حديث مع سُكّر الذي لم يَنجُ بعد
ميسا صالح
«مرحبا… أنا ميسا! الصحفية اللّي حكالك عنها صديقنا مهران»، لم أكتب هذه الجملة بالسهولة التي أقرأها بها الآن، فتلك كانت المرة الأولى التي أُعرِّفُ فيها عن نفسي من أجل مقابلة بدقاتِ قلبٍ متسارعة ويد ترتجف حرفياً. كانت في داخلي مشاعر مختلطة ومعقدة، وكان أطولها وأكثرها ثقلاً شعورٌ بدأ منذ اللحظة التي قررتُ فيها التواصل معه قبل أشهر، هو الشعور بأنني قد أكون مصدر خطر على معتقل سياسي، اعتُقِلَ في المراحل الأولى من الثورة السورية وما يزال داخل سجون النظام حتى اليوم. ويتضاعف ثقل هذا الإحساس لكوني إحدى الناجيات من سجون النظام السوري، وأعرفُ تماماً مدى الأذية التي قد يُلحقها هذا النظام بالمعتقلين إذا ما حاولوا التواصل مع الخارج، دون أن يكون هذا التواصل تحت إشرافه ومراقبته الدقيقة.
بدأتُ الحديث مع سُكّر، وهو اسمٌ مستعارٌ اختاره صاحبه، في بداية شهر أيار (مايو) من هذا العام، وقد وصلتُ إليه عن طريق صديق مشترك كنت أحدثه عن مشروع مقال بحثي أعمل عليه عن صحافة السجون في سوريا. إلا أنني غيّرتُ مسار المقابلة لتصبح عنه وعن تجربته، بعد أن أبدى رغبته في ذلك، على أن تكون سلامته وأمنه الشخصي، وعلى رأسها الإخفاء التام لكلّ ما قد يشير إلى هويته، عنصراً أساسياً في كل مراحل العمل على المقابلة وصولاً إلى نشرها.
تنوعت الأساليب والأدوات التي تواصلتُ بها مع سكّر، بين تهريب للرسائل ونصوص مكتوبة ومكالمات أو رسائل صوتية من أرقام تليفونات مختلفة. مرّت الشهور الستة، حتى اكتمال المقابلة في تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، كأطول وأصعب مقابلة صحفية أُجريها في حياتي، حملتُ معها كثيراً من مشاعر الخوف والقلق والمسؤولية المرافقة لكل مرة كان يختفي بها سكر وتنقطع أخباره. ولأنني كنت عاجزة عن التواصل المستمرّ والحر معه، كنت لا أملك سوى انتظار أن يراسلني مجدداً لأطمئنَ أنه ما زال بخير ولم يُصَب بأي أذى.
في سوريا سجونٌ ومراكز اعتقال وتعذيب وقتل كثيرة تابعة للنظام السوري، منها سجون عسكرية ومُعتقلات تابعة للأجهزة الأمنية وأخرى غير رسمية تابعة لميليشيات تخدم النظام السوري، وهي كانت وما تزال ثقوباً سوداء لا يمكن لأي معتقل فيها أن يتواصل مع العالم الخارجي. وفي سوريا أيضاً سجون مدنية عديدة، من بينها سجن سكّر اليوم، وهو ما أتاح هذه الفرصة الاستثنائية غير الممكنة للمعتقلين في ظروف أخرى، ولكن أيضاً تحت تهديد خطورة عالية أثناء المقابلة التي تطلّبت أشهراً لتكتمل.
غاب سكر وانقطع التواصل بيننا عدة مرات، اختلفت أسبابها بين التشديد والتدقيق الأمني داخل السجون، وبين إصابته بالمرض والتعافي منه، وبين تغييره أرقام التواصل وأساليبه لأسباب أمنية. اتفقنا على ألّا أقوم أنا بالمبادرة بالحديث أو الاتصال أو إرسال رسائل، وإنما هو من سيُبادر بالتواصل عندما يكون الوضع مناسباً. كان يطلب سؤالاً واحداً ليجيب عليه في كل مرة، إلى أن جاء اليوم الذي كان بإمكانه إنهاء المقابلة كلّها فيه: «إذا إنتِ هون أنا اليوم مو متحرّك لخلّص الأجوبة على كلّ الأسئلة البقيانة، فهاتي سؤال سؤال، وأنا حجاوب وأحذف كلّ شي فوراً».
وفعلاً أمضينا يوماً كاملاً أُرسِلُ له فيه ما تبقى من الأسئلة واحداً تلو الآخر، وأُدقّق معه الأجوبة وأَستوضحها حتى أنهيناها جميعاً.
في الحوار أدناه، حاولتُ قدر الإمكان الحفاظ على روح سكّر في الإجابات، على أحاسيسه وانفعالاته وأفكاره كما عبّرَ عنها، وبأدواته هو. تم تغيير بعض التفاصيل وإخفاء الأسماء والمعلومات التي قد تشير إلى مكان اعتقال سكّر، بالتدقيق والاتفاق معه على كامل ما ورد في شهادته قبل نشرها، وتم اتخاذ كافة احتياطات الأمن الرقمي من جهتي وجهته، بعد استشارة أخصائي أمن رقمي قدّمَ لنا نصائح تمّ تنفيذها جميعاً.
عند نشر هذه الشهادة سيكون الاتصال بيني وبين سكّر مقطوعاً تماماً، مع حذف أي أرشيف قد يدلّ على التواصل وأدواته.
*****
بداية، حدثني عن نفسك وعن اعتقالك بالطريقة التي تراها ملائمة.
اسمي سكَّر، في الثلاثينات من عمري، نشأت وترعرعت في دمشق. تم اعتقالي من أحد شوارع دمشق على خلفية نشاطي في الحراك السلمي. تم نقلي بين أفرع أمنية عديدة، وقد وجِّهت لي العديد من الاتهامات، أذكر منها: إضعاف الشعور القومي، النيل من هيبة الدولة، إذاعة الأنباء الكاذبة، تأسيس تنظيم سياسي غير مرخص، تحقير رئيس الدولة، إثارة الفتنة، إيقاظ النعرات العنصرية والطائفية، وتهم أخرى.
هل بإمكانك الحديث أكثر عن مراحل اعتقالك؟ ظروف الأفرع الأمنية والمعتقلات والفروقات بينها؟
في الفرع الأمني الأول الذي تم اقتيادي إليه، لم يعتمد مسؤول التحقيق على الضرب والتعذيب فقط، بل كان الترهيب النفسي هو الأكثر فتكاً، إذ تم عزلي عن كافة المعتقلين في غرفة انفرادية معزولة بدورها عن تجمع الغرف الانفرادية الأخرى. استمرّت جلسات التحقيق معي لأيام طويلة، مع التعذيب بالحرمان من النوم واستخدام «بساط الريح». لم يكن للضرب والتعذيب ذلك الأثر بالمقارنة مع الأفكار التي زرعوها في رأسي عن المصير الذي يترقبني. عند إخراجي من الغرفة الانفرادية كانوا يقومون بعصب عيوني ومن ثم تكبيل يدي إلى الخلف، وهذا ما يقومون به بشكل طبيعي مع أي معتقل، لكنهم كانوا فوق ذلك يأتون ببطانية عسكرية ويقومون بوضعها على رأسي، بحيث يقومون بتغطية كامل جسدي، ثم يقوم عنصران باقتيادي إلى غرفة التحقيق.
كنت أُميز أصوات رفاقي وهم يصرخون. ذلك الضغط النفسي العالي ساهم في فقداني جزءاً من ذاكرتي عن تلك المرحلة، ولم يكن استرجاعه لاحقاً بالأمر السهل. لم تكن جلسات التعذيب طويلة، لكن التحقيق هو الذي كان يطول ويطول والأسئلة تتكرر مئات المرات.
سمعتُ لاحقاً أنه وفي تلك الفترة كانوا يطلقون على ذلك الفرع الأمني «الفور سيزنز»، وفعلاً كان أشبه بفنادق الخمس نجوم مقارنة بالأفرع الأمنية الأخرى التي سأمرّ عليها في تنقلاتي، فالغرفة الانفرادية يوجد فيها «تواليت»، وهذا ما تمنيت وجوده والكثيرين في فرع التحقيق العسكري لاحقاً، حيث يتم اقتيادنا هناك إلى الحمامات وفور دخولنا إلى التواليت يقوم السجان بالعد من واحد إلى خمسة، وفي حال عدم خروج المعتقل من التواليت عليه انتظار ما يترقبه من وابل الضرب والشتائم.
كان «الفورسيزنز» منضبطاً جداً بالنسبة لوجبات الطعام، وفي صباح كل يوم يأتي طبيب فيقوم السجانون بالنداء بين الغرف الجماعية والانفرادية على المرضى في حال أراد أحدهم رؤية الطبيب، كما أذكر أنهم قد أحضروا لي الدواء بعد إسعافي إلى المستشفى، اممممم! لقد كان مرهماً وقطرة عين، بسبب جرح في بياض عيني تسببت به إحدى ركلاتهم المسددة مباشرة إلى وجهي.
«الفورسيزنز» لم يكن كأي فرع آخر أخذوني إليه أو سمعتُ عنه، لقد كان استثناءً. في فرع الأمن العسكري الذي تم نقلي إليه لاحقاً لا أذكر أنهم قد توقفوا عن ضربي وشتمي ولو لدقيقتين، منذ لحظة سحبي من الغرفة الانفرادية حتى إعادتي لها وأنا أتعرض لكل أنواع الضرب، من لكمات وركلات وكفوف، وضرب بالكبل على جسدي وبعصا السيليكون على وجهي. حتى رجائي لهم بأنني سأعترف بكل شيء: «بس عطوني ورقة وقلم وأنا رح أكتب كل شي بدكن ياه»، لم يجعلهم يتوقفون ولو لدقيقة واحدة. كان رد الضابط: «بدك تكتب يا ابن القحبة بالصرماية، بدكن حرية!!!». كان الضرب والتعذيب للتشفّي، ولم يكن وسيلة للتحقيق حينها. «الغباء» هو سِمَة ذلك الفرع الأساسية.
أذكر أنَّ المحقّق سألني عن طرق التواصل والتنسيق والنشر فيما يخص المظاهرات، وكان فيسبوك واحداً من هذه الطرق، وعند سماعه كلمة فيسبوك انهال عليَّ بالضرب والشتائم قائلاً: «بتعرف أنو الفيسبوك صنع إسرائيل يا عميل يا خاين».
انتهت جلسات تعذيب فرع التحقيق العسكري مع كتابة ضبط مضحك يشبههم، فلم يأخذوا أي معلومات قد تفيدهم. رغم أنهم قد نالوا من جسدي، إلا أنهم لم يحصلوا على أيَّ معلومة جديدة مني، أو أي اسم من أسماء رفاقي اللذين كلمَّا تذكرت أحدهم أو إحداهن، رأيت الأبواب كلها تُفتح لي، وتخيلت قصصاً سنرويها ونضحكُ عليها في جلساتِ سمرنا.
عندما قاموا بإعادتي من جديد إلى الفرع الأول «الفورسيزنز»، لم تكن قدماي قادرتان على حملي، وهم من قاموا بإنزالي من السيارة وعلى درج الفرع حينها. أتذكر ما قاله حرس الفرع على الباب، سمعتهم بأذني: «أهلاً بك بالـ فورسيزنز».
خلعوا عن عينيي «الطميشات». كان العناصر ينظرون إليَّ مندهشين بسبب آثار التعذيب التي بانت علي من الفرع الآخر، رأيت في عيونهم نظرات الشفقة، لكن من نوع التي قد نراها في عيون أحد المارة وهو يرى كلباً مقتولاً في الطريق.
«شو عاملين فيك!!!»، خلعوا ثيابي عني، كانوا يتفحصون جسدي بعيونهم، نادوا للضابط: «سيدي هادا هيك أجانا».
«رجعوه عالمنفردة وطعموه وخلصولوا ضبطه، وبكرا الصبح خلي الدكتور يشوفه».
من المفارقات التي حدثت معي ومع أحد أصدقائي المقربين، والتي عرفتها عند التقائنا في السجن المدني، أنهم كانوا يشتمونني وينكزوني بالعصي وينعتوني بقليل الدين: «ما بتعرفوا الله؟! بدكن تخربوا البلد» وذلك كوني غير ملتزم دينياً، بينما كان الأشخاص أنفسهم يقومون بضرب وشتم صديقي وينعتونه بـ «العرعوري» كونه ملتزم دينياً.
لم أرَ أي فرق بالمعاملة بين أي معتقلين بناءً على اختلافٍ طائفي أو عرقي أو مذهبي أو ثقافي في الأفرع الأمنية. أحياناً كان المعتقلون من طوائف أخرى غير السنّة يتعرضون لضغوطات نفسية أكبر فيوصمون بالخيانة أكثر من غيرهم. وكلما كانت درجتك العلمية أو الاجتماعية أعلى، ستُعرَّض حتماً لجلسات تعذيب أطول من غيرك.
أمَّا في السجون المدنية فمكانتك الاجتماعية الاجتماعية أو شهادتك الجامعية قد تساعدك، وذلك بسبب إدارة المعتقلين لأغلب مفاصل السجن المدني من الداخل مثلاً: قسم الطبابة يترأسه ويشرف عليه طبيب ضابط، ولكن من يقوم بالتشخيص والعلاج غالباً هم أطباء معتقلون، وحتى الممرضون يكونون من المعتقلين أيضاً في الغالب. قاعة الدورات يشرف عليها ويُدرِّس المعتقلينَ فيها هم معتقلون آخرون أيضاً، يمتلكون إجازات أو شهادات تؤهلهم لتعليم غيرهم.
كل مفاصل السجن المدني من الداخل تُدار من قبل المعتقلين (ورشة الميكانيك، ورشة الإلكترون، الإذاعة، صيانة الكاميرات، الاستديو، صالون الحلاقة، الحمامات، قسم الطبابة، المدرسة، قاعة الدورات، المكتبة، المكتب الفني الذي يُعنى بأعمال الكهرباء والتمديدات الصحية)، والإشراف يكون لضباط وعناصر داخل السجن المدني.
حدثني عن الروتين اليومي داخل السجن، وعن علاقتكم مع السجانين. وهل تتم تلبية احتياجاتكم الأساسية بشكل كافٍ؟
بقيت مخصصات الطعام لكل سجين تُقدَّر بثلاثمائة ليرة سورية في آخر 5 سنوات، لكن تم تعديل المخصصات إلى سبعمائة ليرة سورية في بداية هذا العام، أي ما يعادل عشرين سنتاً أميركياً. لكِ أن تتخيلي نوعية الطعام وكمياته من هذا المبلغ البخس. يوزع هذا المبلغ على ثلاث وجبات بالإضافة إلى ثلاثة أرغفة من الخبز، (قد يبلغ سعر البيضة الواحدة اليوم أربعمائة وخمسين ليرة سورية). على الإفطار أربع إلى سبع حبات من الزيتون في اليوم، وثلاث إلى خمس ملاعق من الرزّ على الغداء، وكثير من الماء مع قليل من العدس على العشاء.
يقوم المعتقلون بتوزيع أنفسهم على مجموعات، ويوزعون المخصصات كل يوم لمجموعة، أما المقتدرون مادياً فيتركون طعام السجن لغيرهم، فهم في الغالب لا يستلمون أي مخصصات من الطعام سوى الخبز. يوجد دكّان ومطعم يمكنكِ شراء ما تريدين منه: معلبات، أرزّ، برغل، سمن، زيت، سكر، ملح، البسكويت، المكسرات، كل ما ترغبين به يمكنكَ شراؤه أو التوصية عليه عن طريق دكان السجن أو ندواته الأخرى. كما يوجد «فاتورة» للخضار، إذ إننا نقوم بتوصية مندوب فاتورة الخضار بما نريد. المطعم يقوم بإعداد «السندويش» بكافة أنواعه غالباً. مطاعم السجون أشبه بالمطاعم الشعبية. باختصار شديد، كل ما تريدينه تقريباً بإمكانكِ شراؤه.
أما بخصوص الزيارات: يُقسَم السجن إلى عدة أجنحة، ولكل جناح يوم مخصص للزيارات. يُسمح لذوي المعتقل بالزيارة كل أسبوع مرة واحدة بحسب يوم الزيارة المخصص. مدة الزيارة على حسب عدد الزائرين، يعني في حال كان شباك الزيارات مزدحماً فلا تتجاوز الزيارة ساعة واحدة. طبعاً السجن المدني مليء بالاستثناءات، فمع دفع النقود لعناصر الشرطة المسؤولة عن الزيارات سيتركونكِ حتى انتهاء الوقت تماماً. يمكن للأهل إدخال الثياب غير المبطنة والنقود. سابقاً كان يُسمح للمعتقل كل أسبوع إدخال خمسة آلاف ليرة سورية، أما الآن فيسمح بإدخال مائة ألف عن طريق الزيارات، أو وضعها في مكتب الأمانات، ويُسمح بإدخال أربع كروزات من الدخان في كل أسبوع. والآن، سُمحَ لنا بإدخال بعض أنواع الطعام عن طريق الزيارة، وذلك لقلّة كمية الطعام المخصصة والموزعة لنا.
يوجد اختلافات بسيطة بين السجون المدنية العديدة في سوريا، لكن الروتين اليومي متشابه جداً، والاختلافات تكون نتيجة مساحة السجن وعدد المعتقلين الموجودين فيه وأوامر رئيس السجن المسؤول.
لا يوجد وقت ثابت للنوم، النشاط اليومي يبدأ في التاسعة صباحاً وينتهي عند الثانية عشر ليلاً، إلا أنّنا غير ملزمين بوقت مخصص للنوم. القلق يلازمكِ طيلة فترة مكوثكِ بالسجن، شخصياً من النادر أن أنام لفترات طويلة. أطول فترة نوم متواصلة قد تستمر لأربع ساعات. أحياناً، كل ساعة أستيقظ مرة أو أكثر. هنا يمكنكِ النوم في أي وقت شئتِ، ستعتادين الضجيج مع الوقت وستميلين للعزلة أكثر فأكثر.
العلاقة مع السجانين تختلف من سجن إلى آخر، ويرسم الخطوط العريضة لهذه العلاقة رئيسُ السجن. الاحتكاك المباشر يكون مع عناصر الشرطة، وهو قائمٌ في الغالب على تبادل المصالح. يغضون النظر عن مخالفاتكِ مقابل دفع مبلغ مالي ما. الاحترام في السجن غالباً تحدده قدرتك المادية. كي تُحترم أكثر عليك أن تَبذخ عليهم أكثر، هذه قاعدة عامة. أي حركة تريد القيام بها عليك دفع مبلغ ما مقابلها، لا يوجد شيء بدون دفع النقود. مع الوقت اكتسبتُ مهارات قد لا تتخيلينها حول تقدير المبلغ المستحق للدفع والطريقة المناسبة. الكثيرون يسألونني عن ذلك. القاعدة المتبعة بالسجن: «بدك تمشي أرشي».
المعتقل غالباً عرضة للابتزاز من العناصر أو الضباط أو المسجونين الجنائيين، أو من معتقل مثله حتى، ومع الوقت الطويل تحوَّلَ هذا الابتزاز إلى تبادل مصالح: «عطيني كذا وخود كذا».
العلاقة بيننا وبين السجانين تكون معقدة جداً أحياناً، وقد نتشارك الطعام واللعب أحياناً أخرى، ومنهم من يحسدنا أحياناً بسبب توفر الكهرباء والماء دائماً، وهي الأمور التي باتت رفاهية لمن هم خارج السجن.
خلال السنين الماضية، لقي ملف المعتقلين والمختفين قسراً في سوريا اهتماماً كبيراً من قبل منظمات محلية ودولية، عملت كلها بأدواتٍ وبرامج مختلفة. كيف تصف أداء هذه المنظمات؟ وما هو شعورك تجاه كل ما يتم تداوله عن ملف المعتقلين من قبل المعارضة والنظام؟
ساهمْتُ في بداية الثورة بالدفاع عن المعتقلين وقضيتهم، مع معرفتي القريبة بالكثير من المحامين الذين ساهموا بالدفاع عن المعتقلين/ات منذ الأيام الأولى، ولا يمكنني إلا أن أشكرهم جميعاً على ما بذلوه من جهد كبير، فضلاً عن تعرضهم لمخاطر الاعتقال والخطف في سبيل هذه القضية.
مع ازدياد أعداد المعتقلين، وخطف واعتقال عدد من المحامين، وممارسة الضغط على الآخرين، كان لا بد من وقوع القلّة المتبقية من المحامين المدافعين عن المعتقلين في أخطاء، كان أهمها الأخطاء الأمنية التي أوقعوا أنفسهم بها، والتي كلّفتهم حريتهم وحياتهم أحياناً، وأخطاء أخرى تتعلق بالتأخر عن حضور جلسات الموكلين (المعتقلين/ات) أو تقديم الدفاع أو الطعون في وقتها. لكن هذا لا يلغي أنهم كانوا جنوداً حقيقيين، إذ إن دورهم لم يتوقف عند الدفاع عن المعتقلين فقط، بل ساهموا في تقديم الدعم والنصائح لعائلاتهم، وتقديم الدعم النفسي والمادي في أحيان أخرى للمعتقلين، وهنا أتكلم عن التواصل المباشر مع المعتقل ودعمه وعائلته بشكل مباشر بشتى أنواع الدعم، وهذا كان متوفراً بشكل حقيقي حتى العام 2014. بعدها بدأ بالتناقص شيئاً فشيئاً، حتى أننا اليوم لا نكاد نلحظ وجود مثل تلك الجهود، وقد يعود السبب لعدم وجود الكوادر في مناطق النظام وقلّة الأعداد.
من مكاني لا أرى جهداً جماعياً منظماً لدعم المعتقلين وعائلاتهم بشكل مباشر حالياً، ولكن هناك حالات فردية يقوم بها أصدقاء وعائلات بعض المعتقلين أحياناً، أو مجموعات قام بتشكيلها ناجون وناجيات من المعتقلات، يقومون من خلالها بدعم من يعرفون داخل المعتقلات. ولا يخفى على أحد الجهود المبذولة من بعض الروابط والمنظمات لإيصال ملف المعتقلين لكل الجهات الدولية، وفعلاً أتت هذه الجهود بعضاً من ثمارها، مثلاً باقتراح الجمعية العامة للأمم المتحدة وضع آلية دولية لتحديد مصير المعتقلين والمختطفين.
شخصياً أنا أؤمن بالمكلومين والضحايا وعائلاتهم، وبحالات فردية من الحقوقيين، وهم من صنعوا التقدم في ملف المعتقلين واستطاعوا إنارة شعلة الأمل على الدوام في داخلي، مثل مبادرة باص الحرية التي قامت عليها «عائلات من أجل الحرية»، والتي عَرَّفت العالم بقضيتنا: «هي من أكتر المبادرات اللّي تأثرت فيها». وكنت وما زلت أبكي على الدوام كلما شاهدت مقطع ڤيديو أو قرأت منشوراً للأم فدوى عن ابنها، وللبنت وفا مصطفى عن أبيها، وللأخ عامر مطر عن أخيه. كم كنت سعيداً عند الحكم على أنور رسلان، وفخوراً جداً بأنور البني ومن معه من حقوقيين شرفاء.
مزيجٌ من الخذلان والحقد أحملهما تجاه أولئك الذين جعلوا من قضية المعتقلين وعائلاتهم باباً يطرقونه، ويفتحونه بآلامه ومآسيه كي يملأوا بطونهم وجيوبهم. وأولئك الذين ينتمون لمجموعات مسلّحة، وطلبوا مني ومن غيري مئات آلاف الدولارات ليضعوا أسماءنا في مبادلاتهم مع النظام.
أداء المعارضة السياسية رومانسي فيما يخص قضية المعتقلين، فضلاً عن أن الارتهان يأكل جسد هذه المعارضة الهزيلة، التي تقتات على أجندات الدول الداعمة والمشغلة لها. أما المعارضة المسلحة، فلكم في سجني حلب ودمشق المركزيين مثالٌ لا يحتاج لتوضيح، من تناوب المجموعات المحاصرة لسجن حلب دون تحرير المعتقلين بداخله، وسجن عدرا المحاذي لدوما خصوصاً، والغوطة الشرقية عموماً، والتي بقيت خارج سيطرة النظام لفترات طويلة، دون محاولة أيّ من تلك الفصائل بشكل جدي لتحرير المعتقلين الموجودين داخل السجن، والذين يزيد عددهم عن اثني عشر ألفاً، بل كانوا سبباً في نقل ما يقارب 1500 معتقل من دمشق وريفها إلى سجون المحافظات الأخرى، وكانوا سبباً في قتل عدد من المعتقلين وذويهم من خلال قذائفهم العشوائية على السجن.
أما بالنسبة لمن اعتَقَل وعَذَّب وقتَل، لمن أخفى وأحرقَ واغتصب، لمن دمَّرَ حياتنا وسلبنا سنين عمرنا، وحوَّل أجساد من نحب إلى رماد لا نعرف مكانه، إلى النظام الذي خرق كل قوانين الأرض والسماء: «نحن لن نسامح ولن نهادن ولن نرضى الذلَّ ما استطعنا للحياة سبيلاً». نحن في سوريا بحاجة قرار مُلزِم بشأن المعتقلين والمختطفين، وهذا أشبه ما يكون بمعجزة. لذلك لا أعول إلا على أهلنا وأحبائنا خارج هذه الجدران الضيقة. هم وحدهم الحقيقة والباقي مزيفون.
يتعرض أهالي المعتقلين والمختفين قسراً إلى عمليات ابتزاز واحتيال، وفي كثير من الأحيان يكون المعتقلون أنفسهم في مواجهة عمليات من هذا النوع داخل السجون. هل مرّت عليك أو على عائلتك تجارب من هذا النوع؟ وكيف تعاملتم معها؟
الابتزاز والاحتيال رحلة تبدأ من لحظة الاعتقال، وقد تسبقها أحياناً بتواصل هاتفي أو عن طريق وسيط ما، بعبارة مشابهة لـ «سلِّم حالك أحسن ما ناخُد اهلك كلهم»، وتستمر بعد الاعتقال لتصبح «اعترف أحسن ما نحط أهلك معك».
اعتُقلت مع صديق لي في الكمين نفسه الذي نُصب لنا، وعَلمتُ لاحقاً أن أحد الأشخاص تواصل مراراً مع والدة صديقي لأخذ المال منها، مقابل إعطائها معلومات عن وضعه وحالته داخل أقبية الفرع الأمني. وفي إحدى المكالمات أَخبَرَها أن ابنها قد مات، فتعرّضت لأذية عصبية نتيجة سماعها لذلك الخبر، إلا أن ابنها قد خرج من الفرع الأمني بعد فترة من ذلك الاتصال المشؤوم، وما زالت أمه تعاني من تلك المشكلة الصحية وآثارها حتى الآن.
في السجن، تدرك مع تَقدُّم الوقت أنك بحاجة لـ «الواسطة»، أو لدفع المال الذي يُسهّل ويفتح لك أبواب الواسطة كي تخرج من السجن، وهذا ما يلعب على وتره كثيرون من المحامين والمحتالين، فلا تكلّ من المحاولة والبحث مراراً وتكراراً عن تلك الفرصة، أو عن ذلك الشخص الذي بإمكانه تغيير مصيرك، ومقابل أي شيء تستطيع دفعه ولو وصل الأمر بك إلى بيع ثيابك، وكما يقال «الغريق بيتعلق بقشة».
أنا شخصياً، في الفترة الأولى لاعتقالي كنت أمتلك إيماناً أنه وفي وقت قريب سيأتي جموع الثوار ويفتحون لنا باب السجن، وكان ما يحفزني أكثر هو ما حدث في سجون أخرى مثل سجن غرز في درعا وسجن الرقة. لكن مع تَقدُّم الوقت بتُّ ذلك الغريق الذي يتعلق دائماً بتلك القشة، وأصبح لديّ سجلٌّ حافلٌ مع المحتالين والنصابين. أول حادثة كانت من قبل أحد الموقوفين الجنائيين، الذي ادّعى أنه على معرفة مباشرة بالقاضي الذي يُحاكمني، وقد أخرج دفتر الهواتف الخاص به وكان عليه أسماء عدة قضاة مع أرقامهم وكان من بينهم القاضي الذي يحاكمني.
كيف لي أن أصدق موقوفاً! كان من الأحرى به أن يُخرِجَ نفسه أولاً! وعدني بإخلاء سبيل مقابل مبلغ مادي، وقد قمت بإعطائه مبلغاً مالياً داخل السجن على أن أدفع باقي المبلغ المتفق عليه فور إخلاء سبيلي: «المهمّ… راح إخلاء السبيل وراح المبلغ». للأمانة لا أستطيع أن أحصي حالات الاحتيال التي تعرضت لها وأنا بكامل قواي العقلية على مدار السنين الآفلة، ومع كل عفو رئاسي يزداد الأمل بوجود مَخرَج من السجن، وينشط المحتالون بكثرة، إذ إنها فرصتهم وموسمهم لجني مزيد من الأموال، والتغذي على جراح المعتقلين وذويهم.
بعد إصدار عفو العام 2019 تعرضت لعملية احتيال بمبلغ 7 آلاف دولار أميركي، على أمل تشميلي بمرسوم العفو. وآخر مرة في هذا العام تم الاحتيال عليَّ بمبلغ 6 آلاف دولار تقريباً. قد تظنين أنني غبي بسبب تعرضي لأكثر من عملية احتيال، سأخبرك يا صديقتي أنني وفي كل مرة كنتُ أُرجّح أنه محتال وبنسبة تفوق 90٪، ولكن هذه النسبة المتبقية هي الأمل بأن تكون تلك هي الفرصة الحقيقية، وهي التي تجعلني أخوض التجربة لعلِّي أنال خلاصي من هذا المكان.
حتى أن أخي بعد إحدى عمليات الاحتيال التي تعرضنا لها قال لي: «بتعرف أني كنت متأكد مليار بالمية أنو محتال وحيروحوا المصاري، بس تدينت المصاري وبعتتهم كرمال ما يخطر ببالك ولا للحظة أننا كعيلة مو مستعدين نقدملك كل شي بنقدر عليه». يومها نصبوا علينا بمبلغ يقارب 10 آلاف دولار: «الموجع هوي الألم النفسي والتوتر اللّي بعيش فيه المعتقل وأهلو بهي الفترة. أمي بإحدى المحاولات وبعد جرعة أمل كبيرة صار معها جلطة بسبب فشل المحاولة. ما حدا بيقدر يتخيل كم الألم الي عاشته أمي وعيلتي بسبب هالأشخاص، وما حدا بيتخيل حجم الألم والذنب اللّي حملوني ياه بسبب اللّي صار لأمي. اليوم، بعد آخر تجربة، قرّرت أني ما حاول مرة تانية، قررت أني أستسلم ووقف استنزاف عيلتي».
حدثت خلال سنوات اعتقالك تغيرات جذرية في مفاهيم الثورة، وفي شكل المعارضة وتشكيلاتها على الأرض. كيف تشعر تجاه كل هذه التحولات والتغيرات التي سارت باتجاهها الأمور اليوم؟ خاصة وأنت ما زلت تدفع ضريبة الكلمات الأولى للتغيير في سوريا؟
لا أعتقد أن هناك تغيرات جذرية في «المفاهيم»، فمفهوم الثورة واحد، وقد نختلف في تفسيره أو شرحه بتفاصيل صغيرة. الثورة بحاجة لقيادة، ونحن لم نمتلك تلك القيادة الموحدة، كما أننا لم نمتلك خطة واضحة للإطاحة بالنظام وتحقيق أهداف ثورتنا وتطلعات شعبنا المنتفض. حتى التضحية والفاتورة الكبيرة التي دفعها الشعب السوري لم تكن كافية، وذلك في ظل غياب المشروع الموحد لكافة أبناء الثورة والقيادة التي يثق بها الجميع. منذ الأيام الأولى للثورة كان الاختلاف الإيديولوجي نقطة ضعف، لم نستطع حتى اليوم تحويلها إلى نقطة قوة. شهدتُ هذه الاختلافات منذ بداية الحراك، ولكن بشكل أكثر ضيقاً مما نراه الآن، على وجه التحديد القوميون العرب والكُرد والإسلاميون واليساريون، السلفيون ومشكلتهم مع الحراك السلمي بالكامل، حتى بين من تبنى الحراك السلمي وآمن به، ومن لم يجد إلّا بالكفاح المسلح ضد النظام حلاً. للأسف نحن لا نمتلك ثقافة الاختلاف.
كل ذلك يدخل في باب العوامل الذاتية، أما العوامل الموضوعية، فالإعلام الموجَّه ساهم وبشكل مستدام في الإساءة للشعب السوري، وكذلك الأمر مع الدول التي ارتهنت أغلب تشكيلات المعارضة السياسية والعسكرية لها. وعندما وُجِدَ قادة وطنيون تمت تصفيتهم أو تنحيتهم بشكل أو بآخر، ولم يكن ذلك دور النظام فقط وهو العدو المباشر، بل أخذت بعض الجماعات المسلحة على عاتقها تلك المهمة أيضاً وبتوجيهات من مُشغلّيها في رأيي. مارسَتْ تلك المجموعات الخطف والاعتقال والقتل أيضاً بحق المدنيين الذين يخالفونهم بالرأي، وانتهكت العديد من حقوق الإنسان أيضاً، فهل هذا هو البديل الأخلاقي للنظام والذي تهدف إليه الثورة؟ أكيد لا.
يمكنني القول إن كل من خرج عن أهداف الثورة وأخلاقياتها لا يمثل الثورة، فالثورة التي خرج الشعب السوري بها كانت رفضاً لمنظومة كاملة مارست الفساد والقمع والاستبداد وأملاً بأن يسود العدل بعد زوال تلك المنظومة.
مشاعر الخذلان تختزل كل ما حدث. كل تلك التشكيلات، من المجلس الوطني حتى الائتلاف، لم تكن على قدر المسؤولية. لا أظن أن هناك تغيرات جذرية في المعارضة وتشكيلاتها، بل تغيرات في الجهات الداعمة. أدّى اعتماد الجميع على العامل الخارجي إلى رفع سقف الآمال بالغرب وأميركا واللاعبين الخارجيين، لذلك أراهم أقرب ما يكونون للارتهان: «ما عرفوا يوصلونا لأي مكان فيو بصيص أمل بأي شي».
النظام كان لديه آلية واضحة تحدّثَ عنها وليد المعلم منذ البداية عندما قال «سنغرقكم بالتفاصيل»، وها نحن غارقون فيها إلى اليوم. هل عادت ثمار المفاوضات بأي نتيجة على الشعب السوري؟ «نحنا مرتهنين وما عنا حدا بيشتغل سياسة صح، اكتسبنا أعداء سياسيين، وحتى ما سمي بأصدقاء سوريا سابقاً… أين نحن منهم الآن وأين هم منا؟».
كثيرون من الناشطين والثوار يقرون بفشل الثورة اليوم، ويدعون للاعتراف بالهزيمة، ليس فقط لصالح النظام وإنما لصالح سلطات الأمر الواقع الأخرى أيضاً. هل يدور هذا النقاش بينكم؟ وما رأيك أنت؟
منذ العام 2014 كانت هناك نقاشات في السجن عن الهزيمة. كان من الصعب عليَّ أن أفكر وأعترف بالهزيمة في ذلك الوقت، ولكن مع تقدم الوقت كان لا بد من الاعتراف ومواجهة الواقع. نحن مهزومون بكل ما فينا، الهزيمة في ضيق أفقنا وعدم امتلاكنا لخط استراتيجي واضح، وكما عبَّر ياسين الحافظ في كتابه الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة، اعتمدنا على الحدس والرؤى بدل التحليل والتركيب، وكنا ننتقل بخفّة من مواقف الإفراط بالثورية إلى مواقف التراجع وعدم الصمود.
الاعتراف بالخسارة لا يعني العجز، بل البحث عن الأسباب وإيجاد المخرج والتوجه إليه. ما يحصل لفاعلي الثورة السورية من معارضة وتشكيلات هو شيء طبيعي برأيي. لا يمكن أن نراهم على قدر من المسؤولية والوعي فجأة، نحن نرى نتائج مقدماتهم الآن. أما من يعيش داخل مرحلة الصدمة فعليه أن يتصالح مع ذاته، ويعترف بالهزيمة، ويذهب للبحث عن مخرج أو حلّ. فلنجد تلك الهوية الوطنية الجامعة، فلنخرج من انتماءاتنا ما دون الوطنية لنزرع بذور الوعي في كل مكان. هذه السفينة لن تغرق بشخص أو جماعة واحدة فقط، كلنا سنغرق أو سننجو معاً.
فشل الثورة أو هزيمتها لا يعني نهاية هذا الشعب، الاعتراف بهذه الهزيمة قد يكون بداية نهضة حقيقية لوطننا الحبيب: «أسامح من هُزِم، ولكن لا أسامح من يؤمن بالعجز».
خلال فترة اعتقالك وقعت كثيرٌ من الأحداث المفصلية والأحداث شديدة القسوة، خاصة تلك التي تتعلق بالمجازر التي راح ضحيتها آلاف السوريين والسوريات مثل ضربات الكيماوي، وكذلك الحصار والتجويع والتهجير القسري وغيرها. كيف تتلقى على الصعيد الشخصي هذه الأخبار؟
هذا السؤال صعب جداً، ولا يمكنني الإجابة عليه إلا بكلمتين أصف بهما مشاعري: «بقليل من الدموع وكثير من الحقد» و«بألم يعصرني مع كل ذكرى» … بس هيك.
خلال فترة اعتقالك أيضاً وقعت جائحة كورونا التي عمّت العالم كله وأربكته. كيف عشتم ذلك؟ وكيف تم التعامل مع المعتقلين في فترة الوباء؟
«منعوا عنا الزيارات بشكل كامل، ولليوم نحنا محرومين من الزيارات الخاصة. وبالوقت اللّي منعونا من شوفة أهلنا، كان عادي كل الضباط والشرطة يدخلوا السجن بدون أدني إجراءات وقائية».
أحضر الصليب الأحمر مساعدات، وقام بتعليم عناصر من السجن كيفية تصنيع الكلور للتعقيم، وتم إحضار أجهزة طبية لكشف الإصابات ومواد للنظافة الشخصية، وكمامات أيضاً. لكن إدارة السجن قامت بسرقة 80٪ من كل ما أحضره الصليب الأحمر للمعتقلين.
يوجد قسم طبابة في السجن كان المسؤول المباشر عنه في تلك الفترة أحد المعتقلين، وقد انتشر المرض في السجن بكثافة وحصلت وفيات لأن الإجراءات الوقائية كانت دون المستوى بكثير، ولكن لم يتم إصدار أي تقرير عن وفيات بسبب كورونا. تم إعطاؤنا اللقاح بعد سنة تقريباً من تفشي الوباء بمبادرة من الصليب الأحمر أيضاً. كان اللقاح من نوع أسترازانيكا، وكان اختيارياً لمن يرغب فقط.
كان المعتقل المسؤول عن قسم الطبابة كثير الحذر، ويقوم بتوعية المعتقلين الآخرين حول أفضل الطرق لحماية أنفسهم ويقدم لهم المساعدة اللازمة في حال الإصابة بالفايروس. أما العزل فقد كان مضحكاً مبكياً. في حال تعرّض أحد السجناء للفيروس كان يتم عزله في غرفة أشبه بالغرفة الانفرادية: «غرفة باردة ما فيها شي بس تخوت حديد».
«ببساطة ما فيكِ تعزلي سجن للأسباب الأمنية، وما بتقدري تطبقي أسباب السلامة. بس في نقطة جيدة بكورونا استفادت منها الناس. صدر عفو عام خاص بالوباء، وتضمن هذا العفو قرار بإيقاف دوريات السَوق إلى شعب التجنيد العسكرية، فالناس الي طلعت بهديك الفترة نفدت من الجيش. وكان أول عفو بيشمل قسم من موقوفي المحكمة الميدانية والمحكومين مؤبد».
مؤخراً كان هناك عفو رئاسي خرج على خلفيته عدد من معتقلي الثورة. لماذا لم يشملك العفو؟ وهل فعلاً خرج كثيرون من السجون؟ ما رأيك بالعفو الرئاسي هذا وتوقيته؟
منذ العام 2011 أصدر بشار الأسد 6 أو 7 مراسيم عفو عامة، وفي كل مرة كان يتم الحديث عن خروج أعداد كبيرة من المعتقلين، ولكن الحقيقة هي أن نسبة من يتم تشميلهم بمراسيم العفو لم تتجاوز على مدى السنين السابقة 5٪ من المعتقلين.
في البداية كانت المحاكم المدنية والمحاكم العسكرية في الغالب هي التي تشرف على توقيف المعتقلين، والتي تشمل جرائم فضفاضة مثل إذاعة أنباء كاذبة والنيل من هيبة الدولة، وغيرها من الجرائم التي تعطيهم الصلاحية لاعتقال أي أحد تحتها، وهي كانت تشمل كل المعتقلين تقريباً. وبعد بدء ما يسمى بمحكمة الإرهاب، يوجد بعض من المعتقلين السياسيين ومعتقلي الثورة ممّن تمت إضافة جرائم أخرى إليهم، كالقيام بأعمال إرهابية، أو القيام بعمل إرهابي أفضى لموت انسان، أو المؤامرة للقيام بأعمال إرهابية. وكان العفو الذي يصدر يشمل عدداً من الجرائم غالباً، ويستثني القيام بأعمال إرهابية، ومع الوقت أصبحت جريمة القيام بأعمال ارهابية تُنسب لأغلب المعتقلين، والكثير من النشطاء السلميين لُفّقت لهم جرائم قتل أو جرائم مرتبطة بالإرهاب، وهذا ما يبرر عدم خروج معتقلي الثورة أو المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي.
بشكل عام لا أحد يستطيع تحديد الآلية القانونية التي يتم فيها إصدار العفو وتطبيقاته، فالنظام هو الذي يضع القوانين وهو الذي ينفذها، وهو من يحدد استثناءاتها، ولا شيء يخضع لمنطق قانوني واحد. في العفو الأخير هناك أنواع من التهم التي كنّا على علم أنه لا يمكن أن تكون مشمولة بالعفو وخرج أصحابها، وهناك معتقلون مشمولون قانونياً بالعفو ولم يتم الإفراج عنهم. وأحياناً تكون الصياغة التي كتبت بها التهمة سبباً لحرمان المعتقلين من العفو. مثلاً، في العفو الأخير أدركنا الفرق بين صياغة «أفضت» والتي تدل على فعل الارتكاب، أي «ارتكاب عمل إرهابي أفضى لموت إنسان»، وبين «تُفضي» التي تعني ارتكاب عمل إرهابي لكن لم تكن نتيجته بالضرورة قتل شخص لكنه كان يمكن أن يؤدي إلى ذلك. هكذا يمكن أن تقف صياغة الاتهام هذه عائقاً أمام حرية المعتقل.
أما عن مشاعري عند صدور كل عفو لا يشملني. أنتِ كنتِ معتقلة وتعلمين تماماً هذه المشاعر، التي تخلق عندك أحاسيس مختلطة «بين فرحك للناس اللّي طلعت، وبين زعلك عَحالك أنو ليش أنا لاء». فأنا منذ تاريخ دخولي المعتقل إلى اليوم ودّعتُ كثيراً من المعتقلين الذين أصبحوا أصدقاء، دخلوا وتم الإفراج عنهم خلال سنوات اعتقالي، وأنا ما أزال هنا ولا شيء يمكنني فعله لأعرف ما المصير الذي ينتظرني. خاصة في العفو الأخير الذي شمل واحداً من أعزّ أصدقائي، الذي كان بمثابة أخ بالنسبة لي، وأكثر إنسان كان يخفف عني عبء المكان وقسوته. أنا طبعاً سعيدٌ جداً بخروجه، وهو لم يكن يمتلك أي بصيص أمل للخروج، لكني أشعر أيضاً بالوحدة، وضاق عليَّ المكان أكثر بعد خروجه.
أعتقد أن العفو الأخير لم يكن توقيته بريئاً، وكان عبارة عن بروباغاندا لتشتيت العالم عن الفضيحة الكبيرة، وللتغطية على وحشية وفظاعة الجريمة في مجزرة التضامن، وسحب الاهتمام الإعلامي بالمجزرة لصالح الاهتمام بالعفو ومتابعة خروج المعتقلين. وفعلاً هذا ما حدث، خاصة بعد انتشار فيديوهات أهالي المعتقلين في الطرقات بحثاً عن أبنائهم، والمشهد المؤلم والموجع لأوضاع المفرج عنهم من سجن صيدنايا.
نحن بالنسبة للنظام ورقة ضغط لا يبرزها فقط على طاولة التفاوض، بل نحن ورقة ضغط يستطيع أن يرمي فُتاتاً منها في وجه العالم إذا ما أراد أن يغطي على جرائم أخرى كما حدث في مجزرة التضامن.
ما الذي تريد قوله أخيراً؟
وأخيراً أنا… أنا ممتن فعلاً لعائلتي الذين حَولتُ حياتهم الهادئة إلى جحيم وعذاب، وبالرغم من ذلك دعموني منذ أول لحظة، و«لليوم عم يدعموني».
أنا ممتنّ للمُعتقَل اللّي عرَّفني وقرّبني من أشخاص حقيقيين، وعلى رأسهم ف-ك.
ولكنني «غير شاكر للتجارب اللّي صقلتني، غير مُمتنّ للأيام التي طحنت جوفي. لم أكن مهتماً بتعلّم الدروس من الحياة، كنت أريد أن أحيا فقط» كما يقول الراحل أحمد خالد توفيق.
موقع الجمهورية