المصطلحات السياسية في سوريا وتحديات بناء الدولة الجديدة/ حمدان العكله

2025.03.30
لطالما شكَّلت المصطلحات السياسية أدوات مركزية في صياغة الخطاب السياسي وتوجيه الإدراك الجمعي نحو مفاهيم الحكم والإدارة، إذ تمتلك هذه المصطلحات قوة مزدوجة؛ فهي قادرة إمَّا على تحفيز الحراك السياسي الواعي أو على تكريس الاستبداد تحت غطاء لغوي خادع.
وفي السياق السوري، تكتسب هذه الإشكالية بُعداً أكثر تعقيداً، نظراً لإرث طويل من الاستخدام الدعائي لهذه المفاهيم، حيث لم تكن الديمقراطية، والإصلاح، والشفافية سوى شعارات ترفعها السلطة بقدر ما تحتاجها لتثبيت شرعيتها. لقد أدَّى هذا الاستهلاك المتكرر إلى تفريغ المصطلحات من مضمونها، فتحوَّلت إلى أدوات جوفاء، منفصلة عن أيِّ تجربة ملموسة، مما ولَّد حالة من الشك العميق لدى المجتمع تجاه الخطاب السياسي برمَّته، وإنَّ إعادة الاعتبار لهذه المصطلحات يعني استعادتها، وتفكيك دلالاتها السابقة وإعادة بنائها بما يتناسب مع التجربة السياسية الجديدة.
تفريغ المصطلحات السياسية من مضمونها
على مدار العقود الماضية، شكَّلت المصطلحات السياسية في سوريا جزءاً من المشهد الخطابي الرسمي، حيث تكررت مفاهيم مثل “الديمقراطية”، “الحرية”، “الاشتراكية”، و”الوحدة الوطنية”، ليس بوصفها مبادئ موجِّهة للحياة السياسية، بل بوصفها أدوات لتجميل واقع سلطوي يتناقض معها في جوهره، لقد أفرغ الاستخدام الدعائي لهذه المفاهيم من مضمونها، فلم تكن “الديمقراطية” سوى غطاء لحكم فردي، ولم تكن “الحرية” سوى قيد بوجه آخر، ولم تكن “الوحدة الوطنية” إلا أداة لإخماد التعدد والتنوع السياسي، هذا التناقض المستمر ولَّد لدى السوريين وعياً مأزوماً تجاه الخطاب السياسي، قوامه الريبة والتوجس، حيث باتت هذه المفاهيم تُستقبَل بوصفها علامات تحذيرية على محاولات أخرى لتسويق الاستبداد في قوالب جديدة. وحين اندلعت الثورة السورية وانطلقت معها محاولات التغيير السياسي، وجد المجتمع نفسه أمام معضلة وجودية في التعامل مع هذه المصطلحات؛ فمن جهة، كان لا بدَّ من استعادتها وتفعيلها كضمانات أساسية لبناء الدولة الجديدة، لكن من جهة أخرى، كانت ذاكرة القمع والاستغلال السياسي حاضرة بقوة، ما جعل المطالبة بهذه المبادئ مشوبة بشكوك عميقة حول مصداقيتها وجدواها، فالخطاب الذي طالما استخدم هذه المفاهيم على أنَّها زخارف سياسية جعل من الصعب على السوريين تصديق أنَّ إعادة إحيائها قد يكون أكثر من مجرد إعادة إنتاج لأدوات التلاعب القديمة، فقد حوَّل النظام السابق الدستور إلى عقد اجتماعي مفرَّغ من الالتزام، وتحولت
مصطلحات مثل “التعددية السياسية”، “حقوق الإنسان”، “حرية التعبير” إلى قشرة لغوية تخفي بنية سلطوية لا تعترف إلا بمنطق الهيمنة والسيطرة.
التحديات التي تواجه بناء الدولة الجديدة
مع انطلاق مساعي إعادة بناء سوريا، تواجه النخب السياسية تحدياً جوهرياً لا يقتصر فقط على إعادة تأسيس مؤسسات الدولة، بل يمتد إلى إعادة تعريف العلاقة بين الخطاب السياسي والواقع المعيش، فالمعضلة لا تكمن فقط في الأوضاع الاقتصادية أو الأمنية، بل في أزمة الثقة العميقة التي ترسخت نتيجة للاستخدام الممنهج للمصطلحات السياسية كأدوات تزيينية لسلطة استبدادية، وفي هذا السياق، تبرز عدة إشكاليات رئيسة ينبغي التعامل معها بحساسية ودقة سياسية وفلسفية:
1. استعادة الثقة السياسية: لا يمكن لأيِّ خطاب سياسي أن يكون مؤثِّراً إذا لم يُترجم إلى سياسات ملموسة يشعر بها المواطن في حياته اليومية، فالثقة السياسية لا تُستعاد بالوعود، بل بالممارسات التي تثبت أنَّ الديمقراطية ليست مجرد شعار، وأنَّ الشفافية ليست مجرد مصطلح يُستدعى عند الحاجة، فالنخب السياسية الجديدة مطالبة بإحداث قطيعة مع الماضي من خلال بناء تجربة سياسية تجعل من التمثيل الشعبي والمساءلة جوهر الحكم، لا مجرد شعارات للاستهلاك الإعلامي.
2. إعادة تعريف المصطلحات السياسية: بمعنى تفكيك المفاهيم وإعادة بنائها؛ لأنَّ استعادة المصطلحات السياسية لا تعني مجرد إعادة استخدامها، بل تستلزم إعادة تعريفها وفق تجربة جديدة، بحيث تنبثق الديمقراطية من سياقاتها المحلية لا من نسخ مستوردة، وتتحول مفاهيم الحرية والعدالة إلى قيم ممارَسة يومياً بدلاً من أن تبقى كلمات مُعلَّقة في فضاء الخطاب الرسمي، فالمصطلحات السياسية ليست معطيات جاهزة، بل نتاج تراكم فكري وتجربة تاريخية، ومن دون إعادة صوغها بما يتناسب مع الواقع السوري الجديد، ستظل أسيرة إرثها المشوَّه.
3. تحقيق التوازن بين المطالب والمخاوف: بين المطالب الشعبية بإرساء الديمقراطية والحريات، والمخاوف المتولدة من تجارب القمع والتلاعب السياسي السابق، يقف المجتمع السوري أمام معادلة معقدة تتعلق بكيفية دفع عجلة التغيير من دون السقوط في وهم خطاب ديمقراطي جديد قد يُستخدم هو الآخر كأداة للهيمنة؟ هنا تبرز الحاجة إلى استراتيجيات تضمن أن يكون التغيير متجذِّراً في واقع ملموس، لا مجرد ردِّ فعل على الماضي، مع إدراك أنَّ بناء الثقة عملية تراكمية تتطلب الصبر والشفافية في آنٍ واحد.
4. الشفافية والمحاسبة: وهي آليات لتفكيك إرث التلاعب السياسي، فحتى لا تتكرر أخطاء الماضي، لا بدَّ من وضع آليات صارمة لمراقبة الخطاب السياسي، ليس فقط من خلال ضمان حرية التعبير، بل عبر إنشاء مؤسسات قادرة على محاسبة أيِّ جهة تحاول إعادة إنتاج التلاعب بالمصطلحات لأغراض سلطوية، فاللغة السياسية ليست مجرد أداة للتواصل، بل يمكن أن تتحول إلى آلية للهيمنة حين تُستخدم للفصل بين القول والفعل، وهو ما يجعل الشفافية والمساءلة عنصراً لا غنى عنه في إعادة بناء المعجم السياسي للدولة الجديدة.
5. إشراك المجتمع في صياغة المستقبل: لا يمكن لمشروع بناء الدولة أن ينجح إذا ظلَّ المجتمع مجرد متلقٍ للقرارات والنصوص السياسية، إنَّ إعادة صياغة المفاهيم السياسية يجب أن تكون عملية تشاركية، حيث يكون للمجتمع دور أساسي في تحديد معنى الديمقراطية وفق تجربته، وفي رسم ملامح الحرية بما يعكس حاجاته وتطلعاته، لا وفق قوالب جاهزة قد لا تلائم خصوصيته التاريخية والاجتماعية، فالشرعية السياسية لا تُمنح من فوق، بل تُبنى من خلال حوار حقيقي يجعل من الشعب شريكاً أصيلاً في وضع معايير الخطاب السياسي ومضامينه.
في الختام: لابدَّ من قطيعة حقيقية مع الإرث السياسي الملتبس، فعلى الرغم من عمق هذه التحديات، فإن الفرصة ما تزال سانحة لإعادة بناء المعجم السياسي السوري على أسس جديدة، حيث لا يكون الخطاب السياسي مجرد انعكاس لنوايا السلطة، بل تجسيداً لرؤية شعبية تتجاوز الإرث السابق من التلاعب والمراوغة اللغوية. إنَّ تجاوز الأزمة لا يتحقق بمجرد تغيير مفردات الخطاب، بل يستلزم إعادة تشكيل بنية المؤسسات بحيث تكون قادرة على ضمان أن المصطلحات المستخدمة تعبّر عن سياسات ملموسة لا عن شعارات جوفاء، فالتحول الديمقراطي الحقيقي لا يبدأ من الكلمات، بل من الأفعال التي تُثبت أن اللغة السياسية قد استعادت معناها، وأنها لم تعد أداة للخداع، بل جسراً نحو واقع أكثر صدقاً وعدالة.
تلفزيون سوريا