الوقائع الناطقة: كيف تربينا المنظمات «غير الحكومية»/ محمد سامي الكيال
قامت الناشطة السويدية غريتا تونبرغ، مؤخراً، بنشر وثيقة توجيهية، موجهة للفلاحين المحتجين على قوانين الإصلاحات الزراعية في الهند، تتضمن إرشادات حول «أدوات احتجاجية»، سبق أن استخدمتها مظاهرات «جمعة من أجل المستقبل» البيئية، قد تكون مفيدة لنجاح الحراك الهندي. وعلى الرغم من أنه لا يمكن التشكيك كثيراً بأحقية دعم احتجاجات شعبية ضد حكومة يمينية متطرفة، معروفة بميلها العنصري، إلا أن تصرّف تونبرغ يطرح بعض الأسئلة الإشكالية، منها: ما الذي تعرفه مراهقة سويدية مترفة عن ظروف الفلاحين الهنود، وتعقيدات السياسة الهندية، كي تلعب هذا الدور التوعوي والإرشادي؟
تبدو مفردة «التوعية» هنا المفتاح الأساسي لفهم عمل أسلوب عمل المنظمات «غير الحكومية»، التي تُنتج وجوهاً مثل تونبرغ، وكثير منها للمفارقة، مموّل حكومياً: توجد مجموعة من الحقائق والأخلاقيات والقيم، وأساليب التصرف، صحيحة بحد ذاتها، ويتمّ نشرها بشكل تربوي، أي توعية البشر بها، وليس طرحها لهم بغرض الجدل، وإبداء وجهات النظر. ورغم أن تونبرغ تراجعت عن توعيتها للفلاحين الهنود، وحذفت الوثيقة التوجيهية، التي نشرتها على وسائل التواصل الاجتماعي، عقب تعرّضها لانتقادات حادة من خصومها، فإن فعلها ليس فريداً من نوعه، بل هو منهج سائد بين الناشطين، الذين يشبهونها، في كل المجالات، سواءً البيئية أو السياسية أو الاجتماعية، في عصر أصبحت فيه المنظمات غير الحكومية أجهزةً أيديولوجية أساسية، تعمل على صعيد عالمي.
يختلف فعل تونبرغ كثيراً عن التضامن الأممي مثلاً، بأشكاله الكلاسيكية، فقد عُرف أنصار حركات التحرر القديمة بخلافاتهم، والتنويعات الأيديولوجية الكثيرة، التي ابتكروها، وجدلهم الطويل، سواء حول المبادئ العامة أو التفاصيل الدقيقة، لدرجة أن الأمميات الثورية فشلت في الحفاظ على وحدتها التنظيمية والفكرية، مع بروز كثير من التيارات المعارضة والمتمرّدة فيها. عدا عن أن الجهات الأيديولوجية، التي كانت تنشر «أدلّة نضالية»، وجهتها غالباً لمحازبيها، الذين التزموا بسياساتها نتيجة قرار واعٍ، ولم ترحّب كثيراً باطلاع الجميع عليها. اليوم تبدو الأيديولوجيا الصوابية، التي يتم تعميمها عالمياً، أقل تنوّعاً بشدة، وغير قابلة لكثير من الاختلاف والجدل، وهذا أمر متوقّع، إذا أخذنا بعين الاعتبار إنكار القائمين عليها للطابع الأيديولوجي لعملهم، فهم يستمدون مبادئهم من الحقيقة والأخلاق بحد ذاتهما، على ما يبدو، وبالتالي فإن على البشر أن يتعلّموا منهم الحقيقة والخُلُق، وأن يُزجروا، ويُنبذوا إلى هوامش التيار الأساسي، حيث لا يوجد إلا الجهلة والشعبويون، إذا قصّروا في تلقيهما وتكرارهما. فما أثر هذا الميل التوعوي على الثقافة والسياسة المعاصرتين؟ وهل يمكن لوقائع ومبادئ معينة، مهما كانت صحيحة وأخلاقية، أن تبني توجهات سياسية واجتماعية لا بديل عنها؟
تربية كنسيّة
يمكن الحديث عن تناقض أساسي في أيديولوجيا المنظمات غير الحكومية، وهو الخلط بين الحقوق الكلية والنسبية الثقافية: لا يمكن، من منظور حقوق كلية وكونية متساوية لكل البشر، الطعن بأحقية الناس في نيل اعتراف قانوني ومؤسساتي وسياسي متساوٍ، أياً كانت أعراقهم وثقافاتهم وأجناسهم ومعتقداتهم، وبالتالي فإن كل من ينكر حقوق الآخرين يرتكب، بالتأكيد، انتهاكاً، يمكن أن يُحاسب عليه. ويصبح من الممكن والمشروع تعليم وتوعية كل أعضاء المتحد السياسي، المبني على الحقوق الكلية المتساوية، بالتزاماتهم الحقوقية، بوصفهم مواطنين. يفترض كل هذا وجود لغة عقلانية عامة، يمكن للبشر/المواطنين التواصل بها، محيّدة عن أي خصوصية، تمنع فئات معينة من تفهّم خطاب ومطالب بقية فئات المجتمع، وهذا من المبادئ الأساسية للنزعة الجمهورية، الأكثر أمانة، من الناحية النظرية، لمبدأ المساواة الحقوقية، ما يجعل من المدرسة، بوظيفتها التربوية المنظّمة والعامة والإلزامية، النموذج الأساسي للأجهزة الأيديولوجية، في الدولة الحداثية الكلاسيكية.
إلا أن أيديولوجيا التظلّم والهوية، السائدة في المنظمات غير الحكومية، أخلّت بعنصرين أساسيين من عناصر الحقوق الكلّية: الأول هو اللغة العقلانية المشتركة، إذا يملك كل فرد، نظراً لخصوصياته الهوياتية، تجارب غير قابلة للترجمة، ولا يحق للآخرين مناقشتها أو التشكيك فيها، نظراً لاختلاف مواقعهم في هرمية الضحايا، التي تفترضها أيديولوجيا التظلّم. وهذا أمر غير مسبوق، حتى في الأيديولوجيات، التي ركّزت بشدة على الانقسامات الاجتماعية والطبقية، في ما مضى، فالحركات العمالية مثلاً تحدثت بخطاب كوني عقلاني، كان يمكن للجميع فهمه ونقاشه، والاقتناع به أو رفضه، وباستطاعة أي فرد نظرياً، من أي طبقة كانت، القيام «بانسلاخ طبقي»، والانضمام إلى نضال الطبقة العاملة. في أيديولوجيا التظلم تُسجن التجربة الاجتماعية في إطار الهوية، فلا يمكن للأبيض أن يناقش تجربة الأسود، أو للذكر أن يفهم معاناة الأنثى.
العنصر الثاني الذي ينكره التظلّم هو إلغاء الامتيازات الحقوقية الخاصة، فكثير من الفئات تطالب بنمط من «التمييز الإيجابي»، نظراً لأوضاعها أو معاناتها التاريخية الخاصة، وعلى أساس أن المساواة بحد ذاتها لا تحقق العدالة. وعلى الرغم من أن فكرة التمييز الإيجابي لها أساس نظري قوي لدى كثير من المفكرين الليبراليين المعاصرين، إلا أن نشاط حركات التظلّم يميل إلى تأسيس مجموعات امتياز ثابتة، وجعل الخصوصية الهوياتية أساساً لهرمية اجتماعية جديدة، لا يمكن مناقشتها، أكثر من سعيه لجعل التمييز الإيجابي منطلقاً لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص.
وبما أن الامتيازات والتجارب الاجتماعية أصبحت قائمة على حساسيات وانطباعات ذاتية، غير قابلة للترجمة، فليس بالإمكان تبريرها للعموم، إلا من خلال ربطها بأخلاقيات وحقائق لا يمكن جدالها، تحت طائلة الاتهام بنوع ما من أنواع التمييز، وبهذا يصبح الأسلوب التربوي للمنظمات غير الحكومية أقرب لأسلوب الكنائس منه إلى أساليب المدارس العلمانية: خصوصيات ووقائع لا يمكن النفاذ إليها، أقرب للأسرار الكنسية، وتعاليم يتم تلقينها بأسلوب وعظي، مع رمي من يعارضها بالهرطقة، وعقابه بنبذ اجتماعي ومؤسساتي، يشبه إجراءات الحرمان الكنسي. من المثير للاهتمام حقاً ميل عدد من أنصار أيديولوجيا التظلّم، المنتمين لهويات تُعتبر ذات امتياز، مثل البيض والذكور والغربيين والفئات الوسطى، للاعتراف بخطايا هوياتهم التاريخية، أملاً بنيل الغفران والخلاص، وهذه ممارسة كنسية بامتياز، لا ينقصها إلا سرية وتستّر الاعتراف الكنسي التقليدي.
يتكلّم به الرجال
لا يقتصر أسلوب التربية الكنسية للمنظمات غير الحكومية المعاصرة على أخلاقيات مكافحة التمييز و»العدالة الاجتماعية» (بالمعنى الأمريكي للمصطلح)، بل يتعداه إلى التعامل مع الوقائع العينية، بوصفها حقائق مكتملة بذاتها، تنتج عنها سياسات وقرارات اجتماعية لا بديل عنها، ولا يرفضها إلا جاهل أو شعبوي، نجد هذا في مجالات عدة، مثل البيئة والصحة؛ وفي مناسبات سياسية عامة مثل الانتخابات الأمريكية، والاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لا يحتاج نقد مفهوم الحقيقة هذا للاستشهاد بالفلسفات الحديثة، التي قد يعتبرها البعض عدمية أو «بعد حداثية»، فالانتباه إلى دور سياقات المعنى والدلالة، وأهمية الرأي والتأويل والمصلحة في صياغة الحقيقة، قديم للغاية، وما تذكره الرواية الإسلامية، حول حادثة تحكيم المصاحف في موقعة صفين، مثال ممتاز عن هذا: رفض الإمام علي بن أبي طالب مبدأ تحكيم النص القرآني، وهو الحقيقة الكونية المطلقة لدى المسلمين، في الخلاف السياسي، بالقول: «القرآن إنما هو خطٌ مسطورٌ بين دفتين، لا ينطق، وإنما يتكلّم به الرجال». وبغض النظر عن مدى تاريخية المأثور الإسلامي، فإن نسب هذه العبارة لشخصية إسلامية مركزية، مقدّسة لدى معظم الطوائف، يدلّ على الوعي بأنه حتى في حال وجود حقائق مطلقة وثابتة، فإنها لن تنطق بذاتها لتحدد سلوك البشر في القضايا العامة، بل ستمرّ حتماً بعمليات تأويل، وإعادة إنتاج للسياق والمعنى، تقوم به كل فئة حسب موقعها ومصلحتها. يبدو أن أيديولوجيا المنظمات غير الحكومية تملك مصاحفها الخاصة، القادرة على النطق.
تحييد السياسة
ربما يمكن تفسير ميل ناشطي المنظمات غير الحكومية لنطق الأحكام المطلقة بتنصّلهم من دورهم السياسي، فهم يرون أنفسهم أفراداً غير مؤدلجين، يقومون بدور حقوقي أو اجتماعي، على أساس وقائع محايدة، وبالتالي لا غايات لهم أو هوى سوى إعلاء حقٍ وخُلُقٍ، لا خيار للبشر إلا تبنيه.
إلا أن المنظمات غير الحكومية تلعب الدور السياسي الأساسي في عصرنا، وتتدخل، بناءً على أيديولوجيا موحّدة، في جميع المجالات، من أساليب «النضال اللاعنفي» و»العدالة الانتقالية»، مروراً بالمسائل البيئية والاقتصادية، وصولاً إلى قضايا مرتبطة بشدة بالحيز الخاص، وأخلاقيات السلوك الفردي، مثل النسوية والسياسات الغذائية. بقاء هذه المنظمات بعيداً عن الرقابة السياسية، التي تتم عادةً، في المجتمعات الديمقراطية، عبر الانتخابات والجدل في الحيز العام؛ ومساهمتهما بتحديد عناصر أساسية في الثقافة السائدة والحياة اليومية، بدون وجود آلية عامة، لمحاسبة تدخلاتها وعملها في هذه المجالات، يعتبران من أشد التهديدات لأي ممارسة ديمقراطية أو مشروع تغيير سياسي، بغض النظر عن صحة وعدالة القضايا التي تدافع عنها.
باحث سوري يقيم في المانيا
القدس العربي