سلطة الأير المقدّس في “جسم مثالي لرجل محترم”/ عمار المأمون
تتربع رواية موسم الهجرة إلى الشمال (1966) لطيب صالح على رأس قائمة الروايات التي يفترض قراءتها حين الحديث عن التداخل الثقافي أو التلاقح الثقافي بين الشرق والغرب، أو دراسات ما بعد الاستعمار. ما يهمنا فيها دون محاولة تلخيص محتواها، هو موقع الجسد والباه بوصفهما أدوات ثقافية، لا مجرد أعضاء، فالباه يخترق أجساد الإنكليز وعقولهم، يملؤهم، بماء (الجنوب) وغضبه وشبقه ومحاولاته لامتلاك صوته.
المقدمة السابقة محاولة لإدراج رواية “جسم مثالي لرجل محترم” للمصري خالد البري ضمن سياقّ ثقافي؛ فالرواية الصادرة عن دار العين مؤخراً، تتناول حكاية “ربيع”، المزارع الصعيدي، الذي يكتشف أنه ينتمي إلى جماعة فرعونيّة سريّة باسم العزارنة. جماعة تؤمن بعزير، إليه الخصوبة الفرعونيّ، وتتوارث “قضيبه” المُعجزة الذي صنعته الآلهة أست. هو قضيب يكسب صاحبه “رجولة” لا تضاهيها أخرى، لكنه في ذات الوقت عقيم. هو قضيب أشبه بكائن حيّ قادر على الانفصال عن صاحبه ربيع المهووس به، وإن أردنا ابتداع جملة أو فرضية لتلخيص الرواية يمكن القول بأن ربيع المهاجر دخل من الصعيد إلى غرفته في لندن أحد المرات منهكاً، فقاء أيره المقدّس من بطنه، فاحتضنه ودلّله، ثم قرر تركه لشأنه بعد أن تَعملق حتى ملأ الغرفة.
حيرة “الرجولة” ومسؤوليتها
ترسم الرواية في البداية صورة ابن الريف ربيع، المراهق الذي يكتشف جسده، المحتار في رغبته بين صديقه حسين ووالدته أم حسين، موضوع تلصص ربيع الذي يشبّ عليها في أحد المرات مفتعلاً فضيحة لا تنسى في القرية. ما يلبث بعدها أن يرث من أبيه سرّ جماعة العزارنة وأيرها، ليصبح حاملاً للسرّ وجزءاً من تراث الخصب. الرجولة ليست معطى مجازياً في الرواية، إذ لها معادل حقيقي يتمثل بالقضيب المعجزة، ذاك الذي يحمله ربيع إلى لندن حيث يبنى جسده المثالي الشبق، الجسد السرّ الذي ينتظر أن تكتشفه و”مسلته” إحداهن، لتنعم بما وهبت الآلهة لربيع.
يلاحق ربيع الإحباط الجنسي كأي رجولة مفرطة في اعتبارها لذاتها ولا تجد من يستحقها. يدفعه الإحباط إلى التحرش بصديقة له، أو بصورة أدق، أن يفرد أمامها ذكره ليثبت ضخامة حجمه، فتصرخ به، ليهرب متخبطاً في شوارع لندن. يتلصص بعدها ربيع على العاملين في القناة الخليجية بجانب دكانه. يصطاد إحداهن وتصطاده، وإثر مصادفة يتزوج واحدة من الصحافيات في القناة.
داخل المنزل، وعوضاً عن أن يكون وريث إله الخصب، يكون ربيع حسب وصف زوجته زيزي “عادي”، لا فقط بسبب قدرته الجنسية المتواضعة، بل بسبب عقمه. إله الخصب ببساطة عاجز عن تكوين ذريّة. صحيح أنه يلبي فانتازمات زوجته بضع مرّات، لكنه أخلّ بالاتفاق الذي وافق عليه وتجاهله فوراً، ألا وهو ضرورة أن تحبل زيزي.
نموذج الرجولة العربية في الغرب الذي تقدمه الرواية مثير للاهتمام. الحكايات الفانتازية والأحداث الغريبة التي يختبرها ربيع لإثبات فحولته وانتمائه إلى الجماعة المقدسة، أشبه بهلوسات ومحاولات لإثبات قيمة قضيبه المقدس. إثر ذلك ترافقه أسئلة دائمة حول سرّه الذي لا بد أن تكتشفه إحداهنّ في لحظة ما، فالقضيب/الشهوة/ميراث الآلهة، حِملٌ ثَقيل على كتفي ربيع، لا بد من وسيلة للاحتفاء بها أو معرفة سبب تجاهلها من قبل من حوله.
مثل هذه “الرجولة” من وجهة نظر ربيع يجب ألا تمر دون أن يلاحظها أحد. اللامبالاة بالأير المعجزة تكشف لعنة الحسّ بالاستحقاق الجنسي والاعتراف بـ”الرجولة” الذي يغرق به ربيع، مهما تغير مجاز هذه الرجولة: “قضيب عملاق، قضيب إلهي، جسد ممشوق… إلخ”، يظهر ضمنه الرجل كضحية لرجولته غير المحققة. فالأزمة منذ البداية هي أن الرجولة أشبه بحمل سيزيفي، أوهام الذكورة والهوس بالقضيب المقدس يحولها إلى همّ أو بلاء لا بد من الخلاص منه أو إشباعه وإلا يلتهم صاحبه، أشبه بالنظرية الصدئة التي تقول إن المني إن لم يخرج من عين القضيب هاجر إلى الدماغ والتهمه.
صورة المهاجر في لندن
يعيش ربيع في لندن كأي مهاجر، أزمته مع الأير المقدس شأن جانبي أو خفي بالنسبة لمن حوله، فهو لا يختلف عن أولئك “الأقل” حظاً وتعليماً، أي الذين يعملون في “المحطة التلفزيونيّة”. صحيح أن ظروف وصوله إلى لندن مريبة، بل ويمكن القول إنها مشبوهة، لكنها لا تبدو أكثر من ترتيبات جماعة تهريب يشك بأمرها.
النموذجان السابقان من المهاجرين، وغياب السياسية المتعمد من أحاديثهم، يشير إلى طبيعة التقسيمات الطبقية بين المهاجرين في أوروبا، ناهيك عن إشارات واضحة تظهر على لسان الراوي إلى طبيعة القناة الخليجية وانتماءات العاملين بها. والأهم، حياة بعضهم المزدوجة، تلك التي استفاد منها ربيع ليختبر رجولته، ويؤكد على نسله المقدس، لكنه يفشل في غواية من يشتهي.
يمكن القول إنه لولا المصادفات البحتة، وبسبب عمل ربيع بجانب القناة، هو ليس أكثر من شخص لا مرئي بسبب عائق اللغة؛ شخص تغلي رجولته داخله، إلى أحد أنها فاضت عنه، لنقرأ وصفاً غروتيسكياً-تطهيرياً يقيء خلاله ربيع أيره ويحضنه، ويدلّله، يداعب صَفنه وهو ينام بجانبه إلى السرير، ثم يجري حوار وضرب وشجار يتحرك بين الخصومة والاختبار، إذ انفصل ربيع فجأة عن “أيره” الذي يحدق بعين واحدة، يسائله و يُغرقه بمنيه العقيم.
تحتمل الرواية الكثير من القراءات، الثقافية، الاستشراقيّة، الجندرية، فضلاً عن الفانتازيا فيها وعناصر التراث المحلي والفرعونيّ، لكن الملفت هو صوت ربيع نفسه، وجدلُه الداخلي مع ذكَره، لنرى أنفسنا أمام صورة طفولية للرجولة التي لم تتخلص من عقدة أو مفهوم أكبر وأقسى وأشدّ قوّةً. يظهر أيضاً عبء امتلاك الأكبر (أو وهم امتلاك الأكبر) في الرواية، تارةً بصورة كاريكاتوريّة، وأحياناً بشكل تراجيدي.
ميراث ربيع المقدس أشد ثقلاً من قدرته، فنراه محتاراً خائفاً إلى حين استقلال هذه الرغبة/الأير عنه. كل التراث المقدس والسرّي الذي قرأه لا معنى له في تلك اللحظة، بل أشبه بكشف من نوع ما، وكأن هذا “المقدس” ليس ملكه، هو نبي أو حامل رسالة خذلان التاريخ وما ورثه، فصارع هذا الحَمل حتى انهار أمامه، وهذا بالضبط ما يحيلنا إلى المهاجر نفسه، حامل “وطنه”، سواء في قلبه أو عقله أو بين فخذيه، يحاول دوماً إثبات استحقاقه لحين انهياره، وتسليمه أن لا رسالة ولا خصب.
القضيب في زاوية الغرفة
استقلال القضيب المقدس عن صاحبه ربيع الذي يتأمل “فرفورته” المتبقيّة شأن مثير للاهتمام، إذ لا كشف إلهي ولا استسلام لسلطة “الأير العملاق”، هناك علاقة حميمة من نوع غريب بينهما، مكاشفة من نوع ما بين الرجل ومصدر رجولته (ووهمه)، فما يبدأ بألم جسدي وقيء ومني يملأ المكان، ينتهي باستسلام ومصالحة.
يترك ربيع ذكَره مستقلاً، يستغني عنه، يتركه بعد ما يشبه المخاض. التخلي عن الرجولة هنا لا يمثل الخصاء، أو تغيير الدور الجندري. يبقى ربيع رجلاً، لكنه متخفف من عبء التفوق الذكوري، ذاك الوهم الذي ربما ساق حياته، منذ أن شاهد أيراً عملاقاً في طفولته بقي يصارع صورته لسنوات. ما أعماه عن حقيقة أنه مهاجر، لا يتميز عن سواه بشيء، سوى جسده الرياضي، ذاك الذي خذله أيضاً، فقاء “ذكورته” واستغنى عنها، الدم والعنف الذي اختبره ربما تعويض من نوع ما عما يفتقده. لكن، كل ما سبق من حذلقات مجرد تخمينات، فنحن أمام قراءات متعددة، وفرضية فانتازيّة عن أير جبار مقدس، يخنق صاحبه ويتحكم بـ”رأسه”.
رصيف 22