مارينا تسيفتايفا وسمت الشعر الروسي بصوتها وانتحرت/ سامي عمارة
شاعرة الأرض والمنفى أشعلت نار الغواية في قصائدها الغنائية وواجهت صلافة الشيوعية
سيرتها الذاتية تحدد الكثير من ملامح أشعارها. ما بين الغواية والحرية سارت وأشعارها تخط الطريق أمامها. وما بين الإبداع والانسيابية والسقوط في شرك “الغواية”، امتدت مسيرة الشاعرة مارينا تسيفتايفا التي تحل هذه السنة الذكرى الثمانون لرحيلها (1892-1941)، على الصعيدين الإنساني والإبداعي، منذ اضطرارها إلى قضاء الجزء الأعظم من حياتها، مبتعدة عن الوطن طوعاً تارة، في صحبة أمها المريضة الباحثة عن العلاج في إيطاليا وسويسرا وألمانيا، والهجرة قسراً تارة أخرى، مع ذويها وآخرين ممن تباينت توجهاتهم مع ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا.
ولدت مارينا في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 1892، في كنف أسرة ميسورة الحال عن أب جمع بين عمله الأكاديمي أستاذاً لنظرية الفنون في جامعة موسكو، ومديراً لمتحف “روميانتسيفو” أحد أهم متاحف الدولة للفنون الجميلة (حالياً متحف بوشكين أكبر متاحف الدولة في العاصمة الروسية)، وأم عازفة بيانو مولعة بالشعر الذي كانت تنظمه أحياناً. أسهمت رحلاتها الخارجية بصحبة أمها إلى الكثير من البلدان الأوروبية في إتقانها منذ الصغر عدداً من لغاتها ومنها الفرنسية والألمانية، فضلاً عن التحاقها لدراسة الأدب الفرنسي في جامعة السوربون بالعاصمة الفرنسية باريس. نزعت إلى هواية الشعر في وقت مبكر من طفولتها ولم تكن تجاوزت السادسة من العمر بكثير. وما بين الفنون الجميلة وعالم الموسيقى وسحر البيانو، نشأت وترعرعت مارينا تسيفتايفا. تشربت ما امتلكته أمها من قدرات مبهرة على تعلم اللغات الأجنبية، وذاكرة حادة سمحت لها بحفظ الكثير من نماذج الشعر الألماني والروسي، في وقت نزعت فيه أيضاً إلى هواية الرسم.
الأم والوطن
البدايات ارتبطت بكل من إيطاليا وسويسرا وألمانيا. فيها كانت الأم تبحث عن العلاج، بينما تَجِدْ الابنة بحثاً عن مستقبلها بين سطور الشعر والقصة. ولذا لم يكن غريباً أن تستهل مارينا نشاطها الأدبي وهي التي امتلكتها موهبة الشعر منذ الطفولة، بكتابة القصة، ولم تكن تجاوزت الرابعة عشرة. ومن تاريخ رحيل الأم وبدايات عودتها إلى الوطن، استمدت مارينا تسيفتايفا أولى خيوط الارتباط بروسيا ورموزها الزاعقة في الفن والشعر والأدب، من عالمها الأسري الذي كان مزيجاً بين الأدب والفنون والموسيقي، لتكون خليطاً من كل هذه الفنون في نصوص طفولية رومانسية.
في الثامنة عشرة من العمر، أَقْدَمَت مارينا على نشر أول دواوينها الشعرية الذي اختارت له اسم “قصائد المساء” أو “ألبوم المساء”. ولكم كان القدر عطوفاً كريماً، ليكون هذا الديوان فاتحة خير وفير، تمثل في ما حظي به من إعجاب فاليري بريوسوف أحد أهم الشعراء الرمزيين، وبما سجله من تقريظ ومديح في إحدى مقالاته النقدية التي نشرها في مجلة “الفكر الروسي”.
ولم يمض من الزمن الكثير حتى لفت ديوان “قصائد المساء” انتباه آخرين، ومنهم الشاعر الروسي المعروف ماكسميليان فولوشين، والشاعر والناقد الأدبي المتميز نيكولاي غوميليف. وفي هذا الصدد كتب فولوشين يقول: “ما إن تصافح عيناك ما كتبته، حتى يداهمك الحرج لبضع دقائق، ولتبدو معه، وكأنما تحاول التلصص لاغتنام شذرات نور من خلال نافذة نصف مغلقة، بحثاً في شقة شخص آخر عن شيء لا تعرف كنهه، فُضُولاً يتملكك صوب مشهد يجب ألا يراه الغرباء”. أما غوميليف فقد كتب يشيد بباكورة إنتاجها: “كثير هو الجديد في هذا الكتاب… فقد اكتشفت الشاعرة هنا غريزياً كل القوانين الأهم في الشعر”. ولم تكتف الأقدار بهذا القدر من الحظ السعيد، حيث سرعان ما أغدقت عليها بالكثير الآخر، ومنه، وكانت آنذاك في ضيافة فولوشين، تعرفها إلى سيرغي إيفرون الذي اقترنت به لاحقاً في عام 1912، وكانت في العشرين من عمرها، ليتوالى إنتاجها “مِدْرَاراً”. لكن الأقدار سرعان ما غيرت مسارها لتنصرف عنها في آخر العمر الذي حددت موعده بقرارها حول الانتحار، في مثل هذا التاريخ منذ ثمانين سنة، ولم تكن بلغت من العمر 49 سنة.
دفق شعري
وما بين التاريخين، جرت في أنهار مارينا تسيفتايفا أشعار كثيرة سرعان ما وضعتها في مصاف من يسمونهم شعراء “العصر الفضي” الروسي ومنهم أندريه بيلي وفاليري بريوسوف وأنا أخماتوفا وبوريس باسترناك وسيرغي يسينين وفلاديمير ماياكوفسكي، وغيرهم من نجوم ذلك الزمان. وذلك ما اعترف به وأكده وكما أشرنا إليه، كل من فاليري بريوسوف الأديب والناقد المعروف مع ماكسميليان فولوشين، وهما اللذان أصبحا من أقرب أصدقائها. وكانا توقفا بالكثير من الاهتمام عند عدد من قصائدها المبكرة، ومنها مجموعتها الشعرية “الفانوس السحري” التي صدرت في عام 1912. ولم يمض من الزمن الكثير حتى التفت آخرون إلى ما نَظَمَته تسيفتايفا خلال الفترة 1915-1918 من أشعار، ومنها “قصائد عن موسكو”، “الأرق”، و”قصائد بلوك” (التي اكتملت في 1920-1921)، و”أخماتوفا”، و”دون جوان”. ولم يكن العالم الخارجي بمعزل عن اهتمامات تسيفتايفا وعالمها الشعري.
ونعود إلى إيفرون الذي دفعته تسيفتايفا إلى الدراسة في جامعة براغ التي كانت تغدق منحها الدراسية على المهاجرين من الاتحاد السوفياتي هرباً من ثورته الاشتراكية. وفي براغ عاشا معاً ما يزيد على الثلاث سنوات بقليل. وعلى رغم قِصَر هذه المساحة الزمنية، فإنها كانت الحقبة الأكثر إبداعاً في تاريخها الأدبي بما أنجزته من دواوين وقصائد وما قدمته من أمسيات شعرية وأدبية. ففي هذه الفترة توالت روائعها التي أودعتها خمساً من دواوينها خلال أقل من عامين (1922-1923)، نجحت في طباعتها هناك ومنها “قصيدة الجبل”، و”قصيدة النهاية” و”قصيدة خرافية”، و”قصائد لجمهورية التشيك”.
وفيما انزلقت الألسنة إلى الخوض في سيرة من كانوا يسمونها “ألمع شعراء الجيل الفضي”، في وقت كانت تتنازعها فيه مختلف مشاعر الحب التقليدية وغير التقليدية، شخصت مارينا تسيفتايفا لتعلن بكل القوة الكثير مما غدا لاحقاً من الأقوال المأثورة عنها ومنها: “ماذا يمكنك أن تعرف عني؟/ أنت الذي لم أقض معه الليل ولم أشاطره الشراب”، “سوف أحبك طوال الصيف/ ذلك ما يبدو أكثر صدقاً من أن أقول لك، إنني سأحبك إلى الأبد”، “أن نلتقي. ذلك يعني أن نتبادل العشق/ وما خلاف ذلك، هو أمر يمكن أن نجده في الكتب”، “إذا استمعت إلى صوت ينادي خلفك “الأحمق”/ فليس ذلك مبرراً للالتفات إلى ما وراءك”، “كلّ ما في الأمر أن نحبّ، أن ينبض القلب فينا/ حتى لو تحطّم نثرات”.
ومن المعروف أن تسيفتايفا التي تناقل الكثيرون من تفاصيل علاقاتها التقليدية وغير التقليدية، كرست العديد من أشعارها إلى الكثيرين من الشعراء الرجال، ومنهم ألكسندر بلوك، وألكسندر بوشكين، وبوريس باسترناك، وفلاديمير ماياكوفسكي، وسيرغي يسينين، وغيرهم من نجوم ذلك الزمان. بل وكانت خَصّت نيكولاي غوميليف ذلك الشاعر الذي وقف إلى جانبها في مقتبل حياتها الأدبية، بقدر من الهجاء لم نعرف له سبباً، وهو ما ننقله عن الكاتب والناقد المعروف نوفل نيوف: “نسيْتُ أن قلبكَ ليس أكثر من سراج/ وليس نجمة/ أن شعركَ من الكتب/ ونقدكَ من الحسد/ أيها العجوز/ باكراً/ مرة أخرى/ للحظة بدوتَ لي شاعراً عظيماً…”.
مغامرات حب
وإزاء ذلك تعددت التعليقات وتباينت، بقدر تباين ثقافة واتجاهات أصحابها. وذاعت أخبار مغامراتها “الغرامية”، ومنها قصتها مع بوريس باسترناك التي استمرت لما يزيد على 14 عاماً. وكان باسترناك أخذ على عاتقه تقديم تسيفتايفا إلى الكثير من نجوم الأدب والشعر في الاتحاد السوفياتي. ومن مغامراتها “غير التقليدية” ما ترامت أخبارها وتفاصيلها حول علاقتها مع صوفيا بارنوك التي قالوا إنها “لم تكن تخفي مثليتها الجنسية”. وحول هذه العلاقة كتب الأديب نوفل نيوف يقول “إن مارينا أُعجِبت بشخصية بارنوك التي تكبرها بسبع سنوات. كما كانت بارنوك تعبِّر عن إعجابها بمارينا وأشعارها من موقع أنها الأكبر سناً”. ومضى ليضيف “أن مارينا كانت لصيقة بصوفيا بارنوك لا تفارقها، يعجبها استغراب الناس ما بينهما من حميمية تستنكرها أخلاقهم”.
وكان تأثير صوفيا بارنوك عليها عظيماً في أجواء الحرب والدمار والخلافات السياسية المتأجِّجة… وفي أواخر عام 1915 سافرت مارينا مع صوفيا إلى بطرسبورغ للاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، فكانت تلك الزيارة علامة فارقة في حياة مارينا، وربما في مسيرتها الشعرية أيضاً. ضمّت صوفيا، بقرار منها، صديقتها مارينا تسيفتايفا إلى أسرة تحرير مجلة “سيفِرنيّي زابيسكي” الشهرية ذات التوجه اليساري التي كانت تنشر فيها قصائدها بانتظام، وكان رئيس تحريرها، فيدور ستيببون، لا يستقبل إلا أبرز المفكرين الليبراليين في بطرسبورغ، وصفوة الأدباء أمثال النجم الشعري الصاعد، الشاب سيرغي يسينين (1895ـ 1925)، والشاعرة آنّا أخماتوفا (1889ـ 1966) ذات الحضور القويّ في الشعر الروسي يومذاك.”
وهكذا ذاعت أسرارها وتناقل خصومها ومحبوها ما عاشته من غراميات عاصفة، لم تنكرها، ولم تتنصل من أي منها. وذلك ما اعترفت به إلى رفيقها فولوشين الذي كان وقف إلى جانبها في مستهل حياتها الأدبية: لسْتُ للحياة./ كل شيء عندي حريق./ أستطيع أن أقيم عشر علاقات معاً./ وأن أؤكد لكلّ واحد منهم من أعمق أعماقي أنه الوحيد”. ومن المجهول الذي لم يتوقف عنده النقاد وكتاب السير الذاتية كثيراً، ما صادف مارينا تسيفتايفا من عثرات وعراقيل كان لها شديد التأثير على سيرتها ومسيرتها. وأشار هؤلاء إلى تجنيد زوجها سيرغي إيفرون للعمل في خدمة الأجهزة الأمنية السوفياتية في الخارج، وما كان سبباً في تورطه في ارتكاب جريمة قتل سياسية، دفعته إلى الفرار والعودة إلى موسكو، وهو ما لم تغفره له السلطة السوفياتية التي أعدمته رمياً بالرصاص في عام 1941. وذلك ما كان بداية حياة الفاقة التي عاشتها مارينا تسيفتايفا وكانت تتكسب خلالها من الترجمة بعد أن فشلت في العثور على مسكن أو عمل يليق بقدراتها وقيمتها الأدبية. ولم يمض من الزمن الكثير حتى صدر قرار تهجيرها مع آخرين إلى يلابوجا في تتارستان مع أولى أيام الحرب العالمية الثانية، حيث قضت آخر أيامها التي انتهت بقرارها الانتحار في 31 أغسطس (آب) 1941، بحبل كان قدمه لها الشاعر والأديب الذائع الصيت بوريس باسترناك لحزم أمتعتها.
وكانت تسيفتايفا التي لم تستقر على وطن أو مكان منذ بداية سني الطفولة، تنقلت بين إيطاليا وسويسرا وألمانيا وموسكو ولينينغراد والقرم، قبل عودتها ثانية إلى براغ وبرلين ومنها إلى فرنسا التي قضت بين جنباتها ما يزيد على 15 عاماً نشرت خلالها الكثير من أشعارها ومسرحياتها الغنائية، فضلاً عما قامت به من ترجمة الأغاني الثورية الروسية والألمانية استناداً إلى إجادتها اللغتين الألمانية والفرنسية، وما نشرته في الصحافة الدورية الأجنبية، وكذلك الملاحم الشعرية ومنها “ملحمة الجبل”، و”ملحمة النهاية”، و”ملحمة الهواء”، و”ملحمة سيبيريا” التي وجد فيها دميتري شوستاكوفيتش أحد أشهر الموسيقيين العالميين في القرن العشرين ضالته ليصيغ منها واحدة من روائعه، مثلما سبق واستعان في سيمفونيته الرابعة عشرة بأشعار لوركا الشاعر الإسباني الذائع الصيت وآخرين.