مترجم: مشروع قديم دمره الاحتلال.. قصة قطار الحجاز الذي ربط بين الأردن والسعودية وسوريا
كاتب: Ben Hubbard and Asmaa al-Omar
فريق العمل
نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرًا أعدَّه كلٌ من بن هوبارد، مدير مكتب الصحيفة الأمريكية في العاصمة اللبنانية بيروت، وأسماء العمر، مراسلة الصحيفة في الشرق الأوسط، سلَّطا فيه الضوء على سكك حديد الحجاز العتيقة، التي كانت في السابق مشروعًا طموحًا لتوحيد منطقة الشرق الأوسط.
استهل المراسلان تقريرهما برسم صورة لمحطة القطار حاليًّا والموجودة في عمَّان. يصف المراسلان لحظة سماع دوي صافرات القطار التاريخي، الذي يتحرك على قضبان يعود عمرها إلى قرن من الزمان تقطع مدينة عمَّان الحديثة، إيذانًا بمغادرته للمحطة. حينها تهرع العائلات، حاملة أكياس الطعام وأكواب القهوة والمشروبات الغازية والشوايات والشيشة، مصطحبين معهم الأطفال يهرولون على سلالم حديدية للحاق بالقطار وركوب عرباته الخشبية.
«البُراق المغربي».. ماذا تعرف عن أسرع قطار في أفريقيا؟
ويصف المراسلان أجواء الاحتفال في العربة رقم تسعة، حيث كانت هناك مجموعة من النساء وعشرات الأطفال يُصفِّقون بينما كانوا يرددون مع أغنية تنطلق من مكبر صوت يعمل بالبطارية، ويلهو بعضهم بأضواء الليزر. وأطلق القطار صفارته من جديد وبدأ في التحرك، بينما كان المحتفلون من الركاب يضحكون بعدما تسبب تحرك القطار في اهتزازهم بشدة وانفجروا بالتصفيق وهم يشاهدون الناس خارج النوافذ. وبذلك، بدأت أحدث رحلة للقطار من العاصمة الأردنية عمَّان على آخر قضبان لسكة حديد الحجاز الأصلية؛ القطار الأشهر في الشرق الأوسط.
متى شُيدت؟ ومن شيَّدها؟ ولماذا؟
يُوضِّح التقرير أن العثمانيين شيَّدوا سكك حديد الحجاز في أوائل القرن العشرين، وفجَّرها لورنس العرب والمقاتلون العرب خلال الحرب العالمية الأولى (بحسب تصور صناع فيلم لورنس العرب) واستخدمت بوصفها خلفية للحياة البدائية في فيلم «عودة المومياء» وفي مقاطع فيديو موسيقية عربية عن العشاق المهجورين، كما أنها تعد من بقايا الحلم الغابر بوحدة المنطقة قبل الحروب وإقامة الحدود بين البلدان، وتسببت وسائل النقل الحديثة في أن تبدو خدماتها وقد عفا عليها الزمن.
وفي عام 1908، انتهى العثمانيون من المشروع، الذي كان يعد المفضَّل للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وامتدت خطوطه لأكثر من 800 ميل (1287.5 كيلومتر) عبر الجبال والصحراء في بلاد الشام والجزيرة العربية لنقل الحجاج من دمشق إلى المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية. ومن هناك، كان الناس يسافرون بوسائل أخرى إلى مكة لأداء مناسك الحج. وامتدت الخطوط الثانوية إلى حيفا (التي احتلتها إسرائيل فيما بعد) وبيروت على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ووضع العثمانيون خططًا لربط خطوط سكة حديد الحجاز بالعاصمة العثمانية، القسطنطينية، في الشمال وعلى طول الطريق إلى مكة في الجنوب، للربط بين مساحة شاسعة من الإمبراطورية العثمانية.
لكن بعد ست سنوات فحسب من وصول القطار إلى المدينة المنورة في 1 سبتمبر (أيلول) 1908، اندلعت الحرب العالمية الأولى، وأعقبها تفكك الإمبراطورية العثمانية وإقامة حدود جديدة. وخرج خط حيفا عن الخدمة في عام 1948 (العام الذي بدأ فيه طرد الفلسطينيين من أراضيهم واحتلال فلسطين فيما يعرف بالنكبة). وتوقف خط بيروت مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 التي استمرت 15 عامًا. وحاليًّا، لا تزال القضبان الضيقة موجودة، لكن الخط الرئيس للسكك الحديدية الذي يعبر ثلاث دول، سوريا والأردن والسعودية، لا يجد أي اهتمام من قادة هذه الدول الذين لا يكترثون كثيرًا بإحياء المشروع، وفقًا للصحيفة.
وفي الوقت الحاضر، تستقبل السعودية الحجاج المتجهين إلى مكة في محطة المطار الفاخرة وتنقلهم حول الأماكن المقدسة في قطار حديث فائق السرعة. وتوقفت حركة القطارات في سوريا بعد تحول الثورة السورية التي اندلعت عام 2011 إلى حرب أهلية. وبهذا لا يتبقى سوى الأردن، الذي يُقدم حاليًّا رحلات ترفيهية لمسافة 80.5 كيلومترات من عمَّان إلى محطة الجيزة في جنوبها والعودة، مع أخذ استراحة غداء لمدة أربع ساعات في منتصف الطريق.
رحلة من أجل النوستالجيا
يلفت التقرير إلى أن هذه الرحلة لا تذهب إلى أي مكان يحتاجه أي شخص، لكن الركاب يستقلون القطار للحصول على جرعة كبيرة من الحنين إلى الماضي. تقول إسلام داود، البالغة من العمر 36 عامًا، بينما كانت تحدق من النافذة: «أحب القطارات لأنها تذكرني بروايات أجاثا كريستي»، موضحةً أنها ركبت القطار لأول مرة عندما كانت طالبة، ولم يكن به تكييف للهواء وكانت العربات مغبَّرة، لكن الذكريات ما زالت باقية معها.
وأضافت إسلام «ما أحببته هو أن النافذة كانت مفتوحة ويمكنني أن أخرج رأسي». وينطلق القطار في الصباح من محطة عمان، التي يعود تاريخها إلى العقد الأول من القرن العشرين. وفي محطة القطار، كانت هناك عربتان أصليتان، ولكن جرى تجديدهما، كانت إحداهما العربة التي استقلها عبد الله الأول، الجد الأكبر لملك الأردن الحالي، إلى المدينة في عام 1921، عندما أصبح حاكم المنطقة.
وفي الجوار، كانت هناك سبع محركات بخارية عملاقة ذات عجلات حمراء. يقول نادر ملكاوي، مسؤول في السكك الحديدية ومنظم لرحلات القطار، إن: «جميعها ما زالت تعمل، لكنها تُستخدم في المناسبات الخاصة فحسب لأنهم يستغرقون ساعات لتشغيلها وهي ملوثة للبيئة بشدة». وأسفرت عمليات التجديد عن إضافة الكهرباء للإضاءة، بالإضافة إلى تركيب تكييف للهواء ومكبرات الصوت التي تشغل الموسيقى العربية الشعبية في العربات طوال الرحلة.
وتابع ملكاوي قائلًا: «هواة السكك الحديدية في الأردن لديهم خيار آخر: إذ توقف الخط الذي ينقل الفوسفات إلى العقبة عن العمل في عام 2018. لكن هذا الخط يمر عبر وادي رم الأردني الخلَّاب، حيث يمكن للسائحين القيام بجولات قصيرة عليه ومشاهدة مجموعة من السكان المحليين على ظهور الخيل وهم يرتدون الأزياء البدوية».
مشكلات على طريق الرحلة
أفاد التقرير بأن الرحلات من عمان أطول، وتبلغ تكلفة تذاكر القطار ما يساوي سبعة دولارات للركاب الذين يبلغون من العمر 12 عامًا فأكثر، أما الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ثلاثة أعوام فيركبون مجانًا. ويحتوي القطار على عربة للوجبات الخفيفة بالإضافة إلى عربة كبار الشخصيات والتي تتميز بمقاعدها الفخمة والستائر الحمراء المطرزة وتاج على الباب. تقول فداء أبو صفية، 38 عامًا: «الرحلة كانت مختلفة قبل ثلاثة عقود، إذ لم تكن هناك موسيقى، والمقاعد الخشبية كانت غير مريحة وكان الجو حارًّا، لكن القطار لا يزال يشعرك بجو سحري».
ومع مرور القطار إلى جنوب عمان، ظهر عديد من المستودعات الصناعية ومخلَّفات الخردة والمحلات الميكانيكية، إلى جانب مركز تسوق ضخم تصفه الصحيفة بأنه سيئ، كما تنتشر القمامة على طول القضبان. ووفقًا للمراسلين، تفتقر السكة الحديدية إلى حراس الأمن للسيطرة على حركة مروره على القضبان، ويفترض أن تؤدي الشرطة ذلك الدور. لكن ليس هناك علامة على ذلك، ومن ثم يتباطأ قائد القطار عند الاقتراب من التقاطعات ويعتمد على صفارته بينما كانت السيارات والدراجات النارية تتسابق حتى اللحظة الأخيرة لتعبر السكة الحديدية التي يسير عليها القطار. وهناك مشكلة أخرى، وفق التقرير، تتمثل في إلقاء الأطفال الحجارة على القطار لتحطيم نوافذه.
تجارب لا تُنسى
ينقل التقرير عن ملكاوي قوله إن: «عمال السكة الحديد حاولوا منع هؤلاء الأطفال من خلال تشتيت انتباههم بإلقاء الحلوى، لكن ذلك لم ينجح. لذلك التقطوا صورًا للأولاد وسلموها إلى الشرطة، التي استدعت آباءهم للتوقيع على تعهدات بأن أطفالهم لن يفعلوا ذلك بعد الآن، وينجح هذا الأسلوب في كثير من الأحيان». وعلى الرغم من ندرة المناظر الخلابة، لم يتردد الجندي حسام الخطيب، الذي علم بالرحلة عبر «فيسبوك» وأحضر زوجته وأبناءه الثلاثة، واستقلوا القطار لأول مرة. وقال الخطيب: «الأردن ليس لديه مواصلات عامة جيدة والمناظر لم تكن رائعة، لكنه شعر بأنه من المهم للأردنيين معرفة بلادهم. إننا فخورون بمعالم الأردن».
أما خارج عمان، فقد برزت المناظر الطبيعية، حيث حقول القمح الذهبية والصوبات الزراعية المليئة بالطماطم والباذنجان، وقطيع الأغنام والإبل والكلاب التي تنبح في ملاحقة القطار. وقبل وصول القطار إلى محطة الجيزة، حيث توقف الركاب لتناول وجبة الغداء، مر القطار بمطار عمَّان الدولي، الذي أقلعت منه الطائرات النفاثة في سماء المنطقة، ما يُعد تذكيرًا قويًّا بالتكنولوجيات التي حولت القطار من وسيلة نقل متطورة إلى أثر تاريخي.
ويضيف التقرير أنه بينما كان العمال في المحطة ينقلون المحركات من أحد طرفي القطار إلى الطرف الآخر استعدادًا لرحلة العودة، استظلت العائلات بأشجار السرو والأوكالبتوس وأشعلوا مشاوي الفحم والشيشة بينما كان أطفالهم يركضون حول ملعب رملي ويتسلقون عربات النقل المهجورة.
وفي وقت لاحق، أطلق القطار صفارته معلنًا بدء رحلة العودة، والتي كانت أهدأ، مع شروق الشمس وصرير العربات وطقطقة القطار المستمرة، مما أدَّى إلى منح كثير من الأطفال وبعض البالغين شعورًا بالطمأنينة والخلود إلى النوم. إلا أن هبة الشيشان رفضت تفويت أي لحظة من الرحلة، وظلت محافِظة على ابتسامتها بينما كانت تلتقط صورًا للمناظر الطبيعية، وتتذكر أيضًا رحلة الطفولة. وفي تلك الرحلة، اضطُر القطار إلى التوقف لأن البدو قد ربطوا الأغنام على القضبان وكان عليهم تحريكها قبل أن يكملوا رحلتهم. تقول هبة «هذه تجربة لن أنساها أبدًا».