ، مخترقةً جدارَ الصّوتِ بصوتهِ الشِّعري الخاصِ والمتفرّدِ، صياغةً وتعبيرًا ودلالةً، وتماسًا جوهريًّا مع الإنسانِ ومعاناتهِ، وقضايا عصرهِ ومجتمعهِ ونضاله في مواجهة قوى الّشر والعدوان”. أما عن أثرها اليوم، وأهمية شعر الحسين، فيقول: “المتابعُ اليوم لما يُكتبُ ويُنشرُ له وعنه، واتّساع دائرةِ قرائهِ على امتداد المشهدِ الثقافي العربيّ، لا بدّ أن يتساءلَ عن سرِّ الاهتمامِ به؟ فهل يكمنُ في رحيله المبكّرِ الذي صدمَ مُحبيه؟ أم في موهبتهِ التي راحت تنشر عطرها في كل مكان؟”.
بين مكفر وممجد
أثارت مجموعته “خراب الدورة الدموية” الصادرة عام 1979 سجالًا ثقافيًا كبيرًا بين مؤيد ومعارض لها، وانقسم الناس حولها، فمنهم من اتهم الشاعر بـ”الهرطقة”، وقال إنه يصفُّ الكلمات صفًا ليكتب شيئًا أشبه بالكفر. ومنهم من تلمس حرارتها وجاذبيتها الشديدة التي جعلتهم يتلقون شعره ويستعذبونه، لأنهم شعروا أن ما يكتبه في متناولهم وقريب منهم. فقد كتب رياض المتحفظ البعيد عن الناس لصممه، عن وحشته ومرضه وأحلامه، عن أصدقائه وغرفته شبه المحطمة في حي الديوانية في دمشق. ومزجها مع رؤاه الشعرية المفعمة بالإحالات والدلالات المعرفية العميقة، جامعًا بين خفة المفردة وعمق معناها. وبالتالي، امتلك رياض تلك المقدرة على صياغة أكثر المعاني تعقيدًا في نصوص شديدة الوضوح والبساطة.
يقول مصري حول تلقيه لشعر رياض: “أقول كنت كصديق آخذ حريتي في التعبير عن رأيي بشعره، الذي كنت آخذ عليه عفويته وانفعاله، كما آخذ عليه حريته الزائدة في الكتابة. فكان يرد علي ضاحكًا: “على الأقل اسمح لي أن أكون حرًا وشجاعًا على الورق””.
كانت تلك الحرية المطلقة شرطًا وجوديًا للكتابة عند الراحل، حرية أراد أن يعبر عنها بشكل شفاف وقاس في وقت واحد. وبالتالي كرسته كواحد من أبرز الأصوات الشعرية، وهو ما يؤكده شقيق الراحل، الشاعر أكرم الصالح الحسين، قائلًا: “اللافت للنظر أن رياض عاش حياة بسيطة ومعقدة نتيجة فقدانه السمع وصعوبة في النطق، والوضع المادي الصعب الذي كان يعيشه، ولكنه كان يملك كثيرًا من الأدوات والثقافة التي عوضته عن بقية الاحتياجات الأخرى، ما بين عام 1976، وعام 1982، ظهر رياض وبدأ يحجز لنفسه مكانًا خاصًا في وقت كانت الحرب فيها على أشدها بين عدة تيارات أدبية، بين من آمن بالحداثة وشكلها الجديد، وبين رافض لها باعتبارها مجرد هرطقات ﻻ يمكن أن تقدم شيئًا جديدًا، وبين متردد أمسك بالعصا من النصف منتظرًا ما ستصل إليه”.
يرى نذير جعفر أن الاختلاف الذي طغى على شعرية رياض وقصيدته هو نتيجة ما نعيشه اليوم من فراغ ثقافي تركه الراحل، وارتباطها بأحلام جيل انتمى له رياض، فيقول: “إن الاحتفاءَ بتجربة رياض الصالح الحسين يأتي تعبيرًا عن الفراغ الذي تركهُ، وعن اكتشاف فرادةِ صوتهِ ومشروعهِ الفنيّ الذي تبلورَ في قصيدة النّثر، هذا المشروع الذي اغتنى بموهبة أصيلةٍ وحياةٍ صاخبةٍ، وعلاقاتٍ حميمةٍ، ومناخٍ ثقافيّ وسياسيّ مُكتَنزٍ بالأحلامِ الثّورية. ولا تتحدّدُ جمالية خطابهِ الشِّعري بفطريةِ الانفعال الطِّفليّ ودهشته تجاهَ العالم، ولا بوقائعِ الحياةِ اليوميّة، وتحويل ِسردياتها العابرة إلى نسيج شعري”.
الآنسة “س”
كانت الآنسة “س” أول حب في حياة رياض. وقد ذكرها في بعض قصائده بهذا الاسم. تارة يذكرها بالصديقة، وتارة أخرى بالحبيبة. وأحيانًا باسمها الصريح كما في قصيدته “أوسمة ونياشين وولاعات لناس سعداء”، حيث يقول رياض:
لا تسألوا الزمن عن الذكريات
لا تسألوا الصعاليك عن رطوبة الأرصفة
لا تسألوا التوابيت عن رائحة الموتى
لا تسألوا القتلة عن رائحة الدم
لا تسألوا سمر عن قلبي.
ويتحدث نذير جعفر عن الآنسة “س”، وأهمية حضورها على شعرية الراحل، وتأثيرها على قصيدته، قائلًا: “إن دخولَ الآنسة “س” إلى حياته لوّن عالمه الشعري بظلالها الشجية، وترك وشمها في روحه وقصائده. وهي أول حبٍّ حقيقي عاصف عاشه بكل جوارحه، فامتزجت بروحه ومخيّلته وقصائده بوصفها حبيبة ووطنًا، واقعًا ورمزًا في آن معًا”.
بينما يؤكد شقيق الراحل أنها امرأة حقيقية تعيش بيننا اليوم قائلًا: “في حوالي عام 1978 ظهرت الآنسة “س” في حياة رياض، وهي الطالبة الجامعية والمثقفة التي كانت لها آراؤها الخاصة حول ما يدور على الساحة السياسية والثقافية في تلك المرحلة. نشأت علاقة حب قوية بين رياض والآنسة “س” لم تكن تخفى على الأصدقاء المقربين لهما. استمرت تلك العلاقة لفترة كتب خلالها رياض قصائد عدة ذكرها فيها، وكان لها صدى كبير، حيث أتت القصائد مليئة بالمقارنات والمقاربات بين ما يعيشه الشاعر من حالة حب، وواقع كان يضغط على روحه بقوة. انتهت العلاقة بينهما لعدة أسباب، ولكنها لم تنته عند رياض الذي بقي يذكرها، ويتمنى لقاءها دائمًا”.
ضفة ثالثة