نحن في مقابل الأغيار/ شكري الريان
في الفترة التي سيطر فيها الإخوان المسلمون على المشهد السياسي في مصر، بُعيدَ ثورة 25 يناير، بدأت تطفو على السطح وجهات نظر محتجة على محاولة «أخونة» المجتمع المصري. الردّ لم يتأخر من جهة القاعدة الإخوانية، ويمكن تلخيصه في مجمله كالتالي: من لم يعجبه أن المجتمع المصري مجتمع مسلم، عليه التفكير بالهجرة. الردُّ الذي لم يراعِ أن أصوات الاحتجاج على مشروع «الأخونة» في معظمها جاءت من قبل فئات لعبت دوراً محورياً في ثورة يناير، تلك الثورة التي كان من الواضح أن الإخوان يريدون نِسبتها إلى أنفسهم، أو الاستغناء عنها كلياً إن لزم الأمر. المقصود كان الاستغناء عن المشروعية التي تستند إلى تلك الثورة، بعد أن تسببت بالإطاحة بنظام مبارك (الأمر الذي كان يبدو مستحيلاً قبيل اندلاع الثورة هذه بيوم واحد)، وإقامة مشروعية جديدة تستند إلى كون من أطاح بمبارك ونظامه هو الدور الإسلامي في تلك الثورة، التي يُمكن أن تُعاد مرة أخرى، ولكن بوجه إسلامي كامل كما ذهب واحد من أبرز قيادات الإخوان في ذلك الوقت.1
كان الإخوان، جمهوراً وقيادات، يستندون في كلامهم هذا إلى «مُسلَّمةٍ» غير قابلة للنقاش: «إسلاميةُ» المجتمع المصري. تلك «المُسلَّمة» التي بدت واضحة تماماً في كلام آخر يستند إلى «هوية» أخرى، وإن كان بالمضمون نفسه، قيلَ من قبل جهة أخرى في دولة مجاورة تماماً لمصر. إنه نفسه كلام بن غفير في مواجهة عرب إسرائيل: «من لم يعجبه أن دولتنا دولة يهودية، عليه الرحيل إلى دولة أخرى». بل إن مشروع «الترانسفير» لعرب إسرائيل كان واحداً من الركائز الأساسية للبرنامج الانتخابي لليمين المتطرف الإسرائيلي، اليمين «الكاهاني» كما تصفه الصحف الإسرائيلية.
ومع الإدراك الكامل لما يمكن أن تُثيره هذه المقارنة من استياء شديد في أوساط جمهور الإسلاميين (وهم نسبةٌ وازنةٌ من الجمهور العربي العام)، وذلك لِما فيها من اتّهام بالتوجه اليميني الفاشي لدى عموم التيارات الإسلامية في المنطقة،2 فإن ذلك الاستياء يصبح مضاعفاً عند مقارنة تلك التيارات بيمين فاشي يهودي، ولأسباب معروفة؛ إلا أن تلك المقارنة تفرض نفسها بقوة طالما أن «المُسلَّمة» التي حكمت كلا المنطقين، اللذين صدر عنهما ذلك الكلام، واضحةٌ تماماً عند كلا التوجهين، وعند كل توجه يميني فاشي في أي مكان، أو زمان، في العالم أجمع. إنها مُسلَّمةُ «نحن في مقابل الأغيار».
ولأن مُسلَّمةً كهذه تلعب دوراً مركزياً في طريقة تفكير التيارات الإسلامية في منطقتنا، يصح السؤال إن كان وجود التيارات الإسلامية ضمن الاتجاه العام المؤيد لحركة الربيع العربي كافياً لاعتبارها بالتالي جزءاً من حركة الدفاع عن الديمقراطية، في منطقتنا والعالم كله. وهل من المنطقي لمن يعتبر نفسه منافحاً عن الديمقراطية أن يقبل بالتحالف مع هذه التيارات، متسلّحاً بالعدة نفسها التي يستخدمها في مواجهة محتكري السلطة في منطقتنا، كاستخدام عبارات من مثل «إقصاء» أو «ثقافة الإلغاء» أو حتى «التحريض على حرب أهلية»، لمواجهة أي محاولة لمَوضَعة «الإسلام السياسي» بعمومه في موضعه الطبيعي ضمن حركة الأفكار والاتجاهات وصراع التيارات والمصالح في منطقتنا والعالم كله على حد سواء.
تحاول هذه السطور مَوضَعة التيارات الإسلامية في منطقتنا ضمن ما تراه سياقَها الطبيعي، أي التيارات الفاشية الصاعدة في العالم كله لأسباب مختلفة تلتقي عند ملمح رئيسي، كما سوف نرى لاحقاً. وهي تُحاول القيام بهذا في مواجهة محاولات التخويف المُتَّبعة من قبل المنافحين عن هذه التيارات، والرافضين لفكرة كونها فاشية في الفكر والسلوك على حد سواء. تحاول ذلك عبر إضاءة أولية على التصور المركزي الذي تستند إليه تلك التيارات، المشابه تماماً لتصور باقي التيارات الفاشية في العالم.
«نحن» في تلك «المُسلَّمة» أمرٌ معرفٌ بشكل قاطع وغير قابل للنقاش. إنها «الهوية» التي أجمعت الأمة عليها، وما على المعترضين إلا الزوال، هجرةً أو ترانسفيراً، أو حتى تغييباً قسرياً (كما حصل مع مختطفي دوما الأربعة)، لا فرق. وفي مواجهة «يقينٍ» كهذا، يصبح أمر تداول الآراء على الأقل، أو حرية التعبير المتاحة للجميع، على ما يُفترَضُ أنه كان المطلب الأساسي للملايين الذين خرجوا في انتفاضات الربيع العربي، يصبح أمراً غير ممكن. إذ كيف يمكن أن تُطرَحَ أسئلة في مواجهة «يقين» مُطلَق يحدد لك ما يجب أن تكون عليه لتصبح جزءاً من هذه الـ «نحن»، وبغير هذا أنت خارج هذه المجموعة ومُطالَبٌ بالاختفاء في أسرع فرصة؟
العادة أن المحتجين على هيمنة هذا «اليقين»، أو أي يقين آخر، يلجؤون إلى الاستشهاد بتجارب مجتمعية مزدهرة بُنيت على الخروج الكامل من أي نوع من أنواع «اليقينيات»، وعلى الاستناد إلى عقد اجتماعي قائم أساساً على حرية جميع الأفراد في اختيار ما يشاؤون لأنفسهم، وبطريقة سلمية عبر صندوق اقتراع يعطي للأغلبية فرصة الحكم، مع حماية كاملة لحقوق الأقلية في التعبير الكامل عن آرائها دون أي محاولة للمنع أو القمع أو التغييب. المشكلة أن المرء أينما أدار وجهه الآن، وفي جميع أنحاء العالم، وليس في منطقتنا بسكانها عرباً وإسرائيليين وأتراكاً وكُرداً وإيرانيين، يجد صعوداً مربكاً لتيارات «اليقين الهوياتي» وعبر صناديق الاقتراع نفسها!
لا يمكن فهم انتشار هذه الظاهرة على مستوى العالم كله، وليس في العالم الإسلامي فحسب، دون إحالتها إلى حالة عدم اليقين، وعدم الإحساس بالأمان، التي بدأت تجتاح العالم كله نتيجة لأسباب عديدة، تختلف حسب ظروف كل منطقة، ولكنها في النهاية تؤدي إلى الوضع نفسه: حالة من الهشاشة المعممة تعطي فرصة أكبر للاتجاهات الشعبوية الفاشية في الصعود.
يمكن أن نقول الكثير حول المآل الذي وصل إليه العالم كله تقريباً بسبب حالة عدم اليقين وانعدام الإحساس بالأمان، حتى في دول ما زالت حتى اللحظة تعتبر «دولَ رفاه». وبالنسبة لمن خَبِرَ هذه الحالة، بنفسه وفي محيطه المباشر وعبر عقود من العيش في ظل أنظمة القهر والإفقار المفترسة في المنطقة العربية، فإن حالة كهذه تنذر بشُؤم وانهيار سريعين. إن أموراً مثل نتائج الانتخابات الإيطالية والإسرائيلية، والترقب المقبض لعودة جُمهوريي ترامب للسيطرة على المؤسسات التشريعية في أميركا (أو الفوز بالرئاسة بعد عامين بـ ترامب أو بدونه، حتى بعد «الفشل» في الانتخابات النصفية الأخيرة)، أمورٌ كفيلةٌ بإثارة حالة من الذعر في العالم كله، على الأقل بالنسبة لمن تبقى من أنصار «الديمقراطية» في هذا العالم.
هؤلاء للأسف ينحون إلى أن يصبحوا أقلية قد لا تجد حتى «قانوناً» يحميها من تغول «أكثرية» قادمة تهتف بقوة لـ…، لا أحد يعرف لمن ومن أجل ماذا! لا يغيب عن البال منظر ذلك المُقتَحِم لمبنى «الكابيتول هِل» في 6 يناير 2021، مرتدياً قبعة «الماغا»3 الحمراء، الذي اقتحم البهو من أوله إلى آخره وهو يهتف بأعلى صوته «يو إس إيه»، دون أن يدري أحد ما الذي يريده بالضبط، أو ما الذي يدافع عنه على الأقل من خلال هتافه هذا. إذ كيف يمكن لمختلف في وجهة النظر، أياً كانت، مع هذا «المُقتَحِم»، أو مع بن غفير أو مع الداعين إلى أخونة مصر والمطالبين بهجرة غير الراضين عن المشروع، أن يضمن حتى سلامته الشخصية في ظل هكذا «اقتحام»؟!
ومع ذلك، وحتى لا يتم وَصمُ أولئك المختلفين، حتى من خلال «اقتحامهم»، بالوحشية، وهو أمر بدوره سيصل بدعاة الديمقراطية إلى تبني «مُسلَّمَة» نحن في مقابل الأغيار، فإن الأسباب واضحة تماماً للجميع. في النهاية، هنالك خوفٌ إذا سيطرَ على البشر فإنه سيحولهم إلى شيء آخر، قد يكون بعيداً جداً عمّا يرغبون به فعلاً. بغير تحديد السبب، لا يمكننا فعلاً أن نفهم كيف يمكن أن نخرج من المأزق الذي نحن فيه. الحق أن الأمر يتجاوز المأزق بكثير، نحن نتجه إلى كارثة فعلية إن سيطرت الاتجاهات اليمينية الفاشية على العالم كله، وبالأخص على الدول الأكثر ديمقراطية وانفتاحاً من غيرها.
يمكن ومن خلال إضاءة سريعة على مختلف الأسباب، التي أدت إلى هذا الصعود في مُختلَف مناطق العالم، أن نجد أنفسنا قد وصلنا إلى النتيجة نفسها: حالة الهلع المنتشرة عند الجميع بسبب الإحساس بعدم الأمان. السياسات النيوليبرالية في الولايات المتحدة تركت الجميع عرضة للسوق وقوانينه دون أي شبكة أمان، وبالتالي فإن احتمال أن يُترَكوا على قارعة الطريق يبقى قائماً دائماً. المشكلة لا تتعلق فقط بالعاملين في الصناعات التقليدية، الذين فقدوا أعمالهم بسبب منافسة اقتصادات أخرى صاعدة بعمالة أرخص بكثير. مُدُنُ حزام الصدأ «Rust Belt Cities» لعبت دوراً محورياً في فوز ترامب بالرئاسة 2016، ولكن يبدو أن هذا «الصدأ» قد بدأ يمتد إلى القطاع الأكثر تطوراً في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وهو الذي يوظف أعلى الخبرات والكفاءات في أحدث مجالات التكنولوجيا. استيلاء إيلون ماسك على تويتر ترك أكثر من نصف العاملين في هذه الشركة، وهم نخبة النخبة، على قارعة الطريق، مع بقاء النصف الآخر تحت تهديد الفصل لأسباب مختلفة.
في دول «الرفاه» الأوروبي، فإن أحد أبرز الأسباب في التصويت لليمين المتطرف كان التخويف من موجة اللاجئين التي تجتاح القارة. وبالرغم من أن موضوع «الهوية المسيحية» للمجتمعات الأوروبية لعبَ دوراً مهماً في الترويج لعملية التخويف هذه، إلا أن الخوف الحقيقي يتعلّق بالدرجة الأولى بخسارة المكاسب التي تؤمنها دولة الرفاه في أوروبا عبر إرهاقها بمصاريف ملايين اللاجئين فيما لو فُتِحَت الأبواب على مصراعيها. هذا الجانب، وهو بدوره خاضعٌ لمخاوف مُضخَّمة وغير مُبرَّرة أكثر ممّا هو مبنيٌ على معرفة دقيقة، لعبَ دوراً محورياً في الدفع باتجاه التصويت لمن سيمنع موجات أخرى من اللاجئين والمهاجرين. وهو بدوره نتاج حالة عدم اليقين والخوف المزمنين في ظل سياسات «نيوليبرالية»، لا تعطي أي تطمينات بشأن مصائر البشر في ظل الحرية القصوى للسوق وقوانينه.
أما في إسرائيل، فإن دوافع تصويت الرأي العام هناك لليمين «الكاهاني» ترجعُ أيضاً إلى عدم اليقين، ولكن في ظل إحساس دائم بتهديد وجودي لدولة لم تستطع أن تكون دولة «طبيعية» في محيطها المباشر حتى الآن. وهذا مَردُّهُ إلى أنه لم يَجرِ نقاشٌ جديٌ في إسرائيل حول معيقات الوصول بدولتهم إلى أن تصبح دولة «طبيعية» في محيطها، ولا توجد قوى سياسية وازنة على الأرض في إسرائيل معنية بالوصول بهذا النقاش إلى منتهاه، أو حتى فتحه من أساسه. ذلك أن نقاشاً كهذا صعبٌ جداً دون تناول واضح وجريء لتاريخ كامل من العنصرية والإقصاء تجاه عرب إسرائيل، والضفة والقطاع، قبل وبعد أوسلو، مع رفض كامل لقيام دولة فلسطينية «طبيعية» فيما تبقى من فلسطين. ناهيكَ عن وحشية الاستيطان وممارساته (شيء يشبه الأبد الأسدي في تَبلُّده وإباديته) وتغاضي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عن المشكلة الاستيطانية، بل ومحاولة توظيفها ضمن الصراع السياسي الداخلي. كل هذه العوامل كانت محورية جداً في تَشكُّل الهوية الإسرائيلية الجمعية. وبالتالي فإن تجاوز طرح هذه الأسئلة بشكل جدي وعلى مستوى جماعي سيؤدي بدوره إلى وصول اليمين الفاشي، أو «الهامشيون» كما كانت الصحافة اليسارية الإسرائيلية تصفهم، إلى متن المشهد السياسي هناك.4
يمكن القول إن الفاشية، والاتجاهات الظلامية الانعزالية في عمومها، تتطلب حالة مأزومة، لأي سبب كان، كي تَظهر وتبدأ ببث سمومها واعدةً برفع جدران الحماية ضد «الخطر» الذي يتهدد «الجماهير». وفعلياً، هي لا تفعل شيئاً أكثر من إعادة الجميع إلى «الحظيرة» حيث يمكن التحكم بهم أكثر. بالنسبة لمنطقتنا التي، وللأسف، لم تَخبَرَ الحياة يوماً خارج فَلَكِ الفاشية المزمنة، إسلامية أو قومية عسكرية، فإن «نسائم» الربيع العربي وحده لم تكن كافية للتأكيد على نزوع ديمقراطي أصيل عند الملايين الذين خرجوا للمطالبة بأبسط حقوقهم للعيش كبشر. الحق أن الرغبة التي اجتاحت الجميع لحظة انطلاق ذلك الربيع كانت مختصرة بعيش كريم وحرية، وهو أمرٌ لاحظوا أن كثيراً من شعوب العالم تَخبَرُهُ دوناً عنهم، فهبّوا معتقدين أن من ذاق حلاوة الحرية والعيش الكريم لن يتردد في مد يد العون لنجدتهم بمجرد أن تُكشِّرَ الأنظمة المجرمة عن أنيابها. والأخيرة فعلت دون أي تردد. ما حصل هو أن يد العون هذه لم تمتد أبداً، أو إن حصل وامتدت قليلاً (فترددت هنا وأخفقت هناك)، أو لوحت باحتمال عونٍ ما، فإن الرأي العام في بلادها كان أول المعترضين بشدة وتحت ذرائع شتى!
كانت خيبةً هائلةً عمّقت من الإحساس بعدم الأمان الذي تعيشه الشعوب العربية، فوق بلواها بأنظمة لم تلبث أن انتصرت، مُحطِّمةً ما تبقى من بنيان في معظم الدول التي بدأت ذلك الربيع، أو التحقت به فيما بعد.
يُصبح، والحال هذا، أمرُ التفاف جموع كبيرة من الجمهور العربي حول الإسلام السياسي5 معروفَ الأسباب. وبالرغم من أن الخطاب «الإمبراطوري» ذا النزعة «الانتقامية»، الداعي إلى رفع المهانة عن «خير أمة أخرجت للناس»، لم يختلف كثيراً في معناه وتوجهه عن خطاب «إمبراطوري» سبقه، وكان الناس في معظمهم قد التفوا حوله، أيام نجومية «البكباشي»، وهو نفسه خطاب الفاشية العسكرية التي حكمت تحت الشعار «الانتقامي» نفسه وهُزِمَت شرّ هزيمة، ومع ذلك بقيت تُذيق الناس الويلات، حتى يومنا هذا؛ إلا أن العودة إلى «الجذور» بات مطلباً مُلحّاً عند الجموع، خصوصاً وأن «الأصيل»، من المنظور الإمبراطوري قد يكون قادراً على المضي في المشروع إلى نهايته. وهو فوق هذا كله يمنح يقيناً بشيء أعمق جذوراً في ثقافة المنطقة من إيديولوجيات قومية مستوردة، حتى ولو كان ضمن شروط صارمة لـ «هوية» محددة تأتي على الضد دائماً من «أغيار» مختلفين، سواء كانوا خارج أم داخل تلك المجتمعات.
هذه «الهوية» التي تريد الاتجاهات الإسلامية فرضها، ولو بالقوة، على مجمل مجتمعاتنا لأسباب معروفة، مُغلِقة أبواب «الحظيرة» على الجميع عنوة، في الوقت الذي يُصرّ فيه جزءٌ غير يسير ممن يحسبون أنفسهم على التيار الديمقراطي على عدم «إقصاء» تلك الاتجاهات من الطيف الديمقراطي العام في منطقتنا!
في مثل هذه الحالة يصبح أمر مقاومة نزوعٍ كهذا أمر حياة أو موت بالنسبة لمن بقي على قيد الإدراك بأننا في نهاية المطاف بشرٌ أحرار، ولسنا عبيداً لأي نوع من أنواع التسلط والاستعباد، سياسياً كان أو اقتصادياً، أو أيديولوجياً أو هوياتياً.
كيف يمكن لـ «الديمقراطيين»، في منطقتنا،6 أن يستمروا في الدفاع عن «مكتسبات ديمقراطية»، هي بدورها ثمرة تراث إنساني هائل وصل إلى ما وصل إليه من تسامح وانفتاح وتعددية بعد سلسلة طويلة من الويلات والحروب والدماء التي سالت على مذابح حروب الهويات بالذات، دون أن يُموضعوا أنفسهم ضمن إطار النضال العالمي للدفاع عن هذه الديمقراطية التي باتت مُهدَّدة في العالم كله أكثر من أي وقت مضى؟ أن تكون حليفاً للربيع العربي، أو واقفاً في صفه، ضد توحش النظام العربي، لا يكفي أبداً لتصبح ضمن هذا الطيف الديمقراطي. الأمر يتطلب خطوة أبعد إلى أمام. وعند التقدم للخوض في هذه الخطوة سيَطرح سؤالٌ مهمٌ نفسه علينا جميعاً: هل الإسلام السياسي جزءٌ من حالة الاعتراض «الديمقراطي» على أنظمة التوحش العربية وعلى صعود الفاشيات في العالم؟!
القبول بـ «الإسلام السياسي» في منطقتنا كجزء من منظومة الاعتراض الديمقراطي على أنظمة التوحش والفاشيات الصاعدة في جميع أنحاء العالم الآن، ليس «كيلاً بمكيالين» فقط، بل هو في أحد أعمق وجوهه، وأكثرها بشاعة للحق، قبولٌ ضمني بمنطق «النحن» مقابل الأغيار. «نحن» المختلفون و«خير أمة أخرجت للناس». وهذا أمر لا تستقيم معه أية دعوة لـ «ديمقراطية» منفتحة وتعددية وحامية لحقوق الجميع، بمن فيهم «الإسلاميون» الذين يقبلون بأن يكونوا ضمن هذا الطيف معترفين بأن أمم الأرض كلها هي «خير أُمم أخرجت للناس»…
1.صفوت حجازي خلال أحد اللقاءات مع الجزيرة في أحد برامج أحمد منصور.
2.تجنباً للتعميم، الحديث هنا عن «تيارات» لها خطابها السياسي، وحضورها الميداني، وجمهورها العريض. يوجد ضمن «الطيف» الإسلامي العام «توجهات» مغايرة لما هو معروف من ملامح الخطاب الإسلام السياسي العام، وهي تنحو إلى أن تكون أكثر ديمقراطية وتسامحاً مع الاختلاف، بل قبولاً به، ولكنها تبقى «توجهات» ذات طابع فردي لا يمكن اعتبارها «ممثلة» ولو بشكل جزئي للإسلام السياسي في صيغته العامة المعروفة للجميع.
3.الحركة الشعبوية اليمينية الداعمة لدونالد ترامب.
4.هذا دون الحديث عن الصعوبة التي يعانيها الرأي العام العربي بدوره في فهم ما يحدث داخل إسرائيل نفسها من خلال قراءة تاريخها بصفته تجربة بشرية أيضاً. هذا كان مستبعداً دائماً ضمن مجمل القراءات التي ركزت حتى الآن على كونها «الكيان الغاصب» فقط.
5.الإسلام السياسي بنسخته السنية طبعاً. الإسلام السياسي الشيعي هو إسلام دولتي وحليف قوي لأنظمة القتل والاستبداد. حتى في الصيغة السنية الوحيدة التي تمكنت من الحكم «حماس ستان»، حماس بدورها حليفة لنظام الاستبداد الأسدي وبشكل علني.
6.هذا طيفٌ واسعٌ جداً يتضمن: ملحدين، مؤمنين، مسلمين، عرباً، كرداً، مسيحيين…… لا توجد «هوية» واضحة لهكذا طيف سوى إيمان راسخ عند أفراده بأن حماية المكتسبات «الديمقراطية» في منطقتنا والعالم كله أمر واجب الدفاع عنه حتى النهاية.
موقع الجمهورية