
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
—————————-
المخاض السوري وضرورة المعارضة/ علي العبدالله
16 ابريل 2025
أثار حديث قائد إدارة العمليات العسكرية في سورية، الرئيس الانتقالي لاحقاً، أحمد الشرع، في لقائه مع قادة فصائل عسكرية من محافظة السويداء يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن ضرورة تبني “عقلية الدولة” لا “عقلية المعارضة”، أسئلة وهواجس لدى القوى السياسية والمنظمّات المدنية بشأن مغزى الحديث وما يرمي إليه في السياق السوري الراهن، أهو حديث عن انتهاء دور المعارضة بعد إسقاط النظام البائد، وهو ما حصل في تجاهل السلطة الجديدة الأحزاب السياسية التي عارضت النظام البائد سنوات طويلة في مشاوراتها وقراراتها السياسية والإدارية وتوجهها إلى التعامل مع أفراد لا تجمعات سياسية منظمّة، كما تجلى ذلك بوضوح في دعوة مواطنين إلى المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني أفراداً، أم هو موقف من ظاهرة المعارضة بالمطلق، ما يعني منع تشكيل أحزاب معارضة في النظام المنوي إقامته، هاجس أثاره أكثر تجاهل البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني لقضية إصدار قانون تشكيل أحزاب سياسية، وهو ما يمكن اعتباره توجّها غير منطقي، وتجاهلا لطبيعة الدولة الحديثة، كون عقلية الدولة لا تلغي عقلية المعارضة بل تستدعيها؛ كون المعارضة من وسائل استقرار الوضع السياسي والاجتماعي عبر تقييد تصرفات سلطات الدولة، وخاصة سلطتيها التنفيذية والتشريعية، ولجم تغوّلها على المجتمع.
انتقلت الدولة، بمعناها الحديث، إلى سورية مع الاستعمار الفرنسي الذي بدأ بإنشاء بعض مؤسّسات الدولة وأجهزتها، غير أن عدم توفر شروط محلية لقيام دولة حديثة جعل هذه المؤسسات والإدارات هجينة وغير شعبية، وجعل الدولة التي نشأت بعد الاستقلال هشة، وبعد انقلاب “البعث” في ستينيات القرن الماضي أقرب إلى الدولة القديمة (دولة الملك/ الأسرة الحاكمة) منها إلى الدولة الحديثة (دولة الأمة/ الشعب)، حيث طابقت السياسة المعتمدة بين الرئيس والدولة ومنحته حق التصرف بمقدرات البلاد وتحديد خياراتها السياسية والاقتصادية عبر صياغة دستور يغطي تصرفاته ويشرعنها، وأسبغت عليه صفات كبيرة، القائد، المناضل، العظيم، سيد الوطن، الأب، من دون أن تنسى، لاعتبارات محلية، أن تحيطه بهالة دينية عبر عرض ممارسته الشعائر الدينية، وتصف أعماله بالبطولة والشجاعة وخرق المألوف واجتراح المعجزات… إلخ. وأحالت كل إنجازات الدولة الفعلية والمدّعاة إلى شخصه وصفاته وقدراته، وضعته موضع الدولة، ومنحته كل صلاحياتها؛ لذا أصبح فوق النقد، يجرّم من ينتقده وتسنّ القوانين الرادعة والأحكام القاسية بحق المنتقدين والمعارضين.
لجأ النظام البائد إلى الالتفاف على السلطة التشريعية بإيجاد عشرات المنظمات الشعبية، مثل: اتحاد العمال، اتحاد الفلاحين، اتحاد الطلاب، الاتحاد النسائي، الطلائع وشبيبة الثورة … إلخ، واستتبع النقابات المهنية لكي يزيد من تمثيل المجتمع الملتف حوله، لكنها، هذه المنظمات والنقابات، لم تساهم البتة في تمثيل المجتمع في مواجهة السلطة. كما التف على السلطة القضائية، بوضع دساتير وقوانين تتسق مع خياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحدّ، في الوقت نفسه، من حرية المواطنين في نقد هذه الخيارات ورفضها وتغييرها، كما لجأ إلى تحاشي القانون الدولي والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان والمواطن باستخدام سلطة القضاء لقمع الناقدين والمعارضين، والتذرّع بأن القضاء في أعرق الدول ديمقراطية يتجاوب مع مخاوف الرئيس/ الحكومة إزاء أمن البلاد، في محاولة مكشوفة لإطلاق يد السلطة التنفيذية في التصرف من دون ضوابط.
قاد إسقاط النظام البائد وتخلّص المواطنين من الكابوس الجاثم على صدورهم إلى مطالبة القوى السياسية والاجتماعية بشرعية دستورية وممارسة قانونية قائمة على تحديد واضح ومفصّل للحقوق والواجبات. وهذا يستدعي انتقال المؤسّسات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإدارية في الدولة من حالتها الراهنة، حالة أشباه المؤسسات، أو مؤسسات تابعة للسلطة التنفيذية، إلى بُنى حقيقية قائمة على لوائح وأنظمة داخلية تحكم حركتها، لكي تكون قادرة على القيام بوظائفها وتكريس تقاليد مؤسساتية تعمل في ظل شرعية قانونية، تساهم في تحويل الثقافة السياسية السائدة نحو تلك القاعدة الضرورية لأي شرعية، قاعدة الاقتناع الحر بصحة البنية الدستورية والقانونية للسلطة التنفيذية وصلاحها وانسجام الممارسة العملية معها.
لم تستجب قرارات السلطة الجديدة، السياسية والإدارية والأمنية، لتطلعات القوى السياسية والاجتماعية بل جاءت على الضد منها، حيث بدأت خطواتها السياسية والإدارية من اختيار رئيس للمرحلة الانتقالية وتفويضه بالقيام بمهام واسعة، ثم ذهبت إلى مناورات سياسية وإدارية لتمرير تصورها للنظام السياسي المنوي إقامته عبر خطوات تأسيسية بتشكيل لجنة تحضيرية لحوار وطني قامت بإجراء لقاءات شكلية مع مواطنين في عدد من المحافظات، عقدت بعدها جلسة علنية، أعلنت بعدها بيانا ختاميا كُتب قبل عقد المؤتمر بأيام. لم تكتف بذلك بل أعلنت أن بنود البيان الختامي توصياتٍ غير ملزمة للرئيس والحكومة، ثم صاغت إعلانا دستوريا للمرحلة الانتقالية قضى بتبنّي نظام رئاسي وبمركزة السلطة بيد الرئيس الانتقالي عبر منحه صلاحيات واسعة جعلته صاحب القرار الوحيد طوال المرحلة الانتقالية. ركزت انتقادات القوى السياسية والثقافية والاجتماعية في نقدها “الإعلان” على بندي دين رئيس الدولة والتشريع الإسلامي مصدرا رئيسا للتشريع، مع أنهما، على تنافرهما مع بنية المجتمع المتنوعة دينيا ومذهبيا، ليسا الأهم والأخطر قياسا إلى الخط العام للإعلان الذي أسّس لنظام الرجل الواحد. تلا ذلك تشكيل مجلس إفتاء، قال عضو مجلس الإفتاء الشيخ نعيم عرقسوسي إن من مهامه الحكم على مدى تطابق قرارات السلطة مع الشريعة الإسلامية، وحكومة انتقالية الثقل الرئيسي فيها لشخصيات من هيئة تحرير الشام “المنحلة”، سبع وزارات ضمنها الوزارات السيادية. وهذا جعل حديث الشرع عن تبنّي “عقلية الدولة” لا “عقلية المعارضة”، يعني ضمناً تقييد الفضاء العام ورفض قيام أحزاب ونقابات حرة تدافع عن مصالح المجتمع عامة وقطاعاته المهنية في وجه قرارات السلطة وممارساتها. أكد هذا التوجه قرار وزير الخارجية أسعد الشيباني تشكيل “الأمانة العامة للشؤون السياسية” لإدارة الحياة السياسية، ما جعل وجود معارضة وطنية سلمية ضرورة قصوى.
يستدعي عبور الدولة السورية إلى حياة وطنية، دستورية وقانونية، مستقرّة ومثمرة، بداية، تبنّي سياسة تميّز بين الدولة والسلطات المتفرّعة عنها، والتمسّك بحق المواطنين في تصويب خطوات الرئيس/ الحكومة باستخدام وسائل الحدّ من سلطة الرئيس/ الحكومة، مثل الدستور وقوانين حقوق المواطنين، ومبدأ الفصل بين السلطات واللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا أو غيرها، التي أوجدتها الخبرة البشرية لمنع إساءة استخدام الرئيس/ الحكومة للسلطة التي منحتها لهما الدولة، والتخلّص من السياسة التي تعتبر انتقاد الرئيس/ الحكومة إساءة للدولة، وتطابق بين انتقاد الرئيس ومحاسبته والإساءة إلى حرمة الدولة وهيبتها. فالمواطنون، حسب فقهاء القانون الدستوري، لا يقومون بإطاعة السلطة من أجل الطاعة نفسها، وإنما يطيعونها من أجل أهداف يعتقدون أنها ستتحقق، عندما تؤدّي هذه السلطة عملها، فهم يخضعون للأوامر، لأنهم يعرفون ما تتضمّنه هذه الأوامر من غايات مرتبطة بالهدف الذي يسعون إلى تحقيقه في الحياة، والمواطنون الذين يؤدون الطاعة للحكومة لا يفعلون ذلك من أجل النظام فقط ولكن لما سيتمخض عن هذا النظام من فوائد ومكاسب، وهم يقومون بتقدير قيمة الدولة ووكيليها، الرئيس/ الحكومة، من زاوية موجبات الرضا التي يعتقدون أنها تتيحها لهم، وأن من صميم حقوقهم استخدام القوانين والنظم التي تتيح لهم ليس فقط نقد الرئيس/ الحكومة بل واستبدالهما. وهذا يقود بشكل تلقائي إلى ضرورة وجود معارضة سياسية ونقابات حرّة ومنظمات مجتمع مدني تراقب وتنتقد وتحاسب باعتبار ذلك من موجبات الدولة الحديثة.
يشير ما ورد أعلاه إلى تعارض قرارات وخطوات السلطة الجديدة مع المتعارف عليه دوليا حول المفاهيم الحديثة للدولة والسلطة ووظيفة الرئيس والحكومة ودور المعارضة السياسية والنقابات الحرّة ودور منظمات المجتمع المدني الرقابي في الدولة الحديثة وإلى عدم اتساق ما قامت به السلطة الجديدة على الصعيدين السياسي والإداري مع هذه المفاهيم والأسس، خاصة التوجه التأسيسي في الإعلان الدستوري لنظام الرجل الواحد. ويشير ما ورد أعلاه، ضمنا، إلى دعوة السلطة الجديدة إلى إعادة نظر حقيقية في ما فعلت قبل أن تذهب بعيداً في خطواتها وتكرّس نظاماً فردياً لن يجد القبول من عامّة المواطنين. وهذا يتطلب منها التدقيق في خلفياتها السياسية وموازنتها مع ما يفيد الشعب ويرضيه عبر تحقيق تطلعاته السياسية والاقتصادية، بدءاً من مراجعة تصوراتها حول طبيعة السلطة ووظيفتها ومهماتها ومنح المجلس التشريعي الانتقالي القادم حق إعادة النظر في الإعلان الدستوري لجهة تخفيف المركزية والحد من مركزة السلطة بيد الرئيس الانتقالي، والتحرّر، تالياً، من تصورات منتشرة بين جماعات الإسلام السياسي حول خطورة الأحزاب على وحدة المجتمع إذا كانت جزءاً من تصوراتها، فليس صحيحاً أن الأحزاب تؤدّي إلى تشتيت المجتمع، بل العكس تماماً هي تنظم المجتمع وتجمع أفراده حول أفكار ومشاريع بدل أن يبقوا أفرادا مشتتين أو جزءاً من تشكيلات المجتمع الأهلي الضعيفة والمفككة؛ وتعطي الجميع فرصاً متكافئة في المساهمة في بناء البلاد، كما تلعب دورا مهما في تفكيك البنية الاجتماعية القبلية والعشائرية وتجعل من الممكن تجاوز معايير المجتمع الأهلي الذي يقوم على قرابة الدم كقاعدة للسلوك اليومي كما تعكسه المقولة الشعبية: انا وأخي على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب، ما يمهد للانتقال إلى ثقافة المواطنة ومستدعياتها في التنظيم والحكم. فلا حياة سياسية من دون أحزاب سياسية منظمة تجتمع حول فكرة وليس حول شخص أو عشيرة أو منطقة أو ممول. كما يتطلب التدقيق عملا مؤسسيا قائما على الدراسة والتخطيط الدقيق، فالدولة تسعى عبر السلطة/ الحكومة إلى تحقيق أهدافها أولاً من خلال جمع المعلومات بصورة منهجية ودقيقة عن الأوضاع القائمة، يليها وضع خطة لاستخدام الموارد على نطاق واسع وعلى مدى فترة مناسبة، خطة قائمة على الموازنة بين أهدافها ووسائل تطبيقها، ما يتطلب وضع أهداف واقعية وتخصيص الموارد اللازمة لتحقيقها، من أجل جعل هذا المستقبل حقيقة. فالأهداف والوسائل صنوان لا ينفصلان. هنا لا بد من الإشارة إلى أن تركيز السلطة الجديدة على رفع العقوبات لتوفير سيولة واستثمارات تيسير إقلاع الاقتصاد يتعارض مع تجاهلها معاناة المواطنين بسبب حبسها السيولة وإحداث حالة تضخم وإرباك في سوق صرف العملة الوطنية وتبعات ذلك على المواطنين الذين اضطرّوا إلى بيع حوالاتهم ومدخراتهم بأسعار بخسة، أقلّ من السعر الذي حدّدته السلطة ذاتها، ما أثار التذمر والأقاويل ضدها، والشك في وعودها وتحوّل المواطنين عنها وخسارتها جزءا وازنا من شرعيتها، فاكتساب الشرعية لا يتحقق بإسقاط النظام فقط، بل بإعادة بناء السلطة السياسية على سيادة القانون والعدالة والمساءلة، والشرعية في عالم ما بعد الاستبداد لا تُمنح إلا بعد تحقيق شرطين: قيام السلطة على أسس التعددية والتشاركية، وتمثيلها كل مكوّنات المجتمع تمثيلاً حقيقياً.
العربي الجديد
—————————
هل يجب أن تقلق دمشق من سياسات إدارة ترامب؟/ مروان قبلان
16 ابريل 2025
لاعتبارات مفهومة، ومبرّرة، تثير سياسات إدارة الرئيس ترامب تجاه السلطة الجديدة في دمشق اهتماماً كبيراً لدى السوريين على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم، فالولايات المتحدة، رغم قلة اهتمامها بالشأن السوري، تعدّ الطرف الدولي الأكثر أهمية فيه، لأسباب اقتصادية وعسكرية وسياسية. تتمحور الأولى حول العقوبات التي لا يبدو ممكنا من دون رفعها النهوض بالاقتصاد وإعادة الإعمار، أما الثانية فترتبط بالوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات، ما يشكل عائقاً أمام توحيد البلاد واستعادة حقول النفط والغاز والقمح الحيوية للنهوض بها، ويتصل آخرها بارتباط مواقف دول كثيرة من التغيير في دمشق بالموقف الأميركي. بناء عليه، يتوقف الكثير على فهم السياسة الأميركية في سورية ومقاربتها.
لا تظهر سورية شأناً مستقلاً على رادار إدارة الرئيس ترامب، بل تبدو ملحقة بقضايا إقليمية أكثر أهمية لها (إضعاف إيران، التنافس الإسرائيلي- التركي، العلاقة مع روسيا… إلخ). وقد ذكرها ترامب مرّة واحدة (ربما اثنتين) منذ عودته إلى البيت الأبيض، أبرزها خلال لقائه نتنياهو الأسبوع الماضي، عندما كشف، في معرض حديثه عن استعداده للوساطة بين حليفيه في أنقرة وتل أبيب، أنه قال لأردوغان “أعرف أنك أنت من أخذ سورية”. وفي ضوء عدم تبلور سياسة واضحة تجاه سورية، حتى الآن، يتنازع إدارة ترامب تياران يتشاركان فقط الارتياح لسقوط نظام الأسد. تعبّر عن الأول وزارة الخارجية ويرى بضرورة منع انزلاق سورية إلى الفوضى، وعودة الأيام السوداء للصراع، وهو يميل إلى إعطاء إدارة دمشق الجديدة فرصة لإثبات أنها تغيرت، وقطعت مع ماضيها، وهذا ما حدا بالخارجية الأميركية إلى تقديم قائمة شروطها في مؤتمر المانحين في بروكسل في 18 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، للبدء بتخفيف العقوبات عن سورية. يمثّل التيار الثاني البيت الأبيض، ويعبر عنه خصوصاً سبستيان غوركا، مسؤول ملف الإرهاب في مجلس الأمن القومي، وتولسي غابارد، مديرة المخابرات الوطنية، ويتخذ موقفا أكثر تشددا، ويعتقد أنه (هذا التيار) المسؤول عن تخفيض درجة رخص الإقامة الممنوحة لوفد سورية في الأمم المتحدة على اعتبار أنه بات “يمثل حكومة لا تعترف بها الولايات المتحدة”.
بعد طرد إيران من سورية (هدف السياسة الأميركية منذ أيام أوباما) يرجّح أن يتقلص اهتمام إدارة الرئيس ترامب أكثر بالشأن السوري، وهي تتجه، على ما يبدو، حتى إلى سحب قواتها من مناطق شرق الفرات، وتفويض إدارة الملف، بما في ذلك محاربة “داعش”، وضبط الحدود الجنوبية للأطلسي، إلى تركيا. هذا يعني ترك سورية معلقة في فك العقوبات الأميركية، من جهة، وساحة تنافس تركي- إسرائيلي مضبوط أميركيا، من جهة أخرى. إذا ذهبت الأمور بهذا الاتجاه، وهي على الأرجح كذلك، سوف تكون التداعيات خطيرة على سورية، ما يستدعي تحرّكاً من نوع مختلف من الإدارة الجديدة في دمشق، يتضمن: الكف عن التصرف وكأن مستقبل سورية ومصيرها وحل مشكلاتها موجود في واشنطن، لأن هذا قد يتطلب الكثير من الانتظار ريثما يحصل “الرضا” الأميركي. بدلاً من ذلك، علينا، نحن السوريين، القيام بما ينبغي القيام به وكأننا غير معنيين بكل ما يجري حولنا. أي التوجه نحو تفعيل مؤسّسات الدولة، وأجهزتها المختلفة، من دون تسييس، وهذا غير مرتبط بالعقوبات الأميركية. ويجب التوقف كذلك عن ادّعاء أن سورية لا دولة فيها ولا مؤسّسات، وأننا نبني كل شيء من الصفر، فهذا غير صحيح، مدمّر للذات، وينسف كل ما أنجزه آباؤنا وأجدادنا على مر السنين، فعمر الدولة السورية مائة عام وهي قائمة ومستمرّة، وإلا فما معنى بروتوكولات الاستلام والتسليم الذي تحرص الإدارة الجديدة على إجرائها في كل مرة تتشكّل فيها حكومة. ما تحتاجه مؤسّسات الدولة حتى تعود للعمل بطاقتها الكلية هو استدعاء الخبرات وإطلاق الطاقات التي همّشها النظام البائد بفساده واعتماده معيار الولاء. هذا يتطلب أيضاً إعادة النظر في النهج السياسي المتبع، مع اعتماد معياري الشفافية والمشاركة، ووضع تصوّر واضح متفق، ومجمع، عليه وطنيّاً للانتقال السياسي. إذا بدأنا بإصلاح أمورنا من الداخل، بإرادة ذاتية نابعة من احتياجاتنا، فسوف يصبح رفع العقوبات الأميركية تحصيل حاصل، وتعود سورية إلى الاندماج بالمنظومة الدولية من دون أن نبدو وكأننا نرضخ للشروط الخارجية. من هذا الباب، نبقى، وسنبقى، نؤكّد على أهمية الانطلاق من ترتيب أوضاعنا الداخلية، بروح وطنية مشتركة، لاستعادة سورية التي نطمح إليها جميعاً.
العربي الجديد
—————————–
تفكيك الألغام واختبار سوريا الصعب/ حنان البلخي
16/4/2025
لطالما كان الانتقال من حكم استبدادي شمولي إلى نظام ديمقراطي، أحد أصعب التحوّلات السياسية التي تواجه الدول، وخصوصًا بعد عقود من القمع الممنهج، واحتكار السلطة، ففي الحالة السورية التي عانت من حكم عائلة الأسد لأكثر من خمسين عامًا، لن يكون سقوط الأسد كافيًا ليترجم إلى ديمقراطية مستقرّة، بل هو بداية مرحلة انتقالية معقّدة محفوفة بالتحديات الداخلية والخارجية.
لا تنتهي قائمة التحديات؛ من إرث يثقله الفساد والمحسوبيات التي زرعها النظام على مدى عقود في مؤسّسات الدولة، مرورًا بمجتمع أنهكته سنوات الحرب، وفكّكه العنف الممنهج الذي مارسه ذلك النظام عليه، وصولًا إلى وضع اقتصادي متردٍّ، ناهيك عن تدخلات خارجية تسعى لضمان مصالحها، ولو على حساب مصالح السوريين واستقرار بلادهم.
التحديات الداخلية والإرث المتآكل
بعد سقوط الأسد، تفكك الجيش النظامي، وتوّلت الفصائل المسلحة التي دخلت دمشق مسؤولية حفظ الأمن. بذلت الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع جهودًا كبيرة لدمج هذه الفصائل في مؤسسة عسكرية موحدة، لكن التحديات ظلت قائمة؛ إذ رفضت بعض الفصائل الانضواء تحت إدارة دمشق الجديدة، مما عرقل تحقيق هذا الهدف بشكل كامل.
رغم ذلك، نجحت الحكومة في دمج عدد كبير من الفصائل، وتوصلت إلى اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية في مناطق الجزيرة، مما رفع إمكانية تعزيز الاستقرار في تلك المناطق. ومع ذلك، لا تزال بعض الفصائل في الجنوب، خصوصًا في السويداء، ودرعا، ترفض الاندماج، مما يفرض تحديات أمنية مستمرة تعرقل استقرار الدولة.
وبالتوازي مع هذه الجهود، تعمل قوات الأمن على ملاحقة فلول النظام السابق، وإنهاء فوضى السلاح المنفلت لضمان عدم استغلال حالة الفوضى لخلق بؤر توتّر جديدة.
ورثت الحكومة الانتقالية اقتصادًا منهارًا، وعقوبات دولية خانقة، وبنية تحتية مدمّرة. أدّى ذلك إلى أزمة اقتصادية حادّة، تفاقمت بسبب غياب الدعم الدولي الضروري لتحفيز النموّ الاقتصادي.
جعل الوضع الاقتصادي المتردّي تحقيق الاستقرار شرطًا أساسيًا قبل الحديث عن أي تحوّل ديمقراطي. لذا، ركزت الحكومة جهودها على رفع العقوبات الاقتصادية، وتحفيز إعادة الإعمار، ودعم الاستثمارات الداخلية والخارجية؛ لضمان انتعاش الاقتصاد، باعتبار ذلك خطوة ضروريّة لأي تحوُّل سياسي ناجح.
التدخلات الخارجية.. حسابات المصالح لا المبادئ
لا يمكن الحديث عن الوضع السوري بعد سقوط الأسد دون التطرّق إلى التدخلات الخارجية. فالقوى الدولية التي كانت إما عاجزة عن إسقاط النظام السابق، أو متواطئة في بقائه، أصبحت اليوم عاملًا يعوق استقرار سوريا الجديدة.
منذ اليوم الأوّل لسقوط النظام، سارعت هذه القوى إلى التدخل وفرض أجنداتها تحت ستار حماية الأقليات، أو ضمان الانتقال الديمقراطي. ولكن في الواقع، لم تكن هذه التدخّلات إلا محاولة لتحقيق مصالح هذه القوى الخاصّة، بدلًا من تمكين السوريين من تقرير مصيرِهم.
إيران وروسيا، اللتان دعمتا النظام السابق، استمرتا في دعم فلول النظام، وسعتا إلى زعزعة استقرار البلاد من خلال عمليات تخريبية تهدد بإجهاض جهود الانتقال السياسي. إلى جانب ذلك، تظل العقوبات الغربية المفروضة على سوريا قيد التنفيذ، رغم الحديث عن إمكانية رفعها بشرط تحقيق الانتقال السياسي.
هذا يطرح تساؤلًا كبيرًا: أيهما يأتي أولًا، البيضة أم الدجاجة؟ إذ يظل المطلب السياسي في حالة انتظار مشروط، بينما الأزمة الاقتصادية تتفاقم يومًا بعد يوم.
هذا الوضع يعكس بشكل واضح المثل الشعبي: “صحيح لا تقسم ومقسوم لا تأكل، وكول حتى تشبع”. فمن جهة، تطالب الحكومة بوضع تصحيحي للمسار السياسي، ومن جهة أخرى، تكبلها بقيود اقتصادية تحد من قدرتها على اتخاذ خطوات فعّالة. وفي النهاية، تضع هذه الضغوط الحكومة الجديدة في مأزِق، مما يزيد من تعقيد الأزمة الاقتصادية، ويؤثر سلبًا على حياة الشعب السوري.
الانتقال إلى الديمقراطية: عملية طويلة ومعقدة
الاعتقاد بأن سقوط النظام الشمولي يؤدي مباشرة إلى الديمقراطية، أحد أكبر الأخطاء التي قد يقع فيها البعض. هذا التصور السطحي يؤدي إلى خيبة أمل واسعة بين الناس، ويخلق نوعًا من الإحباط بسبب بطء التغيير. الديمقراطية ليست مجرد انتخاباتٍ أو تغييرٍ في السلطة، بل عملية طويلة تتطلب بناء ثقافة سياسية جديدة.
تحقيق التحول الديمقراطي يقتضي إصلاح المؤسسات القانونية والقضائية، وضمان حرية الإعلام، وتأسيس جهاز أمني يخدم الدولة بدلًا من الأفراد أو الأحزاب.
من الضروري تفكيك إرث النظام السابق بحذر، دون خلق فراغ سياسي يؤدي إلى الفوضى، وهي عملية أشبه بتفكيك ألغام في حقل يمتد على طول البلاد وعرضها، ويحتاج إلى عملية طويلة ومعقدة تستلزم وقتًا للقيام بها، وليس ثلاثة أشهر هي فترة تسلّم أحمد الشرع وفريقه إدارة البلاد.
منذ ثلاثة أشهر وحتى هذه اللحظة تحاول الإدارة السورية بقيادة أحمد الشرع تسريع عملية الانتقال، وقد دعت إلى حوار وطني في قصر الشعب، رغم أن هذه الدعوة لم تحظَ بترحيب واسع من العديد من الشخصيات السورية.
وعقب المؤتمر، شكّلت لجنة لإعداد إعلان دستوري، وقدّمت مسوّدة دستور وصفتها الحكومة بأنّها تأخذ في الاعتبار تحديات المرحلة الانتقالية، فكانت هذه المسوّدة مثار جدل جديد بين مؤيّد ومعارض، فاعتبرها البعض إجراءً ضروريًا، بينما رأى آخرون أنها أعطت الرئيس الانتقالي صلاحيات واسعة، وهو ما قد يمهّد الطريق لاستبداد جديد، ثم توّجت هذه الجهود بتشكيل حكومة من خبرات متنوعة، لكنها لم تسلم كذلك من انتقادات وصفتها بأنَّها “ذات لون واحد”، في جدل يعكس التوتر القائم بين الحاجة إلى فرض الاستقرار، وحماية الحريات الأساسية خلال المرحلة الانتقالية.
إستراتيجية البناء التدريجي للديمقراطية
يتطلب بناء الديمقراطية في سوريا منهجًا تدريجيًا يأخذ في الاعتبار التحديات الداخلية والخارجية، إذ لا بدّ من إصلاح مؤسسات الدولة تدريجيًا دون اللجوء إلى اجتثاث شامل قد يعطل عمل الحكومة الانتقالية.
يجب إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية لضمان ولائها لسوريا أولًا، إلى جانب العمل على رفع العقوبات الدولية التي تعيق النمو الاقتصادي. تحقيق الاستقرار الاقتصادي وإعادة الإعمار يمثلان شرطين أساسيين لاستدامة العملية الانتقالية.
من المهم أيضًا وضع خارطة طريق لانتقال سياسي يعكس مشاركة جميع الأطراف باستثناء المتورطين في جرائم ضد الشعب السوري.
وفي هذا السياق يصبح تعزيز الوعي الديمقراطي والمشاركة السياسية جزءًا أساسيًا من أجل نجاح التحول الديمقراطي. وهنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني في توعية المواطنين بأهمية الانتخابات، والشفافية، من أجل بناء الدولة. فالديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي، بل ثقافة مجتمعية تحتاج إلى ترسيخها تدريجيًا لضمان نجاحها.
يتطلب التحول الديمقراطي في سوريا وقتًا وجهودًا ضخمة، حيث إن إسقاط النظام الشمولي لا يمثل سوى الخطوة الأولى في عملية معقدة وطويلة. وإن بناء دولة ديمقراطية حديثة يستلزم إصلاحات شاملة على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية، إلى جانب الإرادة المجتمعية والوعي السياسي.
رغم التحديات الكبيرة، يظل تحقيق دولة حرة وعادلة قائمة على الديمقراطية هدفًا يستحقّ السعي لتحقيقه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
صحفية، وممثلة سابقة للائتلاف السوري المعارض في أوسلو
الجزيرة
—————————-
حفريات الضغينة: لماذا نكره الآخرين؟/ حسام الدين محمد
تحديث 17 نيسان 2025
في عام 1967، وخلال تصوير أحداث النسخة الأولى من فيلم «كوكب القرود»، سجّلت ظاهرة غريبة. خلال استراحة الأكل، ابتعد الممثلون الذين يشخّصون أدوار الشمبانزي عمن يمثّلون أدوار الغوريلات، وجلس الطرفان، مثل خصوم، على طاولات منفصلة.
هناك أيضا حادثة علمية معروفة جرت عام 1971، وسميت «تجربة سجن ستانفورد»، تم ذلك في قبو تحت الجامعة المذكور اسمها، وأنتج لاحقا فيلمان بعنوان «التجربة» (عام 2010)، و»تجربة سجن ستانفورد» (عام 2015). موّلت التجربة البحرية الأمريكية، وقام خلالها متطوّعون (دفعت لهم أجرة يومية) بالانخراط في تجربة تشبه السجن. كانت غالبية المشاركين من البيض الذكور ومن الطبقة الوسطى، وطلاب في المرحلة الجامعية. فُرز المشاركون عشوائيا كسجانين ومساجين، تجاوزت التجربة حدود السيطرة فعانى السجناء واحتملوا ممارسات مهينة على أيدي الحراس، واشتعل عصيان في اليوم الثاني، وبعد تطوّر الحوادث الخطيرة، وبينها إضراب عن الطعام، وتحريض السجناء ضد بعضهم، وانخراط السجانين في ممارسات سادية، تم وقف التجربة خلال أسبوع.
على عكس الحادثة الأولى، التي بدأ الانحياز فيها بشكل عفوي، أظهرت الحادثة الثانية تحوّل الاختلافات الشكلية إلى تراتبية اجتماعية، ويمكننا أن نتخيل تطوّر ذلك إلى كراهية وعنف يمكن أن يؤديا، إذا توفّرت الظروف، إلى الإبادة (وعقلنتها = تبريرها).
هناك مثال أدبي شهير، على أثر تحوّل تمثّل حالة معينة إلى الانخراط فيها بشكل يؤدي لتداعيات تراجيدية، ففي أحداث رواية نيكوس كازنتزاكيس الشهيرة التي صدرت عام 1948، «المسيح يصلب من جديد»، يمثّل شاب دور المسيح في قرية أهلها يونانيون من سكان أناضوليا (تركيا الحالية) في عام 1921، فيؤدي تمثّله لأفكار المسيح، كما يعتقد بها، إلى صراع مع التراتبيات الاجتماعية والسياسية تنتهي به، مثل سلفه القديم، معلقا على الصليب!
ما تقدّمه الأمثلة الآنفة، يشير إلى سهولة انخراط الجنس البشري في وضعية نحن /هم، وفي تفعيل ديناميّات شعورية وعقلانية للصراع، خصوصا في ظروف تؤجج عناصر الاختصام، كالحروب والمجاعات والتدهور الاقتصادي، وهو ما نراه، ليس ضمن جماعات أهلية متنافرة على أسس قومية أو دينية أو عرقية، كما هو حال «الشرق الأوسط»، بل ضمن أغنى وأعظم وأعقد المجتمعات الديمقراطية الغربية.
الجنين يتفحّص الوجوه!
أنجز علماء فحصا يسعى لقياس السرعة الهائلة لانطلاق الانحيازات في الدماغ البشري، يستخدم الفحص صورا لشخصين من فئتين مختلفتين، ويقومون بتكرار عرضها، لتظهر أشخاصا، فرضا، من العرق أو الدين أو الطائفة أو الإثنية أو الجندر، التي ينتمي إليها المستجوب، وأخرى لأشخاص من جماعة أخرى. تُرفق الصور بصفات أو إيجابية وعلى الخاضع للفحص أن يضغط زرا أحمر عند ظهور شخص من طائفته أو قوميته، وزرا أزرق للشخص الآخر.
لاحظ العلماء أنه عندما ترد صفة سلبية مع شخص من طائفة، أو قومية، أو عرق المستجوب، أو صفة إيجابية من الجماعة الأخرى فإن الخاضع للتجربة يتردد قليلا بشكل يظهر تحيّزه الضمني ورفضه لإعطاء صفة سلبية لمثيله أو إيجابية للآخر (وقد أكدت تجربة مماثلة انحيازات مشابهة لدى القرود)! تتنبّه منطقة اللوزة الدماغية (amagdala)، المسؤولة في الدماغ عن المشاعر، بسرعة 50 جزء من ألف من الثانية، عند رؤية إنسان لآخر من عرق آخر، وهو ما يحصل، بالسرعة نفسها، عند رؤية جندر مختلف، أو شخص من طبقة اجتماعية أخرى.
تبدأ انحيازاتنا، كما يقول كتاب «سلوك: بيولوجيا البشر في أسوأ وأحسن حالاتنا» لروبرت سابولسكي، مع تفحّص الجنين للوجوه التي تحيط به (بيضاء أو سوداء مثلا)، فيما تبدأ الانقسامات الجندرية (ذكر، أنثى) بمجرد دخول الطفل الحضانة أو المدرسة. يتطوّر ذلك بشكل أعقد فأعقد لاحقا فيقوم المخ بإيجاد روابط بين الأشياء كتكتيك من أجل البقاء، كما يتبلور أكثر فأكثر ضمن نظام اجتماعي يبدأ من الأب والأم، ومنظومة قيمهما، ثم الجماعة البشرية التي ننتمي إليها.
يعزز المخ ذكرياتنا ليقوّي من إحساسنا بالأنا، ما يجعلنا نشعر كما لو كنا نعلم أكثر ونسيطر على حيواتنا أفضل، ويجعلنا نميل، كبشر، كما يقول سابولسكي، للنظر إلى أنفسنا كنبلاء، لدينا ولاء، مؤلفون من أفراد مميزين يعود فشلهم للظروف. الآخرون، في المقابل، يبدون مقرفين، سخفاء، متشابهون، لا يمكن التمييز فيما بينهم، ولا يتغيرون. كل هذا يتم تخزينه بشكل دوري عبر إضفاء العقلانية على مشاعرنا.
من الخوف إلى الأيديولوجيات الكبرى!
لقد زودتنا ملايين السنين من التطور بنظام معقد من الآليات الدفاعية للاستجابة لأي خطر محتمل، وطوّر لدينا شعورا مخصصا لإدراك المخاطر والتركيز عليها: الخوف. ولا يتيح لنا ذكاؤنا المعقد رصد المخاطر فحسب، بل يتيح لنا ترقبها وتخيل حدوثها أيضا، وكل ذلك يؤدي لاستثارة استجابات عصبية أو نفسية أو اجتماعية وأن نندفع من الانحيازات القديمة، والانفعالات الجديدة، باتجاه الكره والعنف والتحشد.
يهبط البشر إلى خنادق حسب توزعاتهم الدينية والعرقية والطائفية والإثنية، ولا يلبث الدماغ أن يعمل على عقلنة هذه الانحيازات، ولعل الإنجاز الهائل لدينا، كبشر، هو صوغ هذه الانحيازات، مع تعقد الحضارة والسياسة والثقافة، وراء سرديّات كبرى، و»وعي» عامّ، وقناعات واسعة، قومية أو وطنية. طوّر البشر أشكالا شديدة التعقيد، بحيث إن بعض انحيازاتهم، كما كان الحال جماعة الكوغوت الفرنسية، التي لا أحد يعرف سبب اضطهادها منذ القرن الحادي عشر الميلادي، رغم أن أفرادها يتبعون الدين نفسه ويستخدمون الأسماء نفسها. ولعل من المفيد هنا استعادة ما قاله رايتهولد نايبهور، خلال الحرب العالمية الثانية، عن أن «الجماعة أكثر غطرسة، ونفاقا، واهتماما بالنفس، وأكثر توحشا في المطاردة حتى النهاية، من الأفراد».
تمثّل حالة الجنرال البريطاني دوغلاس هيغ، خلال الحرب العالمية الأولى، شكلا من أشكال هذا التعقيد البشريّ، فبسبب أن عدد جنود «الحلفاء» كان أكبر من عدد جنود «المحور»، فقد أقر خطة يتابع فيها البريطانيون الهجمات على الألمان بغض النظر عن الخسائر التي تتكبدها بريطانيا، طالما أن ألمانيا تخسر جنودا كذلك، أي أن الإضرار بالنفس غير مهم طالما يتسبب بضرر للعدو!
يشير الكتاب إلى أمثلة عديدة تشير إلى اختراقات يقوم بها البشر لانحيازاتهم الكبرى، كما حصل مع جنرال جُرح خلال الحرب الأهلية الأمريكية، فأشار بإشارة ماسونية رآها جنرال آخر فأنقذه لانتمائهما للجماعة نفسها، وكما حصل مع امتناع أيرلنديين مشاركين في تلك الحرب على الجبهتين من قتل زملائهم، الذين كانوا يميّزون أنفسهم بشارة خضراء، وحالة جنرال ألماني اختطفته قوات بريطانية في كريت في الحرب العالمية الثانية، ثم اكتشف قائد العملية أنهما «شربا من النبع نفسه» لشعر هوراس باللاتينية فاعتنى به والتقيا بعد عقود على التلفزيون اليوناني، وكما حصل حين قام جنود الحلفاء والمحور باحتفال عيد ميلاد فرقصوا مع بعضهم وتبادلوا الهدايا. تشير بحوث عن طرق تضاؤل الانحيازات، إلى حالة «التطهّر» (كاثارسيس) التي يخلقها الفنّ (كما تفعل مشاهدة «أوديب طاغية» أو «مكبث»، المليئة بالعنف والثأر والانتقام)، عبر نجاح «التمثّل» (المذكور في بداية هذا المقال) لحالة «الآخر» في الوقت الذي يفشل فيه الخطاب العقلاني والمنطقيّ بإقناعنا أن الآخرين لا يختلفون عنا، وأنه من غير الصحيح أننا أكثر حكمة وأخلاقا ودينا وأن تربيتنا لأطفالنا أفضل، وأكلنا أطيب، وموسيقانا أجمل، ولغتنا شاعرية ومنطقية أكثر.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي»
—————————-
الآلية الخماسية.. تحالف لحماية السلطة الجديدة في سوريا؟/ منصور حسين
الأربعاء 2025/04/16
رغم ظهور بوادره منذ أسابيع، يأتي الحديث التركي عن تشكيل نظام إقليمي لدعم استقرار سوريا، ليكشف عن جانب من أسباب التصعيد الإسرائيلي الأخير على الأراضي السورية، ما أشعل النقاش حول مستقبل سوريا المنهكة، في ظل تصاعد تهديدات تحولها إلى ساحة حرب جديدة بين دول المنطقة.
وعلى هامش منتدى أنطاليا، أعلن نائب وزير الخارجية التركية نوح يلماز، مساء السبت الماضي، تشكيل آلية إقليمية مشتركة تضم سوريا والعراق والأردن ولبنان وتركيا، بهدف التصدي لـ”الدور الإسرائيلي المزعزع للاستقرار الاستراتيجي في المنطقة”.
وأكد يلماز أن هذه الآلية تأتي كخطوة عملية لتوفير أدوات الدعم والتنسيق ومساعدة دمشق في بناء نوع المقدرات، مشيراً إلى أن “العمل بالآلية سيبدأ قريباً، من خلال مركز التنسيق الذي سيكون في سوريا، والطلبات المتعلقة بمهامها تصدر عن الجانب السوري”.
وسبق وأن عقدت دول جوار سوريا اجتماعاً على مستوى وزراء الخارجية والدفاع والمخابرات، في العاصمة الأردنية عما، في آذار/مارس الماضي، لبحث آليات التعاون لمنع عودة تنظيم داعش، وإيقاف عمليات تهريب المخدرات والسلاح عبر الأراضي السورية.
تحالف لحماية الشرع!
ويبدو أن هذه الدول قد تلقت رسائل تل أبيب، باستهدافها المنشآت العسكرية التي أبدت أنقرة اهتماماً بإشغالها وسط سوريا، وتهديدها المصادر المائية المغذية للمنطقة والأراضي الأردنية، بفرضها واقع عسكري جديد جنوب وغرب درعا عبر قواتها البرية، ودعمها حركات الانفصال في محافظة السويداء، ما عجّل الإعلان عن هذا التحالف.
ويعتبر الباحث في العلاقات الدولية طه عودة أوغلو، أن جديد هذا التحالف الخماسي، هو الإعلان الواضح عن رفض الاعتداءات الإسرائيلية، وتشكيل معزز لدعم السلطات السورية الجديدة، بموافقة الدول الغربية الراغبة باستقرار سوريا.
ويقول أوغلو لـ”المدن”، إن “الآلية تعدّ التحالف الإسلامي الأول لمحاربة تنظيم داعش، وأيضاً إيقاف الهجمات الإسرائيلية، حيث تأتي بعد تأكيدات وزير الخارجية التركي بعدم نية بلاده مواجهة إسرائيل، ومطالبة الإدارة الأميركية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بإيقاف عملياته العسكرية جنوب سوريا، ما دفع تركيا لاستغلال الموقف لرفع مستوى التنسيق بين دول المنطقة وحماية إدارة الرئيس أحمد الشرع”.
ويضيف أن “أنقرة تراعي حساسية موقف الإدارة السورية الجديدة، حيث تلاحظ الخطوات الهادئة والمنسقة مع دول المنطقة، وبشكل خاص الدول العربية، وعليه فإن تعامل الحكومة التركية يأتي من منطلق تبادل المصالح وحقيقة أن استقرار سوريا يعني استقرار المنطقة”.
تزايد النفوذ التركي
ويتفق الضابط والخبير العسكري السوري عماد شحود، مع الحديث حول حماية الإدارة السورية الجديدة، والحفاظ على ساحة البلاد الداخلية من خلال منع الفوضى التي تريدها الدول الرافضة لسلطة الشرع، عبر أذرعها الداخلية.
لكن شحود يعتبر في المقابل، أن اللافت هو توقيت الإعلان، الذي يأتي بعد تزايد الخلافات بين أنقرة وتل أبيب، ما يظهر سوريا كجزء من محور تركي.
ويقول لـ”المدن”، إن “الآلية تعزز من شعور تحول سوريا إلى ورقة ضغط بيد الأتراك، رغم وجود الأردن، ما يجعلها ساحة صراع دائمة، بسبب نزاعات أنقرة وإسرائيل، التي سلمت مؤخراً أسلحة هجومية متطورة لليونان كجزء من مشروع درع شرق المتوسط الهجومي، ما دفع تركيا للرد من خلال الساحة السورية”.
ويضيف “تتشارك دول المنطقة، خصوصاً الأردن المتضرر من خطوط تهريب المخدرات، مع الدول الغربية، الرؤيا الداعمة للاستقرار في سوريا، لتشجيع اللاجئين على العودة، وهو الهامش الذي تتحرك من خلاله هذه الدول، وتحاول الضغط على تل أبيب للإيقاف عدوانها وخططها في سوريا”.
شروط إسرائيلية
لكن عوامل الضغط لا تزال ضعيفة، بحسب شحود، الذي يرى أن “إسرائيل تمتلك أدوات فرض القرار في سوريا، عبر قدراتها العسكرية، وبالتالي فهي قادرة على تطبيق شروطها على سلطات دمشق”.
وتتركز الشروط الإسرائيلية على الجانب العسكري بشكل رئيس، من خلال مطالبتها بنزع السلاح الثقيل وإبعاده مسافة 60 كيلومتراً عن حدودها، بزيادة عن المسافة المتفق عليها سابقاً مع نظام الأسد والمحددة بنحو 20 كيلومتراً.
إضافة إلى مطالب توفير فضاء حر ضمن المجال الجوي السوري، عبر منع امتلاك أو تعطيل أنظمة الرصد والدفاعات الجوية السورية، ما يجعل من وجود أسلحة الدفاع الجوي مثل منظومة “إس-400” الروسية، أو تنصيب قواعد للمضاد الجوي التركي “الهوك”، يتعارض مع مشروع إسرائيل توسعة مجالها الجوي ليضم سوريا ولبنان.
ويشير شحود إلى أن إسرائيل تريد استمرار سيطرتها على قمة حرمون (قمة 1814)، لدعم أهدافها، مقابل انسحابها من بقية مناطق الجنوب المعروفة بمناطق منزوعة السلاح في القنيطرة ودرعا، وهو ما يخفف التوتر مع الأردن.
—————————-
لماذا يتراجع الوطنيون السوريون؟/ راتب شعبو
17 ابريل 2025
تفتقد سورية اليوم، وهي في واحدة من أشدّ اللحظات حساسية في تاريخها، صوتاً واضحاً وحازماً من الفئة الأكثر أهمية في المجتمع السياسي السوري، نقصد الفئة الوطنية، صاحبة الوعي الذي يمكن أن يسند وحدة سورية وتماسكها. لنلاحظ هذا التحوّل؛ شاع في بداية ثورة 2011 في سورية أن هتافاً تردّد في المظاهرات ينادي بقتل العلويين وتهجير المسيحيين. رفضت حينها غالبية المعارضين لنظام الأسد (ونحن منهم) هذه الإشاعة بحزم، وكذّبتها، واعتبرتها إحدى محاولات المدافعين عن نظام الأسد لتشويه الثورة وصدّ الناس عنها. وقيل إنه، حتى لو ردّد بعضهم مثل هذا الهُتاف فإنهم لا يمثّلون الثورة، ولا وزن لهم فيها. ثم قبل أيّام فقط من الذكرى الرابعة عشرة للثورة، تحوّلت الإشاعة مجازر فعلية بحقّ العلويين، فقط لأنهم علويون، بحسب المنطوق المباشر والصريح للجناة، ولم يُبدِ كثيرون ممّن استنكروا بحزم وثبات الإشاعة القديمة، موقفاً حازماً وثابتاً في رفض المجازر المروّعة، التي ربما كان سيميل كثيرون منهم، كما توحي سجالاتهم ومحاكماتهم العقلية المُعلَنة، وضعف تعاطفهم مع المنكوبين، إلى التكذيب، لولا أن الجناة وثّقوا أفعالهم متفاخرين، ومن دون خشية من أيّ عواقب.
نحن لا نتكلّم هنا عن أفراد ذوي مصلحة ينضوون في هياكل السلطات الجديدة، ولا نتكلّم عن أفراد من بطانة هذه السلطات أو مستفيدين بصورة شخصية مباشرة منها، كما لا نتكلّم عن شريحة معادية لفكرة الشعب نفسها ترى الحياة السياسية من موقع تمييزي، وتصنّف الناس وحقوقهم في درجاتٍ بحسب البيئة المذهبية التي ولدوا فيها، نحن نتكلّم عن أشخاص وطنيين يدافعون عن الديمقراطية والمواطنة ودولة القانون، وبينهم من سبق له أن دفع ثمناً باهظاً لوقوفه ضدّ سياسات القوة، وضدّ سياسات التمييز التي ثابر نظام الأسد على ممارستها في الحياة العامّة. هؤلاء هم رصيد وطني ثمين لسورية، والحقّ أن هؤلاء هم في المقام الأول من يفترض وقوفهم ضدّ المجازر، وهم من يفترض أن يتطلّع المنكوبون إليهم منتظرين الإنصاف والتضامن الفعلي، أو المناصرة اللفظية الصريحة على الأقلّ، ذلك أن أنصار دولة القانون معادون بالطبع للقتل الاعتباطي للناس، معادون حتى لقتل مجرمين خارج القانون، فهم مناصرون أساساً لحكم القانون بوصفه السبيل الأكثر أهميةً لنزع العنف من المجتمع.
صحيحٌ أن بين مارس/ آذار 2011 (الثورة) ومارس 2025 (المجزرة)، كثيرا من الدمار والدم، ومن المعاناة والمآسي التي تكبّدها السوريون بيد نظام الأسد، وبصورة خاصّة في المناطق التي خرجت من سيطرة النظام، ولكن الواضح أن هذه السنوات خرّبت أيضاً في وعي السوريين عموماً وفي نفوسهم، ومن ضمنهم الوطنيون الذين سبق أن استنكروا مجرّد هتاف يقول بقتل العلويين، ثمّ باتوا متساهلين مع جريمة إبادة، متّخذين من فظائع نظام الأسد مستنداً لتساهلهم، أي يجدون في الدوس على القيم والقانون مبرّراً لتكرار الفعل نفسه. يبقى ما هو أكثر أهميةً، أنه بدلاً من أن يتصلّب الوعي السوري ويشتدّ ضدّ الأسباب الحقيقية للدمار الذي شمل البلاد، الأسباب التي يدركها جيّداً هؤلاء الوطنيون المتفهّمون للمجازر، ترى هذا الوعي يتراجع أمام إعادة تشكّل الأسباب نفسها، ويتساهل مع ما كان يرفضه بقطعية من قبل، ثمّ يجتهد في تبرير تساهله، ويرى في هذا “الاجتهاد” تطوّراً في الوعي، وتحرّراً من النظريات الجامدة، وخروجاً على المساطر. هكذا بات يُزيَّن لهؤلاء أن “تفهّم” مجازر إبادة طائفية صريحة، هو تطوّر وانحياز للمستقبل، والحال أننا بذلك إنما نخسر المستقبل، بقدر ما نريد سورية موحّدة ومتماسكة.
لا يغيب عن بالنا ما أقدم عليه عناصر من النظام السابق ممّن لا يريدون الاستسلام لحقيقة أن السلطة خرجت من أيديهم، ويبحثون عن مخرج للمأزق الذي هم فيه، ونعتبر أن مهاجمة بقايا النظام دوريات الأمن العام بالكمائن، ومهاجمة المشافي، ونشر قنّاصين في الأسطح، ومحاولة السيطرة على مناطق، والاستقواء اليائس بقوىً خارجية… إنما هو استمرار لإجرامهم الممتدّ والمعهود ضدّ السوريين. ونعلم أن شباباً علويين انضموا إلى هؤلاء تحت مؤثّرات عديدة منها، ولعلّ أكثرها أهمية الانتهاكات التي راحت تمارسها بعض الفصائل بحقّ العلويين بعد سقوط نظام الأسد، والتي تهاون معها كثيرون من الوطنيين بوصفها “حالات فردية”.
السؤال: لماذا رفض الوطنيون الهتاف الداعي لقتل العلويين في بداية الثورة، ثمّ تهاونوا اليوم مع القتل الإبادي الذي استهدفهم؟… الجواب الشائع هو بسبب جرائم النظام 14 سنة. لكن هذا يعني أن الوطنيين السوريين يعتبرون العلويين، بوصفهم جماعةً مذهبيةً، مسؤولين عن هذه الجرائم، وليس النظام الذي تمكّن من جعل الدولة ملكيةً خاصّةً للسلطة، وجعل السلطة ملكيةً خاصّةً للعائلة. والواقع أن نظام الأسد ما كان ليتمكّن من فعل ذلك لولا تساهل المجتمع السوري وتراجعه أمامه، الأمر الذي تبدو ملامح تكراره (اليوم أيضاً) أمام السلطات الجديدة. ثمّ، حتى لو اعتبرنا العلويين (جماعةً) مسؤولين عن جرائم الأسد، وهو اعتبار خاطئ، فإن الانتقام الذي جرى لا يمكن أن يسكت عنه من يريد فعلاً بناء دولة وبلاد مستقرّة لا تقوم على الغلبة ومراكمة الضحايا على الضحايا والأحقاد على الأحقاد.
هناك جواب آخر، أن السبب يعود إلى جرائم بقايا النظام بعد سقوطه، والتصوّر أن العلويين تعاونوا (أو سكتوا) عن مؤامرة فلول النظام. من يكرّر هذا القول يضيف عادةً: وإلا لماذا لم تجر هذه المذابح قبل كمائن الفلول؟… والحقّ أن المرء لم يكن في حاجة إلى متابعة لصيقة كي يعرف أنه خلال الشهور الثلاثة التي سبقت المجازر لم يخلُ يوم من انتهاكات تدرّجت بين الإهانات الطائفية والاستيلاء على أملاك، وصولاً إلى القتل الطائفي، وقد بلغ عدد القتلى العلويين في هذه الفترة حوالي 600 ضحية، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو ما شكّل في الواقع تمهيداً مناسباً لبقايا النظام.
في كلّ حال، لا نعتقد أن أحداً من المتساهلين مع المجازر يعتبر أن قتل العائلات العزلاء في بيوتها تصدّ لبقايا النظام. الجلّادون أنفسهم، وهم ينفّذون جرائمهم لم يكن في تصوّرهم إنهم يواجهون بقايا النظام، كان في أذهانهم ما كانوا يصرّحون به مراراً، وهو إنهم يقتلون العلويين “الخنازير”. في الخلفية الذهنية لهؤلاء مزيج من احتقار ديني للعلويين، مبنيٌّ على تعبئة بالرفض الديني الثابت للمختلفين، وعلى فتاوى مغلقةٍ عابرةٍ للأزمنة، ولها استقلال لا بأس به عن السياسة، مضافاً إلى رفض سياسي غذّاه نظام الأسد، واتخذ بعداً طائفياً لاعتباراتٍ عديدة، أكثرها أهميةً أن النظام استند في ذراعه العسكري الأمني إلى العلويين بصورة أساسية، وقد ساهم وصف النظام السوري بأنه “نظام علوي”، وهذا الوصف من منشأ إسلامي أصلاً، في تعزيز الدافع الانتقامي ضدّ العلويين، حين تراكبت الفتوى الدينية على الفتوى السياسية. ومن المفهوم أنه في البلدان التي لا تتوافر فيها انقسامات طائفية كالتي في سورية، سوف يتخذ الرفض السياسي أبعاداً أخرى، قد تكون عشائرية أو إثنية أو أيّ خطوط انقسام أخرى غير سياسية، وتعمل على خنق الانقسامات السياسية وإحالة الصراع السياسي عنفاً أعمىً مدمّراً لا يُنتج سوى مزيد من العنف.
ضعف الحساسية الذي أبداه كثيرون من الوطنيين السوريين تجاه مجازر الساحل، وقبلها تجاه الإذلال والانتهاكات اليومية التي تعرّض لها العلويون في مناطق مختلفة بعد سقوط نظام الأسد، تكشف واحدةً من أسباب مراكمة الفشل، حين تنكفئ الفئة الأكثر أهمية في المجتمع عن الاعتصام بحبل القيم الوطنية العامّة، الذي هو ما يعطيها قيمتها.
العربي الجديد
—————————-
مجالس الصلح في سوريا.. تساند القضاء وتحل النزاعات وديا/ شام السبسبي
16/4/2025
ريف دمشق – بهدف تسوية النزاعات الأهلية والمجتمعية والتحكيم العادل في القضايا العالقة بين المتنازعين، شكَّل وجهاء وحقوقيون وزعماء دينيين مجالس صلح عامة في مدن وبلدات سورية، ويزاول عدد من تلك المجالس أعماله بالتنسيق مع النيابة العامة التابعة لوزارة العدل السورية.
ويعد مجلس الصلح في مدينة دوما، إحدى ضواحي دمشق ومركز ريفها، مثالا نموذجيا لتلك المجالس، حيث شُكّل في فبراير/شباط الماضي وتمكن حتى الآن من التسوية والفصل في عشرات القضايا المعروضة عليه من قبل الأهالي في الغوطة الشرقية.
ويضم المجلس قضاة ومحامين وزعماء دينين ورجال أعمال، ويعمل على تجاوز إرث التفرقة الذي خلَّفته سياسات النظام السوري المخلوع بين السوريين على مدى 14 عاما، وعلى احتواء الصراعات المختلفة التي نشأت بعد سقوط بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وعودة آلاف المهجرين لمنازلهم في ريف دمشق.
بالود والرحمة
ويهدف مجلس الصلح لإعادة بناء الثقة بين كافة مكونات المجتمع السوري، وتجاوز التحديات الراهنة، وإرساء قواعد تضمن استمرارية المسار الإصلاحي بعد انتصار الثورة السورية، وذلك بالاعتماد على مجموعة من الخبرات المحلية في دوما.
وحول أسباب تأسيس مجلس الصلح في دوما، يقول مؤسس المجلس المهندس نزار الصمادي إن “الدافع الأساسي يكمن في إرساء الصلح المجتمعي لأهميته في بناء مجتمع مستقر وتعزيز السلم الأهلي بعد انتصار الثورة في سوريا”.
ويضيف الصمادي للجزيرة نت أن ذلك يتم “عبر حل الخلافات التي نشأت جراء انقسام المجتمع في سوريا بين مؤيد ومعارض بسبب الدور الخبيث الذي لعبه النظام البائد عبر تكريس الخلافات الأفقية بين السوريين في المجتمع والبلدات وحتى ضمن أفراد الأسرة الواحدة”.
ويتابع أن المجلس يعمل على تكريس الصلح الذي ينهي الخلافات بين المتخاصمين بطرق “ودية وبناء على مبادئ العدل والرحمة والحكمة”.
كما أن المجلس قد يلجأ للتحكيم، إذا استحال الصلح بين المتخاصمين، وسيلةً لحل النزاعات خارج المحاكم القضائية بتنسيق مع النيابة العامة التي تجعل من قرار المجلس “ملزما” عند حضور الطرفين وتوقيعهما على صك القبول.
ويؤكد الصمادي أنه تم اختيار أعضاء المجلس بعناية، حيث يتألف من 16 شخصا، مقسمين لثلاث لجان، وكل لجنة تضم زعيما دينيا ومحكّما وقانونيا (قاضيا أو محاميا) وخبيرا عقاريا إضافة لأحد وجهاء البلدة.
وعن آليات التحكيم، يقول الصمادي إنها تبدأ بتوقيع الطرفين المتنازعين على صك تحكيم يقضي بقبولهما حكم المجلس، ومن ثم تُدون الوقائع بين المتخاصمين، والاستماع للشهود وجميع الأطراف قبل اللجوء إلى الصلح أو إصدار الحكم.
وتأتي أهمية المجلس من التزامه بمبدأ تغليب الصلح ما استطاع أعضاؤه ذلك، وحل القضايا في وقت قصير نسبيا مقارنة بالمحاكم، وتسهيل الإجراءات القانونية، وتقليل التكاليف الباهظة لإجراءات المحاكم، وتخفيف العبء عن الجهات المختصة.
“الملكية” أكثر النزاعات
ويقول محمود هارون، أحد أعضاء مجلس الصلح، للجزيرة نت إن “الخلافات كبيرة بين الناس، وهناك ضغط كبير على القضاء، ولذلك أنشئ المجلس، وأهم ما نلتزم به هو إرضاء طرفي النزاع قدر المستطاع، وأن يُلزم الحل أو الحُكم كليهما”.
واستقبل المجلس منذ إنشائه قضايا مختلفة شملت خلافات أسرية، وفض شراكات، وقضايا اقتتال، ونزاعات ملكية، وحوادث سير، وهي قضايا “حُلّت أغلبها بفضل الله”، حسب هارون.
في حين يشير نزار الصمادي إلى طغيان “نزاعات الملكية” على سائر القضايا الأخرى المعروضة على المجلس، وذلك بسبب مرسوم فرضه “النظام البائد” كان يقضي بعدم الاعتراف بعقود البيع والشراء التي صدرت في المناطق الخارجة عن سيطرته عام 2012.
ويضيف الصمادي، الذي ترأس بلدية دوما وكان عضوا في المجالس المحلية في الغوطة الشرقية عندما سيطر عليها الثوار، أنهم عملوا آنذاك على تسجيل تلك العقود في حينها، لكن مع عودة الغوطة الشرقية لسيطرة النظام عام 2018، ألغى الأخير كافة العقود التي أشرفت عليها المجالس المحلية.
ويقول “كما زوَّر كثير من ضعاف النفوس عقود بيع وشراء ظنا منهم أن المُهجَّرين قسرا لن يعودوا إلى بلداتهم، لهذا تأتينا الكثير من نزاعات الملكية”.
وإلى جانب قضايا الملكية، هناك شكاوى مرتبطة بصراعات بين المؤيدين والمعارضين للنظام السابق، وقضايا خلاف أسري، التي يلجأ المجلس إلى التحكيم فيها وفق مبدأ “إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”، مما يسهم في بناء مجتمع مستقر انطلاقا من الأسرة وصولا إلى الدوائر الكبرى كحل الخلافات والنزاعات بين بلدات بأكملها.
ويختلف هذا المجلس عن مجالس الصلح الأخرى التي تأسست بعد سقوط النظام بسبب دمجه لجان المصالحة مع التحكيم في آن واحد، في حين تعتمد المجالس الأخرى على إجراءات الصلح فقط، وقد لا تتضمن اختصاصين أو تحكيما ملزما.
مهام المجالس
وتشهد مدن وبلدات عدة في سوريا إنشاء مجالس صلح عام منذ سقوط نظام بشار الأسد، كمجلس الصلح في ناحية الحمراء في ريف حماة الشرقي، ومجلس الصلح في منطقة الصبيخان في محافظة دير الزور، ومجلس الصلح في منطقة السفيرة في محافظة حلب.
وتعمل معظم هذه المجالس بالتنسيق مع “مجلس الصلح العام” في منطقة حارم بمحافظة إدلب، والذي تم تأسيسه مطلع عام 2024 بالتنسيق مع الجهات المختصة في مدينة إدلب التي كانت حينها تخضع لسيطرة فصائل المعارضة السورية المسلحة.
ويحدد مجلس الصلح العام مهامه في تعزيز القيم الإسلامية والأخلاقية كالعفو والتعاون والتسامح والمودة، واحتواء النزاعات وحلها بعيدا عن العنف، وتعزيز وحدة وتماسك أفراد المجتمع والحفاظ على توازنه، وتخفيف العبء عن دُور القضاء ومنحها تركيزا أكبر للتعامل مع القضايا الكبرى، ونبذ الكراهية والتعصّب ونشر ثقافة التسامح والتعايش بين الأهالي، وتقليل الكلفة المادية للقضايا التي يكون المال شرطا لحلها.
كما تعزز هذه المجالس الاستقرار في عموم سوريا، وتنشر ثقافة حل المنازعات بالطرق السلمية دون الانجراف للعنف، وذلك في ظل جمود مسار العدالة الانتقالية الرسمية في بلاد مزقتها الحرب، وفرَّقت وخلقت العداوات بين سكانها طيلة 14 عاما.
المصدر : الجزيرة
—————————–
من السجون إلى المرور.. وزير الداخلية السوري يطلق إصلاحات في 10 مجالات
2025.04.16
أعلن وزير الدخلية السوري أنس خطاب الخطوط العريضة لخطط وزارته بعد تكليفه بمنصبه، مؤكداً عزمه على إعادة هيكلة العمل الأمني والإداري في البلاد، وتحديث المؤسسات التابعة للوزارة، بما يشمل الشرطة والمباحث والسجون والهجرة والمرور.
وشدد خطاب في سلسلة منشورات على منصة “إكس” الأربعاء، على ضرورة توحيد قيادة الأمن والشرطة في المحافظات، وملاحقة فلول النظام المخلوع، وتطوير العمل التقني والخدمي داخل الوزارة، لتقديم خدمات سريعة وفعالة للمواطنين، في ظل مرحلة جديدة وصفها بأنها تأسيس لبناء مجتمع آمن ينعم بالحياة الكريمة.
وتابع “منذ اللحظة الأولى التي تم فيها تكليفي بحقيبة وزارة الداخلية، شرعتُ في عقد الجلسات مع جميع الإدارات وقيادات الشرطة ومديريات الأمن والمكاتب المركزية في الوزارة، وذلك للاطلاع على واقع العمل، والوقوف على التحديات التي تواجهه، لتذليل العقبات واستثمار الطاقات، بما يحقق الرؤية التي قامت عليها وزارة الداخلية في بناء مجتمع آمن ينعم أهله بالاستقرار والحياة الحرة الكريمة. وقد لاحظت حجم الجهود التي بُذلت، والأعمال التي أُنجزت منذ اليوم الأول لتحرير العاصمة دمشق، على يد الأخوين وزيري الداخلية السابقين الأستاذ محمد عبد الرحمن، والمهندس علي كده، فنسأل الله أن يبارك في جهودهما، وجهود جميع العاملين في الوزارة”.
وأوضح “أنه بعد الانتهاء من الجلسات مع الجهات الرئيسية، أحب أن ألخّص لأهلي في سوريا أبرز الأفكار والخطط التي سنعمل عليها في الأيام القادمة”.
بسم الله الرحمن الرحيم
منذ اللحظة الأولى التي تم فيها تكليفي بحقيبة وزارة الداخلية، شرعتُ في عقد الجلسات مع جميع الإدارات وقيادات الشرطة ومديريات الأمن والمكاتب المركزية في الوزارة، وذلك للاطلاع على واقع العمل، والوقوف على التحديات التي تواجهه، لتذليل العقبات واستثمار الطاقات، pic.twitter.com/pyyWozC6sQ
— أنس حسان خطاب (@Anas_Khatab_sy)
April 16, 2025
في مجال الأمن والشرطة:
سنقوم بتمثيل وزارة الداخلية في كل محافظة بمسؤول واحد بدلاً من وجود مديرية للأمن وقيادة للشرطة، وستتبع جميع الأفرع والمكاتب في المحافظة لممثل الوزارة فيها، والذي سيكون مسؤولا عن الشرطة والأمن معاً.
في مجال المباحث الجنائية:
تم تكليف الإخوة في الإدارة بإعداد دراسة علمية وعملية للنهوض بعمل المباحث الجنائية وتطويرها، بما يتناسب مع الحاجة، من خلال تجهيز المخابر الجنائية وتزويدها بأحدث الأجهزة والتقنيات، وقد باشرت اللجنة عملها منذ أيام.
في مجال مكافحة المخدرات:
تم عقد جلسة مع المسؤولين في الإدارة لمناقشة تطوير عملها، ورفدها بما تحتاج من تجهيزات وموارد بشرية، بعد عقد الدورات التخصصية المناسبة لتخريج الكوادر اللازمة، خصوصًا مع ما ورثناه من بلد تم تحويله -للأسف- إلى مصنع للكبتاغون على يد تلك العصابة المجرمة.
في مجال التقنيات والبرمجيات:
عُقدت جلسات متنوعة مع مختصين في هذا المجال، وسنبدأ في المرحلة الأولى بتطوير قاعدة بيانات الأحوال المدنية، وكذلك تجهيز قاعدة بيانات خاصة لمعالجة المعلومات والطلبات الواردة إلى الوزارة، وفي المستقبل القريب بإذن الله، سنقوم بإطلاق تطبيقات إلكترونية خدمية بالتنسيق مع وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات، لتسهيل تقديم الخدمات إلى الإخوة المواطنين بأسرع وقت ممكن وبأقل التكاليف.
في مجال المرور:
تم عقد جلسة مع مدير الإدارة، وتم الاتفاق على الانتقال إلى الشكل الحديث في عمل المرور، وذلك عبر استخدام الكاميرات الذكية، وأجهزة رصد السرعة، وتتبع المخالفات وحوادث السير، كما تمت مناقشة الحلول الإسعافية للازدحامات الحاصلة في مدينة دمشق، ويجري حالياً دراسة هذه المقترحات عبر لجان مختصة.
في مجال الهجرة والجوازات:
كان من الواضح تركيز الكادر المكلف من قبل وزارة الداخلية على استمرار عمل هذه الإدارة دون توقف منذ اللحظات الأولى لتحرير دمشق، ولا يسعنا إلا أن نشكرهم، حيث تم تجهيز الإدارة فورًا، رغم الأضرار والحرائق التي أصابت مقرها الرئيسي، وقد باشرت الإدارة عملها بعد ذلك، حيث تم استخراج أكثر من 160 ألف جواز سفر، وتسيير آلاف المعاملات، وما يزال العمل جارياً لتطوير الإدارة، خصوصًا لما لها من ارتباط بمصالح الناس وشؤون حياتهم.
في مجال مكافحة فلول النظام:
أنهينا بفضل الله مشروع انقلاب تم التحضير له على يد مجموعة من ضباط النظام الساقط وأصبح من الماضي وذلك بجهود قواتنا وشعبنا، وقد شرعنا بعد ذلك في تحديث المعلومات بالتنسيق مع الجهات المختصة، والاطلاع على ما تم إنجازه بالتعاون مع وزارة الدفاع.
كما تم الاتفاق على تطوير الإدارة المعنية بملاحقة الخارجين عن القانون، من خلال تعزيز التنسيق مع الجهات الأمنية الأخرى في الوزارة، بما يسهم في ترسيخ الأمن والاستقرار.
في مجال الموارد البشرية والتخطيط ورسم الهيكليات والسياسات العامة:
تمت مناقشة جميع الجهات العاملة بضرورة تطوير هيكلية وزارة الداخلية، بما يتناسب مع الاحتياج والمهام المطلوبة. وما يزال العمل جارياً في هذا الصدد، وصولاً إلى البنية التنظيمية التي تغطي الحاجة، وتسهم في رسم علاقات صحيحة بين جميع الجهات التابعة لوزارة الداخلية.
في مجال السجون:
يرتبط هذا الملف لدى السوريين بذكريات أليمة. وقد عُقدت عدة جلسات مع المختصين في هذه الإدارة، نظرًا لأهميتها، للوقوف على معوقات العمل والسعي إلى تذليلها.
ونعمل جاهدين على أن تكون السجون منطلقًا لإعادة تأهيل الموقوفين، ليصبحوا أفرادًا منسجمين مع المجتمع، منتجين وفاعلين فيه، كما تم الاتفاق مؤخرًا مع إدارة الإنشاءات على إعادة تأهيل السجون الحالية بشكل مؤقت، ريثما يتم تجهيز مراكز توقيف جديدة تُسهم في تحقيق العدالة، وتكفل احترام حقوق الموقوفين.
تلفزيون سوريا
———————————–
وعاد السوريون يمارسون السياسة من أوسع أبوابها!/ منهل عروب
2025.04.16
لطالما ارتبطت السياسة في المخيلة السورية بالنضال والسجون والمنافي. العمل السياسي هو فعل معارض وصدامي حصراً. والانخراط في الشأن العام هو الطريق المثالي نحو السجن أو المنفى. الملاحقة تشمل أسرة الناشط أيضاً ضمن سياسة العقاب الجماعي في حقّ ذلك “السياسي ـ المناضل”؛ حيث تُحرم أسرته من الحصول على الموافقات الأمنية اللازمة للتوظيف أو للحصول على أوراق أخرى من رخص تجارية أو استيراد وتصدير وغيرها، ناهيك عن الاستدعاءات الأمنية المتكررة في حق أفراد أسرته. فالنظام الأسدي جعل من السياسة حقّاً حصرياً له، وأي محاولة لتغيير ذلك الوضع يُعتبر جريمة. والمواطن هو مجرد كائن متلقٍّ لتوجيهات السلطة.
أما داخل المنظومة الحاكمة فليس للوزير سوى تنفيذ تعليمات الزعيم أو السلطة العليا، وغالباً ما تكون سلطة أمنية. حيث لا تُمنح صلاحيات حقيقية للوزير في اتخاذ القرار. ولا يعمل ضمن فريق وزاري ينتمي لحزب واحد لديه رؤية مشتركة، طرحها على الجمهور وتم انتخابه على أساسها، أي تمّ تعيينه لينفذ رؤية تمّ طرحها على الجمهور مسبقاً، وقد اختار الشعب تلك الخطة على ما عداها، وهو هنا على المقعد لتنفيذها. بالتالي، فإن الحكومة في سوريا لا تُعتبر أداة فاعلة وقابلة للتطور وإعادة التشكيل حسب المصلحة، بل كانت تمثل جزءا من جهاز دولة بيروقراطي لا يمت للسياسة بأي صلة. التشكيلات الحكومية كانت مجرد إشعار بتغيير الأسماء، في حين يبقى الواقع السياسي على حاله.
لكن، ماذا تعني السياسة في جوهرها؟ السياسة ليست مجرد إدارة الشؤون الحكومية، بل هي إدارة اختلافات المصالح والرؤى في المجتمع من خلال المؤسسات، وأيضا مساحة تتيح للمواطن أن يعبر عن رأيه، أن يراقب أداء الحكومة، وأن يُحاسب المسؤولين عن قراراتهم. السياسة في أوروبا على سبيل المثال، ليست حكرا على القادة بل هي مساحة حرة للمشاركة. يتمكن المواطن في أوروبا من مراقبة الوزراء وتحليل برامجهم الانتخابية، ويُشترط أن يتمتع الوزير بالكفاءة والشفافية ليظل في منصبه.
في ألمانيا، على سبيل المثال، حين أخفقت وزيرة الأسرة في إدارة تمويل المشاريع المجتمعية، تم تسليط الضوء على هذا الفشل من قبل الإعلام، وكان هناك ضغط شعبي وبرلماني دفعها للاستقالة. وفي فرنسا، استقال وزير البيئة فرانسوا دو روجي في عام 2019 بعد أن أظهرت التحقيقات الصحفية استخدامه الأموال العامة في حفلات فاخرة، مما اضطره إلى الرحيل. في هذه النظم الديمقراطية، لا أحد فوق المحاسبة، وكل خطوة تُقاس من قبل الشعب. المسؤولون لا يُعتبرون محصنين من النقد أو الاستجواب. كثيراً ما تسمع عن استقالة وزير أو مسؤول بسبب قضايا تتعلق بالتهرب الضريبي أو حتى أخطاء بسيطة في سيرهم الذاتية أخفوها عن الجمهور وقت ترشيحهم وتم اكتشافها لاحقاً.
أما في سوريا فنظام الأسد الأمني يُمثّل السلطة الوحيدة التي تصنع القرار من دون أي مساءلة من أي جهة. ولكن بعد سقوطه بدأ يظهر تغيير جذري في الثقافة السياسية للشعب السوري. بدأ السوريون يتداولون السياسة بشكل يومي. وأصبح السياسيون في نظر المواطنين ليسوا مجرد موظفين حكوميين، بل جزءا من حياة الناس اليومية، وأصبح الشارع السوري يعج بالحديث عن القضايا السياسية، وتوسعت النقاشات لتشمل الأجيال المختلفة داخل الأسرة الواحدة، حيث أصبح الأبناء يناقشون مع آبائهم الأوضاع السياسية والحلول المستقبلية، بل أصبح الأمر يشمل حتى الجيل الأكبر سناً.
لم يكن هذا الاهتمام مفاجئاً، فقد شعر السوريون لأول مرة بعد عقود من القمع ليس فقط أن لديهم الحق في المشاركة في السياسة وتحديد مصيرهم السياسي والاجتماعي، بل إن هذا البلد بلدهم، وعليهم واجب المشاركة سواء بالنشاطات الميدانية أو بالسياسة بمعناها الحقيقي وهو مراقبة عمل الحكومة ونقدها ومحاسبتها. وقد ترافق هذا التحول مع الانفتاح يمكن أن نقول “النسبي”: في الفضاء السياسي، حتى وإن كان هذا التعبير لا يزال يواجه تحديات كبيرة من حيث الخبرة
في السياسة والعمل في التجمعات السياسية سواء الحزبية أو النقابية أو الجمعيات المدنية والتقاليد الحقوقية والسياسية التي تحكم عملها، وتضمن التفاعل والنجاح ضمن بوتقة اختلاف الآراء والتوجهات والأهداف، خصوصاً مع الاختلافات الإيديولوجية الحادة والتوترات وحالة عدم الثقة بين مختلف أطياف المجتمع السوري في الوقت الراهن. كان التفاعل السياسي في وسائل التواصل الاجتماعي بداية لتوسيع هذا الوعي، لكن الأهم من ذلك أن هذا النقاش انتقل إلى الحياة اليومية. أصبح الحديث عن السياسة في المقاهي أمراً عادياً، وأصبح المواطنون السوريون يتداولون الأخبار والتطورات السياسية كما يتناولون المواضيع الثقافية والاجتماعية.
في التشكيل الوزاري الأخير، ظهر مشهد غير مألوف: نقاشات حادة على وسائل التواصل الاجتماعي، تحليلات معمقة عن خطابات الوزراء من قبل متخصصين، تحليل لسير الوزراء الذاتية، تساؤلات عن مؤهلاتهم وخلفياتهم، بل حتى تداول واسع لمعلومات تتعلق بمصادر أموالهم وتاريخهم العلمي والأخلاقي. فجأة، صار الناس يهتمون بأسماء الوزراء، بخطط الحكومة بتصريحات المسؤولين ووضعها في الميزان، بطريقة تشكيل الحكومة، وحتى بالوجوه المتكررة التي تعود كل مرة، حتى لا تبقى مرة أخرى إلى الأبد!
لكن هذا التحول، رغم أهميته، لا يكفي لوحده لتحقيق نقلة نوعية في الممارسة السياسية في سوريا. الحكومة السورية، في حال أرادت أن تكون هناك دولة عادلة ومتقدمة، يجب أن تتبنى هذا التحول وتعززه. فالاهتمام السياسي الذي بدأ في الشارع والمنازل يجب أن يُترجم إلى آليات مؤسساتية تضمن حق المواطن في المشاركة السياسية الحقيقية. يجب أن تعترف الحكومة بحقوق المواطنين في الانتقاد، وفي المطالبة بالشفافية والمحاسبة. إضافة إلى ذلك، يجب أن يتم تأسيس ثقافة سياسية قائمة على احترام حقوق الإنسان، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، بحيث يُسمح للمعارضة السياسية بالمشاركة الفعّالة في الشأن العام، وأن تترسخ مفاهيم الديمقراطية والمشاركة الشعبية في الحياة السياسية اليومية. كما يجب أن تتاح الفرصة للأحزاب السياسية الحرة والمستقلة للظهور وممارسة دورها بشكل علني وشفاف.
الاستجابة لهذا التحول تتطلب تفعيل آليات الحكم الرشيد، مثل تقوية دور البرلمان، وإنشاء قنوات تشريعية مستقلة تتعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعيداً عن التحكم السلطوي المباشر. فلا يمكن تحقيق تحولاً حقيقياً من دون أن تترسخ هذه المفاهيم في النظام السياسي. هذا يتطلب من الحكومة ألا تكتفي فقط بالإصلاحات الشكلية، بل أن تعمل على توفير بيئة سياسية تشجع على التعددية والمشاركة الفعّالة و”الآمنة” لجميع المواطنين.
الخطوة الأهم هي أن يتحوّل الحديث عن السياسة من مجرد نقاشات عابرة في المقاهي إلى ممارسات سياسية مؤسساتية جدية تؤثر في اتخاذ القرار السياسي وتساهم في تشكيل السياسات العامة لخلق “مجال عام” حسب تعبير هابرماس يعمل فيه الجميع على إيجاد مصالح مشتركة جامعة. على الحكومة أن تدرك أن الديمقراطية لا تعني فقط السماح بإجراء الانتخابات وتشكيل حكومة، بل تعني أيضاً السماح للشعب بالمشاركة الفعلية في صنع القرار، وهكذا يعود السوريون إلى ممارسة السياسة ـ ليس بالصورة القديمة التي تعني الانتماء إلى حزب أو المشاركة في مظاهرة، بل بالصورة الأعمق: السؤال، والمراقبة، والنقد والاهتمام بما يُدار باسمهم. لقد خرجوا من دائرة الخوف ودخلوا دائرة الفعل. وهذا في حدّ ذاته إنجاز سياسي. وهو ما سيؤدي في النهاية إلى بناء سوريا التي ننشدها، والقائمة على العدالة والحرية والمساواة.
حسب ما نأمل طبعاً…
——————————
السوريون والصخب الفيسبوكي/ محمد برو
2025.04.16
يدرك أدنى متابع للضجيج الفيسبوكي على صفحات السوريين على مختلف اتجاهاتهم، ما للحدث التاريخي في سقوط نظام الأسد من أهمية كبرى، في رسم حاضر ومستقبل حياتهم وحياة أبنائهم من بعدهم. ولهذا السبب نجد الاشتباكات التي تصل إلى درجة الملحمية في الكثير من الحالات، بين مرحب بالتحول ومشكك به وصامت ينتظر انجلاء الغبار. كل هذا نتيجة ركام سنوات من الكبت والقهر، إضافة لفيض هائل من الآمال المعلقة على هذا السقوط. بغض النظر عما آلت إليه الأحوال بعد فرار أركان النظام الساقط، وما خلفه من دمار في شتى الصعد يصعب حصره بدء من الحجر، وصولا إلى باقي مناحي الحياة الإنسانية البسيطة واحتياجاتها الضرورية وحسب.
تشير المؤشرات الإحصائية إلى أن حضور السوريين عبر منصات التواصل الاجتماعي، تضاعف مرات عدة بدء من نهايات عام 2011، وأصبحت هذه المنصات منبرا سهلا لكل من يريد أن يصنع رأيا عاما، وهذا مع إيجابياته الكثيرة إلا أنه يخلق حالة من فقد التحكم والتحقق من صحة ودقة السرديات، وتصبح الروايات المتداولة والمتضاربة في معظم الأحيان غير ذات قيمة، بالمعنى المعرفي المؤسس لسردية يمكن تبنيها لعموم السوريين، أو للمهتمين بالمشهد السوري. لكن بعد سقوط النظام تضاعف اهتمام السوريين مرات عديدة وصار فضاء منصات التواصل شكلا متقدما ومتاحا لكل من أراد أن يعبر عن رأيه واهتماماته، بحرية كانت لعقود محض حلم، وكما ولدت حصارات الكورونا حالة احتقانا انفجر حين زال ذلك الحصار بسلوك انتقامي للمستهلكين، انتقام من أشهر العزل الطويلة والقاسية، كذلك أحدث سقوط النظام القمعي دفعة واحدة، وبلحظة غير مرتقبة وغير محسوبة حالة شبيهة، يعبر من خلالها المتحررون عن غضبهم من سنوات الكبت وكم الأفواه، بسلوك انتقامي من ذلك الصمت الطويل، هذا السلوك المشروع والمفهوم يحدث في الكثير من الأحيان حالة من فقد التوازن التي تربك صاحبها، وربما تخرجه عن مقاصده الأصلية.
يمكن للمتابع البسيط أن يميز بين تيارات رئيسية تتناول المشهد اليومي السوري، فهناك تيار متفائل ويريد للآمال التي يحملها أن تحظى بفرصتها للتحقق، ولو بشكل تدريجي وبطيء، فهو سعيد بأصغر إنجاز يحصل عليه ولو كان هذا التحصيل لا يتجاوز حدود الراحة النفسية، وانتفاء شبح الرعب اليومي من قتل واعتقال وتسلط كامل على جميع مقدرات حياته البائسة أصلا، وتيار رافض كليا للمجموعة التي تسلمت إدارة البلاد، فلا يجد فيها فعلا مقبولا مهما اجتهدت في أدائها المحدود والمحكوم بالحصار المستمر، هذا التيار تجده قد اتخذ وضعية المراقب المتحفز الساعي لنقد كل حركة ونأمة وتصريح يخرج عن مسؤول في الإدارة الجديدة، بل ربما يشكك في شرعيتها واستحقاقها أصلا، ولا يجد فيها إلا شكلا من أشكال هيمنة التيارات السلفية والجهادية، الأمر الذي لا يسمح له برؤية أية إيجابية لها ولما يمكن أن تعد به، لكن هذين التيارين وإن كانا الأكثر ضجيجا وحضورا على منصات التواصل، شكلا من حيث يريدان أو لا يريدان نواة لحرب إعلامية تدور رحاها كل ساعة، وعند كل حادثة أو صورة أو تصريح يتم تناقله فور صدوره، ناهيك عن التحليلات والإشاعات وما تفعله جيوش الذباب الإلكتروني من تسخين وتشويش في هذا الفضاء، علاوة عن الحرب التي لم تتوقف لساعة واحدة من قبل مؤيدي النظام المخلوع، الذين لم ولن يقبلوا انتزاع الامتيازات التي كانوا يتحصلون عليها اغتصابا من أصحابها، بالرغم من كل هذا إلا أن كلا التيارين بعيدان جدا كل البعد عن نبض الشارع وتطلعات الناس عامة في سوريا، فالسواد الأعظم من السوريين اليوم مهتمون بعودة الحياة بأبسط معانيها وأدواتها “كهرباء، ماء، مواصلات، سلع يومية بأسعار مقبولة، مدارس تنقذ أولادهم من سطوة الشارع المتوحش” ولا يشغلهم الإعلان الدستوري أو تصنيف بعض القادة العسكريين، أو فترة الإدارة الانتقالية بقدر انشغالاتهم اليومية المباشرة تلك.
ساهم غياب الإعلام الحكومي بتعزيز هذه الظاهرة، وصار المتابع يتنقل بين آلاف صفحات التواصل ليصل إلى حقيقة الموقف أو ما يعد به، الأمر الذي زاد الأمر تعقيدا وبلبالا، في الوقت الذي تتناقل فيه بعض الأوساط القريبة أن الإدارة الجديدة، تركت لإعلام النشطاء هذا الفضاء في الوقت الذي تنشغل فيه بمعارك مهمة لم تحسم بعد، هذا الأمر ساهم بشكل كبير في بعض زواياه في كشف مدى هشاشة الهوية الوطنية السورية الجامعة كما يفترض أن تكون، وأصبحت الخطابات
التي تعبر عن الانقسامات الطائفية تجد سبيلها ومبرراتها “بغض النظر عن صحتها” لتزيد من تعقيد المشهد، وبالرغم ما لتلك المنصات من فضائل وايجابيات في تعزيز الشفافية، وإشراك الناس عامة في الشأن العام وشعور ملايين الأفراد بقدرتهم على التعبير بصوت مرتفع، دون خشية الرقيب بعد تكميم أفواههم طيلة نصف قرن من القهر والحرمان، إلا أنه بذات الوقت أتاح انتشارا مؤذيا لخطاب الكراهية، الذي بدأنا نسمعه بشكل واضح وغير موارب والذي لا نأمن تحوله من ظاهرة صوتية إلى ظاهرة تشعل الفوضى في جسد لم يبدأ بعد رحلة التعافي من كوارث الماضي القريب ومخلفاته، سيما أن معظم اللاعبين في هذا الفضاء هم من الشباب، الذين يسهل تجييش الشطر الأكبر منهم وتحشيدهم، فمعظمهم نشأ في أجواء حرب قاسية قتلت براءته وطفولته وجعلت منه كائنا شديد التوتر.
كل ما سبق يعتمد على فهم إيجابي لمواقف السوريين، الذين يمارسون حقهم المشروع بالتعبير عن انفسهم ومواقفهم من جميع السلطات والمظاهر التي يعيشونها، جميع هذا لم يكن لينذر بخطر لولا أن أعدادا غفيرة ممن يسمون فلول النظام البائد وشبيحته، ممن لن يقبلوا أن يكونوا سواسية مع سائر السوريين، بعد أن عاشوا عقودا ينعمون بامتيازات مغتصبة من شعب أعزل، هؤلاء وهم يتلقون تحريضا ودعما أكبر من أحلامهم، لا يفترون عن تلويث تلك الفضاءات بدعوات تكفي لتدمير فرح السوريين وآمالهم، ويختلقون ويؤلفون بطريقة غثة ما يزيد الطين بلة من وقائع مكذوبة أو مضخمة بغية إشاعة الفوضى التي تحميهم من المحاسبة وحكم العدالة، لكن يبقى الأمل كبيرا في أن تستعيد سوريا والسوريون عافيتهم وينهضوا بسوريا جديدة طالما حلموا بها وضحوا من أجلها.
تلفزيون سوريا
—————————————-
لبناء سوريا الجديدة.. الشبكة السورية تدعو لتأسيس هيئة عدالة انتقالية مستقلة
2025.04.17
أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريراً مفصلاً يستعرض رؤيتها لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، وذلك في ضوء التغير السياسي الجذري الذي شهدته البلاد عقب سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
وأوضح التقرير أن المرحلة الانتقالية الراهنة تشكل منعطفاً تاريخياً يقتضي الانتقال نحو مرحلة جديدة تعالج الإرث الثقيل من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وترسخ مبادئ العدالة والسلام الأهلي. وفي هذا السياق، تُعد العدالة الانتقالية المنهج الأمثل لتحقيق تعافٍ شامل من آثار النزاع، وبناء أسس راسخة لدولة تقوم على سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز المصالحة الوطنية، بما يضمن استقراراً دائماً.
وأشار التقرير إلى أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان عملت على توثيق الانتهاكات بشكل يومي ومنهجي منذ عام 2011 وحتى الآن، وقامت بإنشاء قاعدة بيانات شاملة تحتوي على ملايين الوقائع، وأصدرت أكثر من 1800 تقرير وبيان غطَّت كافة مراحل النزاع. وقد وثَّقت هذه التقارير أبرز الخسائر البشرية والمادية التي خلفت آثاراً عميقة على المجتمع والدولة السورية خلال 14 عاماً، بما في ذلك القتل خارج نطاق القانون، والإخفاء القسري، والوفيات من جراء التعذيب، واستخدام الأسلحة المُدمِّرة، والتشريد القسري.
وأكد التقرير أن الخطوة الأولى لتحقيق العدالة الانتقالية تتمثل في تشكيل هيئة وطنية متخصصة، تتمتع بالكفاءة والنزاهة والخبرة، وتضم شخصيات مستقلة تمثل مختلف أطياف المجتمع السوري. وشدد التقرير على أهمية الملكية الوطنية والمشاركة المجتمعية، مؤكداً أن العدالة الانتقالية هي الركيزة الأساسية لعملية الانتقال السياسي.
إنشاء هيئة العدالة الانتقالية
الإطار القانوني لتشكيل هيئة وطنية للعدالة الانتقالية:
● يقوم المجلس التشريعي، الذي سيُشكَّل عقب الإعلان الدستوري، بإعداد قانون تأسيسي يُحدِّد مسار العدالة الانتقالية.
● يستند القانون التأسيسي إلى التشريعات الوطنية ذات الصلة ويتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، مما يعزز مصداقية الهيئة ويكسبها شرعية وطنية ودولية.
● يتضمن القانون عدة فصول تنظِّم هيكلية الهيئة، واختصاصاتها، وآليات عملها، ومعايير اختيار أعضائها، وأساليب تعاونها مع المؤسسات القضائية والرسمية، وآليات تقديم التقارير، وتحقيق مبادئ الشفافية والمساءلة.
تتوزع الفصول الرئيسة التي يجب أن يشملها القانون على النحو التالي:
الفصل الأول: التعريفات والمبادئ العامة
الفصل الثاني: هيكلية الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية
الفصل الثالث: آليات العدالة الانتقالية
الفصل الرابع: الإطار القانوني والتنظيمي لإصلاح المؤسسات
وأشار التقرير إلى أن فصول القانون التأسيسي قد تخضع للتعديل والتطوير وفق المتغيرات والظروف المستجدة في المشهد السوري.
وأكد التقرير على أهمية استقلالية الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية استقلالاً كاملاً عن السلطة التنفيذية، مع ضرورة عملها في ظل نظام قضائي مستقل ومحايد، وذلك على النحو التالي:
● ينص القانون على استقلال الهيئة عن وزارة العدل، باعتبارها جزءاً من السلطة التنفيذية.
● تعمل الهيئة في إطار النظام القضائي السوري، الذي يُفترض أن يكون مستقلاً تماماً عن السلطة التنفيذية.
● تتولى الهيئة مهام الكشف عن الحقيقة، وتوثيق الانتهاكات، وتعويض الضحايا، وتسهم مع السلطة القضائية في تشكيل محكمة خاصة لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم الجسيمة، بحيث تكون هذه المحكمة جزءاً من النظام القضائي الوطني.
● يُعد استقلال القضاء شرطاً أساسياً لتحقيق العدالة الانتقالية، ويجب تضمين ضمانات دستورية واضحة تؤكد استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية.
● تكون المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى على رأس النظام القضائي، الذي يتولى بدوره إنشاء المحكمة الخاصة بقضايا العدالة الانتقالية، وصياغة القانون الجنائي الذي يختص بمحاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
أركان العدالة الانتقالية في سوريا
يقول فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان: “لضمان نجاح عملية العدالة الانتقالية في سوريا، من الضروري أن تعمل جميع آليات العدالة الانتقالية، بما في ذلك المساءلة الجنائية، وكشف الحقيقة وتقصي الحقائق، وجبر الضرر والتعويض، والإصلاحات المؤسسية، بصورة متوازية ومتكاملة تحت إدارة موحدة ضمن إطار هيئة العدالة الانتقالية. يتيح هذا النهج الشامل معالجة جميع أوجه الانتهاكات بشكل منسق، مما يعزز فعاليتها واستجابتها لاحتياجات الضحايا والمجتمع السوري ككل”.
وفي ضوء ذلك، حدّد التقرير أربعة أركان أساسية لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، وهي:
● المحاسبة الجنائية
● كشف الحقيقة والمصالحة
● جبر الضرر والتعويض وتخليد الذكرى
● إصلاح المؤسسات (القضاء، والأمن، والجيش)
أ. المحاسبة الجنائية
على مدار 14 عاماً، قامت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالتوثيق اليومي الدقيق لانتهاكات نظام الأسد المخلوع، وأنشأت قاعدة بيانات شاملة تضم ملايين الوقائع الموثقة لمختلف أطراف النزاع. كما حددت الشبكة هوية الأفراد المتورطين في هذه الانتهاكات، وتمكنت من جمع قائمة موسعة تضم أسماء نحو 16,200 متورط، بينهم:
6,724 فرداً من القوات الرسمية، التي تشمل الجيش وأجهزة الأمن.
9,476 فرداً من القوات الرديفة، التي تضم ميليشيات ومجموعات مساندة قاتلت إلى جانب القوات الرسمية.
ونظراً للتحديات الكبيرة التي تواجه جهود المساءلة والمحاسبة، أكَّد التقرير على ضرورة التركيز على محاسبة القيادات العليا من الصفين الأول والثاني في الجيش وأجهزة الأمن التابعة للنظام السابق، والذين تورطوا بشكل مباشر في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترة الممتدة من آذار/مارس 2011 وحتى كانون الأول/ديسمبر 2024.
الإطار القانوني للمحاسبة الجنائية
شدد التقرير على أهمية وضع إطار قانوني واضح ومحدد للمحاسبة الجنائية، يتضمن:
● تشكيل هيئة العدالة الانتقالية لجاناً قانونية مختصة تضم خبراء محليين ودوليين لوضع هذا الإطار القانوني.
● قيام هذه اللجان بمهمة مراجعة وإصلاح القوانين المحلية الحالية، وخاصة تلك التي وُضعت لحماية النظام وأركانه أو التي تتعارض مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
● صياغة قوانين وتشريعات جديدة تتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتتكامل مع مبادئ وأحكام القانون الدولي.
● التأكيد على ضرورة الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية أو قبول اختصاصها بشكل واضح في الإطار القانوني.
تقصي الحقائق
لضمان فعالية المحاسبة الجنائية، أشار التقرير إلى أهمية الاعتماد على لجان تقصي الحقائق التي تؤدي دوراً محورياً في جمع الأدلة الجنائية والوثائق اللازمة وتقديمها إلى المحاكم المختصة بقضايا العدالة الانتقالية، مع التركيز على استرداد الأدلة والوثائق المخزنة في المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية، مثل:
● الفروع الأمنية ومراكز الاحتجاز والسجون
● دوائر السجل المدني
● المستشفيات العسكرية والمدنية
● المحاكم والدوائر القضائية
● المنشآت والمؤسسات المسؤولة عن سجلات الملكية والعقارات
● مراكز رعاية الأيتام
إنشاء محاكم مختلطة متخصصة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (محاكم وطنية بدعم من الخبرات الدولية)
أوضح التقرير أن المحاكم المختلطة تمثل خياراً عملياً وفعالاً في الحالة السورية، بالنظر إلى التحديات التي يعاني منها النظام القضائي الوطني، كضعف الموارد وإرث الفساد المترسخ من العهد السابق. وتقدم هذه المحاكم نموذجاً يجمع بين العناصر الوطنية والدولية في تشكيلها وفي أطرها القانونية والتنظيمية، مما يضمن الحفاظ على سيادة الدولة والملكية الوطنية لعملية المحاسبة، مع التزام كامل بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
وأكد التقرير أيضاً أهمية الاستفادة من الآليات الدولية المتاحة لمحاكمة مجرمي الحرب الذين فرّوا خارج البلاد، بما في ذلك استخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية، وتفعيل الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لتسليم المطلوبين إلى الجهات القضائية المختصة.
ب. الحقيقة والمصالحة
أكّد التقرير أهمية إنشاء لجان متخصصة لكشف الحقيقة، تتولى مهام توثيق الانتهاكات وتحديد مرتكبيها ودعم جهود العدالة والمساءلة، بهدف ترسيخ أسس المصالحة الوطنية. ويتم ذلك عبر:
● اعتماد منهج يركز على الضحايا عبر توثيق شهاداتهم ورواياتهم، بما يسهم في صياغة ذاكرة وطنية مشتركة حول الانتهاكات.
● جمع شهادات المتورطين بالانتهاكات بهدف فهم البنية التنظيمية لهذه الجرائم، والكشف عن تفاصيل وآليات تنفيذها.
● تحديد مصير المفقودين كخطوة جوهرية في عملية كشف الحقيقة، وإعادة الكرامة للضحايا والتخفيف من معاناة ذويهم.
دور لجان الحقيقة في تحقيق المصالحة
وفقاً للتقرير، تؤدي لجان الحقيقة دوراً محورياً في تحقيق مستوى من العدالة المحلية من خلال معالجة المظالم وتسهيل المصالحة من دون الاعتماد الكامل على النظام القضائي الرسمي. يتم ذلك عبر تشكيل مجالس عُرفية ولجان مصالحة في مختلف المحافظات السورية، تضم وجهاء المجتمع من شخصيات قيادية، ووجهاء عشائريين، ورجال دين، مع الاستفادة من تجارب المجتمع السوري التي طوّرت على مدى السنوات الماضية آليات الصلح العشائري، والتي تشمل حلولاً تقوم على الصفح، أو التسامح بموجب اتفاقيات تراضٍ، أو دفع الدية، أو الاعترافات العلنية كبديل للعقوبات التقليدية.
ت. جبر الضرر والتعويض وتخليد الذكرى
أكد التقرير على أهمية إعداد وتنفيذ برامج شاملة لجبر الضرر والتعويض، تتضمن تقديم الدعم المادي والمعنوي للضحايا، وضمان إعادة إدماجهم بشكل فعّال في المجتمع، وذلك من خلال لجان متخصصة تتولى المهام التالية:
● تحديد الفئات التي يشملها برنامج التعويض.
● تحديد طبيعة الأضرار التي يمكن التعويض عنها، سواء كانت اقتصادية أو جسدية أو نفسية.
● تصميم هيكل متكامل للتعويضات يشمل التعويضات الفردية، والتعويضات الموجهة للمجتمعات المتضررة، والتعويضات المقدمة على شكل خدمات، إضافة إلى جبر الضرر المعنوي.
● وضع آلية واضحة لتوزيع التعويضات مع تحديد إطار زمني مُلزم لإنجاز هذه العملية.
التعويض المادي
أشار التقرير إلى أن التعويض المادي لا يقتصر على المنح المالية المباشرة فقط، بل يمكن أن يشمل أيضاً منح الضحايا خدمات تفضيلية في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، وإعادة حقوق الملكية وتمويل مشاريع الإسكان وتأهيل البنية التحتية، ودعم التأهيل الاقتصادي الفردي والجماعي، إضافةً إلى إنشاء برامج لتعويض خسائر الدخل.
جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى
سلّط التقرير الضوء على أهمية تقديم مختلف أشكال الدعم المعنوي للضحايا، بما في ذلك برامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي، والدعم القانوني. ومن الممكن تقديم تعويضات رمزية كاعتراف علني بالتضحيات التي قدّمها الضحايا، وتقديم الاعتذارات العلنية من قِبل مرتكبي الجرائم.
وأوضح التقرير أن طرق تخليد ذكرى الضحايا تشمل إقامة النصب التذكارية، وتخصيص أيام وطنية لإحياء الذكرى، وإنشاء المتاحف والمراكز الأرشيفية التي توثّق الانتهاكات، وإطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة، وإدماج إرث الثورة والانتهاكات في مناهج التعليم الوطنية، إلى جانب الاعتراف الرسمي بالتضحيات التي قدمها الشعب السوري، وتقديم الاعتذارات العلنية من الأطراف المسؤولة.
ث. إصلاح المؤسسات
أكد التقرير أنَّ إصلاح مؤسسات الدولة كافة يُعد ضرورةً ملحَّة نظراً لما شهدته من فساد وتدهور خلال عهد النظام السابق، لكنه شدَّد على منح الأولوية في المرحلة الانتقالية للمؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية، كونها الأكثر تورطاً في الانتهاكات الجسيمة التي استهدفت الشعب السوري خلال سنوات النزاع.
إصلاح المؤسسة القضائية
اعتبر التقرير أنَّ إصلاح القضاء يمثل أولويةً أساسية في المرحلة الانتقالية، بهدف تعزيز آليات المساءلة، والحد من الإفلات من العقاب، وترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي.
وقد قدّم التقرير خريطة طريق تفصيلية لإصلاح المؤسسة القضائية، من أبرز محاورها:
● إعادة هيكلة مجلس القضاء الأعلى والقوانين الناظمة لاستقلال القضاء.
● إلغاء المحاكم الاستثنائية ودمجها في إطار القضاء العادي.
● تعزيز الشفافية في آليات تعيين وترقية القضاة، وتحسين ظروفهم المعيشية.
كذلك، أبرز التقرير الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني والجهات الدولية في دعم عملية الإصلاح القضائي، من خلال تقديم الدعم الفني والقانوني، وتنفيذ برامج التدريب المتخصصة، وتفعيل دور النقابات المستقلة وجمعيات القضاة، والاستعانة بخبرات قانونية دولية متخصصة.
إصلاح القطاع الأمني
وضع التقرير إطاراً متكاملاً للإصلاح الأمني في سوريا المستقبل، يرتكز على المحاور التالية:
● إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتحديد مهامها وصلاحياتها بشكل واضح.
● إصلاح العقيدة الأمنية بما يضمن حماية المواطنين واحترام حقوق الإنسان.
● تطوير نظام واضح للتجنيد والتوظيف ضمن الأجهزة الأمنية.
● تعزيز مبادئ الشفافية وآليات المساءلة والرقابة الداخلية.
ولفت التقرير إلى وجود تحديات كبيرة في عملية إصلاح القطاع الأمني، أهمها:
● المقاومة السياسية والطائفية الناتجة عن صعوبة تفكيك الولاءات المتجذرة داخل الأجهزة الأمنية.
● المقاومة الداخلية التي يبديها بعض أفراد الأجهزة الأمنية خوفاً من فقدان نفوذهم أو امتيازاتهم.
● القيود الاقتصادية المرتبطة بصعوبة توفير الموارد المالية اللازمة لتحسين ظروف العاملين في القطاع الأمني من دون التأثير سلباً على القطاعات الحيوية الأخرى، كالتعليم والصحة.
إصلاح المؤسسة العسكرية
أشار التقرير إلى أنَّ عملية إصلاح المؤسسة العسكرية السورية في مرحلة ما بعد سقوط الأسد وتفكك الجيش السابق، هي عملية طويلة ومعقدة، لكنها تظل ضرورةً حتمية لاستعادة الاستقرار وبناء دولة قوية ومتماسكة، واستعادة الثقة بين المواطنين والقوات المسلحة.
تتطلب هذه العملية إجراءات أساسية تشمل:
● نزع سلاح المجموعات المسلحة كافة.
● تفكيك الهياكل العسكرية الموازية ودمج جميع الفصائل ضمن جيش وطني موحد.
● إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية على نحو يضمن عدم تكرار الانتهاكات السابقة.
خطوات إصلاح المؤسسة العسكرية
وفقاً للتقرير، يتطلب إصلاح المؤسسة العسكرية اعتماد خطة شاملة تتضمن المحاور التالية:
● توفير إطار سياسي وقانوني من خلال سن التشريعات الضرورية لعملية الدمج والمساءلة، بما يتوافق مع القانون الدولي.
● إحصاء وتقييم الفصائل المسلحة.
● تسريح العناصر غير المؤهلة وإعادة إدماجهم في الحياة المدنية.
● إعادة توزيع القوى البشرية بشكل متوازن.
● توفير برامج التدريب وإعادة التأهيل.
● إنشاء هيكل تنظيمي جديد يعكس التنوع المجتمعي ويعزز الهوية الوطنية.
● توفير التسليح والتجهيز اللازم للجيش وفق معايير واضحة.
● إنشاء هيئة مدنية مستقلة للإشراف والمحاسبة ومراقبة عملية الإصلاح وضمان الشفافية، إضافة إلى تشكيل محاكم عسكرية متخصصة لمحاسبة الأفراد المتورطين في الانتهاكات.
خاتمة: نحو مستقبل سوري قائم على العدالة والكرامة
خلص التقرير إلى أنَّ هذه الرؤية التي تقدّمها الشبكة السورية لحقوق الإنسان تمثّل خريطة طريق نحو بناء سوريا الجديدة، وأنَّ الالتزام بمسار العدالة الانتقالية يُعد ضرورة وطنية لضمان عدم تكرار مأساة الماضي، وتحقيق الاستقرار الدائم الذي يطمح إليه السوريون بعد عقود من الاستبداد والنزاع المدمر.
وشدَّد التقرير على أن نجاح هذه الرؤية يتطلب التزاماً جماعياً من جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الضحايا والناجون، مؤسسات الدولة، منظمات المجتمع المدني، والمجتمع الدولي. فليس بمقدور أي طرف بمفرده أن يحقق العدالة الانتقالية، كما أنه لا يمكن لأي ركن من أركانها الأربعة (المحاسبة الجنائية، كشف الحقيقة، التعويض وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات) أن يحقق الفعالية المنشودة بمعزل عن بقية الأركان.
وأكد التقرير أخيراً على أن العدالة الانتقالية ليست نهاية الطريق، بل هي بداية مسار طويل نحو التعافي الوطني الشامل وإعادة بناء سوريا التي يستحقها كل السوريين؛ سوريا الحرية والكرامة، دولة القانون والعدالة.
تلفزيون سوريا
——————————-
“الضمير الحيّ” بصفته ضرورة وطنية/ مالك داغستاني
2025.04.17
في لحظات الاستقطاب الحاد، حيث الهوى وبالتالي الانحياز، وليس العقل، يكونان في أشد حالتيهما كثافة، تضيع الثقافة العقلانية والضمير الحيّ للأسف، بل ويتم الدَوس عليهما أحياناً، حين ينتمي المثقفون والنخب إلى “غَزِيَّة” ما، في أشد لحظاتها غِيّا.
في مادة سابقة لي قبل قرابة شهر، كتبتُ “لن يكون العالم اليوم بواردِ أي تغيير دراماتيكي آخر في سوريا، وهذه يجب اعتبارها مُسلَّمة قبل البدء بأي نقاش حول مستقبل البلد.. التغيير الأخير وإسقاط نظام الأسد، حدث بضوء أخضر دولي وإقليمي. ولن يتم التراجع عنه خلال أشهر ولا خلال سنوات قليلة”.
كان تأكيدي على تلك المسلَّمة، رداً على رؤية (رغبات) بعض النخب السورية، أن بإمكان بعض التحركات “الوَلّاديّة” المُكلِفة، جعل العالم ينقلب على الإدارة السورية الجديدة.
ينقِّب كثر من محللي النخب اليوم عن إشارات مهما كانت بسيطة قادمة من الغرب، خصوصاً من أميركا، كي يصدّقوا، أحياناً يروّجوا، أن هناك احتمالا للإطاحة بحكومة الشرع، وهذا ما يناسب ميلهم السياسي، المشروع من حيث المبدأ. مع ما يشبه التعامي عن الكثير من الرسائل الواضحة، بل الفاقعة، بأن هناك رضا دوليا، وما يشبه الاتفاق على برنامجٍ زمني أُعطي للإدارة السورية، لتقود خلاله التحوّلات التي تطلبها تلك الأطراف الدولية، ليتم بموجبها حجز السلطات الجديدة مقعدها لزمن غير مشروط، حتى الآن.
المؤسف، أنه بدل أن يرى هؤلاء أن سقوط الأسد هي هِبة قدّمتها تصاريف التاريخ مع أهمية التضحيات الباهظة طبعاً، ما فتحَ صيرورة سوريا جديدة، كان حكم الأسدين الأب والابن قد أقفلاها بإحكام وحالا دونها، فإنهم يحللون ويطرحون، بخفّة، ما يناسب الأهواء والميول (النفسية) التي يحملونها.
على غرارهم، في المقابل هناك أصوات ساذجة ترى أن حكم التاريخ قد قُضي، على نحوٍ نافذٍ ونهائي، فأفضى إلى أبدٍ جديد إسلاميّ الهوى، دون أن يتعلم هؤلاء شيئاً من مكائد هذا التاريخ. الكارثة أن معظم هؤلاء، من الطرفين، إن لم يكونوا محكومين بالميول الطائفية صراحةً، فإن هذا الانتماء أو ذاك (بحسب إحصاء شخصي، أرجو أن تسامحوني عليه)، يفصح عن نفسه بوضوح فاضح.
بعد عقود من الدم والسجون والمجازر والتهديم. وبعد سقوط نظام حَكَم البلاد بقبضة أمنية حديدية، تقف سوريا اليوم أمام مفترق طرق. ما بين الحلم بوطن حر موحد، ومخاوف التفكك، وما بين خطاب المصالحة، وصوت الكراهية. لنرى أن ثمة فراغا يزداد اتساعا كل يوم. فراغ
يغيب عنه صوت العقل البارد الذي يستطيع أن يرى الأشياء كما هي، لا كما يريدها أصحاب الأجندات الخاصّة.
منذ شهور، دخلتْ سوريا مرحلة جديدة مملوءة بالأسئلة التي لا إجابات لها بعد. وإن وجدت بعض الإجابات، فهي غالبا قاصرة أو تتبع الرغبة والميل وليس حقائق الأرض والواقع. صحيح أن حقبة الاستبداد الطويلة طُويت، إلا أن البلاد لم تدخل بعد عهد الاستقرار، وهي تقف على مفترق طرق محفوف بالاستقطاب الطائفي، والانقسام المجتمعي، والضبابية السياسية. هذه الانقسامات لا تقتصر على عامة الناس، بل تمتد، للأسف، لتصيب النخب والمثقفين، الذين كان يُنتظر منهم أن يلعبوا دور الجسر، لا أن يتحولوا إلى أدوات جديدة في المعركة المستحدثة.
اليوم خرج هذا الاستقطاب إلى السطح، وتحوّل إلى مادة يومية في النقاش السياسي والإعلامي، وحتى الثقافي. في هذا المناخ، يجد الكثير من المثقفين أنفسهم أمام خيارين. إما الاصطفاف مع أحد الطرفين، اصطفاف يبدو لدى البعض قهريا، أو الانزواء في الهامش خوفا من أن يُحسبوا على أحدهما. قلّة انتبهوا إلى خيار ثالث، أكثر شجاعة وإن كان أصعب، أن يكون المثقف صوت العقل والضمير في زمن الانقسام. يحاول مخاطبة الجميع من موقع لا يخلو من النقد، مع حرصه على البناء. ولو أدّى ذلك إلى لومه، أحيانا تخوينه، من كل أطراف الاستقطاب، بحسب الحال.
لكن، هل يملك هذا الصوت العقلاني القدرة على اختراق جدران الاستقطاب، والتأثير في مسار مستقبل البلد؟ طبعاً نعلم جيداً أن هذا الاستقطاب هو في جوهره نتاج طبيعي لعقود من الحكم الاستبدادي الذي زرع بذور الفتنة، وعمّق الشكوك، وحرص على إبقاء المجتمع السوري في حالة من الانقسام المبطّن. ومع ذلك يجب أن تبقى الإجابة نعم، الأمل ما زال قائماً بالمثابرة دون خوف ولا انحياز.
الرهان على الصوت المثقف العقلاني لا يعني، أن يكون محايدا بالمعنى السلبي، أو ألا يحمل موقفا. بل على العكس، المطلوب منه أن يمتلك موقفا أخلاقيا ووطنيا، لا يهادن الخطاب الطائفي أو الإثني من أي طرف جاء، والأهم ألا ينجرّ لخطاب التخوين، ولا يُجامل في المبادئ الأساسية مثل العدالة، والحرية، وكرامة الإنسان. وألا يرفض ثنائية “نحن/هم” التي تقوم عليها معظم أشكال الاستقطاب وحسب، بل عليه تفكيك تلك الثنائية.
قد يكون المطلوب هو خطاب يُعيد التذكير بالهوية السورية الجامعة، دون إنكار التنوع والهويات الفرعية، بل بالاعتراف بها ودمجها في مشروع وطني موحِّد. وقد يكون من الشجاعة أن يبدأ هذا الخطاب أولا بمراجعة مواقف من يشبهونه في الانتماء الفرعي، من طائفته أو إثنيته، قبل أن ينتقد الآخرين. هذا النوع من النقد هو أول خطوة في تفكيك روايات الكراهية
والانتصار والغلبة. عليه أن يقف على مسافة واحدة من الجميع، ويعمل على نقد الجميع من منطلق وطني وأخلاقي. بهدف إيجاد مشروع مجتمعي لإعادة بناء الثقة. نيلسون مانديلا وما فعله في جنوب أفريقيا، مثال يحسُن تذكره في هذا المقام.
ما أراه، أن على المثقف العقلاني لعب دور المؤسس، لا دور المصفق ولا المحرّض. فليس المطلوب أن يُرضي الجميع، بل عليه أن يُربِك الجميع برؤيته وطرحه للواقع على حقيقته دون مواربة. الشروخ الموروثة في المجتمع السوري إن استمرّت أو تفاقمت، لا تعرقل بناء الدولة المدنية والديمقراطية وحسب بل تهدد السلم الأهلي، ما يستجلب كوارث جديدة. لا أكتب كل ما أكتب لأنني مثالي أو رومانسي، بل لأنني أؤمن بأن العقل والضمير الحيّ في زمن الجنون، ليس ترفا نافلا، وإنما ضرورة وطنية، لتنبني سوريا على أرضية صلبة، لا تقوم على الخوف ولا على الغلَبة، بل على شراكة تحمي الجميع.
تلفزيون سوريا
—————————–
الصراع على سوريا.. وخفايا الانضمام إلى التحالف الدولي/ نزار بعريني
2025.04.17
أفاد تقرير في صحيفة “النهار” “اللبنانية” عن فشل انضمام الإدارة السورية الجديدة إلى ما يُسمّى “التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب”، بعد رفض الولايات المتحدة، من دون أن يُقدّم معد التقرير أيّ دليل على تقديم طلب الانضمام، أو بيان الرفض.
وليس هذا بغريب على الجريدة العريقة التي أصبحت بعد اغتيال صاحبها التاريخي، “الشهيد جبران تويني”، أحد أبرز وسائل التضليل التابعة لـ”محور المقاومة”!
يُسوّقون لدعايات أنّ الهدف من سعي واشنطن وباريس لضم السلطة الجديدة إلى “التحالف الدولي” هو الحرص على بناء مؤسسة عسكرية وطنية، خالية من الغرباء غير المؤهلين لمحاربة “داعش”، لأنّ “التحالف الدولي ضد داعش، بقيادة الولايات المتحدة، ليس مجرد تكتل عسكري، بل هو معيار دولي لقياس التماهي مع منظومة القيم التي تتبناها القوى الغربية الكبرى، وعلى رأسها شرط الاحتراف المؤسساتي العسكري، والقطيعة مع منطق “الميليشيا العابر للحدود” (وفق ما قال لـ”النهار” مالك الحافظ، وهو باحث سوري في القضايا الدولية).
والحكومة السورية تقول إنّها ترفض الانضمام إلى التحالف الدولي لأنّها ستكون بجانب “قسد”، وهي تعتبر نفسها الممثل الوحيد للدولة السورية، ولأنّ نجاح العملية السياسية الوطنية الجارية يُوجِب ويتطلّب توحيد الجغرافيا، وحصر السلاح بيد الدولة!!
على أيّة حال، لماذا تحرص واشنطن وباريس على انضمام الحكومة السورية إلى “التحالف الدولي”، وتمارسان كلّ الضغوط على السلطة الجديدة لجرّها، خاصة “شرط رفع العقوبات” القاتلة؟ لماذا يحرصون على وجود الإدارة السورية في تحالفهم؟
هل هو حرص على أن تُلبّي السلطة الجديدة “المعيار الدولي” لقياس التماهي مع منظومة القيم التي تتبناها القوى الغربية الكبرى، كما يدّعي “الباحث الحيادي” مالك الحافظ؟
هل هو خشية من وجود “الأجانب” داخل الجيش السوري الجديد، الذين يريدون له أن يكون “مؤسسة وطنية” وفقًا لمعايير مصالحهم؟
ألا يدرك السادة الأفاضل في قيادة التحالف، والسيد الباحث الدولي “مالك الحافظ”، أنّ مَن يقود جيش “قسد”، حليفهم السوري، ويشكّل عموده الفقري، العسكري والأمني، هم جزء لا يتجزأ من قيادة حزب العمال الكردستاني التركي العسكرية (الإرهابية، وفقًا للمعايير الأميركية ذاتها!)، الذين يتخذون من قنديل ملاذًا تحت مظلّة حماية “الحرس الثوري الإيراني” (الإرهابي، وفقًا للمعايير ذاتها!!)، وقد رفضت تلك القيادة الإيرانية في “قسد”، وشركاؤها في تحالف “المعيار الدولي”، حتى وجود “البيشمركة الكردية” التي ينتمي أفرادها إلى الأكراد السوريين؟
الحقيقة التي يكذبون من أجل طمسها هي أنّ مشكلتهم ليست مع “الأجانب”، طالما يكون هؤلاء تحت سيطرتهم، وينفّذون تعليماتهم، بل ما يسعون إليه هو هدف آخر، يُغطّون عليه، بتواطؤ مع “النهار” والباحث “الحافظ”، ويرتبط مباشرة بالحرص على تثبيت مرتكزات التقسيم التي عمل عليها “التحالف الدولي لمحاربة داعش” نفسه وشريكه “قسد”، بعد تدخّل جيوشه المباشر خلال صيف 2014، وكان كانتون “قسد” (الديمقراطي)، الذي تقوده “عناصر أجنبية – إيرانية وتركية”، أبرز إنجازاته!
أن تكون السلطة في التحالف الدولي الذي يضمّ “قسد” يعني أن تصبح السلطة الطرف السوري الثاني في التحالف… بما يشرعن وجود سلطتين، ويثبّت عوامل تقسيم سوريا، وهو الهدف المركزي الذي تسعى إليه واشنطن، وطابورها في التحالف الدولي، منذ ربيع 2011!
ليس خارج السياق، يقول تقرير السفيرة “دوروثي شيا” في إيجاز لمجلس الأمن بشأن الوضع في الشرق الأوسط: “إنّ استقرار سوريا وسيادتها أمران حاسمان لأمننا الجماعي”.
إذا كان من حق الولايات المتّحدة أن تسعى لتحقيق ما يضمن أمنها وأمن شركائها في مآلات العملية السياسية السورية الجارية، أليس أولى بالسوريين، أصحاب المصلحة، أن يعرفوا أين تكمن عوامل بناء “استقرار سوريا وسيادتها” من منظور مصالحهم الوطنية المشتركة؟
من نافل القول إنّ في مصلحة سوريا، الدولة السورية الوطنية الموحّدة، وفي مصلحة السوريين، الذين يتوقون إلى توفير شروط استقرار دائمة، بناء مؤسسات دولة القانون والعدالة، على جميع المستويات، خاصة على مستوى المؤسسات السيادية، العسكرية والأمنية، وما يُوجبه في ممارسات السلطة الجديدة من ضرورة استبعاد الأجانب، والاعتماد على العنصر الوطني السوري غير المؤدلج، الذي يؤمن بموجّبات قيام سوريا الجديدة، دولة المواطنة المتساوية، وهذه حقيقة لا تستطيع، ولا يجب، على السلطة الجديدة تجاهلها إذا كانت تسعى فعلًا لأن تكون سلطة وطنية، وتُعبّر عن مصالح السوريين الوطنية المشتركة.
لكن، ماذا عن “المقلب الآخر”؟!
إذا كانت ترى واشنطن، وشركاؤها في “التحالف الدولي”، أنّ ما يضمن “استقرار سوريا وسيادتها” هو تثبيت الوقائع القائمة التي تعزز شروط بقاء “سلطتين” و”جيشين” وتقسيم سوريا، فكيف يمكن التوفيق بين مصلحة سوريا، والسوريين، وبين رؤية واشنطن التي ترى، كما ترى “قسد”، أنّ ضمان شروط استقرار سوريا ووحدتها هو في الحفاظ على وجود سلطتين؟
لماذا تتجاهل ما تسمّى “القوى الديمقراطية” هذه الحقائق، وترفض سياسات السلطة الإقصائية، وهو واجب وحق، لكنها تفعل ذلك على أرضية المواقف الداعمة لـ”قسد”، ورؤية تحالفها الدولي اللاوطنية.
سوريا غير قابلة للتقسيم، وكلّ مَن يسعى إلى ذلك، أو يعمل على توفير شروطه، سواء داخل الحكومة أو في “المعارضات الديمقراطية”، يقف – من منظور مصالح السوريين المشتركة، وموجّبات الأمن القومي السوري – في الخندق اللاوطني، وعلى جميع الوطنيين السوريين إدراك مخاطر مشروع التقسيم، وهويّة القوى التي تعمل عليه، والعمل على مواجهتها بجميع السبل الوطنية المشروعة.
لم تكن لتصل سلطة حافظ الأسد إلى مرتبة الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن (وتل أبيب) إلا “بفضل” المجازر التي ارتكبتها ضد الشعب السوري منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، خاصة مجازر حماة وحلب وجسر الشغور، والأزبكية، وقد حصل (الأهبل الفار) وسلطته اللاوطنية على درجة شراكة واشنطن في مشروع تقسيم سوريا ومحاربة الإرهاب، عندما وافق في ربيع 2011 على الذهاب في مسارات الخيار الأمني العسكري الميليشياوي في مواجهة السوريين، ومطالبهم المشروعة، وقد حصل المخلوع على حصّته، وكانت تعمل خطوات وإجراءات إعادة تأهيله الأميركية على تثبيت سلطته، وكانت ستؤدي إلى “توريث جديد” لولا تعارض شبكة السيطرة الأميركية مع مصالح وسياسات “إسرائيل” و”تركيا”، التي شكّلت العامل الرئيسي في إسقاطه، وفتح صيرورة أميركية جديدة، بنفس الأدوات الأميركية المتجددة.
وبالتالي، فإنّ “دماء السوريين” لا تدخل أبدًا في حسابات السيطرة الأميركية إلا بقدر ما تشكّله من أوراق ضغط لتحقيق أهداف واشنطن، وليست “عقوبات قيصر” إلا دليلًا واضحًا على موضوعية هذا الاستنتاج.
تلفزيون سوريا
—————————
هل الشرع عقبة أمام سوريا الجديدة؟/ محمود علوش
2025.04.17
من بين الأسئلة، التي تستحق نقاشاً مُعمّقاً للوصول إلى إجابة واضحة لها، ما إذا كان الرئيس أحمد الشرع عقبة أمام سوريا الجديدة وانفتاحها على الغرب وسبباً في عدوانية إسرائيل تجاهها.
وهذا التساؤل يستمد مشروعيته من واقع أن الدول الغربية وإسرائيل تربطان في الغالب حذرها وقلقها من الحكم الجديد في سوريا بالرئيس الشرع وبخلفيته الإسلامية أولاً والجهادية سابقاً ثانياً.
ولا شك أن تصدر الشرع وهيئة تحرير الشام للمشهد السوري بعد الإطاحة بنظام المخلوع بشار الأسد جلب عُقدة إضافية لسوريا وهي تبدو كبيرة ظاهرياً. مع ذلك، هناك ثلاثة سياقات يُمكن أن تُجيب على هذا التساؤل وتُضعف حجج هذا الاعتقاد.
السياق الأول: الدول الغربية، وعلى الرغم من أنها كانت تُفضل حاكماً لسوريا غير الشرع وليست لديه خلفيات تدعو للقلق، إلآّ أنها تتعامل مع الشرع كأمر واقع لاعتبارين. لأنه سدّ فراغ السلطة حيث هناك تصور بأنه الوحيد الذي كان قادراً على فعل ذلك، ووكذلك لأنه يستمد قوته في السلطة من رغبة فئة كبيرة من السوريين باستقرار السلطة الجديدة التي بدونها لا يُمكن لسوريا أن تُعظم من فرص نجاح عملية التحول ولا أن تتعامل مع التحديات الكبيرة التي تواجهها في الوقت الحالي لا سيما الأمن والاقتصاد. لا يعني ذلك بالضرورة أن هذه الفئة تُؤيّد الشرع لشخصه ولا يعني العكس أيضاً. لكنّه في المُحصلة، فإن الغرب يُدرك أن الشرع جزء رئيسي من واقع سوري جديد ولا يُمكن تجاهله بأي حال. ولو كانت فكرة التجاهل مُمكنة أو واقعية لما أظهر الغرب انفتاحاً على التعامل مع حكومة الشرع.
السياق الثاني: هناك مُحددات مُختلفة تُشكل السياسات الغربية والدولية عموماً في سوريا ولا ترتبط في جوهرها بالموقف من الشخص الذي يحكم سوريا بقدر ارتباطها بمصالح هذه الدول. وهذه المُحددات ستبقى مُستقرة في الغالب بمعزل عما إذا كان هناك زعيم آخر يحكم سوريا غير الشرع. على سبيل المثال، يلعب الموقف من طبيعة الحكم دوراً في تشكيل السياسات الغربية في سوريا لكنّه ليس مُهيمناً على عكس المُحددات الأخرى الأكثر أهمية في تشكيل هذه السياسات مثل الاتجاهات الجيوسياسية لسوريا الجديدة وعلاقاتها بتركيا وروسيا وإيران وكيفية تعاملها مع ملف ووحدات حماية الشعب الكردية ومع ملف المكونات السورية الأخرى التي توصف بـ”الأقليات” وغالباً من تُستخدم في السياسات الدولية كورقة ضغط وابتزاز. لا شك أن وجود الشرع أضاف عقُدة أمام انفتاح الغرب على سوريا، لكنّها أقل تأثيراً في هذا الوضع مما يُعتقد أو يتم تصويره.
السياق الثالث: يبدو الهاجس الإسرائيلي من زعيم ذي خلفية إسلامية واضحة يحكم سوريا جدياً لكنّ الدوافع العميقة للتحركات العدوانية الإسرائيلية في سوريا تتجاوز هذا الهاجس الذي تستخدمه إسرائيل كذريعة لتبرير تحركاتها. وهذه الدوافع عبارة عن تصورات إسرائيلية مُعلنة لسوريا الجديدة (دولة مُفدرلة وضعيفة من حيث القوة وحكومة مركزية محاصرة من الأطراف)، فضلاً عن أن التحركات العدوانية هي جزء من نزعة توسعية إسرائيلية في الإقليم بعد حرب السابع من أكتوبر وكذلك جزء من الصدام الجيوسياسي مع تركيا. وبهذا المعنى، فإن هذه الدوافع الإسرائيلية ستبقى مُستقرة في الاتجاه العام بمعزل عما إذا كان هناك شخص آخر يحكم سوريا غير الشرع وليست لديه خلفية إسلامية أو أي خلفيات أخرى. كما أن سوريا الجديدة بحد ذاتها تُشكل مُشكلة لإسرائيل قبل أن يكون حاكمها مُشكلة أخرى.
انطلاقاً من هذه السياقات الثلاثة، لا بُد من الاعتراف بأن عُنصر الشرع في المشهد السوري الجديد أضفى تعقيداً على تفاعلات سوريا مع الخارج والغرب على وجه الخصوص. وحتى لو بدا هذا التعقيد ظاهرياً على أنه عقبة أمام سوريا الجديدة، إلآّ أنه لا يؤثّر بشكل جذري على الديناميكيات التي تُحرك السياسات الغربية والإسرائيلية في سوريا. كما أن ملف العقوبات المفروضة على سوريا، يُستخدم كورقة ضغط على دمشق لتحقيق أهداف جيوسياسية تتجاوز توجيه عملية التحول قبل أن يكون عقاباً آخر لسوريا بسبب أن الشرع يحكمها. علاوة على ذلك، فإنه لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن رئيساً آخر غير الشرع كان بمقدوره أن يُدير سياسة خارجية بقدر أكبر من الواقعية التي ينتهجها الشرع. إن فكرة وجود رئيس ليس لديه ماض مُقلق للغرب ويصل إلى السلطة من خلال صناديق الاقتراع، هي فكرة مثالية وتُعبّر بالتأكيد عن طموحات مُعظم السوريين، لكنّ واقع سوريا بعد التحول وفي فترة العبور نحو الدولة، لا ينسجم مع هذه الفكرة بأي حال.
تلفزيون سوريا
————————–
بعد سنوات في الظل.. “حفّار القبور” يكشف هويته وشهادته الصادمة على تلفزيون سوريا
2025.04.16
“في أحد الأيام، فتح الضابط كيسا كانت فيه جثة امرأة تحتضن رضيعها، وقد فارقا الحياة معا. كانت آثار التعذيب واضحة على جسدها. هذا المشهد لا يفارق ذاكرتي. ومرة حملت أحد الأطفال، كان موضوعا في كرتونة. وحين رفعته، وجدت حذاءً عسكريا قد داس على جمجمته، فهُشمت نصف جمجمته، وبقي أثر النعل واضحا حتى صدره.”
يكشف”حفّار القبور” للمرة الأولى عن هويته التي أخفاها لسنوات خلف لثام، خوفاً من الملاحقة، نظراً لما يحمله من معلومات وشهادات صادمة عن المقابر الجماعية التي شارك في حفرها ودفن ضحايا النظام المخلوع فيها.
ويعد “حفّار القبور” أحد الشهود البارزين على الجرائم التي ارتكبها النظام، بعدما عمل ضمن فريق يتبع للمخابرات، تولّى فيه دفن جثامين المعتقلين والثائرين في مقابر جماعية، بعد أن قضوا تحت التعذيب في الفروع الأمنية والمستشفيات العسكرية.
وفي مقابلة خاصة مع تلفزيون سوريا، تُعرض مساء الخميس الساعة العاشرة بتوقيت دمشق، يتحدث الشاهد عن تفاصيل مرعبة عاشها خلال سنوات عمله، ويروي مشاهد لا تُنسى من داخل المقابر الجماعية، إلى جانب ما واجهه من ضغوط نفسية وتهديدات أمنية.
كما يستعرض شهادته التي قدّمها أمام الكونغرس الأميركي في حزيران 2022، والتي أسهمت في تعزيز الجهود الدولية لفرض عقوبات على النظام المخلوع.
كيف بدأ كل شيء؟
كان محمد عفيف نايفة موظفاً إدارياً في بلدية دمشق قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011. لكن حياته انقلبت حين زاره ضباط أمنيون في مكتبه وأجبروه على الانضمام إلى فريق مدني من العاملين الحكوميين لدفن جثث الضحايا. يقول نايفة: “من المعروف أنه حين يطلب النظام شيئاً، لا يمكنك أن ترفض”.
ومنذ تلك اللحظة، وجد نفسه مشاركاً في عمليات دفن جماعي امتدت من عام 2011 حتى 2018، قبل أن يتمكن من الفرار إلى أوروبا، حيث التحق بعائلته وبدأ بالكشف عن جرائم النظام من خلال تقديم شهاداته أمام محكمة كوبلنز الألمانية، التي نظرت في جرائم ضد الإنسانية ارتكبها ضباط الأسد. وخلال جلسات الاستماع أكد نايفة أن عمليات الدفن الجماعي ما تزال مستمرة حتى بعد مغادرته، وأنه يعرف مواقع بعضها.
شهادات صادمة في الكونغرس الأميركي
في أول ظهور علني له، أدلى “حفّار القبور” بشهادته أمام الكونغرس الأميركي، مرتدياً ملابس سوداء بالكامل لإخفاء هويته. وقال خلال الجلسات: “كانت تصل إلى الموقع ثلاث شاحنات أسبوعياً أو مرتين في الأسبوع، تحمل ما بين 300 و600 جثة لضحايا التعذيب والقصف والذبح”.
احدى شهادات حفار القبور: “امرأة قالوا انها توفيت بسكته قلبيه في السجون لكن الحقيقة قالها لي الطبيب، ماتت بسبب اغتصابها من قبل 11 وحش من وحوش بشار الاسد في السجون” pic.twitter.com/BkVJeDiCm6
— عمر مدنيه (@Omar_Madaniah)
July 27, 2023
وأضاف: “كذلك كانت تصل ثلاث أو أربع شاحنات صغيرة محمّلة بـ30 إلى 40 جثة لمدنيين أُعدموا في سجن صيدنايا، للتخلص منهم بأبشع الطرق وحشية”.
توثيق مواقع المقابر الجماعية بدقة وكشف عن المسؤولين عنها
وثّق نايفة بدقة مواقع عدد من المقابر الجماعية ضمن فيلمه الوثائقي الذي عرض على قناة “الجزيرة”، من بينها مقبرة الفرقة الرابعة الواقعة على بُعد نحو 22 كيلومتراً من العاصمة دمشق، ومقبرة مطار مرج السلطان التابعة للمخابرات الجوية.
وكذلك رصد نايفة أيضاً مقابر أخرى، أبرزها مقبرة نجها الواقعة خلف المقبرة المدنية في ريف دمشق، ومقبرة القطيفة التي تبعد نحو 50 كيلومتراً عن العاصمة.
“حفّار القبور” يكشف عن شخصيته الحقيقية بعد سنوات من إخفائها
خلال ظهوره في المؤتمر العربي المقام بـ “هارفارد”#تلفزيون_سوريا
#نيو_ميديا_سوريا pic.twitter.com/Mtat5UP7BJ — تلفزيون سوريا (@syr_television)
April 13, 2025
وأسهم نايفة في الكشف عن أسماء عدد من الضباط المتورطين في عمليات الإعدام ودفن الجثث، من بينهم مدير الخدمات الطبية، اللواء الطبيب عمار سليمان، الذي يرتبط بشكل مباشر مع رئيس النظام المخلوع بشار الأسد، إلى جانب العميد مازن سمندر والعميد أيمن الحسن، اللذين تولّيا بشكل مباشر مهام جمع الجثث ونقلها إلى مواقع الدفن.
دفن الجثث في مقابر جماعية تحت تهديد السلاح
في إحدى شهاداته، روى نايفة حادثة مروعة حين تحرك أحد الضحايا داخل الشاحنة، ما دلّ على أنه لا يزال على قيد الحياة. أحد العمال بدأ بالبكاء وتوسل لإنقاذه.
لكن ضابط المخابرات المشرف أمر سائق الجرافة الموجود في الموقع بدعس الضحية فوراً، ويؤكد نافعة: “السائق لم يتردد، وإلا لكان التالي. أما العامل الذي بكى، فلم نره مجدداً منذ ذلك اليوم”.
ويضيف: “كانت الجثث تُنقل في شاحنات مبرّدة، وتُصنّف بأرقام ورموز بدلاً من الأسماء أو أسماء الفروع الأمنية التي احتجزتهم، وكانت معظمها في حالة تعفن وتشوه شديد، وبينها جثث لأطفال. كل ذلك جرى بتنسيق مباشر مع الفروع الأمنية، التي كانت تسلّم الجثث بعد أن يفارق أصحابها الحياة تحت وطأة التعذيب”.
شهادات دفعت العالم للتحرّك
شكلت شهادات نايفة، إلى جانب تسريبات مصورة أخرى مثل صور “قيصر” (المساعد أول فريد المذهان، رئيس قلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق)، نقطة تحول في وعي المجتمع الدولي إزاء جرائم نظام الأسد. وأسهمت في دفع مشرعين أميركيين وأوروبيين إلى اتخاذ خطوات لمحاسبة النظام، مثل إصدار قانون “قيصر” الذي فرض عقوبات اقتصادية واسعة.
وكان نايفة قد دعا، خلال المؤتمر في هارفرد، إلى رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، والتي أسهمت شهاداته بفرضها على النظام المخلوع بسبب جرائمه، لافتاً إلى أن “الشعب السوري لا يزال يعاني من هذه العقوبات، رغم انقضاء 4 أشهر على سقوط النظام”.
المقابر الجماعية.. ملف شائك بانتظار العدالة
لا يزال ملف المقابر الجماعية في سوريا يشكل تحدياً قانونياً وإنسانياً بالغ التعقيد، يتطلب حلولاً تستند إلى القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان. فمع استمرار كشف المزيد من هذه المقابر، تتزايد الحاجة إلى آليات دولية للتوثيق والمحاسبة.
ووفقاً لتقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، يُقدّر عدد المعتقلين والمختفين قسراً في سوريا منذ عام 2011 وحتى نهاية عام 2024 بنحو 136,614 شخصاً، بينهم أكثر من 113 ألفاً لا يزال مصيرهم مجهولاً.
————————————–
“أن نُحبّ المختلف”… هل يمكن للمجتمع السوري أن يتعافى وجدانياً؟/ مالك الحافظ
2025.04.16
في المجتمعات الخارجة من الحروب والانقسامات العميقة، يغدو تفكيك العنف الرمزي والاجتماعي ضرورة لا تقل أهمية عن إزالة ركام المدن. وإذا كان العنف السياسي يُعالج عبر الاتفاقيات، فإن العنف الشعوري، والعاطفي، والرمزي، لا يُشفى إلا بالحبّ، بوصفه ممارسة ثقافية تُقاوم الكراهية اليومية، وتستعيد العلاقة بالآخر خارج الثنائية السردية: المنتصر/المنهزم، الضحية/الجلاد.
في الحالة السورية، حيث تعايش الناس سنوات من الاقتلاع والخذلان والخسارة، أصبح الآخر؛ الجار، الشريك، القريب السابق، المختلف سياسياً أو دينياً أو عرقياً، مشروع تهديد أكثر من كونه مشروع علاقة. وحين تصبح الكراهية هي النمط العلائقي السائد، يغدو الحبّ فعلاً مقاوماً بامتياز، ومشروعاً ثقافياً في صميم فكرة التعافي المجتمعي.
لا يولد الإنسان وهو قادر على الحب، وفق إريك فروم، بل يتعلمه كما يتعلم أي مهارة أخرى. وفي مجتمع مأزوم مثل المجتمع السوري، يصبح غياب هذه المهارة الجماعية سبباً إضافياً في إطالة أمد الانقسام.
فالحبّ هنا لا يعني المشاعر الرقيقة أو النزعة الأخلاقوية الساذجة، بل هو فعل إرادي، يقوم على العناية، والمسؤولية، والاحترام، والمعرفة.
وفي ضوء هذا التصور، يمكن لنا أن نعيد طرح سؤال مركزي؛ هل يمكن لمجتمع فقد أدوات التعبير العاطفي، أن يستعيد قدرته على العيش المشترك؟
“الاعتراف” كمدخل للعدالة الشعورية
إنّ الاعتراف يمثل جذراً أخلاقياً للعدالة، بحسب بول ريكور في مؤلفه “الذات كآخر” لأن ذلك يفترض قدرة الفرد على التماهي مع ألم الآخر، والاعتراف بوجوده، وبحقه في السرد. من هنا، فإن المجتمعات التي تحرم مكونات منها من التعبير عن وجعها، أو تصف معاناتها بالكذب، أو تختصرها بخطاب تخويني، هي مجتمعات محكومة بإعادة إنتاج الكراهية من داخل نسيجها العاطفي.
في سوريا، هيمنت آليات النفي والاختزال والإنكار، فبات كل طرف يسرد ألمه بوصفه الأوحد، ويتعامل مع وجع الآخر كأداة في يد “العدو”. وبدلاً من التأسيس لـ”حق متساوٍ في الحزن”، توزعت الآلام في خنادق منفصلة، وتحولت السرديات إلى جدران تعكس الصوت ذاته، لا جسوراً للحوار.
هل يمكن لمجتمع فقد أدوات التعبير العاطفي، أن يستعيد قدرته على العيش المشترك؟
ليس العنف في سوريا عنفاً مؤسساتياً فحسب، بل هو عنف موزع على اللغة، على النكات، على التعبيرات اليومية، على تعليقات فيس بوك، على الجملة العابرة التي تقولها أمّ عن ابنة حيّ آخر، أو عن طائفة أخرى. في تقرير لمنظمة
“International Alert” عام 2017 عن العنف العاطفي في المجتمع السوري بفعل الحرب، ظهر أن كثيراً من السوريين يشعرون بأنهم غير قادرين على الشعور بالثقة أو الراحة تجاه جيرانهم السابقين، حتى في المدن التي لم تشهد معارك مباشرة.
لقد خلّف التهجير الممنهج والانقسام الطائفي والعقائدي؛ الذي غذّاه نظام الأسد أساساً كأداة للسيطرة، أثراً نفسياً عميقاً في مفهوم “العيش مع الآخر”، وغدت العودة إلى الأحياء المختلطة والزيارات العائلية العابرة للمناطق، وحتى الصداقات القديمة، محمّلة بالشبهة والارتباك.
يبدأ التعافي هنا من نقطة شعورية أولى أن نُقرر ألا نكره، ألا نعمّم، وأن نستعيد قدرتنا على الإنصات دون دفاعية.
الروابط الضعيفة… بنية الحياة اليومية المفقودة
في أطروحته الشهيرة عن قوة الروابط الضعيفة، يبيّن عالم الاجتماع مارك غرانوفيتر، أن النسيج الاجتماعي لا يتماسك عبر العلاقات العائلية المتينة أو الروابط الأيديولوجية الصلبة فقط، بل بالدرجة الأولى عبر تلك الروابط العرضية الهشة، كالعلاقة مع الجار، زميل الحافلة، صاحب الدكان، أو الزبون الذي نلتقيه دون معرفة اسمه.
تلك العلاقات الصغيرة التي تبدو غير مرئية، هي ما يصنع الحياة اليومية، ويخلق شعوراً عميقاً بالأمان، ويمنح الإنسان إحساساً بالانتماء دون شروط.
المطلوب في سوريا الآن إعادة الحياة للروابط العابرة التي كانت تمدّ المجتمع بنبضه، وأن نعود لننظر في عيون من نختلف معهم، أن نعيد السلام البسيط للشارع، أن نُبادل القلق بكلمة طمأنة لا بموقف.
في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، يُقال إن المجتمعات لا تنهار حين تُسقط دولها، بل حين تفقد طريقتها في التعارف التلقائي، حين يتراجع “الود العابر” لصالح التخندق. لذلك فإن الحبّ، حين يُمارَس كفعل ثقافي يومي، يكون محاولة لإعادة بناء النسيج الذي لا تراه الكاميرات؛
نسيج الود غير المشروط، والرغبة الصامتة بأن نعيش معاً دون أن نكون متطابقين.
يذكّرنا بيير نورا، في أطروحته عن أماكن الذاكرة، أن الذاكرة الجمعية ليست مجرد تجميع انتقائي للوقائع، بل هي صناعة انفعالية مشتركة، يتكوّن عبرها المعنى الجمعي من خلال التفاعل الشعوري مع ما مضى، إنها ليست فقط ما نتذكره، بل كيف نشعر تجاه ما نتذكره.
ولهذا، فإن فقدان “الحزن المشترك” يعني في جوهره، فقدان القدرة على بناء جماعة متخيلة تعترف بعضها ببعض على مستوى الوجدان.
في سوريا، تُبكى الضحية إذا كانت “منّا”، وتُسكت أو تُبرَّر أو تُخون إذا كانت “من الجهة الأخرى”. في مثل هذا المناخ، لا يمكن إنتاج ذاكرة وطنية، بل فقط أرشيفات متجاورة لا تنظر إلى بعضها، ومآسٍ متزامنة لا تحزن معاً.
في علم النفس الاجتماعي، يُعتبر الحزن المشترك إحدى آليات التماسك الوجداني الأولي، فحين يبكي الناس معاً على خسارة لا تخصهم مباشرة، يتأسس بينهم شكل من الثقة الشعورية الصامتة، التي لا تحتاج إلى تطابق في الرأي أو الخلفية.
لذلك، أن نحبّ المختلف، لا يعني أن نبرّر مواقفه، بل أن نعترف له بحقه في الحزن، في أن يكون له وجع، وأن نحترم وجعه دون أن نضعه على ميزان المقارنة. هذه هي اللحظة التأسيسية لأي وجدان جمعي سوري ممكن.
لا يمكن لسردية وطنية أن تتكوّن قبل أن تتكوّن لغة وجدانية واحدة تسمح للناس أن يحزنوا معاً دون أن يخونوا ماضيهم، ودون أن يُطلب منهم التخلي عن ذاكرتهم.
استعادة اللغة العاطفية… من الكراهية إلى الاعتراف
في قلب أطروحة هانا آرنت حول “تفاهة الشر”، لا يظهر الشر بوصفه فعلاً شيطانياً، بل كنتاج لانعدام التفكير، لانعدام القدرة على رؤية الآخر ككائن إنساني. في مقابل هذا الانغلاق الذهني والأخلاقي، لا تطرح آرنت الحبّ كعاطفة رومانسية أو خلاص ديني، بل كـفعل مضاد لسلطة التنميط، وكقوة استثنائية قادرة على اختراق الجدران السردية التي تفصل بين البشر.
الحب، بهذا المعنى، لا يلغي الصراع، بل يضعه ضمن إطار إنساني تبادلي، يعيد للفرد صوته، لا بوصفه ناطقاً باسم جماعة أو سردية، بل بوصفه كائناً يحمل فرادته الداخلية، هشاشته، تردده، ورغبته في أن يُرى كما هو، لا كما يُفترض أن يكون.
فأن تحبّ الآخر في سوريا، لا يعني أن تتفق معه، بل أن تمتلك الشجاعة لتراه خارج “بطاقته التعريفية السياسية أو الطائفية أو المذهبية أو العرقية”، أن تعترف له بحقه في الغموض، في التناقض، في اللاموقف المؤقت.
إن جوهر العنف كما تؤكد آرنت، يكمن في تحويل الإنسان إلى صورة، إلى رمز، إلى “نقطة” في رسم بياني لأحد ما. والحبّ هنا ليس عاطفة ناعمة، بل تفكيك لآلة التصنيف، واستعادة للغة الفرد داخل الجماعة.
في علم النفس اللغوي، يشير جيمس بينبيكر إلى ما يُسمّى بـ”اللغة المُمكنِنة للعاطفة”، أي تلك الجمل التي تتيح للفرد أن يحرّر مشاعره المعقّدة دون أن يشعر بالتهديد. في سوريا، خسرنا هذه اللغة، أو على الأقل، لم نُدرّب عليها بما يكفي. كيف نتعلم أن نختلف دون أن نكره؟ وأن نلوم دون أن نُحطّم؟ وأن نعاتب دون أن ننفي الآخر من وجوده؟.
تربية العاطفة تبدأ من تربية اللغة، ومن منح الكلمات مساحة آمنة لتخرج دون أن تُقابل بالقسوة أو التهكم، لأن الكراهية في نهاية الأمر، ليست فقط نتاجاً لتضاد القيم أو النزاع، بل أحياناً هي نتاج عجزٍ لغوي عن التعبير السليم عن الوجع.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، وسط الصمت السوري المتراكم، ليس فقط: هل نروي ما حصل، بل هل نسمح لأنفسنا بأن نُروى، وهل نحتمل وجود أكثر من سردية واحدة دون أن نرتبك أو نخوّن أو نكفّر؟
هل يمكن للسوريين أن يؤسسوا فضاءات محكية، شفوية، مكتوبة، لحكايات متوازية لا تتصارع، بل تتجاور؟ أن نعترف بالحكاية المخالفة لا بوصفها تهديداً، بل كجزء مكمّل للوحة لا تكتمل إلا بتعرجاتها؟
أن نحبّ المختلف لا يعني تبريراً ولا تنازلاً، بل اعترافاً بإنسانيته، وبحقّه في أن يكون، أن يشعر، أن يسرد. إن من حق الشعب، بوصفه جغرافيا الألم والتعدد، أن يسعى لتخليق حبّ جمعي لا يطمس الفروق، بل يسكنها بلغة أقل فزعاً، وأكثر رحابة.
فربما يكون الحبّ، لا كحالة رومانسية، بل كممارسة ثقافية، هو ما تبقى لنا لنبدأ من جديد.
تلفزيون سوريا
——————————
تهديد العدالة في سوريا.. توقف الدعم الأميركي يعطّل التحقيق في جرائم الحرب
2025.04.16
تواجه جهود التحقيق في جرائم الحرب بسوريا خطر الانهيار بعد قرار إدارة ترامب تعليق التمويل الأميركي المخصص للمنظمات المدنية والإنسانية التي توثق الانتهاكات وتعمل على استخراج المقابر الجماعية وجمع الأدلة، في وقت يحاول فيه السوريون تضميد جراح 14 عاماً من الحرب.
في حي جوبر شرق دمشق، عاد مقاتل المعارضة السابق “عمر حلبي”، الذي فقد ساقه خلال قصف شنته قوات النظام المخلوع عام 2017، ليراقب عمليات نبش مقبرة جماعية تضم رفات رفاقه. يقول حلبي لإذاعة “NPR”
الأميركية: “سقط النظام، وأريد أن أودع أصدقائي بكرامة”.
لكن عمليات التنقيب تعثرت، واضطر فريق “الخوذ البيضاء”، الذي اعتاد التحرك السريع في مثل هذه المهام، لإبلاغ الأهالي أن عليهم الانتظار بسبب نقص التمويل، استخدم الجيران حفاراً استعانوا به من مهندس محلي، لكن الخلافات بين الجهات المدنية والطبية حول الإجراءات، والخوف من الألغام، عطّلت المهمة.
توقف المساعدات يعقد جمع الأدلة
رغم سقوط النظام في كانون الأول الماضي، وبدء مرحلة جديدة في سوريا، لا يزال أكثر من 130 ألف شخص في عداد المفقودين، وتقول منظمات محلية ودولية إن البلاد بحاجة ماسّة إلى الدعم الدولي لمواصلة العمل على ملفات المقابر الجماعية، وتحديد هوية الضحايا، ومحاسبة المتورطين.
قال ستيفن راب، المبعوث الأميركي السابق لقضايا جرائم الحرب، إن العدالة الانتقالية في سوريا بالكاد بدأت، محذراً من أن توقف المساعدات الأميركية يعقّد مهمة جمع الأدلة وأخذ عينات الحمض النووي من الناجين وأسر الضحايا.
كما اضطرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي تمتلك أرشيفاً ضخماً من الوثائق المسربة من مؤسسات النظام، بعد تقليص التمويل، إلى تجميد خططها لفتح مكتب جديد في دمشق وتعليق تعيين باحثين جدد.
وقال فضل عبد الغني، المدير التنفيذي للشبكة، إن الوثائق التي بحوزتهم تتضمن معلومات حاسمة قد تكشف مصير آلاف المفقودين وتحدد هوية مرتكبي الجرائم، “لكن دون تمويل، تتعطل كل الجهود”.
الخوذ البيضاء.. أبرز المتضررين
خسرت منظمة “الخوذ البيضاء”، عقداً بقيمة 30 مليون دولار بعد إلغاء برنامج تابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، كان يغطي أكثر من نصف ميزانيتها السنوية، وتكافح المنظمة، التي نُقل مقرها إلى قلب دمشق بعد سقوط النظام، لتوسيع عملياتها لتشمل كامل الأراضي السورية.
قال فاروق حبيب، نائب مدير “الخوذ البيضاء”، إن فرقهم وثّقت أكثر من 50 مقبرة جماعية، لكنهم يحتاجون إلى موارد، وأوضح أن التمويل المتبقي من وزارة الخارجية الأميركية لا يتجاوز 2.5 مليون دولار، وهو لا يكفي لتغطية حجم العمل المطلوب.
خفضت إدارة ترامب المساعدات الموجهة إلى برامج التعليم والصحة والإعلام ومحو الأمية في عدة دول، ضمن سياسة “أميركا أولاً”، أما في سوريا، انعكس هذا الخفض مباشرة على عائلات المفقودين.
ماجدة قدو، التي فقدت خمسة من أقاربها في سجون النظام، تقول إنها ما زالت تأمل في معرفة مصيرهم، وقفت في وسط دمشق تحمل شمعة وصورة أحد المفقودين، وقالت: “لا شيء أقسى من أن تكون قريباً من الحقيقة، ثم تُبعد عنها بسبب نقص التمويل”.
—————————
في استثنائية العادي وعادية الاستثنائي/ حسام الدين درويش
17 ابريل 2025
في زيارتي الدورية الأخيرة للعيادة الطبّية، لاحظتِ الطبيبة، بعد رؤيتها نتائجَ بعض الفحوص والاختبارات الطبيّة، أنّ ضغط الدم لديّ مرتفعٌ إلى ما فوق الحدِّ الطبيعي، فسألتني إن كنت أتعرّض في الفترة الحالية لتوتّرات غير عادية أو غير اعتيادية.
وجدت نفسي عاجزًا عن معرفة وتقديم الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال الذي بدا أنّها تعدّه بسيطًا وسهل الإجابة عنه. ولم يكن عجزي ناتجًا (فقط) عن أنّني بدأت أطرح على نفسي أسئلة قد تبدو لكثيرين مجرّد فذلكة فلسفية لا ضرورة ولا معنى لها، ولا جدوى أو فائدة مُنتظرة من طرحها، في هذا السياق، مثل: “ما التوتّر، عمومًا، وما التوتّر غير العادي أو غير الاعتيادي، خصوصًا؟” وكيف لي أن أعلم؛ إن كان ما أتعرّض له هو توتّر استثنائي أو غير عادي؟ وما معيار العادية في هذا الخصوص؟ بل، كيف لي أن أعلم إن كان ما أتعرّض له وأشعر به هو توتّرٌ أصلًا، من منظور الطبيبة والطبّ عمومًا؟ أظن أنّ عجزي عن الإجابة عن السؤال المذكور كان ناتجًا عن اعتقادي أنّ التوتّر رفيقي الدائم.
كنت أفترض أنّ “عشرة العمر” مع هذه الرفقة أو الصحبة ستجعلها غير مؤذية لي، لكن تبيّن لي العكس، فقد أكّدت لي الطبيبة، بكلماتٍ تقنيّة وطبيّة أنّ التوتّر كائن سيئ الصحبة وخائن للعشرة، وأنّ سوء صحبته وخيانته للعشرة والصحبة يزدادان طردًا مع ازدياد طول مدّة تلك العشرة والصحبة. لا أدري إن كانت الطبيبة قد لاحظت حيرتي وتردّدي في الإجابة عن سؤالها، أو فهمت معنى ابتسامتي بعد طرحها لذلك السؤال، لكنها سارعت إلى القول: “في كلّ الأحوال، ينبغي لك أخذ حبّة كلّ يوم للتعامل مع آثار هذه المشكلة”. وعندما سألتها عن طريقة حلّ تلك المشكلة جذريًّا، ردّت عليّ بابتسامة وكلامٍ لست متأكّدًا من أنها تعنيه جدِّيًا بالفعل: “خفف قلقك وتوترك وتفكيرك”. وكان كلامها باعثًا عندي لقلقٍ وتوتّرٍ إضافيين، فقد رأيت أنّ أوامرها أو نصائحها لا يمكن أن تُطاع، لأنها لا تنتمي إلى دائرة المستطاع.
ولا أدري كيف أمكنها أن تقول ما قالته، رغم معرفتها أنني “سوري، آآآه يا نيالي”؛ لكنني تذكرت أنني وغيري كثراً، كنا نتلقى مثل هذه الطلبات التعجيزية من أطباء سوريين في سورية، فلا عتب على “الغريب”، إن كان هذا ما يفعله “القريب”. أما عن التفكير، فأحسب أنّه ملازم لوجود الإنسان، ليس من حيث إنه يفكّر فقط، بل من حيث إنه يُفكِّر أو يُتفكّر فيه ومعه، دائمًا، ومن دون استشارته، أيضًا.
ربما يكون في الحديث عن التلازم بين الوجود الإنساني والتفكير مبالغةٌ أو تعميم غير موضوعيٍّ. فقد يكون هناك اختلافات بين البشر، بحيث لا تكون تلك السمة أنطولوجية/ وجودية كما يعتقد أو يظن كثيرون، وأنا منهم. وأذكر أمرًا طبيًّا آخر كنت أعتقد أنّه “عاديٌّ” و”طبيعيٌّ” وموجود لدى كلّ إنسان، ثم تبيّن لي أنه استثنائيٌّ وغير عاديٍّ وغير طييعيٍّ. فمنذ عددِ سنوات لن أحدّده، لتجنّب الكشف عن عمري حاليًّا، كنت في زيارةٍ دوريةٍ لطبيب عيونٍ، وأثناء محادثةٍ عابرةٍ بيننا، أخبرته أنني أستطيع مضاعفة الصورة البصرية لأيّ شيء أراه. ويمكن أن أقوم، إراديًّا، بهذا الأمر، لكن يمكن له أن يحدث لي، بصورة لا إرادية، أيضًا، في حالات التعب والدوخة وما شابه.
أظهر الطبيب علامات الدهشة والصدمة وبعض الذعر، وبدا ذلك من جحوظ عينيه وارتفاع حاجبيه. ولم تخفت قوّة العلامات المذكورة (كثيرًا)، حتى بعد أن علم أنّ لديّ هذا الأمر أو تلك “القدرة منذ طفولتي، وربما “قبل ذلك”. وأكّد لي ضرورة إجراء “صورة رنين مغناطيسي” أو “فحص شعاعي” لمنطقة الرأس لدي، فورًا أو في أسرع وقتٍ ممكنٍ. وشرح لي أنّه لدي “حَوَلٌ عموديٌّ”، وأن مثل هذه الحالة استثنائية وليست موجودة إلا عند عددٍ محدودٍ من الناس، وأنها قد تكون نتيجةً لضربة ذات نتائج خطيرة على الرأس، وأنّه من الضروري إجراء الفحوصات للتأكّد. بناء على إلحاحه وإلحاحٍ أكبر من زوجتي، قمت بالفحوصات المطلوبة، وتبيّن أن “الحول المذكور”، “طبيعيٌّ”، و”عاديٌّ”، على الرغم من “استثنائيته” أو ندرة وجوده.
سبق أن أشرت في تدوينةٍ سابقةٍ إلى أنه، في كثيرٍ من الأوضاع والسياقات، أن يكون “الاستثناء هو القاعدة والنظام هو الفوضى”. وبهذا الكلام، لا أتبنى نسبويةً مطلقةً تنفي الحقيقة وتنكر الموضوعية المعرفية، لصالح رؤية ذاتية أو ذاتوية؛ بل الغرض منه موضوعية تأخذ في الحسبان الذاتية أو الذاتيات وتتكامل معها وتتأسّس عليها أيضًا. والربط بين الرؤية النسبية والمدرسة السفسطائية مشهور، ومعروفةٌ السمعة غير الحسنة (الظالمة وغير الموضوعية معرفيًّا وأخلاقيًّا) لكلّ ما يتعلّق بالسفسطائية، معنىً ومبنىً. ومن الأقوال السفسطائية المُناسب استحضارها، في هذا السياق، هو أنه ليس مناسبًا طرح سؤال حول ما إذا كان الجو باردًا أم لا. فالسؤال الأهم والأدق، في هذا السياق، هو مَن مِن الأشخاص الموجود في مكانٍ ما يشعر أو لا يشعر بالبرد. فقد يكون الجو باردًا عند بعض الأشخاص، وغير باردٍ عند بعضهم الآخر.
ينبغي أن يؤخذ ذلك الاختلاف بين البشر في الحسبان، في كثيرٍ من السياقات، إذا أريد للمعرفة والحقائق المتّصلة بها أن تكون موضوعيةً وإنسانيةً. وإذا كانت الذاتية شرط الموضوعية ومعبرها أو نفقها الضروري، في كلّ الأحوال، كما بين الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامر، فإنّ (المعرفة) الموضوعية تكون هنا مطابقة، جزئيًّا على الأقل، ﻟ(المعرفة) الذاتية.
العربي الجديد
————————-
سوريا ولبنان: من الجوار الصعب إلى التعاون/ زياد ماجد
إن سقوط نظام الأسد في سوريا، وانطلاق مرحلة إعادة تأسيس المؤسسات في لبنان، توفر فرصة للبلدين لمراجعة صريحة لماضي كل منهما وعلاقته بالآخر، بما يتيح الوصول إلى مرحلة تعاون جدي على الصعد الرسمية وغير الرسمية بينهما.
13 أبريل 2025
مقدمة
وسمت التباسات عديدة العلاقات السورية اللبنانية منذ استقلال البلدين العام 1943 لأسباب ارتبطت غالبًا بتمنع معظم النخب السياسية السورية عن الاعتراف بسيادة لبنان نتيجة الأيديولوجيات القومية وخطابها، ونتيجة سلوك البلدين نهجين مختلفين في خيارات النظم السياسية والاقتصادية وفلسفتها ومؤسساتها. وشهد البلدان محطات تاريخية فارقة انعكست على كل منهما، بدءًا من الانفصال الجمركي بين البلدين في العام 1950، مرورًا بمسلسل الانقلابات العسكرية في سوريا وانتقال بعض أموال البرجوازية السورية إلى البنوك اللبنانية، وصولًا إلى قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر الناصرية وسوريا وانقسام اللبنانيين تجاهها وتجاه حلف بغداد(1) وما نجم عن الأمر (وعن سواه من قضايا داخلية) من صدامات داخلية في لبنان العام 1958.
وقد شكَّل وصول حزب البعث إلى السلطة في دمشق، العام 1963، وتولي حافظ الأسد مقاليد الأمور، العام 1970، بعد إطاحته ببعض أبرز رفاقه البعثيين وسجنهم، أبرز محطة في علاقة الجارين، لبنان وسوريا؛ ذلك أن الأسد سعى إلى تحويل سياسة سوريا الخارجية إلى أداة تُعينه على لعب دور إقليمي يحصن سلطته ويستقوي به ضد الداخل السوري. وصار لبنان بعد نهاية حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 مع إسرائيل، حقلًا للتدخل السوري، خاصة في ظل وجود قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، وهي القيادة المناوئة للأسد والرافضة تدخله في شؤونها وسعيه الدائم لتوظيف القضية الفلسطينية في برنامج سلطته داخليًّا وخارجيًّا.
أتاح اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، العام 1975، لحافظ الأسد الفرصة الثمينة للتدخل في البلد الصغير بغطاء عربي وأميركي(2)؛ حيث “اغتال” زعيم اليسار اللبناني، كمال جنبلاط، العام 1977(3). كما أتاحت له حرب العراق وإيران لاحقًا، تحالفًا وثيقًا مع طهران، مكَّن الأخيرة من الاستفادة من الظرف اللبناني بعد الاجتياح الإسرائيلي الثاني، العام 1982، الذي أضعف اليسار وأخرج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، للمساهمة الفعالة في خلق حزب موالٍ لأيديولوجيا حكمها الجديد، ألا وهو “حزب الله”.
بعد اجتياح العراق للكويت، العام 1990، شاركت سوريا في التحالف الأميركي الدولي وانضمت إلى “مسار السلام” العربي-الإسرائيلي الذي فرضته واشنطن؛ الأمر الذي منح الأسد في المقابل “تفويضًا” دوليًّا وإقليميًّا في لبنان، للهيمنة السياسية والأمنية (مع استفادة اقتصادية)، بحجَّة تسهيل حل الميليشيات بعد انتهاء “الحرب الأهلية” والمساهمة في ترسيخ الاستقرار وتطبيق اتفاق الطائف(4). وقد استمر هذا التفويض قائمًا حتى الحرب الأميركية الجديدة على العراق، العام 2003، بعد ثلاث سنوات من وراثة بشار الأسد السلطة في سوريا عن أبيه.
من الانسحاب السوري إلى الثورة السورية
شهد العام 2004 في لبنان صراعًا سياسيًّا محتدمًا بين معسكرين: واحد يوالي النظام السوري بقيادة حزب الله، والثاني يعارضه ويطالب بخروجه من لبنان. تشكَّل المعسكر الثاني من تجمعات تأسس بعضها غداة تحرير الجنوب واندحار الاحتلال الإسرائيلي العام 2000، كلقاء “قرنة شهوان” المسيحي، و”المنبر الديمقراطي” العلماني. وقف رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، رسميًّا على مسافة واحدة من المعسكرين، ولَو أنه أرسل على الدوام ممثلين له للمشاركة في اجتماعات المعارضين للنظام السوري، الذين انضم إليهم الزعيم الدرزي الاشتراكي، وليد جنبلاط، فزاد من ثقلهم السياسي وتمثيلهم الطوائفي.
ودار الصراع بين المعسكرين خارج لبنان أيضًا؛ إذ فعَّل رفيق الحريري علاقاته العربية والدولية للضغط على دمشق في لحظة قررت فيها الأخيرة انتهاك الدستور اللبناني والتمديد لرئيس الجمهورية، إميل لحود. وجاءت المصالحة الفرنسية-الأميركية بعد الخلاف الحاد عشية الحرب على العراق لتلبي طلب الضغط هذا، وتحوله إلى قرار أممي هو القرار 1559 الداعي إلى خروج “الجيوش الأجنبية” من لبنان و”نزع سلاح الميليشيات”(5).
لم يتأخر رد النظام السوري وحلفائه على القرار، رفضًا له وتخوينًا للحريري وللمعارضين لدمشق. وتعرض أحد أبرز معارضي نظام الأسد وقتها، النائب والوزير، مروان حمادة، المقرب من جنبلاط والحريري، لمحاولة اغتيال نجا منها في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2004. وفي 14 شباط/فبراير 2005، استهدف انفجار ضخم في وسط العاصمة اللبنانية الرئيس رفيق الحريري مما أدى إلى مقتله مع أكثر من 20 شخصًا، بينهم الوزير، باسل فليحان.
هكذا، بدا أن الصدام السياسي تحول إلى صدام دموي، وتظاهر مئات الألوف من اللبنانيين متهمين دمشق بالاغتيال ومطالبين بانسحاب قواتها من لبنان وبتحقيق دولي. ردَّ حزب الله على ذلك بمظاهرة كبيرة دعمًا لدمشق. وازدادت الضغوط السعودية والغربية على بشار الأسد، وأدى كل ذلك أخيرًا إلى انسحاب سوري من لبنان، في أبريل/نيسان 2005، بعد 29 عامًا من التدخل العسكري ثم المخابراتي والسياسي فيه. وبدأ بالفعل التحقيق الدولي في جريمة الاغتيال.
استمرت التجاذبات بعد ذلك وتبدلت التحالفات، وانضم التيار العوني المسيحي إلى حلف حزب الله، العام 2006، مما أضعف خصومه، ومكَّن الحزب من لعب بعض الأدوار التي لعبها النظام السوري في لبنان سابقًا لجهة هيمنته على الأمن وعلى السياسة الخارجية. ووثَّق الحزب تحالفه بإيران، خاصة بعد حربه مع إسرائيل صيف العام نفسه، في حين وثق خصومه تحالفهم مع السعودية وفرنسا والولايات المتحدة. واستمرت الاغتيالات المستهدفة صحافيين وسياسيين وأمنيين مناوئين لنظام الرئيس، بشار الأسد(6). ثم وقعت صدامات مسلحة في بيروت وجبل لبنان، العام 2008، بين حزب الله وبعض خصومه، تبعها “اتفاق الدوحة” لضبط الأمور وتنظيم انتخابات وتشكيل سلطة تنفيذية جديدة(7). وتبدلت في نفس الوقت المناخات إقليميًّا ودوليًّا، فتصالحت الرياض وباريس مع الأسد، وانكفأ الدور الأميركي تدريجيًّا عن لبنان ابتداء من العام 2009 بعد وصول باراك أوباما إلى سدة الرئاسة.
بموازاة ذلك، كانت سوريا تشهد انحسارًا متسارعًا للقاعدة الاجتماعية (الضيقة أصلًا) للنظام، نتيجة التحولات الاقتصادية وسياسات “اللبرلة” فيها وتوسع شبكات الفساد المحيطة مباشرة بعائلة الرئيس السوري، ونتيجة لاستمرار القمع السياسي الذي استهدف كل التحركات المطالبة بإصلاحات وحريات سياسية(8)، إضافة إلى القمع الدموي في أكثر من مناسبة في المناطق الكردية، وفي سجن صيدنايا. وزاد من تعقيد الأمور أزمة جفاف في شرق البلاد تسببت بإفقار عشرات الآلاف من المواطنين ونزوحهم نحو الغرب السوري. كل هذا في حقبة شهدت فيها المنطقة العربية بداية احتجاجات سياسية ضد السلطات القائمة في أكثر من بلد، سرعان ما تحولت إلى ثورات شعبية عارمة، أواخر العام 2010، وفي بداية العام 2011، في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين. الأهم فيما خصَّ سوريا ولبنان، أن هذه الموجة الثورية وصلت إلى درعا ودمشق، ثم إلى الغوطة وحمص وبانياس، في شهر مارس/آذار 2011، قبل أن تعم سوريا بأكملها، ليواجهها النظام بعنف شديد وقسوة استثنائية لم تشهد مثلهما المنطقة العربية.
تحولت الثورة السورية إلى كفاح مسلح أواخر العام 2011، ثم إلى حرب شاملة بين النظام ومعارضيه صيف العام 2012. وتدخل حزب الله إضافة إلى ميليشيات شيعية عراقية وأفغانية وباكستانية موالية لإيران لصالح حليفها الأسد، وانخرطت في حرب ضد المعارضين له. وتبدلت أطوار الحرب بعد إعلان “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) الخلافة، العام 2014، وبدء الحملة العسكرية الأميركية الغربية عليه، ثم بعد التدخل الروسي الواسع، العام 2015، الذي مكَّن نظام الأسد مع الوقت من استعادة معظم المناطق التي سبق أن خسر السيطرة عليها، وبعد التدخل العسكري التركي ابتداءً من العام 2016 الذي حمى المعارضين للنظام في بعض المناطق الشمالية واستهدف النفوذ الكردي الذي تعده أنقرة انفصاليًّا، وهو المتمدد بدعم أميركي في ظل الحرب على “خلافة داعش”.
وبعد مرحلة جمود على الجبهات القتالية و”الاستقرار” لجهة السيطرة الميدانية وحدودها للأطراف المختلفة ابتداء من العام 2019، وفي ظل تفاهم روسي-إيراني-تركي على مسار سياسي لحل ظل بعيد المنال، وفي ظل عقوبات أميركية وغربية على النظام، وفي ظل انهيار اقتصادي نتيجة تدمير البنى التحتية والمرافق الاقتصادية خلال القصف الجوي الروسي و”الأسدي” على مناطق واسعة، ونتيجة الفساد والهدر، طرأت ابتداء من العام 2022 تحولات إستراتيجية، لتظهر نتائجها لاحقًا، وتحديدًا آخر العام 2024.
سقوط النظام السوري
تهتَّك ما تبقى من بنى الدولة ومن مؤسسات النظام وعصبيته، بسبب تفاقم البطالة وانتشار السلوكيات المافياوية في المناطق التي يسيطر عليها، وبعد تحول بعض أجهزته إلى شبكات اتجار بمخدرات الكبتاغون وإدارة لسجون يُحتجز فيها الآلاف، وبيروقراطية أمنية مترهلة، وجيش معظم عديده من المجندين (بالخدمة الإلزامية) محدودو التدريب والدخل. ورغم مصالحة أكثرية الدول العربية لدمشق وعودتها إلى الجامعة العربية، فإن الأمور لم تتطور إيجابيًّا لا على الصعد الاقتصادية ولا الأمنية، ولم يحترم الأسد أيًّا من تعهداته للسعودية والأردن فيما خصَّ تصدير المخدرات والتحالفات الإقليمية(9).
قابل ذلك وخالفه تحسُّنٌ في أحوال الشمال الغربي السوري معيشيًّا، نتيجة فتح الحدود التركية واستثمارات أنقرة ومساعدات قطر العينية، ودعم الأجهزة التركية لبعض التنظيمات والهيئات السورية المعارضة ومدها بالسلاح. ورافق الأمر أيضًا تطور أداء “هيئة تحرير الشام” بعد قطيعتها مع “القاعدة” لجهة توسع شبكات نفوذها عبر “حكومة الإنقاذ” التي شكلتها والتي أدارت جانبًا من المساعدات الإنسانية في المنطقة بعد الزلزال المدمر الذي ضربها مطلع العام 2023، وتحالفها مع فصائل معارضة جل مقاتليها من المهجَّرين من مناطق استعادها النظام بدعم روسي وإيراني بين العامين 2016 و2019، لا توق لهم غير العودة إلى مدنهم وبلداتهم، في حلب وحماه وحمص وريف دمشق وغوطتيها وبعض نواحي درعا والبادية.
وأضيف إلى هذا الواقع انسحاب معظم القوات الروسية وسلاح جوها من سوريا بعد شن موسكو حربها على أوكرانيا العام 2022، وانسحاب حزب الله إلى لبنان تدريجيًّا خلال العامين 2023 و2024، وتسارع ذلك بعد توسع حربه مع إسرائيل، في سبتمبر/أيلول 2024، وتراجع الحضور العسكري الإيراني والعراقي الموالي له بسبب الهجمات الإسرائيلية في جنوب سوريا ومحيط دمشق، والأميركية على الحدود الشرقية مع العراق.
أدت كل هذه العوامل إلى بقاء قوات النظام الضعيفة وحيدة على الجبهات التي انهارت ما أن بدأت “هيئة تحرير الشام” وحلفاؤها هجومهم، أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، باتجاه حلب ثم حماة وصولًا إلى حمص، في وقت تدحرجت فيه العملية المذكورة بعد بروز انهيار النظام، لتتقدم قوات الشمال نحو العاصمة، حيث سبقتها إليها بعض “فصائل المصالحات” وقوات غرفة عمليات الجنوب المتقدمة من حوران شمالًا نحو دمشق. ولاقت الجميع الفصائل التي ظلت لسنوات متمركزة في قاعدة التنف العسكرية بعد أن سيطرت على تدمر وواصلت زحفها من الشرق نحو الغوطة فالعاصمة.
وفي 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، أُعلن رسميًّا عن فرار بشار الأسد من سوريا وسقوط النظام، وتوالت بعد ذلك التطورات الميدانية والسياسية، ودخلت سوريا مرحلة انتقالية بقيادة زعيم “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا)، الذي صار، في مؤتمر نظمته الهيئة بمشاركة معظم الفصائل المسلحة التي أسقطت النظام، رئيس سوريا. لكن بقي ربع الأراضي السورية تقريبًا تحت سيطرة القوى الكردية في الشمال الشرقي والشرق، مع استمرار وجود القوات الأميركية هناك أيضًا.
وقد رافق هذه التطورات مستجد خطير وهو القصف الإسرائيلي الجوي العنيف، وتوسع الاحتلال في محيط الجولان. فقد دمرت إسرائيل في الأيام التالية لسقوط النظام مجمل القواعد العسكرية والمطارات الحربية ومستودعات السلاح وأنظمة الدفاع الجوي ومراكز الاتصال وغرف العمليات على امتداد الخريطة السورية، لمنع استفادة أي جيش جديد منها، ودفعت بقوات وآليات عسكرية إلى المنطقة العازلة التي تفصل الجولان المحتل عن باقي سوريا منذ العام 1974. كما وسعت بعد ذلك احتلالها لجبل الشيخ وللمناطق السورية المتاخمة للحدود اللبنانية.
إعادة تشكيل السلطة في لبنان
بموازاة التطورات في سوريا، انطلق في لبنان مسار جديد، وذلك بعد الاتفاق على وقف إطلاق نار بين إسرائيل وحزب الله، وكان هذا الأخير قد أضعفته الحرب وقتلت أمينه العام، حسن نصر الله، والعديد من قياداته السياسية والعسكرية والأمنية. وباتت الحاجة ملحَّة إلى ضبط الأوضاع في ظل الأزمة الاقتصادية والمصرفية المستمرة منذ العام 2020، والشلل السياسي منذ آخر العام 2022، وبعد هذه الحرب التي دمرت خلالها إسرائيل عشرات البلدات في الجنوب مع بناها التحتية، وأصابت أحياء في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي البقاع بأضرار جسيمة، وهجَّرت مئات ألوف اللبنانيين.
أفضى التعامل مع مجمل هذه الظروف القاسية، والضغط الأميركي والسعودي، والمواكبة الفرنسية والقطرية والقبول الإيراني، ليدفع بالقوى السياسية اللبنانية الرئيسية أخيرًا، نحو انتخاب قائد الجيش، جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية، ثم تكليف القاضي في محكمة العدل الدولية وسفير لبنان السابق في الأمم المتحدة، نواف سلام، بتشكيل حكومة إنقاذ وإصلاح. وبعد أسابيع، نجح سلام في تشكيل حكومة “أفضل الممكن”؛ بحيث ضمت في الوقت نفسه وجوهًا ثقافية وسياسية إصلاحية مستقلة، ومقربين من معظم القوى السياسية والطائفية الكبرى. ولم تترك لأي من المعسكرات السياسية القدرة على الحصول على “الثلث زائد واحد” التي كانت في السنوات الماضية مصدر التعطيل للسلطة التنفيذية. كما لم تترك لأي طرف سياسي القدرة على احتكار التمثيل الطائفي لجماعته التي تُسقط الحُكم إذا انسحبت بحجة الميثاقية، وهو ما درج على التمسك به بعد العام 2008 الثنائي “الشيعي”، حركة أمل وحزب الله.
على أن إسرائيل دخلت أيضًا على خط الضغط على الحكومة اللبنانية الجديدة؛ إذ استمرت في خروقاتها لوقف إطلاق النار، وقد وصلت غاراتها الجوية إلى ضاحية بيروت الجنوبية(10)، ورفضت الانسحاب من خمس نقاط إستراتيجية احتلتها خلال الحرب، وبعضها نقاط تربط من خلالها الحدود اللبنانية بالسورية، تحضيرًا لمرحلة مقبلة لم تتضح معالمها بعد. ويزيد في صعوبة التعامل مع هذه المرحلة، الموقف الأميركي في ظل إدارة دونالد ترامب، الذي قد يشترط تطبيع سوريا ولبنان مع إسرائيل وانضمامهما إلى اتفاقات “أبراهام” مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي الجديدة التي اجتاحتها.
التحديات الرئيسية في سوريا ولبنان
تدخل سوريا ولبنان في حقبة فيها الكثير من التحديات والأسئلة التي تتشابك وسطها العناصر الخارجية والداخلية، وهذا ليس بالأمر الجديد أو الاستثنائي؛ إذ لا يمكن التفكير ببعض المسائل الأمنية أو السيادية في البلدين من دون التفكير بأحوال المنطقة ككل، ومن دون الإشارة إلى الديناميات الجديدة في العلاقات الدولية. ففي سوريا، يتعامل الحُكم الانتقالي مع ملفات شديدة التعقيد، وهي تحتاج وقتًا وجهدًا تفاوضيًّا ودعمًا عربيًّا ودوليًّا، من أبرز هذه الملفات:
– ضبط الأمن ووقف “الجرائم الانتقامية” التي تُرتكب ضد مواطنين في الساحل السوري ومحاسبة المسؤولين عنها، والتعامل مع “المسألة العلوية” وتحدياتها على نحو يُجنِّب سوريا المزيد من القتل والثأر والأحقاد(11).
– توحيد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وفق ثقافة مختلفة عن ثقافة القمع، والاتفاق مع القوى المختلفة على مبدأ حصرية السلاح، والتصالح والتفاهم مع فصائل الجنوب ومع المجموعات الدرزية على الاندماج في هذه القوات والأجهزة.
– بناء مسار قانوني والتعامل مع مقتضيات العدالة الانتقالية وسلطة القضاء المستقلة والكشف عن مصير المفقودين.
– إقرار المصالحة الوطنية مع “القوى الكردية” التي تشمل المسائل الأمنية والسيادية والاقتصادية (النفطية) والإدارية، والحقوق الثقافية، تحضيرًا لانسحاب القوات الأميركية والقوات التركية من الأراضي السورية.
– وضع الأسس القانونية والميدانية لعملية إعادة الإعمار، والسير بمفاوضات لرفع الجزء الأكبر من العقوبات الاقتصادية والمالية الأميركية والأوروبية، تمهيدًا لوصول المساعدات والاستثمارات الخارجية(12).
– وضع خطة إنقاذ لإطلاق دورة جديدة للاقتصاد الوطني بهدف رفع الإنتاجية وخلق فرص عمل وتقليص الفقر والبطالة.
– توفير ظروف لعودة قسم من اللاجئين وما سيعنيه الأمر من أولوية توفير بنى تحتية وخدمات وأمن للمناطق التي يمكن السكن فيها، وإعمار تدريجي للمناطق الأخرى.
– ضبط الحدود مع العراق وتركيا والأردن وترسيمها بشكل واضح مع لبنان، ووقف التهريب وما يتسبب به من إشكالات أمنية وجرائم متنقلة.
– صياغة دستور جديد يكفل الحريات والتعدد السياسي ويضع الأسس الواضحة للتعامل مع المسألة الطائفية ومع دور الدين في الحوكمة ويحدد فلسفة الحكم ومدى مركزيته أو لا مركزيته(13).
– صياغة قانون انتخاب والتحضير للانتخابات المحلية والتشريعية والرئاسية المزمع تنفيذها بعد مدة زمنية واضحة.
– التصدي بكل الوسائل المتاحة للعدوان الإسرائيلي المتواصل والعمل من أجل تحرير الأرض السورية المحتلة.
أما في لبنان، فثمة قضايا ملحَّة أيضًا، تفرض نفسها على السلطة اللبنانية، يصعب فك ارتباط بعضها بما يجري إقليميًّا، في وقت تحتاج فيه عملية الإنقاذ الاقتصادي وإعادة الإعمار إلى دعم خارجي كبير مقرون حكمًا بشروط إدارية وسياسية على الحكومة اللبنانية التعامل معها. من أهم القضايا المطروحة:
– الإنقاذ المالي واتخاذ الإجراءات المطلوبة لرفع السرية المصرفية وإعادة هيكلة قطاع المصارف، والاتفاق على توزيع الخسائر، بما يضمن حماية الحد الأقصى من مصالح المودعين.
– جذب الاستثمارات العربية والدولية وتأمين الظروف المثلى لذلك، ومن ضمنها إيجاد الحلول لأزمات الكهرباء والاتصالات والمياه، والمباشرة في مسارات الإصلاح الإداري.
– دعم إعادة الإعمار في الجنوب والضاحية والبقاع بعد الخراب الذي أحدثته الحرب الإسرائيلية.
– الضغط على إسرائيل للانسحاب من المواقع التي احتلتها، وترسيم الحدود البرية معها، ورفض كل تطبيع أو اتفاق خارج إطار قرارات الأمم المتحدة واتفاقية الهدنة، احترامًا بذلك لمقررات القمة العربية التي انعقدت في بيروت العام 2002، ولمصلحة لبنان وتجنيبه كل مسألة تتسبب بانقسامات داخلية حادة.
– إطلاق الحوار الوطني حول الإستراتيجية الدفاعية وسلاح حزب الله وسيادة الدولة على قرارات الحرب والسلم.
– الاتفاق مع دمشق على خطة إعادة طوعية وتدريجية للاجئين السوريين ترافق إعادة الإعمار وتحسن الأحوال في سوريا.
– البحث في أحوال المخيمات الفلسطينية الأمنية وحقوق الفلسطينيين المدنية والاجتماعية، في ظل التأكيد على حق العودة لهم وفق قرارات الشرعية الدولية.
– دعم استقلالية القضاء واستكمال التحقيق في انفجار مرفأ بيروت.
– البحث في استكمال اتفاق الطائف، لاسيما أن بعض بنوده لم تنفذ مثل إنشاء مجلس شيوخ على أساس الضمانات الطائفية، وتحرير المجلس النيابي من التمثيل الطائفي وفق قانون انتخاب جديد (وسِن اقتراع 18 سنة وكوتا نسائية)، وتطبيق عدم اللامركزية الإدارية الموسعة.
– البدء في إصلاح مؤسسات الدولة لمواجهة الزبائنية والفساد، وتعزيز آليات التوظيف وفق الحاجة والقانون.
وبخصوص العلاقة بين سوريا ولبنان فهما يحتاجان تنسيقًا وثيقًا في خمسة مجالات مطروحة على الأقل.
– مجال عودة اللاجئين، على أساس أولويات تأخذ بعين الاعتبار أحوالهم في لبنان وأحوال المناطق التي يمكن أن يعودوا إليها داخل سوريا.
– مجال إعادة الاعمار والتعاون في ورشه ومواده والمساعدات التي يمكن استقدامها والتي سيستفيد منها البلدان إذ يحتاج كل منهما إلى ذلك. ويمكن لمرفأي بيروت وطرابلس أن يلعبا دورًا محوريًّا لصالح البلدين. كما يمكن للحدود البرية السورية وشبكة طرقات محدثة أن تلعب دورًا مشابها لصالح البلدين أيضًا.
– مجال ترسيم الحدود البرية، بما فيها منطقة مزارع شبعا المحتلة من قبل إسرائيل، وضبط أمنها ووقف التهريب وإقفال المعابر غير الشرعية.
– مجال ترسيم الحدود البحرية والتعاون في عمليات التنقيب عن النفط والغاز المحتمل وجوده قبالة ساحل البلدين.
– التعاون الدبلوماسي فيما يخص مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتهديدات تل أبيب.
أفق التعاون
رغم الاختلافات الممكنة في فلسفة الحكم ومشروعيته بين لبنان وسوريا، فإن التفاهمات الاقتصادية والسياسية ممكنة، ما لم تصل هذه الاختلافات حدود التناقض، خاصة في مجال الحريات والقبول بالتعدد والتنوع داخل كل بلد.
إن مجالات التعاون بين مؤسسات البلدين باتت ممكنة، لاسيما إن جرى اعتماد خطاب جديد ومراجعات صريحة داخل المجتمعين لماضي كلٍّ منهما وعلاقته بالآخر، بما يتيح الوصول إلى مرحلة تعاون جدي على الصعد الرسمية وغير الرسمية، إنْ في ما خص الاقتصاد والجمارك واستخدام الطرق السريعة وسواها من سبل التعاون، مثل البحث مع الأردن والعراق وتركيا في إنشاء مجموعة تعاون تجاري واقتصادي إقليمي قوية، أو في ما خص التنسيق في شرق المتوسط مع اليونان وقبرص، لجهة الاستفادة من المرافئ ومن احتمالات وجود حقول الغاز والنفط بحرًا، فضلًا عن السياحة وبرامجها المشتركة، بما يضاعف قدرتها على الاستقطاب. ويمكن إضافة كل أنشطة الثقافة والفنون والترجمة وتبادل الخبرات الأكاديمية والعلمية والمهنية إلى مجالات التعاون المطلوبة.
وأي تقارب منظم بين بيروت ودمشق سينعكس تقاربًا وتعاونًا بين المهاجرين اللبنانيين والسوريين والمنحدرين منهم، وهم شريحة مؤثرة في القرارات السياسات التي قد تتخذها بلدانهم الثانية، خاصة في أوروبا وأميركا، تجاه بلديهما الأصلييْن.
التحديات كبيرة أمام لبنان وسوريا، لكن حقل الممكن بات مفتوحًا اليوم بعد سقوط نظام الأسد وبعد المباشرة بإعادة تشكيل مؤسسات الدولة في لبنان، وفي ظل حاجة البلدين المتبادلة للتنسيق والتفاهم سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، لمواجهة الصعوبات الإعمارية الكبرى وتحدي “العدوانية” الإسرائيلية.
نبذة عن الكاتب
زياد ماجد
زياد ماجد – أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في باريس .
مراجع
انقسم اللبنانيون بين أنصار الرئيس كميل شمعون الذين أيدوا حلف بغداد الذي تأسس العام 1955، وأنصار معارضيه الذين أيدوا الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، والجمهورية العربية المتحدة التي أنشئت العام 1958.
تواصل حافظ الأسد رسميًّا، العام 1976، وعشية دخول جيشه إلى لبنان، بعد تشكيل “قوات الردع العربية” بمبادرة من جامعة الدول العربية، مع وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، الذي كان بدوره على تواصل مع المسؤولين الإسرائيليين، بحسب تصريحاته وبحسب ما كتبه أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب، يائير إيفرون (في كتابه الصادر بالإنجليزية عن دار جون هوبكينز الجامعية العام 1987 “الحرب والتدخل في لبنان: حوار الردع الإسرائيلي السوري”)، ليتأكد من شروط إسرائيل فيما خص انتشار القوات السورية في لبنان، والتي ركزت على أمر وحيد، وهو عدم تجاوز نهر الأولي عند مدخل مدينة صيدا.
بحسب الزعيم الدرزي والاشتراكي، وليد جنبلاط، نجل الراحل كمال جنبلاط، فإن الضابط السوري، إبراهيم حويجي، هو من نفذ أوامر قيادته العليا باغتيال والده. وقد جرى إلقاء القبض مؤخرًا (في 7 مارس/آذار 2025) على حويجي في سوريا، في انتظار إحالته إلى المحاكمة.
أنهى اتفاق الطائف، الموقع برعاية سعودية، الحرب اللبنانية، وأدخل إصلاحات إلى النظام السياسي وعدَّل من الحصص في معادلة تقاسم السلطة على الأسس الطائفية. كما وسَّع المجلس النيابي وأقر حل الميليشيات، باستثناء المقاوِمة لإسرائيل، وحدَّد مهلًا افتراضية لإجراء الانتخابات وتجاوز الطائفية وتأسيس مجلس شيوخ وتنفيذ اللامركزية الإدارية. كما حدد مهلًا لبدء انسحاب القوات السورية من لبنان. إلا أن اجتياح العراق للكويت والحاجة إلى سوريا في التحالف الأميركي-الغربي-العربي ضد العراق من جهة، ورفض قائد الجيش اللبناني، ميشال عون، للطائف من جهة ثانية، أتاح للأسد فرصة “لفرض الاستقرار” بالقوة والهيمنة على لبنان مقابل انخراطه في الحرب ضد العراق ثم في مسار السلام الإقليمي الذي أرادته واشنطن.
صاغ الفرنسيون والأميركيون رسميًّا مشروع القرار الذي صدر مع بعض التعديلات، في 2 سبتمبر/أيلول 2004، واعتبره النظام السوري وحزب الله استهدافًا مباشرًا لهما، متهمين الحريري وعددًا من السياسيين اللبنانيين بكتابة مسودته وتسويقه بداية عبر الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، ثم من خلال الدبلوماسيتين، الأميركية والفرنسية.
من ضمن من استهدفتهم الاغتيالات بين العامين 2005 و2008، المؤرخ والصحفي، سمير قصير، والأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، جورج حاوي، والصحفي جبران تويني، والنواب، بيار الجميل وأنطوان غانم ووليد عيدو.
رعت دولة قطر مصالحة بين القوى اللبنانية بعد قرابة العامين من الشلل الحكومي والتشريعي، والمظاهرات والاعتصامات ثم الاشتباكات المسلحة. وجرى الإعداد لانتخاب قائد الجيش، ميشال سليمان، رئيسًا للجمهورية، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد رفيق الحريري وبمشاركة جميع الأطراف، على نحو لا يتيح لطرف الحصول على أكثرية الثلثين فيها. على أن تحضِّر الحكومة لانتخابات نيابية جديدة تُجرى العام 2009.
اعتقل النظام السوري بين العامين 2001 و2011، مئات المعارضين السوريين، من كتَّاب ومثقفين وحقوقيين وناشطين مدنيين، بسبب توقيعهم بيانات وعرائض تطالب بإنهاء قانون الطوارئ وإطلاق المعتقلين واحترام الحريات العامة. كما اعتقل في العامين 2005 و2006، خلال مرحلة انسحابه من لبنان، معظم المثقفين والسياسيين السوريين الذي وقَّعوا على إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي وإعلان بيروت-دمشق الداعي لاحترام سيادة واستقلال البلدين والحريات فيهما. وأظهرت مجمل الاعتقالات هذه رفض بشار الأسد السماح بأي تحرك في الحقل السياسي أو في الحيز العام.
خلال مرحلة التطبيع العربي مع النظام السوري كانت المطالب من الأسد تتركز على موضوعين: وقف تصدير الكبتاغون نحو الخليج عبر الأردن، وابتعاد سوريا عن إيران. وقد وعد الأسد مرارًا باحترام المطلبين، لكنه لم يف بأي من تعهداته.
خرقت إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار مئات المرات في لبنان؛ مما أدى إلى مقتل أكثر من 120 شخصًا بعد 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تاريخ سريان الاتفاق. ووصلت الغارات إلى ضاحية بيروت الجنوبية وإلى مدينة صيدا ومناطق أخرى في البقاع وفي العمق اللبناني. كما قرر الإسرائيليون احتلال خمسة مواقع داخل الأراضي اللبنانية ومنع الاقتراب منها. ويطلب الأميركيون من اللبنانيين “نزع سلاح” حزب الله باعتباره سبب الهجمات والاحتلال الذي تمارسه تل أبيب والذي يتبنَّونه بانتظار مفاوضات مباشرة يريدونها بين البلدين. وهو الأمر الذي لا يمكن للحكومة اللبنانية القبول به، وهي تطرح بالمقابل “مفاوضات مكوكية” غير مباشرة عبر المبعوثين الأميركيين.
منذ السابع من مارس/آذار الماضي، وبعد هجمات إجرامية من فلول النظام الأسدي على عناصر أمنية، تشير تقارير حقوقية سورية وشهادات ناجين إلى وقوع جرائم قتل ثأري طائفي جماعي وفردي وعمليات اعتداء وخطف وسرقة أملاك وحرق أراض زراعية في بلدات ومدن الساحل السوري، ذات الأكثرية العلوية. وقد أقرت هذه السلطات بوقوع ما أسمته “اعتداءات وتجاوزات”، وشكَّل الرئيس الشرع لجنة لتقصي الحقائق، ينتظر السوريون نتائج عملها.
يشكِّل “قانون قيصر” وما نجم عنه من إجراءات منذ ديسمبر/كانون الأول 2019، رزمة العقوبات الأميركية الأهم، نظرًا لعدم الاكتفاء باستهداف المسؤولين السوريين وبعض الهيئات والمؤسسات الأمنية أو الاقتصادية المرتبطة بهم، بل لاستهدافها أيضًا الأفراد والكيانات والدول التي تتعامل مع العديد من القطاعات والإدارات في سوريا. ولم يسقط القانون مع سقوط النظام، مع العلم أن العقوبات التي يتضمنها لا تستهدف حصرًا أفراد النظام المخلوع أو وحداته العسكرية. وقد باشر الاتحاد الأوروبي رفع بعض العقوبات، لكن تظل العقوبات الأميركية هي الأكثر تأثيرًا، ويبدو حتى الآن أن شروط رفعها سياسية وليست قانونية.
يُعد الإعلان الدستوري الذي أقره رئيس الجمهورية، أحمد الشرع، خطوة أولى، لكن إقرار أي دستور جديد يتطلب استفتاءً شعبيًّا على نحو يمنحه الدعم والمشروعية بوصفه دستور الجمهورية السورية الجديدة.
——————————-
الاقتصاد والدفاع في زيارة الشرع الثانية إلى تركيا/ عمر اونهون
آخر تحديث 17 أبريل 2025
قام الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، بزيارة تركيا للمرة الثانية منذ تسلمه مقاليد الأمور في دمشق، حيث شارك في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، واستأثر باهتمام لافت، يذكّر بما يحظى به النجوم من اهتمام.
في الثاني عشر من أبريل/نيسان، عقد الشرع اجتماعا ثنائيا مع الرئيس رجب طيب أردوغان. كما التقى أيضا بالشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها.
وجاء في البيان الرسمي الصادر عقب لقاء أردوغان–الشرع تأكيد التزام تركيا بمواصلة جهودها الدبلوماسية الرامية إلى رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، وإحياء التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين.
ورغم أن البيان لم يتطرق بشكل محدد إلى قضايا أمنية بعينها، مكتفيا بإشارات عامة، فإن من شبه المؤكد أن هذه الملفات كانت حاضرة على طاولة النقاش.
ولا يزال الطريق أمام سوريا محفوفا بالتحديات ومفتوحا على احتمالات عديدة من عدم الاستقرار.
وتتوزع الأولويات الملحة للرئيس أحمد الشرع وحكومته الجديدة على ثلاثة مسارات رئيسة، وهي:
– بناء هيكل سياسي وإداري يتّسع لمكونات المجتمع السوري كافة.
– توحيد الفصائل المسلحة تحت مظلة وزارة الدفاع، وتأسيس جيش وطني جديد.
-إنعاش الاقتصاد وتحسين ظروف المعيشة اليومية للسوريين، والانطلاق في مسار إعادة الإعمار.
ومن القضايا الجوهرية التي تعترض هذا السياق مسألة مستقبل الأكراد، وأيضا الدروز والعلويين. وكان الرئيس الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، وقّعا في العاشر من مارس/آذار اتفاقا من ثماني نقاط يقضي بدمج القوات في إطار الإدارة السورية الجديدة، واتفقا على أن تستكمل المفاوضات التفصيلية بشأن هذا الاتفاق حتى نهاية العام الجاري.
وقد اتخذ الطرفان بالفعل بعض الخطوات الملموسة في هذا المضمار، فانسحب مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية/وحدات حماية الشعب من الأحياء ذات الغالبية الكردية في الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، وكذلك من منطقة سد تشرين. وجرى تبادل للأسرى.
على أن ذلك لا يعني أن الصعوبات قد انتهت، فلا تزال التحديات جسيمة.فالأكراد السوريونيطالبون بنظام سياسي لامركزي يتيح لهم حكما ذاتيا، وقوات أمن مستقلة (ممثَّلة فعليا في “وحدات حماية الشعب”)، إلى جانب حصة من عائدات النفط.كما يشددون على ضرورة تضمين حقوقهم الثقافية في الدستور الجديد، بما في ذلك الاعتراف الرسمي باللغة الكردية.
وقد جدد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في الآونة الأخيرة، موقف أنقرة الرافض لهذه المطالب، والمتباين بجلاء مع ما يُقال إنها تطلعات قوات سوريا الديمقراطية/وحدات حماية الشعب.
من جانبها، تواصل الولايات المتحدة لعب دور الوسيط في المفاوضات، ليس فقط بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام في دمشق، بل أيضا بين الفصائل الكردية المتنافسة، وتحديدا بين قوات سوريا الديمقراطية والمجلس الوطني الكردي.
وكشفت إلهام أحمد، الرئيسة المشاركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (AANES)، خلال اجتماع عام في القامشلي الأسبوع الماضي، أن الولايات المتحدة توسطت في فترة لخفض التصعيد بين قوات سوريا الديمقراطية والقوات المسلحة التركية.
وفيما يمكن لواشنطن أن تتخذ بعض الخطوات لاسترضاء تركيا، لا يُتوقع حدوث تحول جوهري في سياسة الولايات المتحدة فيما يتعلق بوحدات حماية الشعب (YPG)، التي لا تزال تعتبرها قوة قتالية مدربة وموثوقة.
من ناحية أخرى، تتمسك تركيا بمساعيها الرامية إلى تقويض نفوذ قوات سوريا الديمقراطية/وحدات حماية الشعب في سوريا، وهو هدف يتعارض بوضوح مع طموحات المجموعة نفسها.
ومع ذلك، تتخذ أنقرة خطوات حذرة. فهي تدرك ضرورة عدم تعريض عمليتها الداخلية المتعلقة بعبد الله أوجلان، المؤسس والزعيم المسجون لحزب “العمال الكردستاني”، للخطر. ولا تزال هذه العملية ذات أهمية سياسية كبيرة للرئيس أردوغان، الذي يتطلع إلى دعم الأكراد الانتخابي بينما يسعى إلى تعديل الدستور وتأمين ولاية رئاسية أخرى.
هناك قضية حساسة للغاية أخرى، وهي الاحتمال المتزايد لمواجهة بين تركيا وإسرائيل على الأراضي السورية. لقد تدهورت العلاقات الثنائية، المتوترة بالفعل في السنوات الأخيرة، بشكل أكبر في أعقاب العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.
وخلال كلمته الافتتاحية في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، وصف الرئيس أردوغان إسرائيل بأنها “دولة إرهابية” واتهمها بمحاولة تخريب ثورة 8 ديسمبر/كانون الأول في سوريا من خلال تحريض الأقليات العرقية والدينية ضد إدارة الشرع. وحذر أردوغان من أن تفضيل تركيا لحل الأمور عبر الحوار يجب أن لا يُفسر على أنه ضعف، مضيفا أن أنقرة لن تسمح بسحب سوريا إلى دوامة جديدة من عدم الاستقرار.
فماذا وراء هذا التصعيد؟
من منظور إسرائيل، فإن تركيا، التي تعتبر الآن منافسا إقليمياً لإسرائيل، تمارس نفوذا متزايدا في سوريا، وهو ما تعتبره تهديدا. وبالفعل، كان الرئيسان أردوغان والشرع قد اتفقا، خلال زيارة الأخير لأنقرة في فبراير/شباط، على تعاون دفاعي يشمل الدعم التركي في بناء وتدريب الجيش الوطني السوري الجديد.
وتشير تقارير أيضا إلى أن تركيا تستعد لإنشاء قواعد عسكرية داخل سوريا. وقد وضعت هذه التطورات تركيا وإسرائيل على مسار تصادمي. وهنا تدخلت الولايات المتحدة، المحاصَرة بين أقرب حلفائها الإقليميين (إسرائيل) وشريكتها في حلف “الناتو” (تركيا)، في محاولة لاحتواء التوتر.
وفي 9 أبريل/نيسان، عقب اجتماع في واشنطن، تحدث الرئيس ترامب ورئيس الوزراء نتنياهو إلى الصحافة. وردا على سؤال، قال ترامب– بأسلوبه غير الرسمي المعهود– إنه وأردوغان “يحبان بعضهما البعض”، ويحافظان على “علاقات جيدة جدا”، وأنهما قد تعاونا في مناسبات عديدة. وأضاف أنه إذا كانت لدى نتنياهو مشكلة مع تركيا، “فسيكون قادرا على حلها له”.
ورغم أن هذه التصريحات قد بدت مطمئنة بالنسبة لأردوغان، فإن المثال الذي استحضره ترمب للتدليل على التعاون كان معبّرا جدا، حين أشار إلى قضية القس الأميركي أندرو برونسون، الذي لم يُطلق سراحه من السجون التركية خلال الولاية الأولى لترمب إلا بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على تركيا، وأدرجت وزيري الداخلية والعدل التركيين على قوائم العقوبات بسبب دورهما في احتجازه.
وعلى الرغم من تصاعد التوتر بين أنقرة وتل أبيب، فإن قنوات التواصل غير الرسمية لا تزال قائمة في الكواليس. ففي مقابلة مع قناة “سي إن إن تورك” في التاسع من أبريل، أكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن بلاده لا ترغب في أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل على الأراضي السورية.
وفي الوقت ذاته، نقلت وسائل إعلام عن مصادر إسرائيلية لم تُسمّها مواقف مشابهة، مع التشديد في الوقت نفسه على رفض تل أبيب القاطع لأي وجود عسكري تركي بالقرب من حدودها.
وبُعيد هذه التصريحات، أكّد الطرفان، التركي والإسرائيلي، انعقاد لقاءات ثنائية بين مسؤولين من البلدين في العاصمة الأذربيجانية باكو، بوساطة من أذربيجان، وهي بلد حليف استراتيجي لتركيا، في الوقت الذي تربطه بإسرائيل علاقات متقدمة.
لكن الوزير فيدان حرص على التأكيد أن هذه المحادثات لا تندرج في إطار “تطبيع العلاقات”، موضحا أن أنقرة لا ترى في هذه اللقاءات سوى جهود تقنية تهدف إلى تفادي التصعيد، مشددا على أن أي مسار تطبيعي مع إسرائيل يبقى مشروطا بوقف هجماتها المستمرة على الشعب الفلسطيني.
وقد شبّه فيدان هذه المشاورات بآليات خفض التصعيد التي سبق أن اعتمدتها تركيا مع الولايات المتحدة وروسيا وإيران خلال مراحل سابقة من الأزمة السورية، وهي آليات لا تعبّر عن تقارب سياسي بقدر ما تهدف إلى تفادي المواجهة المباشرة وإدارة مخاطر الاشتباك.
وللتأكيد على أن هذه اللقاءات لا تعبّر عن عودة إلى العلاقات الطبيعية، امتنعت أنقرة عن منح الطائرة التي كانت تقل الوفد الإسرائيلي إذنا بالتحليق في أجوائها. واضطرت الطائرة إلى اتخاذ مسار أطول عبر اليونان وبلغاريا وأجواء البحر الأسود للوصول إلى باكو– في إشارة دبلوماسية واضحة على أن الأمور لم تعد إلى مجراها الطبيعي حتى الآن.
المجلة
———————————
شكل الدولة السورية الجديدة بين الواقع والمأمول/ خالد كمال
خالد كمال
نشر في 17 نيسان/أبريل ,2025
تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “حيادية الدولة تجاه العقائد الدينية للسوريين”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
أربع عشرة سنة مضت وقبلها عقود من القمع السياسي كانت فرصة للسوريين ليفكّروا على الأقل في شكل الدولة التي يحلمون بها. وبعد سقوط الحقبة الأسدية، تباينت الأفكار والرؤى بين المنظّرين في رسم سياسات الدولة السورية وعلاقاتها الداخلية والخارجية، حتى وصلت إلى درجة التنازع، في سياق الجدل العام والغليان الاجتماعي والأيديولوجي. والحقيقة أن أغلبها نابعٌ من النمذجة السياسية، وهو ما أعتقد أنه غير متناسب مع الحالة السورية، فمن وجهة نظري لا أرى نموذج حكم متكامل يصلح نسخه للحالة السورية.
وبعد تولّي السيد أحمد الشرع سدّة الحكم في سورية، بشبه توافق ثوري وحاضنة مجتمعية، ظهرت معالم الدولة الإسلامية لأول مرة في سورية بعد عقود طويلة من الزمن، وهو ما خلق بيئة ومساحة واسعة للجدل بين المنظرين. والواضح أنّ جميع المتجادلين حول شكل الدولة لا يتحدّثون عن الشيء نفسه؛ فالمفهوم عند كثيرين لا يشمل كلّ تلك المساحة التي يشغلها وجود الإسلام أو الدين عامّة، باعتباره رؤية مموّلة لتصوّر الإنسان للعالم، في كلّ التصوّرات التي تعتبره حجر الزاوية في بنائها النّظريّ للمجتمع المثاليّ.
فالمؤكّد أنّ الطريق المعياريّة، رغم بعض عناصر صلابتها النّظريّة، لا تحظى بكلّ الثقة؛ فكلّ انطلاق من مفهوم معيّن للدولة لا ينجو من التشكيك في تمحوره حول مركزيّةٍ ما. ويصدق هذا على من عرّف الدولة الدينيّة قياسًا على التعريف الحديث للدولة، فالسياسيون الشرعيون يرون أن ربط التشريع بالشريعة في الدولة الإسلاميّة لا يتنافى ومدنيّة السلطة، بداية من أبي الأعلى المودودي، وصولًا إلى القرضاوي والغنوشي اللذين يعتبران أن الدولة الدينيّة لم توجد إلاّ في تاريخ الكنيسة الأوروبيّة، على أساس أنّها الدولة التي يحكمها رجال الدين. ومن ثَم يستنتجون أنّ الدولة الإسلاميّة لا يمكن أن تكون دولة دينيّة؛ لأنّ الإسلام لا يعرف مقولة رجال الدين، ويدعمون تأكيدهم هذا بتعيين توافق الدولة الإسلاميّة مع الدولة المدنيّة، إذ يقرّون أنّ مصدر السلطة في الإسلام هو الأمّة، وإن لم تمتلك حقّ التشريع الذي يبقى بيد اللّه.
حيادية الدولة تجاه عقائد السوريين:
إن طرح فكرة حيادية الدولة في مجتمع متعدّد ذي غالبية إسلامية لا يخلو من إشكال سياسي جدلي، فكما أن تطبيق إسلامية الدولة في الحالة السورية غير ممكن، فإنه من غير المقبول أيضًا علمنة الدولة أو أوربتها، وخاصة أن دستور الدولة الذي يحدد شكلها بحاجة إلى استفتاء شعبي، وهو ما لا يتناسب مع الغالبية المسلمة في سورية.
ومن هنا، لا بد -من وجهة نظري- من تأطير جديد لشكل الدولة السورية، وهو ما أعبّر عنه بالدولة المدنية ذات الفلسفة الإسلامية الحاكمة، وهذا ما نجحت فيه غالبية الدول الأوروبية التي انتهجت نهج علمانية الدولة مع المحافظة على المرجعية الدينية المسيحية، كاشتراط دين الحاكم، والحفاظ على الطابع الديني للدولة. وتشدّد بعضهم باشتراط المسيحية اللوثرية، وهو ما لم تفعله دولة إسلامية سوى إيران التي اشترطت المذهب الشيعي الإسلامي.
دولة مدنية أم إسلامية:
وهنا لا أقصد بمدنية الدولة علمانيتها الداعية لفصل الدين عن الحياة، ذلك المصطلح الذي نشأ مع نجاح الثورة الفرنسية، فلا يمكن قبول أي نظام سياسي إسلامي بمعزل عن الوحي، حيث إن غياب الوحي عنه يعتبر غيابًا لصفة الإسلامية. ومن جانب آخر، يطلق البعض مفهوم الدولة الدينيّة على أدنى التركيبات السياسيّة توظيفًا للدين في السياسة؛ فعلى هذا النّحو، يُنظر إلى كثير من الدول الغربيّة (العلمانية) على أنّها دول ذات أساس ديني.
أما الدولة المدنية، بمعناها الاصطلاحي الأشهر، وهو الدولة التي تديرها مؤسسات المجتمع المدني، فهذا ما يمكن أن يحل الإشكال الجدلي للحالة السورية، ولا سيما أن تلك المؤسسات هي التي تعبّر عن ثقافة الأمة، وتمثل المجتمع الذي ينبغي أن يؤسس لشكل دولته. فالدول المدنية بهذا المفهوم يمكن أن تكون حيادية، شريطة أن يأتي نظام الحكم فيها متوافقًا مع الرؤية الإسلامية ولا يعارضها.
لقد انتشرت مؤخرًا اتهامات كثيرة للإسلاميين بأنهم يناقضون الدولة المدنية، ويرفضون العيش في عالم متطور، ويريدون الانتكاس إلى دولة ثيوقراطية دينية تحكمها مبادئ إلهية صارمة غائبة عن الإنسان. ثم تطورت الاتهامات لدرجة جعلت المسلم نفسه يخشى من العيش تحت حكم الدولة الإسلامية، وذلك بالبحث عمّا يقيّد الحريات في الشريعة الإسلامية، وبالحديث عن الحدود وتطبيقها، كالقتل والقطع والرجم.
ولسائل أن يسأل هنا: كيف يقبل الإسلام بمبدأ مدنية الدولة، بمعنى أن تديرها المؤسسات الحيادية، تحت سقف الوحي؟ وكيف يجتمع حكم الوحي مع مدنية الدولة؟
هذا التسويق الفكري مبنيّ على مغالطة؛ لأن الإجابة ينبغي أن لا تكون على تسميات فحسب، بل ينبغي الإحاطة بالمضامين أيضًا، فولادة مصطلح المجتمع المدني المعاصر في حكومةٍ لا تحكمها المفاهيم الدينية لا يعني أبدًا أن فكرة المجتمع المدني لا تقبل التطبيق في مجتمع تحكمه الفكرة الدينية، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، نجد أنه من غير الإنصاف أن يُنظر إلى الإسلام على أنه كتلة من المعلومات الوجودية التي تتكلم عن الغيب والحياة فحسب، فالإسلام نظام حياة يرتّب الاقتصاد والمجتمع والتعليم والجانب السياسي والعلاقات ما بين الأفراد، والعلاقات بين الدول. ومن غير السديد أن يُنظر إلى الإسلام ككثير من الأديان الأخرى التي تقتصر على المعلومات الوجودية والتعليمات الأخلاقية. فالإسلام نظام متكامل يمكن أن يملأ جوف الدولة المدنية.
إن النظام السياسي الإسلامي هو جملة من التدابير التي يفرضها الحاكم، مستندًا إلى مرجعيات معينة قد تكون الشريعة، وهي أهمها، وقد تكون الخبرات السياسية الأخرى المبنية على التجربة والاجتهاد. ومن هنا، نرى أن عمر بن الخطاب أوقف حد القطع في عام المجاعة، وأنكر الإمام محمد أبو زهرة وغيره من علماء المسلمين صحة ثبوت حالة الرجم الوحيدة في التاريخ الإسلامي، وغير المنصوص عليها في القرآن.
فعبارة تطبيق الشريعة، بفعل ارتباطها بهذا المفهوم الإسلاميّ الغالب للتوحيد، تمنع أيّ إمكان لانفلات الدولة من الدينيّة إلى المدنيّة، ولا تفلح مختلف التأويلات المتمسّكة بتأكيد مدنيّة الدولة الإسلاميّة.
وقد يكفي دليلًا على ذلك تبنّيها لقيم الدولة المدنيّة ومقولاتها، كالحريّة والمواطنة والديمقراطيّة، لا سيما أمام مفهوم حريّة المعتقد (لا إكراه في الدين) المناقض لحدّ الردة المختلف فيه عند علماء المسلمين. إنّ قراءة مفهوم الدولة في كتابات واحد من المفكّرين الإسلاميين تبين الرؤية الإسلامية لمدى إمكانية التزاوج بين السلطتين الدينية والمدنية. يقول المفكر الإسلامي فهمي هويدي، في كتابه الإسلام والديمقراطية: “نحن إذن نتحدّث عن سلطة مدنيّة منتخبة من ممثّلي الأمّة، والتزامها بشريعة الإسلام لا يُحوّلها إلى دولة دينيّة بالمفهوم السائد في التجربة الغربيّة… إذ يظلّ الدين مصدر القانون والقيم، وليس مصدرًا للسلطة بأيّ حال”، ويعتبر إغفال هذا التمايز الجوهريّ، بين الدولة الإسلاميّة والدولة المدنيّة، ناتجًا عن جهل بمصطلحات السياسة، فيقول: “إذا أردنا أن نحسن الظنّ بالذين وصفوا الدولة الإسلاميّة، بأنّها دولة دينيّة، ثمّ اعتبروها نقيضًا للدولة المدنيّة، فلن يكون أمامنا سوى مخرج واحد، هو إعذارهم، باعتبارهم لا يعرفون دلالة تلك المصطلحات، الأمر الذي أوقعهم في الغلط”.
تحميل الموضوع
مركز حرمون
——————————-
فرنسا تنافس تركيا بسوريا.. حضور عسكري ودبلوماسي متزايد/ مها غزال
الخميس 2025/04/17
تطفو سوريا من جديد على سطح التنافس الدولي، لكن هذه المرة ليس كأرضٍ محروقة بيد الفاعلين المحليين، بل كساحة اختبار لمقاربتين متضادتين تحاولان صياغة شكل الدولة ما بعد الحرب: تركيا التي تسعى لتوسيع حضورها العسكري وترسيخ نفوذها الدفاعي، وفرنسا التي تتحرك بدقة وسط الحقول المتفجرة للدبلوماسية، محاولةً استعادة حضور خافت خلف القوة الأميركية.
في هذا السياق، تؤكد مصادر مقربة من الخارجية الفرنسية لـ”المدن”، أن باريس تعمل على زيادة عدد جنودها ضمن التحالف الدولي، سواء في مناطق انتشار “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شمال شرق سوريا، أو في أربيل العراقية. إلا أن هذا الحضور، كما تقول: “يبقى تحت السيطرة العملياتية الأميركية”، ولا يرتقي إلى درجة التأثير المستقل على مجريات النزاع، في ظل تفوق القوة الأميركية في الانتشار والقرار.
ومع ذلك، لا تنحصر المقاربة الفرنسية بالوجود العسكري، بل تمتد إلى دبلوماسية الوساطة. المصدر نفسه يشير إلى أن فرنسا دخلت في قنوات تفاوضية غير معلنة لتخفيف التوتر بين تركيا و”قسد”، وتسعى بالتوازي إلى تقريب وجهات النظر بين “الإدارة الذاتية” ودمشق، في محاولة لضبط المسارات المتناقضة قبل أن تتحول إلى صدام شامل.
لكن الرؤية الفرنسية، التي ترى في إعادة توحيد سوريا مقدّمةً للاستقرار الإقليمي، تصطدم بعقبات متشابكة: الطموح التركي بإنشاء بنية دفاعية وجوية داخل سوريا، والمعارضة الإسرائيلية القاطعة لذلك المشروع، بالإضافة إلى التصعيد العسكري الإسرائيلي في الجنوب، حيث تسعى تل أبيب إلى توسيع منطقة عازلة تحت شعار “تأمين الحدود”، وهي استراتيجية تعتبرها باريس “وهماً أمنياً” يخفي وراءه مشاريع تقسيم ناعمة.
ويحذّر المصدر الفرنسي من أن إسرائيل، في ظل الانسحاب الأميركي التدريجي، تحاول بناء قوة محلية في جنوب سوريا، وتكون شبيهة بـ”الجيش اللبناني الجنوبي” الذي استخدمته كذراع ميداني في الثمانينات، وذلك لمواجهة ما تعتبره الخطر الإسلامي المدعوم من أنقرة.
باريس، من جهتها، ترفض هذه المقاربات، وتراها تهديداً مباشراً لوحدة الأراضي السورية وتقسيم المنطقة وفق المصدر.
شرق المتوسط: الجغرافيا كأداة نفوذ
ويتقاطع التنافس السوري مع النزاع البحري الأوسع في شرق المتوسط، حيث تحاول تركيا فرض خرائط جديدة للنفوذ البحري، فيما تسعى فرنسا لحماية حلفائها التاريخيين في اليونان وقبرص.
ومنذ توقيع أنقرة لاتفاقها البحري مع حكومة طرابلس الليبية عام 2019، دخلت في مواجهة مفتوحة مع محور أوروبي تقوده باريس. لكن مع تغيّر معادلات الطاقة واندلاع الحرب في أوكرانيا، تراجعت نبرة التصعيد الفرنسية، وأدركت باريس أن أدوات الردع التقليدية – كالعقوبات الأوروبية – لم تعد قادرة على إبطاء التمدد التركي البحري، خصوصاً بعد أن عادت تركيا لتعزيز وجودها البحري وحدثت أسطولها العسكري.
وبالرغم من تأكيد المصدر المقرب من الخارجية الفرنسية، أن باريس حصلت مؤخراً على تفاهم أولي مع دمشق حول ملف ترسيم الحدود البحرية، وهو ما يُعدّ تطوراً لافتًا في مسار العلاقة بين الجانبين ويعكس تحوّلاً تدريجياً في أولويات السياسة الفرنسية حيال سوريا، لكنه أشار إلى أن بلاده لم تعد تسعى لعزل تركيا كما في السابق، بل تسعى إلى “احتوائها عبر تدوير الزوايا”، في إشارة إلى تحول استراتيجي في مقاربة باريس للنفوذ التركي، بعد أن أدركت أن القوة وحدها لن تكفي لموازنة أنقرة المتصاعدة.
تحالف هش… وصراع مكتوم
يذكر أن العلاقات التركية-الفرنسية داخل حلف شمال الأطلسي اتخذت طابعاً رمادياً معقداً، يتأرجح بين الشراكة الإجبارية والتنافس الاستراتيجي، لا سيما بعد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الناتو بـ”الميت دماغياً”، عقب العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، ليرد عليه نظيره التركي رجب طيب أردوغان باتهامات بـ”الجنون” وبأن فرنسا تتصرف كقوة استعمارية في المتوسط.
لكن الحرب في أوكرانيا وانكفاء الولايات المتحدة أعادا ترسيم الأولويات الأوروبية، ودفعا فرنسا إلى الانخراط مجدداً في بنية “الناتو” رغم كل تحفظاتها، من أجل ضمان التوازن مع روسيا. وعادت تركيا، بوصفها ثاني أكبر جيش في الحلف، لتحتل موقعاً مركزياً لا يمكن تجاوزه، لا في البحر الأسود، ولا في ملف الطاقة، ولا في إدارة تدفقات اللاجئين.
وبحسب الدوائر المقربة من القرار الفرنسي، فإن “تركيا لم تعد خصماً يمكن عزله، بل شريكاً مزعجاً لا يمكن تجاهله”، وهو ما يفسر الانفتاح الفرنسي الأخير، بما في ذلك زيارة وزير الخارجية هاكان فيدان إلى باريس في 2 نيسان/أبريل الجاري، ولقاؤه مع نظيره جان-نويل بارو، بعد قطيعة دبلوماسية استمرت أكثر من عامين.
نحو تعايش قلق
ولا يبدو التنافس التركي-الفرنسي في سوريا وشرق المتوسط مجرد تباين في المصالح، بل هو صدام بين فلسفتين سياسيتين: واحدة واقعية توسعية تنتهجها أنقرة بأدوات القوة الصلبة، وأخرى ليبرالية مؤسسية تميل إليها باريس عبر الدبلوماسية والتحالفات.
وفي ظل تحولات النظام الدولي، وتراجع الهيمنة الأميركية، لم يعد ممكناً احتواء هذا التنافس أو حسمه، بل فقط إدارته بتوازن هش وتعايش قلق، تحكمه الضرورات الأمنية لا التوافقات السياسية.
المدن
————————-
حكومة دمشق و”قسد” مجددًا.. ماذا لو قلصت أميركا وجودها العسكري في سوريا؟/ أحمد العكلة
17 أبريل 2025
مع تسارع التحولات الإقليمية والدولية في المشهد السوري، باتت مسألة العلاقة بين الحكومة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” محورًا أساسيًا في صياغة مستقبل شرق الفرات.
وفي ظل تقارير إسرائيلية تتحدث عن نية الولايات المتحدة تقليص قواتها في سوريا خلال الشهرين المقبلين، يتوقع مراقبون أن تعيد هذه الخطوة، إن تمت، خلط الأوراق وتعزز الحاجة إلى تسوية سريعة تحمي مصالح الطرفين وتمنع فراغًا أمنيًا قد تستفيد منه قوى إقليمية كإيران وتركيا.
ونقلت وسائل إعلام عبرية، عن مصادر أمنية إسرائيلية، أن واشنطن أبلغت شركاءها في المنطقة بخطة تقضي بإجلاء نصف قواتها من شمال شرق سوريا خلال فترة شهرين، وذلك في إطار إعادة تموضع استراتيجية تشمل العراق أيضًا.
وقال مصدر عسكري في قوات “قسد”، في حديث خاص لـ “ألترا سوريا”، إن واشنطن لم تخبرهم برغبتها بالانسحاب ضمن جدول زمني، وخصوصًا أن مهمة التحالف في ملاحقة عناصر داعش بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية ما زالت متواصلة، وهناك كذلك قضية السجون التي يتواجد فيها عشرات الآلاف من عوائل عناصر تابعين لداعش، معظمهم أجانب.
وأضاف أن “انسحاب القوات الأميركية، في حال تم، لن يدفع قوات سوريا الديمقراطية للتنازل، لأن هناك اتفاقًا بينها وبين الحكومة السورية ببنود محددة يتم العمل عليها وفق خطة زمنية”، مشيرًا إلى أن موضوع اللامركزية أو الفيدرالية يُطرح ضمن حوار كردي ــ كردي مع الحكومة السورية.
ووفقًا لمصادر إعلامية، تخشى إسرائيل من أن يؤدي هذا الانسحاب إلى تعزيز النفوذ الإيراني في دير الزور، أو تسليم مناطق واسعة للجيش السوري، أو حتى تصعيد تركي في مناطق سيطرة “قسد”.
وتؤكد مصادر دبلوماسية غربية أن محادثات غير معلنة تجري منذ أسابيع بين حكومة الشرع وممثلين عن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (المرتبطة بقسد)، برعاية روسية، وبتشجيع من أطراف أوروبية تعتبر الحل التوافقي بين دمشق والأكراد خطوة أساسية لضمان الاستقرار ومنع تفكك البلاد.
وأكد مدير مجموعة المصدر الإعلامية، نورس العرفي، أن قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لا يمكنها الصمود في مناطق سيطرتها من دون الدعم الأميركي، مرجحًا أن “انهيارها سيكون خلال أيام في مناطق مثل الرقة ودير الزور والحسكة”. وبيّن أن “بعض المناطق مثل عين العرب والقامشلي قد تشهد صمودًا أطول نظرًا لوجود حاضنة شعبية، إلا أن الغطاء الأميركي يظل عنصرًا حاسمًا في بقاء قسد”.
وأشار العرفي إلى أن اندماج “قسد” في الجيش السوري “يبقى خيارًا ممكنًا على مستوى الأفراد، وهو ما تؤكده وزارة الدفاع السورية. غير أن العقبة الأساسية أمام هذا الاندماج تتمثل في استمرار الدعم الأميركي، إلى جانب محاولات “قسد” استقطاب دعم من أطراف أخرى”.
وبحسب العرفي، فإن رفع الدعم الخارجي، وخصوصًا الأميركي، سيجبر “قسد” على الاندماج في مؤسسات الدولة السورية دون شروط.
واعتبر العرفي أن الانسحاب الأميركي، وإن كان جزئيًا، لا يعني نهاية المشروع “القسدي” المدعوم من حزب العمال الكردستاني (PKK)، لكنه يشكّل ضربة قوية له.
ولفت إلى أن واشنطن لم تعلن انسحابًا كاملًا، بل تقليصًا في عديد قواتها، وهو ما لا ينهي تأثيرها على الأرض. “ومع ذلك، فإن رفع الغطاء السياسي والدعم اللوجستي عن “قسد” يبقى العامل الحاسم في مستقبلها، أكثر من مجرد تقليص عدد الجنود الأميركيين”.
في سياق متصل، شدد العرفي على أن “الحكومة السورية الحالية، وبعد موجة الانفتاح الدولي والزيارات الرسمية إلى عدة دول من بينها تركيا والإمارات، لا ترى نفسها مضطرة لتقديم أي تنازلات، لا سيما أنها لم تقدمها سابقًا حين كانت بأمسّ الحاجة إليها”. واعتبر أن هذه الديناميكية الجديدة تعبّر عن تفاهم دولي لدعم الدولة السورية ورفض مشاريع التقسيم والفيدرالية.
وفي ما يتعلق بالطرح الفيدرالي، نفى العرفي وجود أي فيدرالية معلنة أو غير معلنة في سوريا، مؤكدًا أن الموقف الرسمي والشعبي موحّد برفض أي مشروع يؤدي إلى تقسيم البلاد. وقلّل من أهمية الأصوات المنادية بذلك في بعض مناطق الساحل أو السويداء، واصفًا إياها بـ”الأصوات النشاز” التي ستتلاشى مع الوقت.
واختتم العرفي حديثه بالتأكيد على أن “سوريا الجديدة، بعد انتهاء مرحلة الحكم السابق المعتمد على التوازنات الدولية والدعم الخارجي، تسعى اليوم إلى استعادة سيادتها كاملة، وترفض أي وجود أجنبي على أراضيها”، مشيرًا إلى أن انسحاب أي قوة خارجية، بما فيها القوات الأميركية، سيُنظر إليه بشكل إيجابي ولا يشكل تهديدًا لاستقرار البلاد.
في حال تأكد الانسحاب الأميركي المرتقب، فإن الاتفاق بين دمشق و”قسد” سيصبح، وفق مراقبين، ضرورة استراتيجية وليس خيارًا سياسيًا. وهو اتفاق قد يعيد رسم توازن القوى في سوريا، ويجعل من ملف شرق الفرات بوابة لتسويات أوسع تشمل تركيا وإيران وحتى إسرائيل التي تراقب من كثب التطورات وتتخوف من تحول الفراغ الأميركي إلى تهديد أمني جديد على حدودها الشمالية.
وتشير التسريبات إلى أن الاتفاق الجاري التفاوض حوله قد يشمل إدماجًا جزئيًا لقوات “قسد” في هيكلية الجيش السوري الجديد ضمن “قوات الحماية الإقليمية”.
انتهاء مشروع الإدارة الذاتية
أكد الناشط السياسي عبد الكريم العمر، في حديث لـ “ألترا سوريا”، أن قوات سوريا الديمقراطية “لا يمكنها الصمود أو العمل دون الدعم والغطاء الأميركي”، مشيرًا إلى أن التجربة الماضية أثبتت أن هذه القوات تأسست أساسًا بقرار أميركي في سياق الحرب على تنظيم “داعش”.
وأوضح العمر أن “الولايات المتحدة جمعت مكونات من حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب تحت مظلة “قسد”، وقدمت لها دعمًا عسكريًا وسياسيًا واسعًا، وسلّمتها مناطق واسعة من شرق الفرات”. وأضاف أن “غالبية القيادات الفعلية داخل قسد ليست سورية، بل تنتمي لجبال قنديل، بينما لا يملك القادة السوريون تأثيرًا حقيقيًا في بنية هذه القوات”.
وفي ظل مؤشرات الانسحاب الأميركي من شمال شرق سوريا، يرى العمر أن “قسد” باتت أمام خيار شبه وحيد يتمثل بالاندماج في الجيش السوري الجديد. ولفت إلى أن “الاتفاق الذي جرى بين رئيس الجمهورية أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي تم بوساطة أميركية، وشمل نقل عبدي إلى دمشق بطائرة أميركية، ما يدل على ضغوط واشنطن لدفع قسد إلى الانخراط في الدولة السورية الجديدة”.
وأضاف العمر أن “قسد تمثل كتلة عسكرية لا يمكن إنكارها في الشرق السوري، ولكن الحفاظ على هذه الكتلة ككيان مستقل غير ممكن في ظل الانسحاب الأميركي، وبالتالي لا بد من إدماجها ضمن مؤسسات الدولة السورية، ولو بشكل مؤقت، إلى أن تذوب في بنية الجيش السوري”.
الحكومة السورية الجديدة مستعدة للحوار
يرى العمر أن توقيع الاتفاق بين مظلوم عبدي ورئيس الجمهورية أدى إلى تلاشي مشروع “الإدارة الذاتية” في شمال شرق سوريا، بما في ذلك مفاهيم مثل “روج آفا” أو “غرب كردستان”، والتي اعتبرها شعارات انفصالية أطلقتها بعض القوى الكردية.
وأشار إلى أن هناك موقفًا واضحًا من القيادة السورية بعدم السماح بوجود أي سلاح خارج إطار الدولة، أو أي منطقة خارجة عن سيطرتها، مضيفًا أن الانسحاب الأميركي المرتقب سيسهم في إنهاء هذا المشروع بالكامل.
وحول موقف الحكومة السورية الجديدة، أكد العمر أنها “لا تسعى لتقديم تنازلات سياسية لقسد، بل تسعى للحفاظ على وحدة سوريا أرضًا وشعبًا”. وأشار إلى أن الحكومة مستعدة لاتخاذ إجراءات تضمن عدم اندلاع صراعات داخلية، والدخول في حوارات طويلة، كما حدث مع “اللواء الثامن” في درعا بقيادة أحمد العودة.
وشدد العمر على أن “قرار الانسحاب الأميركي من سوريا ليس مجرد احتمال، بل توجه حتمي اتخذته الإدارة الأميركية منذ الولاية السابقة للرئيس دونالد ترامب، في إطار إعادة تموضعها عالميًا ومواجهة التمدد الصيني”.
وختم العمر بالقول إن “قسد” بعد الانسحاب الأميركي “لن تجد خيارًا سوى الانخراط الكامل في مؤسسات الدولة السورية، لتبقى الحكومة والجيش الجديد هما المرجعية الوحيدة على كامل التراب السوري”.
بدوره، قال العميد المهندس المنشق، محمد رسلان، إن العناصر غير السورية، وخصوصًا الجماعات القادمة من جبل قنديل، ترفض الاندماج مع السكان المحليين، مما يهدد مستقبل مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا.
وأوضح رسلان، لـ “ألترا سوريا”، أن “المشروع مهدد بالزوال، لأن عداءه مع تركيا، وهي دولة إقليمية كبرى، يسبق حتى خلافه مع الدولة السورية”. لكنه في الوقت نفسه يرى أن بالإمكان تحويل “قسد” إلى حزب سياسي مدني، بشرط التخلي الكامل عن السلاح.
واستبعد رسلان أن تقدم دمشق تنازلات سياسية كبرى، مرجحًا أن تكتفي بمنح بعض الصلاحيات الإدارية. وقال: “من الممكن أن يحصلوا على مناصب مثل رئيس بلدية أو مدير منطقة، بالإضافة إلى إدارات مدنية ومالية تدير عائدات النفط والغاز لإعادة إعمار المدن”.
وحول الحديث المتصاعد عن انسحاب أميركي محتمل من سوريا، أشار رسلان إلى أن الضغوط السياسية الداخلية في الولايات المتحدة هي الدافع الرئيسي وراء هذا التوجه. وأردف قائلًا: “الانسحابات الأميركية من أفغانستان، والصومال، والعراق في وقت سابق، تؤكد أن ما يهم إدارة ترامب – كما غيرها – هو تأمين المصالح الأمنية والاقتصادية الأميركية أولًا”.
في ظل التسارع الإقليمي والدولي وتبدّل التحالفات، تبدو الساحة السورية على أعتاب مرحلة جديدة يعاد فيها رسم خارطة النفوذ. الانسحاب الأميركي، سواء كان كليًا أو جزئيًا، يشكّل لحظة فارقة ستُجبر اللاعبين المحليين على إعادة التموضع.
وبين تقاطع الحسابات الدولية، ومساعي الأطراف المحلية لتثبيت موطئ قدم في مستقبل سوريا، يبدو أن شرق الفرات مقبل على مرحلة تفاوض “قسري” تُمليها الضرورات لا الرغبات، في مشهد تتقاطع فيه الواقعية السياسية مع حسابات البقاء.
———————————–
المفتي الجديد لسوريا: بين السياسة والشرعية الدينية/ لين خطيب
17 أبريل 2025
تشهد سوريا تحولات جذرية في مختلف مؤسساتها، بما في ذلك المؤسسة الدينية. ومن بين أبرز هذه التحولات تعيين الشيخ أسامة الرفاعي مفتيًا عامًا لسوريا، إلى جانب تشكيل المجلس الأعلى للإفتاء الذي يضم عددًا كبيرًا من العلماء، مثل الشيخ محمد راتب النابلسي، والشيخ عبد الفتاح البزم، في خطوة تعكس تحولًا هامًا في مفهوم الشرعية الدينية في البلاد.
لكن هذا التغيير لا يمكن فهمه دون النظر إلى الدور الذي لعبه المفتي السابق أحمد حسون، الذي ارتبط اسمه بفترة طويلة من التبعية للسلطة.
من أحمد حسون إلى أسامة الرفاعي: انتقال في الشرعية
شغل الشيخ أحمد بدر الدين حسون منصب المفتي العام لسوريا منذ عام 2005 وحتى إلغاء المنصب بقرار من النظام السوري في عام 2021. كان حسون يُعرف بولائه المطلق لنظام الأسد، حيث لم يكن مجرد رجل دين، بل أداة في يد السلطة، يُصدر الفتاوى التي تدعم قرارات النظام، حتى تلك التي تبرر العنف ضد المعارضين. وقد أدى هذا الدور إلى فقدان المنصب لمكانته الدينية المستقلة وتحوله إلى جزء من الآلة السياسية.
على سبيل المثال، في عام 2011، وبعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد النظام، أصدر حسون تصريحات اعتبر فيها أن كل من يعارض النظام هو خائن ويستحق العقاب الإلهي، بل وهدد بأن هناك عمليات تفجيرية ستنفذها مجموعات تابعة للنظام في أوروبا إذا سقط الأسد. كذلك، أفتى بعدم شرعية التظاهر ضد النظام، معتبرًا ذلك خروجًا على ولي الأمر، في محاولة لإضفاء غطاء ديني على القمع الوحشي للاحتجاجات.
هذا الواقع الذي فرضه حسون جعل السوريين ينظرون بعين الريبة إلى منصب المفتي، لكن تعيين الشيخ أسامة الرفاعي هو محاولة لاستعادة هذه المكانة وإعادة الشرعية الحقيقية للمؤسسة الدينية.
المفتي الجديد: بين الدين والسياسة
على الرغم من أن تعيين الرفاعي جاء من قبل الحكومة الانتقالية، إلا أن المؤشرات الأولية توحي بأنه يسعى للحفاظ على استقلالية المنصب عن السلطة السياسية. في خطابه الأول بعد تعيينه، شدد على أهمية “إعادة دور المؤسسة الدينية إلى مكانها الطبيعي كمرجعية روحية وأخلاقية تخدم الشعب بعيدًا عن التوظيف السياسي”.
ما يعزز من فرص نجاح الرفاعي في كسب ثقة السوريين هو تاريخه الحافل في معارضة نظام الأسد. فقد كان من الشخصيات الدينية التي لم تتردد في انتقاد سياسات النظام، بل وشارك في العديد من المبادرات الداعية إلى التغيير والإصلاح .خلال السنوات الأولى من الثورة السورية، عُرف بمواقفه الصريحة تجاه القمع الوحشي الذي مارسه النظام ضد الشعب. وفي أول أيام الثورة السورية، في ليلة القدر عام ٢٠١١، اعتصم شباب في جامع الشيخ عبد الكريم الرفاعي، فاقتحمت قوات الأسد الجامع وانتهكت حرمته واعتقلت من به ولم يسلم الشيخ أسامة الرفاعي من تنكيلها. هذه المواقف الشجاعة ضد نظام لا يرحم جعلته أحد الأصوات الدينية المعتبرة لدى قطاعات واسعة من السوريين. كما أن دوره في تأسيس “رابطة علماء الشام” في إسطنبول، التي كانت تهدف إلى تقديم رؤية دينية تتماشى مع تطلعات السوريين بعيدًا عن هيمنة السلطة، يعكس التزامه تجاه مبادئه وتجاه السوريين .
هذا الدور والتوجه الجديد يضع الرفاعي أمام تحدٍ كبير، إذ عليه أن يثبت أن المؤسسة الدينية يمكن أن تعمل بمعزل عن النفوذ السياسي، وهو ما يقودنا إلى التساؤل عن التحديات التي ستواجهه في هذه المرحلة الدقيقة.
تحديات المرحلة الجديدة
بالطبع، لا يزال أمام الشيخ أسامة الرفاعي العديد من التحديات. فمن جهة، يواجه إرثًا ثقيلًا من تسييس المؤسسة الدينية، ما يتطلب عملًا دؤوبًا لاستعادة ثقة السوريين. ومن جهة أخرى، هناك مخاوف من أن تؤدي السياسات داخل الحكومة الجديدة وصراعات المعارضة نفسها إلى محاولات التأثير على قراراته، وهو ما قد يضعه أمام اختبار حقيقي للحفاظ على استقلاليته.
لا شك أن تعيين الشيخ الرفاعي كمفتي عام لسوريا يعكس تحولًا مهمًا في المشهد الديني السوري. فهو لا يمثل مجرد تغيير في الأسماء، بل تحولًا في الدور والمضمون، حيث يتجه المنصب نحو الاستقلالية بدلًا من أن يكون تابعًا للسلطة. لكن هذه الفرصة لن تكون سهلة التحقيق، إذ إن الطريق نحو استقلال المؤسسة الدينية لا يزال مليئًا بالعقبات، مما يجعل مستقبل المنصب مرتبطًا بمدى قدرة الشيخ الرفاعي على مقاومة الضغوط السياسية المستقبلية من مختلف الأطراف، وترسيخ تقاليد دينية تعيد للمؤسسة الإفتائية دورها الأصيل في خدمة المجتمع، لا خدمة الحكام.
التحديات التي تواجه استقلال المؤسسة الدينية متعددة ومعقدة. فمن جهة، هناك إرث طويل من استخدام المؤسسة الدينية كأداة بيد السلطة السياسية، وهو ما يجعل استعادة ثقة السوريين بحاجة إلى خطوات جريئة تثبت أن المؤسسة أصبحت مستقلة بالفعل. كما أن إنها بحاجة إلى بناء شبكة دعم داخلية تساهم في تعزيز رؤيتها كمؤسسة إفتاء جديدة، دون أن تقع في فخ الخضوع للضغوط السياسية أو الفئوية.
هل نحن أمام مفتي الشعب؟
ومن جهة أخرى، هناك تحدٍ داخلي يتمثل في إعادة تعريف دور المؤسسة الدينية في مجتمع تغير بشكل جذري خلال السنوات الماضية. فالسوريون اليوم، سواء في الداخل أو في الشتات، لديهم توقعات مختلفة عمّا كانت عليه قبل الثورة، حيث باتوا أكثر وعيًا بدور الدين في المجال العام، وأكثر تشككًا في أي سلطة دينية قد تبدو وكأنها امتداد لمنظومات الحكم السابقة. لذا يرى العديد من المراقبين أن نجاح المفتي الجديد في مهمته لن يعتمد فقط على مدى استقلالية المؤسسة الدينية عن السلطة، بل أيضًا على قدرته على تقديم رؤية دينية تتماشى مع تطلعات السوريين في سياق صعب ومتغير.
فسوريا اليوم ليست كما كانت قبل عقدين من الزمن؛ فقد فرضت الحرب واللجوء والتغيرات الاجتماعية واقعًا جديدًا يتطلب رؤية دينية واقعية تساعد السوريين على التعامل مع تناقضات الوضع الحالي:ظروفهم الصعبة وشعورهم بالظلم مع رؤية إمكانية مستقبل أكثر إشراقا. أمام الشيخ الرفاعي ومجلس الإفتاء فرصة لإعادة بناء المرجعية الدينية على أسس تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بحيث تعيد إليهم الثقة بالمؤسسات الدينية، ليس فقط من حيث الشرعية الدينية، ولكن أيضًا من حيث الدور الاجتماعي الذي يجب أن تلعبه في مرحلة إعادة البناء الوطني والمصالحة المجتمعية.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع الشيخ أسامة الرفاعي أن يكون صوت الشعب، أم أن التحديات السياسية ستجعل دوره امتدادًا لما كان عليه في السابق؟
الترا سوريا
—————————–
=======================
واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 17 نيسان 2025
لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع
—————————-
سوريا وتركيا وكردهما/ بكر صدقي
تحديث 17 نيسان 2025
استخدم وزير الدفاع التركي يشار غولر، في تصريحات إعلامية قبل أيام، تعبير «قوات سوريا الديمقراطية» وذلك للمرة الأولى على لسان مسؤول تركي رفيع. فطوال السنوات السابقة، وإلى وقت قريب، كان المسؤولون الأتراك يستخدمون أسماء «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«قوات حماية الشعب» بوصفهما «كيانات إرهابية» تابعة لحزب العمال الكردستاني، إلى جانب «داعش» وجماعة فتح الله غولن، ويطالبون المجتمع الدولي بتبني هذا التوصيف. وكان الاختلاف حول هذا التوصيف مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية هو أحد أسباب الخلافات بين تركيا وتلك الدول.
لم يأت هذا التغيير من فراغ، بل سبقه ترحيب تركي رسمي بالاتفاق الإطاري الذي تم توقيعه بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، وتوقف العمليات العسكرية في منطقة سد تشرين بين فصائل «الجيش الوطني» وظهيرها التركي من جهة وقوات قسد من جهة أخرى «على الساكت» أي بلا إعلان رسمي.
يمكن القول إن الدولة التركية قد اعترفت «على الساكت» أيضاً بقوات سوريا الديمقراطية كطرف في المعادلات الداخلية في سوريا. وعبر مظلوم عبدي، في تصريحات إعلامية مؤخراً، عن ارتياحه من تراجع التوصيفات التركية لقسد بالإرهاب.
تأتي هذه المرونة التركية المستجدة تجاه قسد في إطار سياسة جديدة للدولة التركية العميقة تجاه الكرد بدأت ملامحها تتضح منذ شهر تشرين الأول الماضي مع المبادرة التي أطلقها زعيم الحزب القومي المتشدد دولت بهجلي الذي تحالف مع أردوغان في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في العام 2016. وينظر إلى بهجلي، في الرأي العام المحلي، بوصفه ناطقاً باسم الدولة العميقة التي لها مصالحها ورؤاها المستقلة عن التغيرات في السلطة السياسية. ومع مضي الأسابيع والأشهر التالية على إطلاق المبادرة المذكورة اتضح وجود نوع من التباين غير المعلن بين الحليفين أردوغان وبهجلي. ففي حين يشكل البقاء في السلطة الهاجس الأكبر الذي يحفز أردوغان في قراراته وتصريحاته، ينطلق بهجلي من هواجس تتعلق بما يعتبره الأمن القومي لتركيا. وفي حين حافظ على خط هو الأكثر تشدداً تجاه حزب العمال الكردستاني والحركة السياسية الكردية طوال مسيرته السياسية، انقلب فجأةً إلى أكثر زعيم سياسي تركي تمسكاً بمبادرته التي تهدف إلى «تركيا خالية من الإرهاب». وبلغ به الأمر أن وصف أوجلان بأنه «القائد المؤسس» لحزب العمال الكردستاني بعدما كان الوصف الوحيد الذي كان يستخدمه بحقه هو «رئيس العصابة الإرهابية»، كما ألمح إلى إمكان إطلاق سراحه مقابل حله لـ«العمال الكردستاني». وكان أوجلان قد استجاب لنداء بهجلي فوجه حزبه لإلقاء السلاح وحل نفسه. بالمقابل أعلن قادة الحزب المذكور وقفاً لإطلاق النار في الأول من شهر آذار وموافقتهم على توجيهات أوجلان. صحيح أنهم طرحوا بعض الاشتراطات على رأسها «تأمين بيئة مناسبة» لزعيمهم السجين ليتمكن من المشاركة الفاعلة في المؤتمر الذي من المفترض أن يعلن فيه إلقاء السلاح وحل الحزب.
في غضون ذلك كان وفد من حزب الديمقراطية والمساواة (الكردي) يقوم بزيارتين لأوجلان تليهما جولة من اللقاءات مع قادة الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان لاطلاعها على أجواء الزيارة وطلباً لدعمها للمبادرة السلمية. وقد التقى هذا الوفد أخيراً بالرئيس أردوغان، في الإطار نفسه، بعد قطيعة مديدة بين الجانبين منذ العام 2014 حين كان ثمة أفق لحل سلمي للمسألة الكردية سرعان ما فشل وتحولت العلاقة بين الجانبين من الحوار إلى العداء.
في هذه الأجواء من التفاؤل الحذر انفجرت قنبلة اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو في 19 آذار فبدا أن تركيا تنزلق نحو مواجهة مفتوحة بين السلطة وحزب الشعب الجمهوري، بموازاة تراجع الاهتمام بملف بهجلي ـ أوجلان، وكأن من فجر تلك القنبلة قد استهدف المبادرة. غير أن بهجلي الذي غاب عن المشهد السياسي بسبب صحي قاهر أثناء حادثة إمام أوغلو وتداعياتها، عاد بقوة ليحتل مركز الاهتمام مجدداً من خلال إلحاحه أكثر من السابق على المضي في مشروعه، فدعا حزب العمال الكردستاني لعقد مؤتمره داخل تركيا، في مدينة ملاذغرد ذات الحمولة الرمزية الكبيرة في التاريخ التركي من منظور التيار القومي باعتبار المعركة المعروفة باسم تلك المدينة فاتحةً للسيطرة التركية ـ الإسلامية على الأناضول منذ العام 1071. بل أنه حدد موعداً لعقد المؤتمر في الرابع من شهر أيار القادم!
وها هي صحيفة «تركيا» المقربة من السلطة تنشر خبراً أسندته إلى «مصادر أمنية» جاء فيه إن حزب العمال الكردستاني يستعد لعقد مؤتمره في أوائل شهر أيار ليعلن حل نفسه على أن ينجز تسليم السلاح الذي يملكه للدولة التركية في الفترة الممتدة حتى نهاية شهر حزيران. مع عدم التخلي عن الحذر في التعاطي مع هذه الصحيفة، يمكن القول إن قطار الحل قد انطلق مع توقع وصوله إلى هدفه خلال أسابيع، وذلك بالنظر إلى التفاؤل السائد في أجواء الحركة السياسية الكردية.
هذا التوازي بين ما يحدث في كل من تركيا وسوريا بشأن موضوع كرد البلدين قد ينعكس إيجاباً على المشهد السياسي العام في كل منهما. فعلى رغم تفاقم الميول السلطوية لدى السلطة في تركيا، وبخاصة بعد حادثة إمام أوغلو، قد تتغلب اعتبارات الدولة العميقة المهجوسة بما أعلنه نتنياهو بشأن «إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط» قبيل انطلاق عملية ردع العدوان، على اعتبارات أردوغان بشأن مستقبله السياسي. وعلى الجانب الآخر من الحدود، حيث تتمتع تركيا بنفوذ كبير على إدارة الشرع، من المحتمل أن يشكل اندماج قوات سوريا الديمقراطية في السلطة نوعاً من التوازن بين الميول الإسلامية المتشددة والميول العلمانية ـ الديمقراطية في المجتمع السوري، ويكون ذلك في الوقت نفسه استجابة لمطالب التشاركية، بدلاً من الاستئثار بالسلطة، التي يطالب بها المجتمع الدولي وقسم وازن من المجتمع السوري معاً.
هذه العمليات السياسية هي في طور الحدوث، وما قد يحدد نتائجها، إيجاباً أو سلباً، إنما يعتمد على النشاط السياسي لمختلف القوى الفاعلة على جانبي الحدود، سواء في ذلك القوى المحلية، وهي الأهم، أو تلك المعنية من الخارج.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————-
الجزيرة السورية تنتظر تطبيق اتفاق العاشر من مارس/ بشير البكر
17 ابريل 2025
عداد الوقت في محافظات الجزيرة السورية الثلاث، الرقة ودير الزور والحسكة، يدور بسرعة. وتسود حالة من الترقب في الوسطين العربي والكردي لبدء خطوات ملموسة على طريق تنفيذ اتفاق العاشر من مارس/آذار الماضي، بين الرئيس أحمد الشرع، والقائد العام لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مظلوم عبدي، والذي نصّ على نهاية العام الحالي بوصفه آخر مدى زمني لطيّ ملف الوضع الراهن، وانتقال المنطقة إلى سلطة الدولة السورية. الخطوات التي تمت حتى الآن في الجزيرة السورية غير كافية، في نظر المترقبين في الوسط العربي، رغم أنها حققت ثلاثة إنجازات مهمة. عُقدت جلستان من التفاوض في مدينة الحسكة، بين اللجنة الرسمية برئاسة حسين السلامة، والطرف الكردي بقيادة عبدي، وكانت الثانية قد تمت في 12 إبريل/نيسان الحالي، وذلك بعد حصول تقدّم كبير على طريق حل الاستعصاء القائم في حيي الأشرفية والشيخ مقصود بحلب. وأفرجت الدولة و”قسد” عن أعداد من المحتجزين لدى كل منهما، كما انسحبت قوات كردية من الحيين، وتسلمت مكانها قوات من الأمن العام التابع للدولة. ويتمثل الإنجاز الثالث بوقف القتال الذي يدور بين قوات رسمية وأخرى كردية حول سد تشرين القريب من حلب، ودخول قوات الحكومة لتسلم السد.
حذر في الجزيرة السورية
أشاعت هذه الخطوات أجواء إيجابية مشوبة بحذر شديد، وذلك يعود إلى عدة أسباب. الأول هو تعقيدات الاتفاق، والمسافة الشاسعة بين رؤيتي الدولة و”قسد”. الثاني عدم وجود ثقة بين الأطراف، بسبب تراكمات المرحلة الماضية، والشرخ السياسي بين العرب والأكراد في الجزيرة السورية والثالث استمرار بعض الممارسات السلبية المخلّة بالاتفاق من قِبل “قسد”، والتي يجري تفسير بعضها على أنه محاولة لعرقلة التنفيذ، يقوم بها طرف كردي متضرر من تطبيقه، وهذا يحيل إلى الاختلافات الكردية -الكردية، التي يجري الحديث عنها منذ عدة أشهر. الخلافات الكردية حسب ما هو متداول في وسائل الإعلام تدور بين أطراف متعددة.
الأول داخل تشكيل “قسد”، بين مجموعة من الطرف الكردي السوري، والآخر الكردي التركي التابع لحزب العمال الكردستاني. وفي حين تميل الجماعة الأولى إلى التوصل لحل مع الدولة، أحد شروطه خروج المقاتلين الأجانب، يعارض الطرف الثاني ذلك لأنه سيكون خاسراً لوجوده داخل سورية، الذي كلفه ثمناً كبيراً في القتال تحت راية التحالف الدولي ضد “داعش”، وتتركز حجة هؤلاء بأنهم من بين صانعي الاستقرار في هذا الجزء من سورية، والقضاء على مشروع “داعش” في سورية والعراق، وأنهم ليسوا بنادق للإيجار كي ينسحبوا من سورية، وبالتالي يتمسكون بشرط ألا تكون التسوية على حسابهم.
والخلاف الثاني هو بين “قسد” والمجلس الوطني الكردي، الذي كان أحد تشكيلات الائتلاف الوطني لقوى الثورة، وانسحب منه في فبراير/شباط الماضي، تحت مبرر انتهاء دوره. وتطالب هذه الأحزاب بأن تكون ممثلة على نحو عادل، وألا تستأثر “قسد” لوحدها، والتي يقف خلف تشكيلها حزب الاتحاد الديمقراطي، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني. وسط هذه التفاعلات المتسارعة جاء حوار عبدي إلى موقع “المونيتور” في 12 إبريل الحالي، والذي تضمن عدة نقاط خضعت لنقاش وخلافات من حولها، خصوصا أنها لم تلقَ أي رد من طرف مسؤولي الدولة، الذين يتبعون نهجاً يعتمد على التكتم، وعدم إطلاق التصريحات، ما يترك الصورة مشوشة لدى المكون العربي في محافظات الجزيرة السورية الثلاث.
النقطة الأولى التي أثارها عبدي، تتعلق بالنقاشات مع الحكومة حول مسألة الحكم المحلي في منطقة الجزيرة السورية وإفرازاته. وهذه مسألة ليست محل خلاف سوري، على أن يشمل سورية كلها، وليس منطقة الجزيرة السورية لوحدها، وهناك رأي يلقى تجاوباً كبيراً يقول، من الأفضل أن تبدأ العملية الانتخابية في سورية بعد نهاية المرحلة الانتقالية، من مجالس الحكم المحلي، الذي يشمل البلديات ذات الصلاحيات غير المركزية، ومن ثم تليها الانتخابات التشريعية والرئاسية، ولا تنتقص تجربة البلديات من صلاحيات الدولة، كما هو الحال في النموذجين الناجحين للمركزية المفرطة في فرنسا، واللامركزية في بريطانيا.
والنقطة الثانية هي أن بعض الأحزاب الكردية تُصر على خيار الفيدرالية. وهنا تكمن نقطة الخلاف الرئيسية، وحيال ذلك يمكن طرح أكثر من سؤال، هل تشمل الفيدرالية مناطق الأغلبية الكردية أم الجزيرة السورية كلها؟ وهل يحق لهذه الأحزاب فرض خيار الفيدرالية على سورية ككل، في حين أنها لا تمثل كل الشعب الكردي، وهل هذه العملية تقررها الحكومة والأحزاب الكردية، أم يجب أن تخضع لاستفتاء شعبي، يقول فيه عرب الجزيرة كلمتهم، قبل أن يتم تضمين الفيدرالية في الدستور؟ تتوجب الإشارة هنا إلى أن هناك معلومات إعلامية متداولة مفادها أن “قسد” بدأت حملة سياسية في الوسط العربي، للحصول على تأييد الزعامات القبلية العربية لخيار الفيدرالية، كي تعزز من موقفها الذي يتركز على أساس أن الإدارة الذاتية مشروع مشترك كردي عربي.
وحسب مصادر في الحسكة، يلقى هذا التوجه معارضة واسعة من المكون العربي، الذي يمثل الأكثرية المطلقة في المحافظات الثلاث، وهو لا يتلخص بموقف مجموعة من زعماء العشائر المستفيدين من الإدارة الذاتية. والنقطة الثالثة هي أن واشنطن تدعم الاتفاق لأن استقرار المنطقة يخدم مصالحها، ويحول دون تصعيد جديد مع تركيا أو الحكومة السورية. وعلى هذا الأساس بدأ التنفيذ في حلب، ومن بعد ذلك سد تشرين، وفي هذا المجرى ستصب بقية الخطوات اللاحقة، خصوصاً تسليم آبار النفط والغاز للدولة.
ضغط أميركي على “قسد”
وحسب المعلومات المتداولة فإن قائد القوات الأميركية في الجزيرة هو الذي أوصل عبدي بطائرة عسكرية أميركية إلى دمشق لتوقيع اتفاق مارس الماضي. وجاء ذلك بعد أيام معدودة من أحداث الساحل، والحملة الإعلامية ضد الحكومة، وعلى هذا لا يخلو توقيت توقيع الاتفاق من رسالة سياسية أميركية، وهذه نقطة فهم منها الطرف الكردي جدية موقف الإدارة الأميركية، التي تدفع للتفاهم مع سلطات دمشق، وقد ساهم في ذلك عدة عوامل منها التدخلات التركية لدى واشنطن من أجل تسهيل الحل السياسي. وبحسب معلومات حصل عليها موقع “تلفزيون سوريا”، فإن الولايات المتحدة ضغطت على “قسد” للمضيّ قدماً في الاتفاق، وأبلغتها أن دعمها المستقبلي سيركّز على تعزيز الحقوق الثقافية للأكراد في سورية، من دون تقديم دعم عسكري مباشر.
ووسط معطيات ترجّح إمكانية الانسحاب قريباً، بدأت القوات الأميركية منذ منتصف الشهر الماضي، تفكيك بعض قواعدها العسكرية المنتشرة في مناطق شمال شرقي سورية من دون إعلان رسمي عن هذه التحركات. وتفيد المعلومات بأن طائرات شحن أميركية نقلت خلال الأيام الماضية عتاداً عسكرياً متنوّعاً وضباطاً وجنوداً من قواعد في المنطقة، تزامناً مع إنزال المنطاد العسكري المخصص للمراقبة والاستطلاع من سماء قاعدة تل بيدر شمال مدينة الحسكة. النقطة الرابعة هي، أن الحكومة السورية لا تعارض التعليم والحديث والكتابة باللغة الكردية، وهذا حق طبيعي للأكراد، وأن تتم ترجمة الاتفاق بالنص على ذلك دستورياً، بما يحفظ الحقوق الثقافية للأكراد، وعليه يتم تشريع مدارس للغة الكردية، ووسائل إعلام، وجامعات، ضمن إطار الدولة السورية.
خطاب عبدي قدم جانباً من صورة ملف الجزيرة، وعلى الحكومة أن تقدّم الجانب الآخر منها، حتى تكتمل الرؤية لدى المكون العربي، الذي يترقب خطوات ملموسة باتجاه التهدئة وتطبيع الأوضاع وإعادة بناء الثقة، وأن يتم البدء بخطوات مطمئنة مثل البدء بتبييض السجون، التي تشرف عليها “قسد” أو تسليمها للدولة السورية، أو التوصل لصيغة إشراف مشترك خصوصاً تلك التي تحتوي على مقاتلي “داعش”، الذين احتجزتهم “قسد” بعد هزيمة التنظيم في معركتي الرقة والباغوز، وهنا يدور جدل حول أعدادهم وجنسياتهم والمصير الذي ينتظرهم، لاسيما الأجانب منهم الذين ترفض دولهم استعادتهم.
أوراق “قسد”
تمتلك “قسد” عدة أوراق مهمة في المفاوضات، الدعم الدولي، مشاركة المكوّن العربي في تشكيلها سياسياً وعسكرياً، ضعف المكوّن العربي في تنظيم نفسه، وميل أوساط منه للتعاطف مع “داعش”. كما أنها تريد ضمانات دولية فيما يخص المستقبل، تتعلق باحترام الدولة للاتفاق، وضمان علاقات تفاهم مع تركيا. وعلى الجانب الآخر، هناك اتهامات عن سوء إدارة “قسد” للوضع في الجزيرة والتصرف بثروات المنطقة وهذا يتطلب جردة حساب، وألا يتم اتباع منطق عفا الله عما سلف، من دون نسيان إيجابيات الاتفاق في حلب وسد تشرين. من المرتقب أن تعقد الأحزاب الكردية مؤتمراً، غداً الجمعة، في الحسكة، بحضور نحو 250 شخصاً من أجل إصدار تصورها النهائي حول وضع المكون الكردي في الدولة السورية. ومنذ أسبوع تدور في الكواليس معلومات عن وثيقة اتفق عليها بصورة أولية كل من حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي تحت مسمى “الرؤية السياسية الكردية”، وستقرها خلال الاجتماع، وهي مشكّلة من 30 بنداً، تنصّ على المطالبة بـ”سورية ذات نظام حكم لا مركزي يضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة بين المركز والأقاليم”. وتتضمن الوثيقة بنداً يدعو إلى “إعادة النظر في التقسيمات الإدارية للمحافظات والمناطق السورية، بما يراعي الكثافة السكانية والمساحة الجغرافية”. كما تدعو الرؤية إلى “توحيد المناطق الكردية سياسياً وإدارياً ضمن سورية بنظام فيدرالي”. وترى أن “الاسم الرسمي للجمهورية وعلمها ونشيدها الوطني يجب أن يعبر عن كل مكونات الشعب السوري”.
العربي الجديد
————————————–
إسرائيل تسابق الزمن في سورية بعد إبلاغها بقرب الانسحاب الأميركي/ نايف زيداني
16 ابريل 2025
أبلغت الولايات المتحدة الأميركية دولة الاحتلال الإسرائيلي بأنها ستبدأ قريباً بسحب قواتها من سورية، وفق ما أفاد موقع واينت العبري اليوم الأربعاء. وأوضح الموقع أن مسؤولين أمنيين أميركيين أبلغوا المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بأن الولايات المتحدة ستبدأ، خلال شهرين، انسحاباً تدريجياً لقواتها العسكرية من سورية، في وقت كانت فيه إسرائيل تحاول منع هذه الخطوة، لكنها تلقت أخيراً تأكيداً بفشل جهودها.
ومع ذلك، لا تزال المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تسعى للضغط على واشنطن لمنع تنفيذ القرار. وليس اعتزام الرئيس دونالد ترامب سحب القوات مفاجئاً، فقد أعلن منذ البداية عن رغبته في إخراج الجنود الأميركيين من المنطقة، معتبراً أن “هذه ليست حربنا”، فيما يعمل البنتاغون منذ فترة طويلة على الخطط. وتستعد واشنطن الآن للانتقال إلى المرحلة العملية، وفق الموقع العبري، مطلعة تل أبيب على خطواتها. وأعرب الإسرائيليون في المناقشات بين الجانبين عن قلقهم الشديد من تداعيات هذه الخطوة.
وأشار مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى إلى اعتقاده بأن الانسحاب، إذا حدث، سيكون جزئياً، وحتى هذا تحاول إسرائيل منعه، خشية زيادة التوتر مع تركيا، التي تعمل علناً على تعزيز سيطرتها في المنطقة بعد سقوط نظام بشار الأسد. وتنتشر القوات الأميركية في الوقت الراهن في عدة مناطق استراتيجية في شرق وشمال سورية، ما يشكل عامل استقرار. ويعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن انسحاب هذه القوات قد يزيد “شهية تركيا” للسيطرة على المزيد من الأصول العسكرية الاستراتيجية في المنطقة.
وسبق أن أوضحت تل أبيب، لكل من أنقرة وواشنطن، أن وجوداً تركياً دائماً في قواعد مثل تدمر وتيفور يُعتبر تجاوزاً للخط الأحمر، وهو ما قد يؤثر مباشرة على حرية عمل جيش الاحتلال الإسرائيلي في الجبهة الشمالية. وفي اجتماع عُقد الأسبوع الماضي في أذربيجان، بين مسؤولين إسرائيليين وأتراك، تم التأكيد على أن إسرائيل تعتبر الحكومة السورية الجديدة مسؤولة عن كل ما يحدث في سورية، وأن أفعالها ستؤدي إلى عواقب، بما في ذلك عمل عسكري.
وأبدى الطرفان اهتماماً بخفض التوترات، وشرعا في محادثات لإنشاء آلية تنسيق مشابهة للنموذج الإسرائيلي-الروسي الذي نظم عمليات سلاح الجو الإسرائيلي في سورية. ومع ذلك، فإن الانسحاب الأميركي المخطط له، إلى جانب إطراء ترامب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال اجتماعه مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي، أدى إلى تعزيز الجهوزية في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وترى إسرائيل أن اقتراح ترامب أن يكون وسيطاً بين إسرائيل وتركيا لا يُعتبر بالضرورة مطمئناً لها، خاصة في حال انسحاب القوات الأميركية. وعليه، ليس من قبيل الصدفة، وفقاً للموقع العبري، أن تقول مصادر أمنية إسرائيلية إن الهجمات على قاعدة تيفور هي بمثابة “سباق مع الزمن قبل مغادرة الأميركيين”.
وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إن بلاده تعارض التهديدات الموجهة لسورية وستواصل جهودها للتنسيق مع الأطراف المعنية، بما فيها إسرائيل والولايات المتحدة، لتجنب حصول تصادم في الأجواء السورية، وأضاف في مؤتمر صحافي عقده في منتدى أنطاليا الدبلوماسي الدولي، الأحد الماضي، أن المباحثات التركية مع إسرائيل في أذربيجان بحثت منع وقوع أي مواجهة بين الأطراف في سورية، سواء كانت إسرائيلية أم أميركية.
وأوضح فيدان قائلاً: “هدفنا منع الطائرات في المنطقة من التسبب في وقوع حادث”، كما أشار إلى نية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة سورية، على أن يتم ذلك وفق الظروف المناسبة. وأضاف أن تركيا تساهم في تلبية الاحتياجات الأمنية في سورية على الصعيدين الفني والعسكري، مع وجود محادثات لتجنب المواجهة مع إسرائيل ومنع وقوع حوادث. وكان نائب وزير الخارجية التركي نوح يلماز قد قال، السبت الماضي، إن اللقاء التقني بين وفدين تركي وإسرائيلي في أذربيجان لا يُعدّ اجتماعاً دبلوماسياً، بل آلية لتفادي الصدامات في الأجواء السورية، وقال إن الحديث عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل ممكن فقط بعد وقف الإبادة الجماعية في غزة وتحقيق وقف إطلاق النار.
وأكد يلماز أن إسرائيل تسعى إلى خلق الفوضى في سورية لتبرير وجودها العسكري عبر استهداف مراكز أمنية، محذراً من أنه قد يجري استخدام تنظيم داعش ذريعة لتثبيت هذا الوجود. وفي تصريحات لوكالة الأناضول، قال يلماز إن تركيا والعراق وسورية والأردن ولبنان ستعمل معاً على مكافحة تنظيم “داعش” الإرهابي في المنطقة، وأشار إلى أن مكافحة الإرهاب “قضية استراتيجية بالنسبة لتركيا”، مشدداً على أن مشكلة الإرهاب في سورية مهمة بالنسبة لتركيا، ولكنها في المقام الأول مشكلة سيادية للإدارة السورية، وحث الإدارة على القضاء على مشكلة الإرهاب، لكي تتمكن من بسط نفوذها على كامل البلاد.
وشدد يلماز على أن تنظيم داعش يشكل تهديداً للمنطقة بأكملها، وأن مكافحة تركيا له ترتكز على مخاوف حقيقية وملموسة، وأضاف: “تكمن المشكلة الأساسية هنا في تدخل القوى الأجنبية في المنطقة من خلال تهديد داعش”. وأشار يلماز إلى أن “هذه القضية ليست قضية تركيا فقط، بل هي قضية دول المنطقة. ولهذا السبب اجتمعت تركيا والعراق وسورية والأردن ولبنان، وأنشأنا آلية مشتركة لمكافحة هذا التهديد”، موضحاً أنه في إطار هذه الآلية، سيتم إنشاء مركز عمليات، وقد تم اتخاذ القرار المتعلق بذلك، مشيراً إلى أنه سيتم اتخاذ الإجراءات اللازمة من خلال مركز العمليات، وهو ما “سيزيل ذريعة تدخل الدول الأجنبية في المنطقة”، وفق تعبيره.
——————————–
فيدان: لن يكون هناك أي كيان فيدرالي في سوريا
الخميس 2025/04/17
شدد وزير الخارجية التركية هاكان فيدان، اليوم الخميس، على أن أنقرة لن تدعم أي شكل من أشكال البنية الفيدرالية في سوريا، كما أكد أنه “لن يتم التسامح مع أي تشكيل خارج الجيش الوطني السوري”.
نزع سلاح “قسد”
وقال فيدان خلال اجتماع في مقر حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا، إن أنقرة “تراقب بحساسية عالية الوضع” المتعلق بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مضيفاً أنهم “سيلقون سلاحهم وينضمون للجيش الوطني السوري”.
وشدد على أنه “لن يكون هناك أي كيان اتحادي في سوريا، ولن يتم التسامح مع أي تشكيل مسلح خارج الجيش الوطني السوري”، مؤكداً أن “إدراج الأكراد في الدستور السوري كأعضاء مؤسسين، أمر مهم بالنسبة لتركيا”. وأشار إلى أن أنقرة تتوقع من جميع العناصر المسلحة بما في ذلك “قسد”، نزع سلاحها والاندماج في الجيش الوطني السوري.
كيان فيدرالي
ويأتي تشديد الوزير التركي فيما يخص الكيانات الفيدرالية، بعد تقارير تحدثت عن أن الأكراد السوريين اتفقوا على المطالبة بنظام فيدرالي يسمح بالحكم الذاتي ووجود قوات أمن خاصة، من إدارة الرئيس السوري أحمد الشرع.
وقبل أسبوع، أفادت مصادر كردية لوكالة “رويترز”، بأن الجماعات الكردية المتنافسة بما في ذلك “قسد” اتفقت الشهر الماضي، على رؤية سياسية مشتركة تتضمن المطالبة بنظام الفيدرالي، لكنهم لم يكشفوا عن ذلك رسمياً حتى الآن.
وقال المسؤول البارز في الإدارة الذاتية بدران جيا للوكالة، إن القوى السياسية الكردية في سوريا، اتفقت فيما بينها على “رؤية سياسية مشتركة” تدعو إلى إقامة “نظام فدرالي، تعددي، ديمقراطي، برلماني” في سوريا ما بعد نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.
وقال رئيس “المجلس الوطني الكردي” سليمان أوسو إنه من المتوقع الإعلان عن وثيقة الرؤية السياسية الكردية المشتركة في مؤتمر بحلول نهاية نيسان/إبريل، مضيفاً أن التطورات في سوريا منذ الإطاحة بالأسد، دفعت العديد من السوريين “للاقتناع بأن النظام الفيدرالي هو الحل الأمثل لمستقبل سوريا”.
إسرائيل و”داعش”
وفيما يتعلق بالغارات الإسرائيلية على سوريا، قال فيدان اليوم، إنها “تسهم في زعزعة الاستقرار الإقليمي”، مضيفاً أن تركيا “تواصل العمل بتنسيق كامل، وتتخذ موقفاً حاسماً تجاه هجمات إسرائيل الأخيرة، وأفعالها المزعزعة للاستقرار في المنطقة”.
وعن جهود مكافحة الإرهاب، أكد أن أنقرة “تواصل العمل بتنسيق كامل مع سوريا ودول المنطقة” فيما يتعلق بذلك، مضيفاً أن تركيا ستقوم “بتنسيق العملية المتعلقة بتنظيم داعش مع الأردن ودول أخرى في المنطقة”.
وذكر أن ما يُهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سوريا، هو ألا يستعيد “داعش” موطئ قدم له” هناك، معتبراً أن الهجمات الإسرائيلية “تهيئ فعلياً مساحة لداعش”.
————————
الجيش الأميركي يبدأ بإخلاء قاعدة كونيكو شرقي سورية/ عبد الله البشير
15 ابريل 2025
بدأ الجيش الأميركي، قبل أيام، عملية إخلاء لقاعدة حقل كونيكو في ريف دير الزور شرق سورية، حيث غادر القاعدة خلال الفترة الماضية رتلان، في خطوة تهدف إلى الانسحاب الكامل منها. وأكدت مصادر مطلعة مقربة من “قسد”، اليوم الثلاثاء، لـ”العربي الجديد”، أن أول قافلة غادرت القاعدة قبل عشرة أيام، وضمت رتلاً مكوناً من أكثر من 70 آلية، بين معدات ثقيلة وناقلات لها.
وأضاف المصدر أنه في مساء أمس الأول، غادرت القاعدة أكثر من 200 آلية، موضحاً أن منطاد المراقبة الذي كان يُستخدم لرصد محيط القاعدة لم يحلق فوقها منذ أكثر من أسبوع، مشيراً إلى أن القوات المغادرة اتجهت إلى أربيل في إقليم كردستان العراق. ولفت المصدر إلى أن قاعدة حقل كونيكو تعد قاعدة خاصة بالجيش الأميركي في ريف دير الزور، ولا يوجد فيها أي تمركز لعناصر قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
ووفقاً لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، أبلغ مسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) نظراءهم الإسرائيليين أن الولايات المتحدة تعتزم بدء الانسحاب التدريجي لقواتها من سورية خلال شهرين. ويقع حقل كونيكو شمال نهر الفرات، بمنطقة تُعرف محلياً بالجزيرة، إلى الشمال الشرقي من مدينة دير الزور مركز المحافظة التي تحمل ذات الاسم بنحو 35 كيلومتراً.
وفي الحقل أكبر معمل لمعالجة الغاز في سورية، كان يغذي عدة محطات لتوليد الكهرباء، ومنها محطة جندر في حمص التي تُعتبر من أكبر محطات الكهرباء في سورية. وكان هذا الحقل الاستراتيجي ينتج قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011 نحو 10 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي يومياً. وتضم القاعدة الأميركية في حقل كونيكو مركزاً للتدريب ومهبط مروحيات، وهي مزودة بمنظومة صواريخ “باتريوت” الحديثة، إضافة إلى عدد من مركبات “برادلي” الحديثة.
————————————
عرب الشرق الأوسط بين قوسَين/ عدي جوني
17 ابريل 2025
مخطئٌ من يظن أن الشرق الأوسط (العربي) سيحظى بنعمة الاستقرار والهدوء، وذلك بسبب تبعات انتقام الجغرافية، فهذا الشرق محاصر بين قوسيَن جغرافيَّين يمتدّان في فوالق انهدامية جيو- سياسية واقتصادية وثقافية، أكّدتها (ولمَّا تزل) وقائع التاريخ ماضياً وحاضراً، وسيبقى إلى أمد طويل ما دام الأمر يتعلّق بصراع المصالح بين القوى الكُبرى، وما يُقال كلّه عن الحرّية والديمقراطية والسلام، ليس سوى حقٍّ يُراد به باطل.
تحدّثت وسائل الإعلام التركية عن اتّصالات فنّية مع إسرائيل في أذربيجان (10/4/2025) لتجنب الصراع في سورية، وكان وزير وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أكّد في مقابلة معه قبل يوم من بدء تلك الاتّصالات وجوب إضافة إسرائيل إلى اتّفاقيات تجنّب الاشتباك، التي عقدتها أنقرة مع روسيا والولايات المتحدة وإيران في سورية، قبل سقوط النظام… هذه الاتصالات، وتصريحات فيدان، تعكسان بوضوح لا لبس فيه ما تحدّث عنه الصحافي الأميركي المخضرم روبرت كابلان في كتابه “انتقام الجغرافية” (نيويورك، راندُم هاوس، 2012)، عندما أشار إلى سلسلتَي جبال طوروس وزاغروس بصفتهما قوسَين يحصران المنطقة الممتدّة من بلاد الشام والرافدين شمالاً، إلى شبه الجزيرة العربية جنوباً، ويتكفّل البحر الأحمر ليغلق هذا القوس (جيولوجياً) من جهة الجنوب الغربي، حدّاً فاصلاً مع القارّة الأفريقية. لكن التأثير يمتدّ ليشمل مصر من المنظور الجيوسياسي.
تقع جبال طوروس جنوب تركيا في موازاة ساحل البحر الأبيض المتوسّط، وتمتدّ في مساحة تبلغ 560 كيلومتراً لتشكّل حاجزاً طبيعياً بين حوض الأناضول وبلاد الشام، كما تشكّل جداراً طبيعياً بين بلاد الرافدين وتركيا. تُعرف هذه السلسلة جيولوجياً باسم “الحزام الألبي”، وهو حزام زلزالي يتضمّن مجموعة من الجبال التي تمتدّ إلى أكثر من 15 ألف كيلومتراً في طول الحافَة الجنوبية لأوراسيا. أمّا سلسلة جبال زاغروس (غرب إيران) فيقارب طولها نحو 1500 كيلومتر من منطقة كردستان العراق شمالاً حتى مضيق هرمز جنوباً. وفي نظرة سريعة على النصّ الجغرافي المحصور بين قوسَين، في مقدور طالب في المرحلة الثانوية أن يتفطّن إلى أن المنطقة تضمّ دولاً غنيةً بموارد الطاقة، وتُشاطئ ممرّات ذات أهمية بالغة للتجارة العالمية؛ مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، وقناة السويس.
تُعدُّ الهضبة الإيرانية، بحسب كابلان، الجغرافيا الأكثر أهميةً في الشرق الأوسط الكبير، تليها هضبة الأناضول بصفتها الأرض الجسر، لكنّهما يتشاركان في انضواء كلّ واحدة منهما في إطار بلد واحد. فتركيا وإيران يتماثلان في أنهما بلدان تحدّهما جبال وسهول واسعة تشرف على الصحراء العربية من الشمال، وتضمّان معاً تعداداً سكّانياً يقارب 150 مليون نسمة، أي أكثر بقليل من عدد سكّان الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية. وعلاوة على أنهما جزءان أساسيَّان، سواء في نظرية العالم البريطاني هالفورد ماكيندر (1861-1947) بخصوص الحزام الصحراوي، أو في نظرية الأطراف لدى نظيره الأميركي نيكولاس جون سبيكمان (1839-1943)، تُعدُّ إيران وتركيا من أغنى الاقتصاديات الزراعية في الشرق الأوسط، إضافة إلى مستوى متطوّر من الصناعة والمعرفة التكنولوجية، بما فيها صناعة السلاح (تركيا) والطاقة النووية (إيران). يشار إلى أن سبيكمان أوضح في مقالته “الجغرافيا والسياسة الخارجية”، المنشورة عام 1938 في المجلة الأميركية للعلوم السياسية (العدد 32)، أن إطار الأرض، الشريط الساحلي الذي يحيط بأوراسيا، أكثر أهميةً من منطقة آسيا الوسطى (ما يسمّى قلب الأرض عند ماكيندر) للسيطرة على القارة الأوراسية. ويقتضي التنبيه هنا أن رؤية سبيكمان كانت أساسَ سياسة الاحتواء التي مارستها الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي السابق بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى تاريخ انهياره.
بالعودة إلى التاريخ، لا يستطيع أحد نكران التأثيرات السياسية والاقتصادية التي لعبتها كلّ من إيران وتركيا في الشرق الأوسط العربي، ومنها الحروب العثمانية الصفوية (1532-1555). ولا يخفى على أحد أن الصراع الفارسي التركي لا يقتصر على مسألة النفوذ الجيوسياسي فحسب، بل يندرج تحت إطار فالقٍ انهداميٍ عميق بين “الخلافة الإسلامية السُّنية و”الإمامة الشيعية”، وكان واحداً من أشد عوامل تأجيج الصراع بينهما تأثيراً، لينسحب في الوقت ذاته على استقطابات داخلية في المنطقة برمّتها. ومع تبدّل الظروف السياسية وصولاً إلى الوقت الراهن، واكتساب المنطقة موقعاً استراتيجياً مهمّاً يتجاوز الحدود الإقليمية، برزت الدولتان بصفتهما قوّتَين إقليميتَين واحدة نفطية (إيران) والثانية مائية، تسعى اليوم لكي تكون محطّةً رئيسةً لأنابيب الغاز إلى أوروبا. مع سقوط الشاه في إيران عام 1979، وتسلّم زمامَ الحكم نظامٌ ثيوقراطي، يقوم أساساً على مبدأ “ولاية الفقيه”، تحرّكت الفوالق الانهدامية بين الطرفَين نحو صراع أيديولوجي شديد الوضوح، تعزّز أكثر وأكثر مع وصول حزب العدالة والتنمية (الذي ينضوي تحت عباءة الإخوان المسلمين) إلى سُدّة الحكم في تركيا في الانتخابات البرلمانية عام 2002، واستمراره فيها منذ ذلك الحين. وما بين سعي طهران الدؤوب لتغيير المعادلات الإقليمية واتهامها بتصدير الثورة وإقامة “هلال شيعي” من جهة، وبين العثمانية الجديدة الطامحة لاستعادة أمجادها من جهة أخرى، بدا الصراع بين القوسَين يتّخذ أشكالاً مختلفة.
بالعودة إلى تصريحات فيدان، ليس مستغرباً أن يجد المرء في خلفية كلماته ما يُعرف باسم “الميثاق الملّي”، وهو الدستور السياسي الرسمي لحرب الاستقلال التركية (1919-1923) التي خاضتها الحركة الوطنية ضدّ وكلاء الحلفاء؛ اليونان في الجبهة الغربية، وأرمينيا في الجبهة الشرقية، وفرنسا في الجبهة الجنوبية، ومناصري الخلافة في عدّة مدن، بالإضافة إلى المملكة المتحدة وإيطاليا في القسطنطينيّة (إسطنبول) بعد ما احتُلَّت أجزاءٌ من الدولة العثمانية، وقُسِّمت بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سُدّة الحكم، تسيّدت فكرة العثمانية الجديدة الخطاب السياسي، فعمل المسؤولون الأتراك لإحياء الميثاق الملّي وأدلجة التاريخ العثماني بصفته الأساس التاريخي لكيانهم السياسي. عندما تسلّم منصب وزير الخارجية عام 2009، كان أحمد داود أوغلو واضحاً في قوله: “لنا إرث باقٍ من العهد العثماني؛ يقولون عثمانيةٌ جديدةٌ، نعم نحن العثمانيون الجُدد، نحن يتحتّم علينا الاهتمام بدول منطقتنا كما الاهتمام بدول شمال أفريقيا”. وفي العام 2016، صرّح رجب طيب أردوغان (الذي كان حينئذ رئيساً للوزراء) قائلاً: “إذا فهمنا الميثاق الملّي فإننا نفهم جيّداً مسؤوليتنا في سورية والعراق… يتحتّم علينا أن نكون من جديد أصحاب الميثاق الملّي”.
تتضح اليوم الصورة على نحو أكبر بعد إسقاط نظام بشّار الأسد وتضعضع محور المقاومة، وتسلّم الإدارة الجديدة الحكم في دمشق بفصائلها التي تنتمي إلى حركات جهادية إسلامية تعادي إيران مذهبياً، وتلقى دعماً من تركيا. هذا المنحنى في تغير اتجاه الفالق الانهدامي من مع إلى ضدّ، تبرز مسألة أخرى قد يظنّها بعضهم خارج القوسَين، لكنّها في الحقيقة هي المنطلق والهدف، والمقصود بذلك تصفية القضية الفلسطينية وجودياً. فتركيا التي احتاجت (بدعم غربي كبير) إلى أكثر من ثلاثين عاماً لإخراج إيران من سورية (وهي رغبة إسرائيلية بالتأكيد)، تجد نفسها في الموقع ذاته من حيث إنه لن يُسمح لها بالحلول محلّ إيران. صحيح أن تركيا لن تتخلّى عن براغماتيتها السياسية، ولن تشكّل محوراً صريحَ العداء لإسرائيل، لاعتبارات عديدة، أكثرها أهميةً أنها عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لكنّها في الوقت ذاته تقع في الفالق الانهدامي القومي والمذهبي نفسه، كما هو الحال في ما يخص طهران، وهذا بدوره يُحيلُنا على أن عوامل تفكيك تركيا وتقسيمها تبقى قائمةً إن انحرفت أنقرة عن المطالب الأميركية الإسرائيلية. ولعلّ المديح الذي أسبغه الرئيس دونالد ترامب على أردوغان أمام ضيفه نتنياهو في البيت الأبيض، ليس سوى رسالة موجّهة إلى الاثنين معاً، لكن يبقى كيان الاحتلال الإسرائيلي بيضةَ القبّان في الميزان الأميركي. وفي مقالة له نُشرت نهاية مارس/ آذار الفائت، في صحيفة حرييت التركية، أشار الكاتب والمحلل السياسي المعروف مراد يتكين إلى أن ترامب يريد من صديقه أردوغان “التعاون الوثيق بين تركيا والولايات المتحدة لكيلا تشكّل سورية قاعدةً للإرهاب وممرّاً للنشاطات التخريبية لإيران، ونزع سلاح حماس”، وذلك بناء على تسريبات عن اللقاء الذي جمع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ونظيره الأميركي ماركو روبيو.
ألا تستدعي تصريحات فيدان حول ضرورة تجنّب الاشتباك مع “إسرائيل” في سورية (التي تتنازعها دعوات الفدرلة التي ازدادت حدّتها بعد مجازر الساحل) إلى التفكير في أن حدود سايكس بيكو لم تعد مقبولةً، وأن ثمّة توافقاً على تقسيم سورية إلى أربع مناطق نفوذ على الأقلّ، واحدة في الشمال لتركيا، وأخرى في الجنوب لإسرائيل، وثالثة لروسيا في الغرب، ورابعة لأميركا في الشرق؟
إنها الفوضى الخلاقة التي بشّرتنا بها كوندوليزا رايس، التي كانت وزيرة الخارجية الأميركية عام 2006. يا ترى ما هو السرّ وراء هذا كلّه؟… نجد الجواب واضحاً في كتاب سمير أمين “إمبراطورية الفوضى” (نقلته إلى العربية سناء أبو شقرا، دار الفارابي، بيروت،1991)، عندما يقول إن الرأسمالية نظام عولمي، بمعنى “إن عملية تراكم الرأسمال التي تفرض دينامية هذا النظام تتشكّل من طريق عالمية قانون القيمة في سوق عالمية مبتورة (أي سوق مقتصرة على السلع والرساميل ومستثنى منها قوة العمل)، هذه العملية تنتج بالضرورة الاستقطاب العالمي (التناقض بين المراكز والأطراف). الاستقطاب ملازمٌ للرأسمالية ولا يمكن تفسيره بعوامل مختلفة وعابرة داخلية أو خارجية تميّز التشكيلات الاجتماعية التي تكوّن النظام العالمي”. لعلّ من أفضل الأمثلة على هذا الاستقطاب هو تكتّلات الحرب الباردة بين المعسكرَين، الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي، بل لم تكن حتى دول عدم الانحياز بمنأى من هذا الاستقطاب، كما أن “أزمات الشمال والجنوب”، كما يقول سمير أمين، “ظلّت بشكل ما تندرج في منطق الاستقطاب بين الشرق والغرب”. ويضيف موضحاً: “إن الأطراف التي يعيش عليها أربعة أخماس سكّان الكوكب والقسم الأكبر من احتياطي جيش العمل وثرواتٍ طبيعية ومنجمية لا غنىً عنها، يجب أن تظلّ في النظام وأن تخضع لمنطق توسّع الرأسمالية، حتى ولو كان توسّعاً استقطابياً”، وهنا نجد مصدراً أساسياً “للفوضى التي ستشهدها العقود المقبلة”.
العربي الجديد
——————————
صحيفة: سوريا الموحدة في صلب المحادثات التركية الإسرائيلية السرية
2025.04.17
كشفت صحيفة تركية عن بعض مضامين المحادثات السرية بين تركيا وإسرائيل بشأن خفض التوتر ومنع الصدام في سوريا، وذلك خلال اجتماع وفدي البلدين الذي عُقد في مدينة باكو بأذربيجان، الأسبوع الفائت.
وقالت الكاتبة هاندي فرات -المقربة من الحكومة التركية- في مقال نشرته صحيفة “Hürriyet
“، إن أنقرة استعرضت خطوطها الحمراء بوضوح خلال المحادثات في أذربيجان وأصدرت تحذيراً بخصوصها.
وأكدت أن تركيا “أغلقت الباب أمام سيناريو تقسيم سوريا، وهو الذي كان مطروحاً على أجندة بعض المسؤولين الإسرائيليين. ولا تراجع عن فكرة الدولة السورية الواحدة”.
وأضافت: “أكدت أنقرة أن الهجمات الإسرائيلية في سوريا لا تضمن أمن إسرائيل، بل على العكس قد يصبح الأمن أكثر صعوبة وخاصة في حال انخرطت أي ميليشيات على خط المواجهة”.
وأردفت: “من غير المقبول رغبة إسرائيل في السيطرة على الأجواء السورية… إن عدم ثقة إسرائيل بالحكومة الجديدة التي تم تشكيلها في سوريا غير صحيح أيضاً. وتركيا لم ولن تقبل وجهة النظر هذه”.
وضوح موقف أنقرة
وتتابع الكاتبة فرات قائلة إن “موقف أنقرة واضح، وهو باختصار: سوريا واحدة وموحدة كما أُعلنت للعالم أجمع. وبأن أمن واستقرار سوريا يؤثر بشكل مباشر على تركيا ودول الجوار السوري الأخرى، ولهذا السبب لن يتم تقديم أي تنازلات في الآلية التي وضعتها دول جوار سوريا”.
وأشارت إلى أن أنقرة تعمل على تنفيذ الآلية التي جرى إنشاؤها مع دول الجوار لمحاربة تنظيم “داعش” الذي ينشط في بعض المناطق السورية.
من ناحية أخرى، تضيف الكاتبة، بأن أنقرة أكدت على أنه “في إطار التعاون الثنائي بين الدول، فإن وجود الاتفاقيات العسكرية الثنائية، وتحديداً بين تركيا وسوريا، على جدول الأعمال، يمثّل حقيقة جيوسياسية في المنطقة”، وفق ما أورد المصدر.
————————–
لمواجهة مشاريع “الفدرلة”.. قوى سياسية ومدنية تعلن تأسيس مجلس في الجزيرة السورية
2025.04.16
أعلنت سبعة كيانات سياسية ومدنية، أمس الثلاثاء 15 من نيسان 2025، تأسيس مجلس التعاون والتنسيق في الجزيرة السورية والفرات، بهدف توحيد الجهود السياسية والإعلامية والمدنية ورفض مشاريع “الفدرلة” والتقسيم.
وضم البيان التأسيسي الموقع من “تجمع أبناء الجزيرة – تاج”، و”تجمع الفرات المدني”، و”حركة 8 كانون”، و”اتحاد شباب الحسكة”، و”سور الرقة”، و”حركة شرق”، و”دحر”، دعوة واضحة إلى تمثيل سياسي بديل عن “قسد” التي اعتبرها البيان “سلطة مفروضة بقوة السلاح ولا تمثل عرب الجزيرة السورية والفرات”.
بيان تأسيسي لمجلس التعاون والتنسيق في الجزيرة السورية والفرات
وقال البيان إن مشاركة بعض العرب في صفوف “قسد” كموظفين أو مجندين، لا تمنحها شرعية تمثيل هذا المكون الذي يشكل غالبية سكان المنطقة، مشدداً على أن هذه الغالبية ترفض سياسات “قسد” وممارساتها الإقصائية.
وأكد المجلس رفضه لأي تمثيل لـ”قسد” في المفاوضات مع الحكومة السورية الجديدة أو في أي محفل سياسي داخلي أو خارجي باسم عرب المنطقة، معتبراً أن الهدف من تأسيسه هو دعم صمود السكان المحليين، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية، ونقل صوت المنطقة إلى دمشق والمؤسسات الدولية ووسائل الإعلام.
وشدد الموقعون على أن توحيد الصفوف والعمل المشترك هو الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق وحماية وحدة سوريا أرضاً وشعباً.
—————————–
=======================
عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 17 نيسان 2025
لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
الأحداث التي جرت في الساحل السوري
—————————-
الثأر والقبيلة والطائفة: الروح الانتقامية بوصفها عدواً للسياسة والمجتمع/ موفق نيربية
16-04-2025
– 1 –
«أين كنتم؟! عندما…»
«الأقليات في سوريا هي أقليات عرقية وأقليات طائفية وأقليات فكرية، حتى العلمانيون والنسويون وأشباههم، هم في سوريا أقليات. ومثلما تصدرت أقلية طائفية حكم سوريا لخمسين عاماً، هناك أيضاً أقليات فكرية تحكم الإعلام، الفن، الأدب، التعليم، والإنتاج المعرفي».
«يا أستاذ في التربية أو المدرسة الصوفية قول: التخلية قبل التحلية (أو الهدم قبل البناء)، وأنا كواحد تعرضت عائلتي لإبادة لن أقبل ولن ترتاح نفسي إلا بإبادتهم والخلاص منهم، ومن يريد أن يزايد عليّ بالتسامح والعفو، ويضرب الأمثال بالرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، نقول لو كانوا مثل أهل مكة لغفرنا لهم وسامحناهم، فلم يفعل أهل مكة بالمسلمين ما فعلوه بنا».
هذه نماذج من أجوبة مريرة لطالما تردّدَت كلّما تحدّثَ أَحدُنا عن خطورة أعمال الانتقام وما تؤدّي إليه في سوريا. تهدف هذه الردود إلى التذكير بما حدث سابقاً من مجازر، فاقت بحجمها والدماء التي أرُيقت فيها، والخراب الشامل الذي رافقها، ما يجري الآن: «كم عدد الذين سقطوا الآن؟ مئات؟ لقد سقط في السابق وفي وضع معكوس مئات الآلاف!». فلا يحقّ لأحد أن يستنكر مجزرة «بسيطة» تعرّضَ مرتكبوها لأكبر منها بكثير.
هذه مسألة للبحث في سوريا إذن: شرعية ثأر الدم ما دام ما يزال أقلّ وأصغر من الجريمة الأولى!
الفارقُ بين أرقام الضحايا وتفوّقُ النظام الكاسح لا يمكن نفيهما ولا مُقارعتهما. فحتى منتصف العام 2015، أي قبل بداية التدخّل الروسي الكبير، أشارت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي قامت بتوثيق عشرات المجازر في سوريا، إلى أنه في سوريا «لا تكتفي القوات المعتدية والمختلفة طائفياً عن السكان الضحايا بقتلهم رمياً بالرصاص، بل تُظهر أفعالاً وسلوكيات وممارسات كالذبح بالسكاكين لعائلات كاملة، بمن فيها من نساء وأطفال ورجال، حرق الجثث، تشويه الجثث، وعمليات اغتصاب واعتداء جنسي، نهب المنازل وحرقها، كلها جرائم تحمل صبغة طائفية أو عرقية». في ذلك الوقت كانت تحليلات الداتا في الشبكة تُبيّن أن 87 بالمئة من تلك الانتهاكات قد ارتُكبت من قبل النظام والميليشيات الحليفة أو الدائمة. وقد تسبّبَ سعي الأطراف الأسدية إلى توظيف العنف الطائفي باستفزاز عصبية الطرف الآخر ودفعه إلى ردود فعل شبيهة، بل إنها حصلت أحياناً أمام أعين المراقبين العرب والدوليين، وشاهدها الملايين على الشاشات الصغيرة والكبيرة. دفع هذا السلوك الطرفَ «السنّيّ» المقابل بقوة نحو التشدد والتطرّف، وإلى قبول التعامل الصريح مع قوى كان يتجنّبها سابقاً.
خلال سبعة وعشرين شهراً فحسب، بعد اندلاع الثورة السورية، ارتكبت قوات الأسد وميليشياته 35 مجزرة تنطبق عليها صفة الطائفية مباشرة. وحين ندخل في التفاصيل تزيد حمولة تلك المجازر، بسبب استخدام السلاح الكيماوي مثلاً، أو بسبب شراسة ووحشية الطرق المتّبعة، ودرجة استهداف العائلات الكاملة والأطفال والنساء.
ثمّ هنالك بالفعل ما يشبه الإبادة، والاقتلاع من المسكن والأرض، وأرقام لا تُصدّق من الضحايا والخراب.
أخيراً: في 8 كانون الأول (ديسمبر) الماضي دخلت قوات «ردع العدوان» بقيادة هيئة تحرير الشام دمشق، وانهار نظام بشار الأسد بطريقة غريبة عجيبة، بل ذاب وتلاشى. شكّلَ ذلك اليوم منعطفاً هائلاً في تاريخ سوريا الحديث، بإسقاط نظام الأسد الأب والابن، نظام البعث، بعد أكثر من ستة عقود من الزمن الصعب والفريد.
بعد ذلك بثلاثة أشهر، قامت فلول النظام السابق، وتشكيلاتها الناشئة في جبال الساحل السوري، بنصب عدد من الكمائن لقوات السلطة الجديدة وللأمن العام خصوصاً، وقيل إنها قد قتلت منها حوالي 300. بدأت تلك العمليات ظهيرة السادس من آذار (مارس)، واستمرت حتى ظهر اليوم التالي ريثما وصلت الإمدادات الرسمية. جاءت تلك الإمدادات بعد إعلان «النفير العام»، وحشد فصائل جاءت من الشمال، بينها تلك التي تحمل أسماء سلاطين عثمانيين. رافقهم فيما يبدو كثير من «المتحمّسين» الذين «دبّت بهم النخوة» وهبّوا لتلقين المعتدين درساً لا ينسوه. وحدثت مجازر عديدة، لم يُعرَف بعدُ عدد ضحاياها كلّهم: بينهم الكثير من الشباب الذين تمّ انتخابهم عمداً وخصوصاً، وعديد من الأطفال والشيوخ والنساء أيضاً، فضلاً عن النهب والتدمير والإذلال… والإرهاب بكلّ معناه. حدث ذلك في العديد من قرى الجبل العلوية، وفي بلدات ومدن الساحل، وأحيائه… العلوية.
وكان صدى ذلك كبيراً، ما يزال يتردّد وتعلو نبرته أحياناً. وابتدأت بعض الأصوات تنادي بطلب الحماية الدولية والحكم الذاتي… لكن ليس هذا موضوع هذه المقالة بالذات، بل هو حول الانتقام والثأر والدم عموماً.
وقد كنّا نناقش هذا الموضوع بحذر ومواربة منذ مجزرة حماة 1982، وفي ربيع دمشق، ومع اغتيال الحريري وتَحرُّر لبنان التالي له، وبشكلٍ مُركَّز منذ الثورة: هل يمكن منع أعمال الثأر والانتقام؟ وما هو حجمها المُتوقَّع؟ وكيف نواجهها: بالتفهّم والموافقة المكتومة أو الصارخة، أم بالوقوف في وجهها ومحاولة تخفيفها وتعديلها؟ وأساساً، كيف نوقف العقلية الثأرية عن التأثير في كلّ مسار الثورة والتغيير باتّجاه دولة مدنية ديمقراطية حديثة تُؤسِّس للعدالة والمواطنة المتساوية؟
– 2 –
مات أنور خليل خوجة على فراشه عام 1985، وكان الزعيم الشيوعي الأوحد لألبانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولد لأسرة من الطائفة البكتاشية العلوية (هل يثير هذا ابتساماتكم؟!). درسَ أنور خوجة في فرنسا ابتداء من الثلاثينيات من القرن العشرين، حيث تعرف على الأفكار الماركسية، ثم درسَ في بروكسل وعملَ أيضاً في السلك الدبلوماسي. وحين عاد إلى بلده عمل مدرساً للغة الفرنسية في مدرسته السابقة، ولكنه فُصِلَ من العمل بسبب تهمة الشيوعية واضطر لفتح محل لبيع التبغ. تميزت فترة حكمه تلك البلاد لأربعين عاماً بالقضاء على المعارضين، وبناء جدار سميك كاتم للصوت وعاتم للبصر مع العالم، وكذلك بالتقدم الصناعي السريع. وفضلاً عن الإنجازات من ناحية التعليم والصحة، فقد ركّزَ على إعادة إعمار ألبانيا بعد الدمار الذي حلَّ بالبلد أثناء الحرب العالمية الثانية. وتحت سلطته، شهدت ألبانيا عُزلة تامة عن بقية أوروبا واندماجاً متكاملاً في الإيديولوجية الستالينية. وُصِفَ نظامه الديكتاتوري بأنه الأشد قمعاً ودموية في تاريخ أوروبا الحديث. أعلن عام 1976 أن ألبانيا هي «أول دولة ملحدة في العالم».
كان الشعب الألباني طوال تاريخه صاحبَ تقاليد احتفالية بالثأر، بوصفه أقدم طريقة لحلّ النزاعات على وصف سبينوزا. وأوقف أنور خوجة تلك الطقوس وعاقب كلّ من تابعها بشدّة. وعند انهيار «المعسكر الاشتراكي» وانفتاح الحدود عالية الجدران، وتحت استغراب العالم كله، عادت تلك الطقوس إلى الحياة على الفور مع سقوط النظام وسيادة الفوضى:
وفقاً للقانون العرفي المحلي «كانون»، كان نظام تلك العمليات يُدعى «جياكماريه»، وهو لا يَعتبر الثأر والانتقام انتهاكاً على الإطلاق، مهما طالت سلسلة أعمال الثأر والثأر المضاد!. هو شكلٌ «وطني» من نظام العين بالعين والسن بالسن، الذي قوننه حمورابي. وكما لدى شعوبٍ أخرى: كان الرجل القاتل يعترف بفخر أنّه قد قتل ليحافظ على شرف سلالته وعشيرته أو عائلته.
بعد القتل يطلب أهل القتيل الهدنة المؤقتة (البيسا)، ويتيح ذلك لأهل القتيل فرصة الجنازة وتكريم الميت، ويشارك فيها أهل القاتل ووجهاء عشيرته. في نهاية الجنازة يطلبون تمديدها لمرحلة ثانية، حتى يصلوا إلى المرحلة الأخيرة؛ طلب الصفح ودفع الديّة وتنفيذ طقوس تاريخية لتوحيد دم الطرفين وربطهما، وهو أمرٌ قليل الحدوث، إذ أن ما يحدث عموماً هو استمرار عمليات الثأر إلى زمن غير مُحدَّد.
يعرِِفُ الريف المصري أيضاً عمليات الثأر جيداً، وقد مرّت حوادث ثأر لافتة أحياناً كتلك التي صارت في محافظة سوهاج وسقط فيها أكثر من 12 قتيلاً، أو تلك التي قُتل فيها محافظ الجيزة لأنه من عائلة أو عشيرة معيّنة. كما في أكثر من مكان، يوجد نظام لدفع ديّة المغدور في مصر، لكنّه غير مُستحبّ لما يضمره من هوان أو إذلال، إلّا في حالة الشروع في مفاوضات الديّة بالبدء بإجراء «حمل الكفن»: حين يأتي القاتل أو أحد كبار أهله حاملاً كفنه بيده، اعترافاً بالذنب وإذلالاً لذاته أمام مصيبة أهل القتيل. عندها يكون القبول بالديّة أسهلَ على نفوس أصحاب الثأر والدم، ولا يحدث هذا إلّا بعد استمرار سلسلة الثأر لزمن يطول وينهك الطرفين.
في سوريا يُقال إن «البدويّ قد أخذ بثأره بعد أربعين عاماً، وقال ما زال الوقت مبكّراً (بكّير)!». وينتشر التقليد في القبائل والعشائر ومنازلها خصوصاً، كما تأخذ سلسلة الثأر نظاماً محدّداً لا يختلف إلّا قليلاً، منذ كانت الحياة كلّها قبيلةً ورعياً وغزواً وغنيمة. أذكر جيّداً دخول حملة شهادات جامعية في تلك السلاسل، كما أذكر كيف كنّا نرى في المدن شباباً منفردين ومنعزلين وربّما حملوا أسماء غير أسمائهم، يعيشون بعيداً عن أهلهم الذين أرسلوهم بعيداً خوفاً عليهم من عمليات الثأر. وربّما نشأت عائلات جديدة لا تعرف أصولها هكذا.
لم يكن دفع الديّة والصلح غالباً إلّا مصحوباً بشعور الهوان العميق. يذكّر ذلك بعادة رمي «سهم التَعْقِية» القديم، التي كان وليُّ الدم فيها يطلق سهماً نحو السماء، ثمّ ينظر فيه: إن عاد وعليه دمٌ طلبَ دمَ غريمه، وإن عاد نظيفاً -ولن يعود إلّا هكذا- فإنه يقبل الديّة، وإن كان القوم كلّهم يعلمون أن ذلك غطاء لعجز وضعف صاحب الثأر أمام خصومه. كذلك أيضاً كان يُقال إن فلاناً «أكل الدم»، بقبوله الديّة، لفظاعة الإحساس الذي يُخلِّفه القعود عن طلب الثأر والانتقام المادّي المباشر.
رغم مرور مئات وربما آلاف الأعوام على تلك العادات والتقاليد، فقد انزرعت عميقة في النفوس، حيث ما زال نظام القرابة- العشيرة والقبيلة- سائداً أو قوياً أو حيّاً. وما زالت عبارة «أولياء الدم» تُقال في إشارة ذات بلاغة عتيقة، لترمز للحفاظ على الشرف، وعلى الحق باستمرار الحياة عبر الثأر والانتقام. «السوريّ لن يرمي بسهم التَعقية» كما قال كاتب سوري ذات مرّة.
كان انبعاث عمليات وتقاليد الثأر في نهاية ديكتاتورية خوجة تأكيداً لاستمرار وجوده- نائماً- في الثقافة المحلية. وربّما يشير ذلك أيضاً إلى أن تقليد الثأر المُقنون عُرفياً، بقوته وتجذّره بين العادات السائدة، قد يكون نوعاً من الحماية -ولو محدودة- للمجتمع من التفتّت الكليّ في أزمنة الفوضى والافتقاد إلى دور الدولة. كما تشهد خبرات «مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» في السنوات الأخيرة، والمُصمَّمة لتقييم إمكانية منح اللجوء لطالبيه في إيطاليا، كما هو الحال في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، بسبب «ثأر الدم»، على أن تقاليد الانتقام لا تزال أصيلة بين سكان بعض المناطق.
– 3 –
الطائفة من الناس هي جماعة منفصلة عنهم بشكلٍ من الأشكال. وهي بلفظها الأجنبيّ جزء مقتطع من جماعة الدين الأصليين، بل هم غالباً جماعة هراطقة بشكل من الأشكال، تباعدوا قليلاً أو كثيراً عن عقائدهم الأولى. هنالك ما يدفع إلى رؤية أعضاء الطائفة بطبيعتهم أكثر قابلية للتعصّب والتمركز والتطرّف عن أصول الدين، حتّى ولو حسبوا أنفسهم -كل طائفة منهم- أنهم الأعمق في الإيمان والأكثر معرفة أو عرفاناً ربّما.
بذلك تقترب «الطائفة» من العشيرة والقبيلة، ويكون لديها من العصبية ما يعادل قربى الدم الأبويّة، نظام القرابة الدموية. وحين ابتعدت الطوائف في إيمانها أكثر، كان لديها أحياناً استعدادٌ أكبر لهدر دم خصومها. يتمظهر ذلك كلّما كانت الرابطة أقوى، بالتنظيم والتربية، وحتى بالتدريب الرياضي أو العسكري.
وعلى الرغم من أن الدين والطائفة أحدثُ وأكثرُ تَقدُّماً و«ثقافة» من القبيلة والعشيرة وقرابة الدم، فإنّ ذلك لا يَظهر إلّا في مراحل النهوض و«الثورة»، حين يكون الأمر صافياً نقياً مفعماً بالقِيَم، يتشبّع بنظام الأخلاق الفطريّ أو الناشئ… أمّا حين يمرّ الزمن على تلك البدايات، فلا يبقى من الأمر إلّا عصبيّته، التي تعود به إلى حيث كانت رابطة دمه الأساسية.
تلك مقدّمة للحديث عن الثأر أو الانتقام الطائفيّ، المعروف قديماً وحديثاً، وعن إمكانيّة تخريبه لحظوظ أيّ مجتمع أو أمّة بالتقدّم والتطوّر. ولبنان مثال عن تحوّل الظاهرة القبلية (القيسية واليمنية) في زمن ما إلى الظاهرة الطائفية.
هنالك ظاهرة اسمها «شهداء دمشق»، الذين كانوا رهباناً في دير الفرنسيسكان، وقُتلوا جميعاً في العام 1869، وقد تمّ رسمُ هؤلاء كقديسين في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي من قبل البابا فرانسيس. وكانوا عملياً من بين آلاف الضحايا في تلك الحرب الأهلية التي امتدّت من جبل لبنان إلى باقي المناطق فيه، وإلى دمشق.
في أوائل صيف العام 1860 اندلعت تلك الحرب الدرزية- المارونية في لبنان، وابتدأت بانتفاضات للموارنة الفلاحين هنا وهناك ضد الإقطاعيين الدروز، ثمْ تحوّلت بسرعة إلى مقتلة فظيعة. وقبل تلك الانتفاضات كان المسلمون قد عانوا من نكسة وركود اقتصاديين كبيرين خلال العقدين السابقين على الحرب، بسبب كساد الصناعات بعد تدفّق البضائع الأوروبية بتسهيل من الحكومة العثمانية.
تُحدِّدُ معظم المصادر عدد القتلى في لبنان بين 7000 إلى 11000، بينما تصل أخرى إلى 20 ألفاً أو أكثر. وقد تمّ تدمير آلاف المساكن، وتحويل قطاعات شعبية كاملة إلى حالة الفقر المدقع، ودفع الكثيرين منهم إلى الهجرة. وبالطبع سقط عدد مهم أيضاً من الدروز والمسلمين.
حين وصلت أنباء أحداث لبنان إلى دمشق، احتفل بها المسلمون وأطلقوا اسم «فتح زحلة» على مقتلتها، في ضجيج إثارة النعرات وتعزيز عدوانيتها. سقط في دمشق حوالي خمسة آلاف يشكّلون ربع أعداد المسيحيين في المدينة، وهُدّمت مساكن كثيرة، بحيث قال شاهد غربي جال في المدينة بعد أسبوعين من ذروة الحدث: «لم أجد ممّا كنتُ قد رأيته إلّا بقايا منازل، وفي معظم الأحيان جدران بارتفاع بضعة أقدام فقط. والجثث تملأ المكان وتفوح منها الروائح الكريهة… وباختصار، لقد تمّ حرق الحيّ المسيحيّ كلّه ولم يسلم منزلٌ واحد».
يذكر الرواة- فخراً- من جهة أخرى كيف قامت عدة عائلات دمشقية مسلمة بإيواء المسيحيين، وكان الأمير عبد القادر الجزائري على رأسهم.
وفي الواقع، تحتوي «سورية» السابقة على تقسيمات ما بعد الحرب العالمية الأولى كلاً مما أصبح يُسمّى فيما بعد فلسطين ولبنان والأردن … وسوريا الحديثة. وقد قال عنها المؤرخان العثمانيان والباحثان البارزان في العصر الحديث محمد رفيق التميمي ومحمد بهجت في كتابهما ولاية بيروت ما يلي:
«ما زالت فلسطين، أو بالأصحّ سورية تعتبر مهد الأديان، ولم تزل دفاتر أعمال سكانها وأفكارهم محشوّة بمسائل الأديان والمذاهب. حلّت النصرانية بادئ أمرها في أنطاكية، ثمّ أخذت تتخطى مركزها إلى أن شملت أقطار المعمورة، وهكذا الإسلامية ما كادت تظهر إلّا وتسرّبت بسرعة البرق إلى جميع الأنحاء، ورغماً عن هذا لم يتسنّ لسورية أن ترى وحدة الدين حتى ولا في يوم من أيام التاريخ. وأكبر برهان على صدق هذه الدعوى هو وجود أكثر من ثلاثين مذهباً بين السكان السوريين الذين لا يتجاوز عددهم ثلاثة ملايين من النسمات»؛ من فصل «الأديان والمذاهب».
يأتي التذكير بذلك إذ نمرُّ إلى المظلومية العلوية، التي يرفعها البعض إلى أقصى درجات التوتّر ويخفضها غيرهم حتى الانعدام. يعود خيط ذلك الإحساس إلى أيّام دخول جنود السلطان سليم في عام 1516 إلى حلب، في أجواء من الصراع الكبير الثنائي: مع الصفويين الذين تشيّعوا وجعلوا من ذلك إيديولوجيا التحشيد الخاصة بهم، من جهة؛ ومع المماليك السنّة الذين يحمون سليل الخلافة العباسية التي يريدها السلطان لنفسه ولسلالته من جهة أخرى.
كانت تعيش في وسط حلب يومها جماعة ليست قليلة العدد من العلويين «النصيريين»، الذين حافظوا على ذلك الوجود منذ أيام مؤسس المذهب الخصيبي حول سيف الدولة الحمداني، والذي كان مرقده هناك. يقال إن مجزرة فظيعة قد ألمّت بهم وذهب ضحيّتها فيما نقله البعض تسعون ألفاً، وفي رواية أخرى أربعون ألفاً، وفي رواية ثالثة تسعة آلاف وأربعمائة ضحية، وفي رواية أخيرة لم تكن هنالك مجزرة على الإطلاق… تشرّدَ من بقي من تلك الجماعة من جديد، ورحلوا إلى من سبقهم قديماً إلى الجبال المعروفة.
من خلال العُزلة والفقر والجهل، دامت المظلومية والتمييز إلى العصر الحديث مع السلطة العثمانية ومع الإقطاع السنّي خصوصاً، بل أيضاً مع أهل «المدينة» حين يلقون ابن الريف والجبل ذاك، وهو المذهول أمام العالم الذي لا يعرفه جيداً.
تلك المظلومية (المكتومة بين أناس اعتادوا الكتمان) كانت حاملاً لما يعادل الثأر والانتقام من الأكثرية السنّية على يد سلطة الطاغيتين حافظ وبشار الأسد، ما قاد إلى ما لحقَ بالأكثرية من «مظلوميّة» مضادّة نمت خلال أكثر من خمسة عقود سوداء.
انتهت تلك الحقبة في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الماضي بوصول تحالف جهادي إسلامي إلى دمشق دون مقاومة تقريباً، ونهاية ديكتاتورية عائلة الأسد. بعد ذلك بحوالي ثلاثة أشهر، تجمّعت زمرة علوية بسلاحها لتحاول الاقتصاص لمجدها الذاهب أو لبضعة الضحايا الذين راحوا- كغيرهم-، أو لأولئك الذين يخشون أن يروحوا فيما بعد، أو دفاعاً عن أنفسهم من أيّ عدالة لا بدّ أن تأتي، أو لمجرّد الخوف من أشباح المظلومية القديمة… هاجموا حواجز السلطة الجديدة وقتلوا- يُقال- ثلاثمائة من الأمن العام.
استنفر القوم بعد ذلك وعلا صوت المآذن في إدلب وغيرها، وانثالت الآلاف من عناصر الفصائل وحتى الأفراد بسلاحهم لينفّذوا على عدة أيام مجازر ذهب ضحيّتها مئات- على الأقل- من الضحايا، كان من بينهم أيضاً معارضون معروفون لحكم الأسد، وسجناء سابقون، وأطفال ونساء. وما زالت ترد أخبار متفرّقة، عن ضحايا متفرّقين.
– 4 –
لا يمكن إذن بسهولة فهم الروح الانتقامية لدى أولئك الذين كانوا في مقدّمة الفاعلين لدى النظام والمستفيدين منه، ومن كانوا يرون حياتهم واقفة عليه وعلى استمراره ووجوده، من رأسه والأقربين إليه إلى العصابات التي كانت تعتبر نفسها صاحبة البلاد ووارثتها إلى الأبد.
أحد أولاد عم بشار، كان يدرس في الجامعة، وأراد إجبار الأساتذة في الامتحان- بوقاحتهم المعروفة- على السماح له باستبدال ورقته بأخرى كتبها تابعوه خارج القاعة، فمنعه الأستاذ بشجاعة خارقة. حين دخل «الطالب» قاعة أخرى، خلع حذاءه ورمى به عن بُعد صورة ابن عمّه بشار على الجدار المقابل، وشتمه صارخاً ببذاءة، يلومه على ما صارت إليه العائلة في عهده… من هوان!
لا يمكن تفسير درجة الوحشية في القتل والحرق وتمزيق الضحايا التي كانت تتملّك بعض قادة المدافعين عن النظام، من القوى الأمنية والميليشيات والعصابات، إلّا بإحساسهم ذاك بالتملّك و«الحق»، بأن لهم حقاً في تلك البلاد يحاول «الآخرون» الثائرون على النظام اغتصابه منهم… لذلك ينبغي الانتقام منهم و«تربية» العالم من خلال ما يحدث لهم.
التضحية بكائن بشري كقربان هي بالتعريف قتلُ الإنسان بدافع ديني، وضمن طقوس قَبَلية/دينية. كيف تُسهم التضحية البشرية في ترسيخ التفاوت بين السائد والمَسود والحفاظ عليه؟ كيف تُمارَس التضحية البشرية، وكيف يُمارَس التفاوت؟
في الثقافات الأسترونيزية التقليدية جنوب شرق آسيا، كان هناك تَداخُل كبير بين السلطة الدينية والدنيوية. وكثيراً ما أصبح أولئك الذين لا يحظون بقبول النُخَب المتسلّطة ضحايا وقرابين بشرية. ولعلَّ تلك الطقوس الدموية كانت وسيلة فعّالة بشكل خاص لترسيخ الهيمنة، لأنها وفرت مبرراً خارقاً للعقاب، ولأن طبيعتها المؤلمة والصارخة كانت بمثابة رادع للآخرين، كما أنها تُظهر القوة المطلقة للفئة السائدة. هل يوجد مثل ذلك البناء النفسي في أغوار البشر حين تبلغ «العصبية» ذروتها؟!
ذلك ليس غريباً، أو لعلّه ربّما مفهومٌ رغم لاعقلانيّته الواضحة. لكن وجود روح الثأر والانتقام في الوسط المعارض السوري نفسه قد أدّت إلى نتائج وخيمة على مسار الثورة السورية، منذ أمسك به أولئك الذين تُحرِّكهم تلك الروح. كانت القبلية والطائفية- الكامِنتان خصوصاً- تغذّيان وتنفخان وتَرعَيان الخلفيّة الثأرية العميقة، والأكثر عمقاً كلّما كان المعنيّ شخصيّة فاعلة في العمل المعارض، السياسيّ أكثر من العسكري، لأنّ طبيعة العمل العسكريّ تسمح ولو قليلاً بذلك التحريض الذي أصبح «تثويراً».
كنتُ ألمسُ ذلك مباشرةً وعن قرب لدى بعض قيادات المعارضة الأبرز، الذين كانوا يظهرون أكثر راديكالية وثورية من غيرهم، على عكس ما كان مطلوباً منهم ومن ضمن مهامهم في تحقيق التغيير بأقلّ الضحايا، وبروح الحلّ السياسي، لا الحلّ العنيف الذي لا تُشبعه الدماء، بل تزيد من تعطّشه إليها. كانوا يتبارون في رفض أي حل أو عرض لتسوية أو قرار دولي، بمجرّد معرفتهم أن هنالك مشروعاً قادماً. تمّ رفض بيان جنيف 1 مثلاً، وغيره وغيره دائماً.
فيما حدث مؤخّراً كلّه، وفي الساحل خصوصاً، وفيما يمكن أن يحدث في أكثر من مكان، تُخيِّمٌ روح الثأر والانتقام… وننتظر روح السلام والتسوية والتوافق عبثاً، كما انتظرنا الحرية طوال عمرنا البائس!
موقع الجمهورية
—————————–
لماذا يتراجع الوطنيون السوريون؟/ راتب شعبو
17 ابريل 2025
تفتقد سورية اليوم، وهي في واحدة من أشدّ اللحظات حساسية في تاريخها، صوتاً واضحاً وحازماً من الفئة الأكثر أهمية في المجتمع السياسي السوري، نقصد الفئة الوطنية، صاحبة الوعي الذي يمكن أن يسند وحدة سورية وتماسكها. لنلاحظ هذا التحوّل؛ شاع في بداية ثورة 2011 في سورية أن هتافاً تردّد في المظاهرات ينادي بقتل العلويين وتهجير المسيحيين. رفضت حينها غالبية المعارضين لنظام الأسد (ونحن منهم) هذه الإشاعة بحزم، وكذّبتها، واعتبرتها إحدى محاولات المدافعين عن نظام الأسد لتشويه الثورة وصدّ الناس عنها. وقيل إنه، حتى لو ردّد بعضهم مثل هذا الهُتاف فإنهم لا يمثّلون الثورة، ولا وزن لهم فيها. ثم قبل أيّام فقط من الذكرى الرابعة عشرة للثورة، تحوّلت الإشاعة مجازر فعلية بحقّ العلويين، فقط لأنهم علويون، بحسب المنطوق المباشر والصريح للجناة، ولم يُبدِ كثيرون ممّن استنكروا بحزم وثبات الإشاعة القديمة، موقفاً حازماً وثابتاً في رفض المجازر المروّعة، التي ربما كان سيميل كثيرون منهم، كما توحي سجالاتهم ومحاكماتهم العقلية المُعلَنة، وضعف تعاطفهم مع المنكوبين، إلى التكذيب، لولا أن الجناة وثّقوا أفعالهم متفاخرين، ومن دون خشية من أيّ عواقب.
نحن لا نتكلّم هنا عن أفراد ذوي مصلحة ينضوون في هياكل السلطات الجديدة، ولا نتكلّم عن أفراد من بطانة هذه السلطات أو مستفيدين بصورة شخصية مباشرة منها، كما لا نتكلّم عن شريحة معادية لفكرة الشعب نفسها ترى الحياة السياسية من موقع تمييزي، وتصنّف الناس وحقوقهم في درجاتٍ بحسب البيئة المذهبية التي ولدوا فيها، نحن نتكلّم عن أشخاص وطنيين يدافعون عن الديمقراطية والمواطنة ودولة القانون، وبينهم من سبق له أن دفع ثمناً باهظاً لوقوفه ضدّ سياسات القوة، وضدّ سياسات التمييز التي ثابر نظام الأسد على ممارستها في الحياة العامّة. هؤلاء هم رصيد وطني ثمين لسورية، والحقّ أن هؤلاء هم في المقام الأول من يفترض وقوفهم ضدّ المجازر، وهم من يفترض أن يتطلّع المنكوبون إليهم منتظرين الإنصاف والتضامن الفعلي، أو المناصرة اللفظية الصريحة على الأقلّ، ذلك أن أنصار دولة القانون معادون بالطبع للقتل الاعتباطي للناس، معادون حتى لقتل مجرمين خارج القانون، فهم مناصرون أساساً لحكم القانون بوصفه السبيل الأكثر أهميةً لنزع العنف من المجتمع.
صحيحٌ أن بين مارس/ آذار 2011 (الثورة) ومارس 2025 (المجزرة)، كثيرا من الدمار والدم، ومن المعاناة والمآسي التي تكبّدها السوريون بيد نظام الأسد، وبصورة خاصّة في المناطق التي خرجت من سيطرة النظام، ولكن الواضح أن هذه السنوات خرّبت أيضاً في وعي السوريين عموماً وفي نفوسهم، ومن ضمنهم الوطنيون الذين سبق أن استنكروا مجرّد هتاف يقول بقتل العلويين، ثمّ باتوا متساهلين مع جريمة إبادة، متّخذين من فظائع نظام الأسد مستنداً لتساهلهم، أي يجدون في الدوس على القيم والقانون مبرّراً لتكرار الفعل نفسه. يبقى ما هو أكثر أهميةً، أنه بدلاً من أن يتصلّب الوعي السوري ويشتدّ ضدّ الأسباب الحقيقية للدمار الذي شمل البلاد، الأسباب التي يدركها جيّداً هؤلاء الوطنيون المتفهّمون للمجازر، ترى هذا الوعي يتراجع أمام إعادة تشكّل الأسباب نفسها، ويتساهل مع ما كان يرفضه بقطعية من قبل، ثمّ يجتهد في تبرير تساهله، ويرى في هذا “الاجتهاد” تطوّراً في الوعي، وتحرّراً من النظريات الجامدة، وخروجاً على المساطر. هكذا بات يُزيَّن لهؤلاء أن “تفهّم” مجازر إبادة طائفية صريحة، هو تطوّر وانحياز للمستقبل، والحال أننا بذلك إنما نخسر المستقبل، بقدر ما نريد سورية موحّدة ومتماسكة.
لا يغيب عن بالنا ما أقدم عليه عناصر من النظام السابق ممّن لا يريدون الاستسلام لحقيقة أن السلطة خرجت من أيديهم، ويبحثون عن مخرج للمأزق الذي هم فيه، ونعتبر أن مهاجمة بقايا النظام دوريات الأمن العام بالكمائن، ومهاجمة المشافي، ونشر قنّاصين في الأسطح، ومحاولة السيطرة على مناطق، والاستقواء اليائس بقوىً خارجية… إنما هو استمرار لإجرامهم الممتدّ والمعهود ضدّ السوريين. ونعلم أن شباباً علويين انضموا إلى هؤلاء تحت مؤثّرات عديدة منها، ولعلّ أكثرها أهمية الانتهاكات التي راحت تمارسها بعض الفصائل بحقّ العلويين بعد سقوط نظام الأسد، والتي تهاون معها كثيرون من الوطنيين بوصفها “حالات فردية”.
السؤال: لماذا رفض الوطنيون الهتاف الداعي لقتل العلويين في بداية الثورة، ثمّ تهاونوا اليوم مع القتل الإبادي الذي استهدفهم؟… الجواب الشائع هو بسبب جرائم النظام 14 سنة. لكن هذا يعني أن الوطنيين السوريين يعتبرون العلويين، بوصفهم جماعةً مذهبيةً، مسؤولين عن هذه الجرائم، وليس النظام الذي تمكّن من جعل الدولة ملكيةً خاصّةً للسلطة، وجعل السلطة ملكيةً خاصّةً للعائلة. والواقع أن نظام الأسد ما كان ليتمكّن من فعل ذلك لولا تساهل المجتمع السوري وتراجعه أمامه، الأمر الذي تبدو ملامح تكراره (اليوم أيضاً) أمام السلطات الجديدة. ثمّ، حتى لو اعتبرنا العلويين (جماعةً) مسؤولين عن جرائم الأسد، وهو اعتبار خاطئ، فإن الانتقام الذي جرى لا يمكن أن يسكت عنه من يريد فعلاً بناء دولة وبلاد مستقرّة لا تقوم على الغلبة ومراكمة الضحايا على الضحايا والأحقاد على الأحقاد.
هناك جواب آخر، أن السبب يعود إلى جرائم بقايا النظام بعد سقوطه، والتصوّر أن العلويين تعاونوا (أو سكتوا) عن مؤامرة فلول النظام. من يكرّر هذا القول يضيف عادةً: وإلا لماذا لم تجر هذه المذابح قبل كمائن الفلول؟… والحقّ أن المرء لم يكن في حاجة إلى متابعة لصيقة كي يعرف أنه خلال الشهور الثلاثة التي سبقت المجازر لم يخلُ يوم من انتهاكات تدرّجت بين الإهانات الطائفية والاستيلاء على أملاك، وصولاً إلى القتل الطائفي، وقد بلغ عدد القتلى العلويين في هذه الفترة حوالي 600 ضحية، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو ما شكّل في الواقع تمهيداً مناسباً لبقايا النظام.
في كلّ حال، لا نعتقد أن أحداً من المتساهلين مع المجازر يعتبر أن قتل العائلات العزلاء في بيوتها تصدّ لبقايا النظام. الجلّادون أنفسهم، وهم ينفّذون جرائمهم لم يكن في تصوّرهم إنهم يواجهون بقايا النظام، كان في أذهانهم ما كانوا يصرّحون به مراراً، وهو إنهم يقتلون العلويين “الخنازير”. في الخلفية الذهنية لهؤلاء مزيج من احتقار ديني للعلويين، مبنيٌّ على تعبئة بالرفض الديني الثابت للمختلفين، وعلى فتاوى مغلقةٍ عابرةٍ للأزمنة، ولها استقلال لا بأس به عن السياسة، مضافاً إلى رفض سياسي غذّاه نظام الأسد، واتخذ بعداً طائفياً لاعتباراتٍ عديدة، أكثرها أهميةً أن النظام استند في ذراعه العسكري الأمني إلى العلويين بصورة أساسية، وقد ساهم وصف النظام السوري بأنه “نظام علوي”، وهذا الوصف من منشأ إسلامي أصلاً، في تعزيز الدافع الانتقامي ضدّ العلويين، حين تراكبت الفتوى الدينية على الفتوى السياسية. ومن المفهوم أنه في البلدان التي لا تتوافر فيها انقسامات طائفية كالتي في سورية، سوف يتخذ الرفض السياسي أبعاداً أخرى، قد تكون عشائرية أو إثنية أو أيّ خطوط انقسام أخرى غير سياسية، وتعمل على خنق الانقسامات السياسية وإحالة الصراع السياسي عنفاً أعمىً مدمّراً لا يُنتج سوى مزيد من العنف.
ضعف الحساسية الذي أبداه كثيرون من الوطنيين السوريين تجاه مجازر الساحل، وقبلها تجاه الإذلال والانتهاكات اليومية التي تعرّض لها العلويون في مناطق مختلفة بعد سقوط نظام الأسد، تكشف واحدةً من أسباب مراكمة الفشل، حين تنكفئ الفئة الأكثر أهمية في المجتمع عن الاعتصام بحبل القيم الوطنية العامّة، الذي هو ما يعطيها قيمتها.
العربي الجديد
—————————
في إدانة المجازر والانتهاكات بحق العلويين-ات السوريين-ات
بيان إلى الرأي العام
مجموعة من السوريين_ات
17-04-2025
شهدت مناطق الساحل السوري بين 6 و10 آذار من هذا العام مجازر واسعة بحق مدنيين علويين، سبقتها انتهاكاتٌ ذات بعدٍ طائفيّ أُهين فيها وضُرب وقُتل مواطنون مسالمون آخرون. وعلى الرغم من انخفاض وتيرة القتل والحرق والنهب، فلا شكّ في أنّ العلويّين السوريّين لا يشعرون اليوم بالأمان في أحيائهم وقراهم، ويخشون استمرار الاعتداء على حياتهم وكرامتهم وممتلكاتهم.
لقد قُتل في تلك الأيّام السوداء أعداد كبيرة من العلويّين الأبرياء الذين لم يُشاركوا من قريبٍ أو بعيد في أيّ عملٍ انقلابي أو إرهابيّ نظّمته فلول العهد الأسديّ البائد. قُتلوا، رجالاً ونساءً وأطفالاً، لأنّهم علويّون، لا لأيّ سببٍ آخر، على يد جماعاتٍ مسلّحةٍ هائجة تؤمن بمنطق العقاب الجماعي، وهو المنطق نفسه الذي اعتمده النظام البائد في مجازره، وهو الذي تعتمده إسرائيل منذ سنواتٍ طويلة في قمع الشعب الفلسطيني.
إنّنا، نحن الموقّعين والموقّعات على هذا البيان، نستنكر بشدّة هذا الانتهاك الصريح لحقّ المواطنين العلويّين في الحياة والحريّة والكرامة الإنسانية المتساوية، ونربأ بأنفسنا أن نكون شهوداً صامتين على ما تعرّضوا ويتعرّضون له من جرائم طائفيّة، فلا نجاة لبلادنا في كتمان الحقّ.
ونحنُ، إذ ندين أيّ تمييزٍ طائفيّ بين المواطنين، ونطالب بالبدء بمسار جادٍّ للعدالة الانتقالية، نهيب بكل السوريين الخروج من النفق المظلم الذي حشرنا فيه النظام الأسديّ، وذلك بالتضامن دائماً مع الضحايا الأبرياء وذويهم، وبالتنديد من غير لبس بالجناة أيّاً كان انتماؤهم.
إنّنا نرفض رفضاً باتّاً معاملة العلويين معاملة المهزومين وإذلالهم، فمن هُزم هو النظام الأسديّ المجرم، ومن انتصر أو ينبغي أن ينتصر هو الشعب السوري، شعب المواطنين والمواطنات المتساوين في الحقوق والواجبات. ولا كرامة لأيّ سوريّ حين تُنتهك كرامة العلويّين السوريّين، ولا أمان لأي سوري حين لا يشعر العلويّ السوريّ بالأمان. هذا هو موقفنا الثابت حيال انتهاك حقوق أي جماعة سورية أخرى.
ولنتّفقْ جميعاً على أنّ حياة الإنسان وحرّيّته وكرامته فوق أيّ اعتبارٍ سياسيّ، وأنّ المعيار الأوّل في الحكم على أيّ سياسةٍ هو مدى التزامها بصيانة حياة الإنسان وحرّيّته وكرامته.
موقّعون-ات (رابط للتوقيع أسفل القائمة)
أحمد حسو- صحفي
أسامة محمد- سينمائي
أسامة نصار- ناشط وصحفي
أسعد العشي- اقتصادي
إيناس حقي- مخرجة
برهان غليون- مفكر وأكاديمي
بكر صدقي- كاتب ومترجم
جلال نوفل- طبيب نفسي
حازم نهار- رئيس تحرير مجلة رواق ميسلون
حسام جزماتي- كاتب وباحث
حسام الدين محمد- كاتب وإعلامي
حسام ميرو- رئيس الحزب الدستوري السوري (حدس)
حسن النيفي- كاتب وشاعر
حسين قاسم- مهندس وسياسي كردي
حلا عمران- ممثلة
خالد أبو صلاح- باحث وصحفي
خضر عبد الكريم- فنان تشكيلي
راتب شعبو- كاتب ومترجم
رشا عمران- كاتبة
رشاد كيوان- مواطن
رندة بعث- مترجمة
روبن ياسين- قصاب- كاتب
روزا حسن- روائية
ريم علاف- كاتبة
ريم الغزي- مخرجة أفلام وثائقية
سارة هنيدي- كاتبة
سمر يزبك- روائية
سمير سعيفان- مدير مركز حرمون للدراسات
سميرة مسالمة- كاتبة صحفية
عامر مطر- صحفي
عبد الحي سيد- محام وكاتب
عدنان مكية- ناشط
عدي الزعبي- قاص
عروة الأحمد- مخرج
عروة خليفة- كاتب صحفي ومحرر في منصة الجمهورية
عمر قدور- كاتب سياسي وروائي
غسان زكريا- كاتب
فارس البحرة- طبيب نفسي وكاتب
فارس الحلو- ممثل
فاروق مردم بيك- كاتب وناشر
فرج بيرقدار- شاعر
فؤاد محمد فؤاد- طبيب وشاعر
كرم نشار- مدير ومحرر تنفيذي لمنصة الجمهورية
كريم العفنان- صحفي
لبنى القنواتي – مدافعة عن حقوق الإنسان
لؤي الزرير- ناشط سياسي
ليلى الشامي- كاتبة
لينا الأحمد- مترجمة
لينا الطيبي- شاعرة
ماجد كيالي- كاتب سياسي سوري فلسطيني
مالك داغستاني- كاتب
مثنى الساير- طبيب
محمد العطار- كاتب ومسرحي
محمد علي الأتاسي- كاتب وصانع أفلام وثائقية
مرسيل شحوارو- كاتبة
معتصم السيوفي- مدير مؤسسة اليوم التالي
موفق زريق- كاتب وباحث نقدي
ميزر مطر- مصور
نبيل سليمان- روائي
نعمى عمران- مغنية أوبرا ومؤلفة موسيقية
نهاد سيريس- روائي
هنادي زحلوط- كاتبة وصحفية
وعد الخطيب- مخرجة أفلام وثائقية
وليد البني- سياسي وطبيب وكاتب
ياسر منيف- أستاذ جامعي ومؤلف
ياسين الحاج صالح- كاتب
ياسين السويحة- صحفي ومحرر تنفيذي في منصة الجمهورية
يامن حسين – كاتب وناشط سياسي
حسين الشيخ — شاعر وصحافي
*****
(بالإمكان التوقيع على البيان باستخدام الرابط التالي)
——————————
=======================
الحكومة السورية الانتقالية: المهام، السير الذاتية للوزراء، مقالات وتحليلات تحديث 17 نيسان 2025
لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
—————————-
قراءة في آلية عمل الفريق الاقتصادي للحكومة السورية الانتقالية وضرورة الخطة/ د. عبد المنعم حلبي
2025.04.17
من الواضح تماماً أن عملية اختيار الفريق الاقتصادي في الحكومة السورية الانتقالية تمت بعناية كبيرة، وبما يتوافق ويلزم للوصول إلى الاقتصاد الهدف المحدد مسبقاً بقرار رئاسي، حيث تشير أفكار وتجارب وطروحات أعضاء هذا الفريق استعدادهم للتوجه المباشر نحو إنجاز عملية التحُّول إلى اقتصاد السوق.
ولكن الطريق إلى ذلك على ما يبدو ستكون صعبة، وتتطلب آليات عمل واضحة ومُنسقة للوصول الآمن، وفق خطة مُوسَّعة لا ضير من أن تغطي الفترة الانتقالية الخمسية وفق الإعلان الدستوري.
وإذا كان من الطبيعي أن تشكل موارد الطاقة من النفط ومشتقاته والكهرباء والموارد المائية المدخلات والمحرك الأساس لهذه المرحلة، إلى جانب المنتجات الزراعية كموارد مباشرة ووسيطة في تأمين مستلزمات النهوض وأسسه.
لتأتي إدارة عجلة الإنتاج في قطاعات الاقتصاد من الصناعة والتجارة والخدمات، في إطار مُحكّم من التنظيم والفعالية في استغلال الموارد لإعطاء القيمة المضافة.
بينما تقع مهمة التنسيق والانسجام على عاتق الإدارة المالية والنقدية للاقتصاد الوطني. كل ذلك ينبغي أن يتم بتشاركية فاعلة وكاملة وريادية من جميع أصحاب المصلحة في القطاع الخاص والمجتمع المدني والخارج أيضاً، وذلك للمساهمة في حماية التوسع والنمو في الاقتصاد الوطني من أي انحرافات وتشوهات بنيوية، قد تؤدي إلى استشراء الفساد والنزوع إلى الفوضى.
وزارة الطاقة، التي تسلَّم حقائبها الأستاذ محمد البشير، بعد دمج ثلاث وزارات فيها: الكهرباء، النفط والثروة المعدنية، والموارد المائية، هي التي ستوفر الموارد المالية الأساسية للخزينة العامة، وتشمل مخرجات مؤسساتها كافة الاحتياجات الإنتاجية.
وستكون أيضاً الوزارة الأكثر حساسية وارتباطاً بالمجتمع. فعلى الرغم من أن اسم الوزارة لا يتضمن كلمة الخدمات، إلا أنها ستكون المسؤولة حتماً عن واقع مختلف الخدمات العامة وأكثرها أهمية بعد الأمن. وبالتالي فإن نجاح وزارة الطاقة هذه، سيكون العامل الحاسم لتقييم عام ومباشر لعمل الفريق الاقتصادي ككل، وربما الحكومة برمتها.
الأساس أو المحرك الثاني في العمل الاقتصادي الانتقالي سيكون بالضرورة وزارة الزراعة، والتي سيديرها الدكتور أمجد بدر، الذي لديه خلفية اقتصادية أكاديمية بارزة أيضاً، إلى جانب خبراته العملية في العديد من الميادين الزراعية.
هذه الوزارة سيتوجب عليها العمل على الاستفادة من مخرجات وزارة الطاقة في استغلال الموارد المائية وغيرها في استعادة القدرات الزراعية الاستراتيجية: الحبوب والقطن والزيتون، لتكون الرافد الثاني المهم للخزينة العامة، وتأمين مدخلات الكثير من المنتجات الصناعية التحويلية للقطاعات الصناعية ذات الأولوية.
الرافعة الحقيقية للاقتصاد الوطني في المرحلة الانتقالية هي وزارة الاقتصاد والصناعة، والتي سيكون متوجباً عليها وضع السياسات الاقتصادية الصناعية والتجارية لاستغلال الموارد الإنتاجية لوزارتي الطاقة والزراعة، وزيادة القيمة المضافة الحقيقية في الثروة الوطنية ورأسمالها الثابت.
ومن الواضح مبدئياً أن عملية الدمج التي حصلت بالنسبة لوزارات الاقتصاد والتجارة الخارجية، وزارة الصناعة، ووزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، تهدف إلى وضع خطة عمل وقائمة أولويات واحدة أو موحدة، وآليات تنفيذ مشتركة، والتنسيق المباشر فيما بينها من خلال القرارات الصادرة عن وزير الاقتصاد والصناعة الدكتور نضال الشَّعار، والذي تشير تصريحاته إلى تقديم كافة التسهيلات الممكنة لإطلاق عجلة الإنتاج الوطني، وجذب الاستثمار، وحماية المنتج المحلي من فيض الاستيراد، ولاسيما في قطاعات الصناعات الغذائية والنسيجية والبلاستيكية والأدوية، ثم الكهربائية والالكترونية في مرحلة تالية.
الدكتور محمد يسر برنية، وزير المالية، القادم من المدرسة الاقتصادية الأمريكية أيضاً، كما هو الحال بالنسبة للدكتور الشًّعار، وعد بتقديم تسهيلات كانت متوقعة بالنسبة للسياسة الضريبية، بمعنى تخفيض الضرائب على المنتجين والدخول والمستهلكين، للمساهمة في تنشيط الطلب الفعال في الاقتصاد الوطني، وكذلك فيما يتعلق بالرسوم الجمركية وبحسب الأولويات التي تؤدي إلى تقديم الرافد المالي لدعم الصناعة والمنتجات الوطنية، قد تفضي بتخفيض، أو الإعفاء من، الرسوم الجمركية عن قائمة المدخلات الإنتاجية للصناعة الوطنية، والقيام بفرض رسوم جمركية عالية على بعض السلع والخدمات المستوردة، التي لها نظيرة وطنية من جهة، وتلك التي تُشبع احتياجات ثانوية من جهة ثانية، وربما ثالثاً تقييد استيراد قائمة من سلع الرفاهية، ذات الاستنزاف الكبير للعملة الصعبة، وبالتنسيق مع وزارة الاقتصاد والصناعة.
هذه التوجهات المتوقعة ستنعكس على الأغلب بانخفاض إيرادات الخزينة العامة من الضرائب والرسوم، في ظل عدم اليقين بكفاية إيرادات القطاع النفطي والغاز لمواجهة متطلبات المرحلة، وبالتالي سيتوجب على الحكومة ككل، بإشراف وزارة المالية، العمل على ابتكار أدوات جديدة لتأمين السيولة اللازمة لأداء الاعتمادات المتعلقة بالإنفاق الجاري، وهنا يُتوقَّع أن تكون الخصخصة، والتشاركية مع القطاع الخاص، وربما إصدار سندات الدين العام حلولاً يجب دراستها، ووضع الأسس القانونية والحوافز الاستثمارية لتنفيذها وفق خطة واضحة وشفافة، وذات مراحل، تتوافق مع طبيعة المرحلة الانتقالية دستورياً وقانونياً، وكذلك محددات المصلحة العامة متوسطة الأمد، التي تقتضي استمرار حضور الدولة الاقتصادي والاجتماعي خلال المرحلة الانتقالية على الأقل.
التوقعات السابقة بخصوص السياسات الاقتصادية والتجارية والمالية، ستجعل من السياسة النقدية التي سيقودها الدكتور عبد القادر حصرية حاكم مصرف سورية المركزي، في ذروة الأهمية والحساسية على المدى المنظور، المدى الذي يجب أن تشغله السياسة النقدية كاملاً في تأمين استقرار قيمة الليرة السورية، ومواجهة التضخم، وكذلك السعي في المدى المتوسط لتطبيق سياسة ائتمانية منضبطة. فالسياسة المالية التوسعية المتضمنة التخفيضات الضريبية وبدرجة أقل الجمركية، والتي يُتوقع أن يرافقها إنفاق عام متزايد من أجل الوفاء بالاحتياجات الكبرى المنتظرة على مستوى البنى التحتية وزيادة متوسط الأجور الحكومية، ستُلقي على المصرف المركزي مسؤولية ومهام أكبر لمواجهة التضخم. وبالتالي فسيكون من واجب الدكتور حصرية العمل على ضمان استقلالية المصرف المركزي في تفعيل أدوات السياسة النقدية لضمان استقرار قيمة الليرة السورية، وخفض معدل التضخم، ولاسيما فيما يتعلق بمعدل الفائدة، حيث يتوقع العمل على الوصول إلى معدل توازني مرتفع نسبياً على المدى المتوسط، إضافة إلى فرض ضوابط قانونية ومالية عالية في إطار السياسة الائتمانية وربطها بالتشغيل والإنتاج.
إن عمل الفريق الاقتصادي والتنسيق بين أطرافه سيكون على غاية من الصعوبة والحساسية، وأمام حجم كبير من التشعبات والآثار الانعكاسية، وبالتالي لا يمكن نظرياً وعملياً توقع أن يتم ذلك بدون خطة اقتصادية شاملة، لا ضير من أن تأخذ صفة الخطة الخمسية بما يتوافق فعلاً مع المدة الزمنية التي تم إقرارها في الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية، وهي خمس سنوات. هذه الخطة يمكن وضعها بالتضافر بين مسؤولي الحكومة ومؤسستي هيئة التخطيط والتعاون الدولي، والمكتب المركزي للإحصاء، وربما هيئة وطنية مستقلة لإعادة الإعمار، وبحضور مؤثر من ممثلي القطاع الخاص في الغرف التجارية والصناعية والجمعيات المهنية أيضاً، إلى جانب مجلس استشاري مختص من الأكاديميين والمهنيين من أصحاب الاختصاص والخبرة.
إن العمل على السياسات الاقتصادية القطاعية الصناعية والزراعية والتجارية والسياسات المالية والنقدية يتطلب توسيع دائرة المسؤولية في التخطيط والتنفيذ والرقابة بما يضمن تحقيق الأهداف التي تحدث عنها كل وزير في خطاب القسم، وتُسهِّل على القطاع الخاص وضع خططه التفاعلية معها وصولاً لتحمله مسؤولياته كاملة في الاقتصاد الوطني، وكذلك بما يتيح للمجتمع المدني والإعلام قراءتها ومتابعة أطوار تحقيقها، والمشاركة في تقييمها بصورة تزامنية فاعلة ومفيدة وفق المصالح العليا للبلاد.
تلفزيون سوريا
—————————-
=======================
عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 17 نيسان 2025
لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة
—————————-
هل تتصادم تركيا مع إسرائيل؟/ توران قشلاقجي
تحديث 17 نيسان 2025
في الأسابيع القليلة الماضية، تناولت وسائل الإعلام التركية والإسرائيلية احتمالية اندلاع مواجهة مباشرة بين تركيا وإسرائيل، بينما تناقش التقارير والتعليقات في وسائل الإعلام احتمالات الصدام، اجتمع مسؤولون أتراك وإسرائيليون الأسبوع الماضي في باكو للتوصل إلى تفاهم عبر وساطة أذربيجان، هذه السلسلة من الأحداث تُظهر بوضوح وجود العديد من المشاكل بين البلدين، خاصة في سوريا، فضلا عن غزة. بعد أن صرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 10 أبريل/نيسان بأن تركيا ليس لديها نية للتصادم مع إسرائيل، أو أي دولة أخرى في سوريا، رد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقوله: «لا نريد توترا مع تركيا، ولكن إذا تطلب الأمر الدفاع عن أنفسنا، فسنفعل ما يلزم». كما أعرب كبار المسؤولين العسكريين الأتراك عن ردود فعل قوية على تصريحات نتنياهو خلال ظهورهم على شاشات التلفزيون.
من جهته، استخدم زعيم حزب الحركة القومية (MHP) دولت بهجلي، أحد الأسماء البارزة في السياسة التركية، تعابير حادة في تصريحاته حول الموضوع، قائلا: «يجب تنفيذ تدخلات عسكرية وسياسية واقتصادية ضد إسرائيل! لم يعد هناك مجال للانتظار». وأضاف بهجلي في بيان: «يجب وضع برنامج للعمل وفرض العقوبات ضد إسرائيل، وتنفيذه بشكل منسق عبر تدخلات عسكرية وسياسية واقتصادية. إن تحرك دولة الإرهاب إسرائيل بين أقدامنا في سوريا، وقصفها أهدافا محددة بين الحين والآخر، ينسج يوما بعد يوم شباك مصيرها المحتوم».
بعد هذه الإشارات التي أطلقها بهجلي نهاية الأسبوع الماضي، وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تحذيرات خلال منتدى أنطاليا الدبلوماسي قائلا: «إسرائيل ترتكب إبادة جماعية صارخة ضد الشعب الفلسطيني. رفع صوتنا ضد هذا الوضع، والاعتراض على هذا الظلم، وإبداء أقوى رد فعل، ليس فقط واجبنا الأخوي، بل هو أيضا واجبنا الإنساني، الصمت على جرائم إسرائيل يعني المشاركة في ارتكاب هذه الجريمة». وأضاف في كلمته: «السلام في الشرق الأوسط ممكن فقط على أساس حل الدولتين للقضية الفلسطينية الإسرائيلية»، مؤكدا أن «الأمة التركية، كما كانت طوال التاريخ، تقف اليوم أيضا في تضامن مع إخوانها الفلسطينيين». لا شك أننا ندخل مرحلة جديدة في الجغرافيا السياسية العالمية، حيث تتجاوز الأهمية الحيوية التي تمثلها روسيا وتركيا للولايات المتحدة بالنفوذ التقليدي لبريطانيا وإسرائيل. ففي قضية أوكرانيا، استبعد ترامب بريطانيا، ويتبع نهجا مماثلا ضد إسرائيل، التي تصر على سياسات معادية لتركيا في الشرق الأوسط وشرق المتوسط، خاصة في سوريا. وهو مضطر لذلك، لأن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك رفاهية مواجهة تركيا بسبب إسرائيل. كما أن استراتيجية المحافظين الجدد الأمريكيين الموالين لإسرائيل، والتي تهدف إلى تجاوز تركيا في سياسة الشرق الأوسط منذ حرب لبنان 2006، قد باءت بالفشل. كان ثمن سياسة المحافظين الجدد التي تركز على إسرائيل بدلا من تركيا في الشرق الأوسط باهظا. لم تخسر الولايات المتحدة فقط الحرب على الإرهاب، بل تعرضت أيضا لهزائم استراتيجية أمام روسيا والصين في الصراع العالمي. حاولت إدارة جو بايدن إحياء استراتيجية الشرق الأوسط المنهارة للولايات المتحدة عبر إسرائيل، من خلال إبادة غزة، لكن ذلك أيضا انتهى بالفشل. تركيا، التي صنعت التاريخ في سوريا بعد قطر وقره باغ والصومال وليبيا والعراق، أثبتت مرة أخرى للعالم أن ورقة إسرائيل أصبحت عديمة الفائدة. وبالتالي، فإن أهمية تركيا في النظام العالمي تتزايد يوما بعد يوم، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضا بصفتها فاعلا يمتلك الجيش الوحيد في الناتو القادر على الصمود، ولدورها كوسيط وصانع لألعاب استراتيجية في مناطق حاسمة، مثل وسط آسيا والمحيط الهندي الهادئ وشرق المتوسط وشمال افريقيا خارج نظام الأمن الأطلسي.
خلاصة القول؛ في عالم متعدد الأقطاب، سيكون وزن روسيا وتركيا في السياسة الخارجية الأمريكية أكبر بكثير من إسرائيل، على الرغم من قوة اللوبي اليهودي. وترامب يقوم بالفعل بتكييف سياسته الخارجية وفقا لهذه المعايير والفاعلين الجدد. السطور التي تشير إلى إسرائيل في الوثائق التي رُفعت عنها السرية حول اغتيال كينيدي، بالإضافة إلى حملة ترامب الأخيرة ضد المحافظين الجدد داخل الدولة العميقة، هي مؤشرات على هذا التوجه الجديد، ولذلك، يجب قراءة الهستيريا المعادية لسوريا وتركيا من جانب إسرائيل، التي لم تحصل على الدعم الذي تريده من الولايات المتحدة خارج نطاق فلسطين، في هذا السياق.
كاتب تركي
القدس العربي
—————————-
حرييت: “خطوط حمراء” تركية لإسرائيل في سورية/ جابر عمر
17 ابريل 2025
قالت صحيفة حرييت التركية، اليوم الخميس، إن تركيا وضعت “خطوطا حمراء” بشأن سورية خلال لقاء جمع وفدا تقنيا تركيا مع وفد إسرائيلي في أذربيجان، أهمها رفض التقسيم والسيطرة على الأجواء السورية. وأوضحت الصحيفة أن اللقاء في أذربيجان جاء عقب التوتر بين أنقرة وتل أبيب، والتصريحات التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن تركيا.
وبحسب الصحيفة، فإن الموضوع الأساسي للاجتماع كان “تفعيل آليات لعدم التصادم ووقف الانتهاكات”. وأشارت إلى أنه لم يحدث أي توترات في الاجتماع، حيث “سادت لغة دبلوماسية هادئة”، وسبب ذلك عدم الوصول للمواجهة المباشرة بين البلدين بعد. وأفادت بأن تركيا “وضعت بشكل واضح خطوطها الحمراء، وأهمها إغلاق الطريق أمام تقسيم سورية، وفق التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين، والتأكيد التركي على عدم التراجع بشأن الدولة السورية الموحدة”.
وأردفت “حرييت”، أن أنقرة أوضحت في الاجتماع أن الهجمات التي تشنها إسرائيل على سورية “ستؤدي لضغوط على الإدارة السورية الجديدة، وفي حال احتمال الرد، فإن ذلك قد يؤدي لدخول مجموعات على خط المواجهة، وهو ما سيعرض أمن إسرائيل لمزيد من الصعوبات، على عكس ما تريده”. وذكرت أيضا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجه عقب اللقاء رسائل واضحة في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، عندما تحدث عن “صبر تركيا وهدوء أعصابها وضرورة عدم فهم ذلك بشكل خاطئ”.
من جانب آخر، أفادت الصحيفة بأن “مسألة السيطرة الإسرائيلية على الساحة السورية أمر غير مقبول”. وقالت إن “على إسرائيل التخلي عن تهديداتها وسلك طريق معقول، والتخلي عن مشروع “ممر داوود””، وإن أردوغان تحدث عن ذلك في اجتماع الحكومة قبل أيام، عندما قال: “من يمنع سورية من تحقيق السلام والاستقرار الدائمين فسيجد نفسه في مواجهتنا، وفي مواجهة الحكومة السورية. وكما لم نسمح بتقسيم سورية عبر ممر إرهابي، فلن نسمح أيضاً بتقسيم هذا البلد عبر ممرات أخرى”.
وأردفت الصحيفة أن “هناك وجهات نظر مختلفة لدى الحكومة الإسرائيلية، بعضها ينسى أنه يعيش بالقرن الحادي والعشرين ويعمل وفق مزاعم على أنها مأخوذة من التوراة، ومجموعات أخرى ترغب في تقسيم سورية، وهناك من يرغب بالعودة للاتفاقيات الموقعة زمن الرئيس الراحل حافظ الأسد”.
وأمام هذه المواقف الإسرائيلية، قالت الصحيفة إن “موقف أنقرة واضح من وحدة سورية واستقرارها وأمنها، لأن ذلك ينعكس على دول الجوار، ولهذا لن تترك أبدا مسألة آلية التنسيق بين دول الجوار، وسيتم تأسيس آلية مكافحة تنظيم داعش الإرهابي”. وسبق أن أوضحت تل أبيب، لكل من أنقرة وواشنطن، أن وجوداً تركياً دائماً في قواعد مثل تدمر وتي فور يُعتبر “تجاوزاً للخط الأحمر”، على حد تعبيرها، وهو ما قد يؤثر مباشرة على حرية عمل جيش الاحتلال الإسرائيلي في الجبهة الشمالية. وفي اجتماع عُقد الأسبوع الماضي في أذربيجان، بين مسؤولين إسرائيليين وأتراك، جرى التأكيد على أن إسرائيل تعتبر الحكومة السورية الجديدة “مسؤولة عن كل ما يحدث في سورية، وأن أفعالها ستؤدي إلى عواقب، بما في ذلك العمل العسكري”.
العربي الجديد،
————————–
إسرائيل تسابق الزمن في سورية بعد إبلاغها بقرب الانسحاب الأميركي/ نايف زيداني
16 ابريل 2025
أبلغت الولايات المتحدة الأميركية دولة الاحتلال الإسرائيلي بأنها ستبدأ قريباً بسحب قواتها من سورية، وفق ما أفاد موقع واينت العبري اليوم الأربعاء. وأوضح الموقع أن مسؤولين أمنيين أميركيين أبلغوا المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بأن الولايات المتحدة ستبدأ، خلال شهرين، انسحاباً تدريجياً لقواتها العسكرية من سورية، في وقت كانت فيه إسرائيل تحاول منع هذه الخطوة، لكنها تلقت أخيراً تأكيداً بفشل جهودها.
ومع ذلك، لا تزال المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تسعى للضغط على واشنطن لمنع تنفيذ القرار. وليس اعتزام الرئيس دونالد ترامب سحب القوات مفاجئاً، فقد أعلن منذ البداية عن رغبته في إخراج الجنود الأميركيين من المنطقة، معتبراً أن “هذه ليست حربنا”، فيما يعمل البنتاغون منذ فترة طويلة على الخطط. وتستعد واشنطن الآن للانتقال إلى المرحلة العملية، وفق الموقع العبري، مطلعة تل أبيب على خطواتها. وأعرب الإسرائيليون في المناقشات بين الجانبين عن قلقهم الشديد من تداعيات هذه الخطوة.
وأشار مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى إلى اعتقاده بأن الانسحاب، إذا حدث، سيكون جزئياً، وحتى هذا تحاول إسرائيل منعه، خشية زيادة التوتر مع تركيا، التي تعمل علناً على تعزيز سيطرتها في المنطقة بعد سقوط نظام بشار الأسد. وتنتشر القوات الأميركية في الوقت الراهن في عدة مناطق استراتيجية في شرق وشمال سورية، ما يشكل عامل استقرار. ويعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن انسحاب هذه القوات قد يزيد “شهية تركيا” للسيطرة على المزيد من الأصول العسكرية الاستراتيجية في المنطقة.
وسبق أن أوضحت تل أبيب، لكل من أنقرة وواشنطن، أن وجوداً تركياً دائماً في قواعد مثل تدمر وتيفور يُعتبر تجاوزاً للخط الأحمر، وهو ما قد يؤثر مباشرة على حرية عمل جيش الاحتلال الإسرائيلي في الجبهة الشمالية. وفي اجتماع عُقد الأسبوع الماضي في أذربيجان، بين مسؤولين إسرائيليين وأتراك، تم التأكيد على أن إسرائيل تعتبر الحكومة السورية الجديدة مسؤولة عن كل ما يحدث في سورية، وأن أفعالها ستؤدي إلى عواقب، بما في ذلك عمل عسكري.
وأبدى الطرفان اهتماماً بخفض التوترات، وشرعا في محادثات لإنشاء آلية تنسيق مشابهة للنموذج الإسرائيلي-الروسي الذي نظم عمليات سلاح الجو الإسرائيلي في سورية. ومع ذلك، فإن الانسحاب الأميركي المخطط له، إلى جانب إطراء ترامب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال اجتماعه مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي، أدى إلى تعزيز الجهوزية في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وترى إسرائيل أن اقتراح ترامب أن يكون وسيطاً بين إسرائيل وتركيا لا يُعتبر بالضرورة مطمئناً لها، خاصة في حال انسحاب القوات الأميركية. وعليه، ليس من قبيل الصدفة، وفقاً للموقع العبري، أن تقول مصادر أمنية إسرائيلية إن الهجمات على قاعدة تيفور هي بمثابة “سباق مع الزمن قبل مغادرة الأميركيين”.
وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إن بلاده تعارض التهديدات الموجهة لسورية وستواصل جهودها للتنسيق مع الأطراف المعنية، بما فيها إسرائيل والولايات المتحدة، لتجنب حصول تصادم في الأجواء السورية، وأضاف في مؤتمر صحافي عقده في منتدى أنطاليا الدبلوماسي الدولي، الأحد الماضي، أن المباحثات التركية مع إسرائيل في أذربيجان بحثت منع وقوع أي مواجهة بين الأطراف في سورية، سواء كانت إسرائيلية أم أميركية.
وأوضح فيدان قائلاً: “هدفنا منع الطائرات في المنطقة من التسبب في وقوع حادث”، كما أشار إلى نية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة سورية، على أن يتم ذلك وفق الظروف المناسبة. وأضاف أن تركيا تساهم في تلبية الاحتياجات الأمنية في سورية على الصعيدين الفني والعسكري، مع وجود محادثات لتجنب المواجهة مع إسرائيل ومنع وقوع حوادث. وكان نائب وزير الخارجية التركي نوح يلماز قد قال، السبت الماضي، إن اللقاء التقني بين وفدين تركي وإسرائيلي في أذربيجان لا يُعدّ اجتماعاً دبلوماسياً، بل آلية لتفادي الصدامات في الأجواء السورية، وقال إن الحديث عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل ممكن فقط بعد وقف الإبادة الجماعية في غزة وتحقيق وقف إطلاق النار.
وأكد يلماز أن إسرائيل تسعى إلى خلق الفوضى في سورية لتبرير وجودها العسكري عبر استهداف مراكز أمنية، محذراً من أنه قد يجري استخدام تنظيم داعش ذريعة لتثبيت هذا الوجود. وفي تصريحات لوكالة الأناضول، قال يلماز إن تركيا والعراق وسورية والأردن ولبنان ستعمل معاً على مكافحة تنظيم “داعش” الإرهابي في المنطقة، وأشار إلى أن مكافحة الإرهاب “قضية استراتيجية بالنسبة لتركيا”، مشدداً على أن مشكلة الإرهاب في سورية مهمة بالنسبة لتركيا، ولكنها في المقام الأول مشكلة سيادية للإدارة السورية، وحث الإدارة على القضاء على مشكلة الإرهاب، لكي تتمكن من بسط نفوذها على كامل البلاد.
وشدد يلماز على أن تنظيم داعش يشكل تهديداً للمنطقة بأكملها، وأن مكافحة تركيا له ترتكز على مخاوف حقيقية وملموسة، وأضاف: “تكمن المشكلة الأساسية هنا في تدخل القوى الأجنبية في المنطقة من خلال تهديد داعش”. وأشار يلماز إلى أن “هذه القضية ليست قضية تركيا فقط، بل هي قضية دول المنطقة. ولهذا السبب اجتمعت تركيا والعراق وسورية والأردن ولبنان، وأنشأنا آلية مشتركة لمكافحة هذا التهديد”، موضحاً أنه في إطار هذه الآلية، سيتم إنشاء مركز عمليات، وقد تم اتخاذ القرار المتعلق بذلك، مشيراً إلى أنه سيتم اتخاذ الإجراءات اللازمة من خلال مركز العمليات، وهو ما “سيزيل ذريعة تدخل الدول الأجنبية في المنطقة”، وفق تعبيره.
العربي الجديد،
——————————————
الآلية الخماسية.. تحالف لحماية السلطة الجديدة في سوريا؟/ منصور حسين
الأربعاء 2025/04/16
رغم ظهور بوادره منذ أسابيع، يأتي الحديث التركي عن تشكيل نظام إقليمي لدعم استقرار سوريا، ليكشف عن جانب من أسباب التصعيد الإسرائيلي الأخير على الأراضي السورية، ما أشعل النقاش حول مستقبل سوريا المنهكة، في ظل تصاعد تهديدات تحولها إلى ساحة حرب جديدة بين دول المنطقة.
وعلى هامش منتدى أنطاليا، أعلن نائب وزير الخارجية التركية نوح يلماز، مساء السبت الماضي، تشكيل آلية إقليمية مشتركة تضم سوريا والعراق والأردن ولبنان وتركيا، بهدف التصدي لـ”الدور الإسرائيلي المزعزع للاستقرار الاستراتيجي في المنطقة”.
وأكد يلماز أن هذه الآلية تأتي كخطوة عملية لتوفير أدوات الدعم والتنسيق ومساعدة دمشق في بناء نوع المقدرات، مشيراً إلى أن “العمل بالآلية سيبدأ قريباً، من خلال مركز التنسيق الذي سيكون في سوريا، والطلبات المتعلقة بمهامها تصدر عن الجانب السوري”.
وسبق وأن عقدت دول جوار سوريا اجتماعاً على مستوى وزراء الخارجية والدفاع والمخابرات، في العاصمة الأردنية عما، في آذار/مارس الماضي، لبحث آليات التعاون لمنع عودة تنظيم داعش، وإيقاف عمليات تهريب المخدرات والسلاح عبر الأراضي السورية.
تحالف لحماية الشرع!
ويبدو أن هذه الدول قد تلقت رسائل تل أبيب، باستهدافها المنشآت العسكرية التي أبدت أنقرة اهتماماً بإشغالها وسط سوريا، وتهديدها المصادر المائية المغذية للمنطقة والأراضي الأردنية، بفرضها واقع عسكري جديد جنوب وغرب درعا عبر قواتها البرية، ودعمها حركات الانفصال في محافظة السويداء، ما عجّل الإعلان عن هذا التحالف.
ويعتبر الباحث في العلاقات الدولية طه عودة أوغلو، أن جديد هذا التحالف الخماسي، هو الإعلان الواضح عن رفض الاعتداءات الإسرائيلية، وتشكيل معزز لدعم السلطات السورية الجديدة، بموافقة الدول الغربية الراغبة باستقرار سوريا.
ويقول أوغلو لـ”المدن”، إن “الآلية تعدّ التحالف الإسلامي الأول لمحاربة تنظيم داعش، وأيضاً إيقاف الهجمات الإسرائيلية، حيث تأتي بعد تأكيدات وزير الخارجية التركي بعدم نية بلاده مواجهة إسرائيل، ومطالبة الإدارة الأميركية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بإيقاف عملياته العسكرية جنوب سوريا، ما دفع تركيا لاستغلال الموقف لرفع مستوى التنسيق بين دول المنطقة وحماية إدارة الرئيس أحمد الشرع”.
ويضيف أن “أنقرة تراعي حساسية موقف الإدارة السورية الجديدة، حيث تلاحظ الخطوات الهادئة والمنسقة مع دول المنطقة، وبشكل خاص الدول العربية، وعليه فإن تعامل الحكومة التركية يأتي من منطلق تبادل المصالح وحقيقة أن استقرار سوريا يعني استقرار المنطقة”.
تزايد النفوذ التركي
ويتفق الضابط والخبير العسكري السوري عماد شحود، مع الحديث حول حماية الإدارة السورية الجديدة، والحفاظ على ساحة البلاد الداخلية من خلال منع الفوضى التي تريدها الدول الرافضة لسلطة الشرع، عبر أذرعها الداخلية.
لكن شحود يعتبر في المقابل، أن اللافت هو توقيت الإعلان، الذي يأتي بعد تزايد الخلافات بين أنقرة وتل أبيب، ما يظهر سوريا كجزء من محور تركي.
ويقول لـ”المدن”، إن “الآلية تعزز من شعور تحول سوريا إلى ورقة ضغط بيد الأتراك، رغم وجود الأردن، ما يجعلها ساحة صراع دائمة، بسبب نزاعات أنقرة وإسرائيل، التي سلمت مؤخراً أسلحة هجومية متطورة لليونان كجزء من مشروع درع شرق المتوسط الهجومي، ما دفع تركيا للرد من خلال الساحة السورية”.
ويضيف “تتشارك دول المنطقة، خصوصاً الأردن المتضرر من خطوط تهريب المخدرات، مع الدول الغربية، الرؤيا الداعمة للاستقرار في سوريا، لتشجيع اللاجئين على العودة، وهو الهامش الذي تتحرك من خلاله هذه الدول، وتحاول الضغط على تل أبيب للإيقاف عدوانها وخططها في سوريا”.
شروط إسرائيلية
لكن عوامل الضغط لا تزال ضعيفة، بحسب شحود، الذي يرى أن “إسرائيل تمتلك أدوات فرض القرار في سوريا، عبر قدراتها العسكرية، وبالتالي فهي قادرة على تطبيق شروطها على سلطات دمشق”.
وتتركز الشروط الإسرائيلية على الجانب العسكري بشكل رئيس، من خلال مطالبتها بنزع السلاح الثقيل وإبعاده مسافة 60 كيلومتراً عن حدودها، بزيادة عن المسافة المتفق عليها سابقاً مع نظام الأسد والمحددة بنحو 20 كيلومتراً.
إضافة إلى مطالب توفير فضاء حر ضمن المجال الجوي السوري، عبر منع امتلاك أو تعطيل أنظمة الرصد والدفاعات الجوية السورية، ما يجعل من وجود أسلحة الدفاع الجوي مثل منظومة “إس-400” الروسية، أو تنصيب قواعد للمضاد الجوي التركي “الهوك”، يتعارض مع مشروع إسرائيل توسعة مجالها الجوي ليضم سوريا ولبنان.
ويشير شحود إلى أن إسرائيل تريد استمرار سيطرتها على قمة حرمون (قمة 1814)، لدعم أهدافها، مقابل انسحابها من بقية مناطق الجنوب المعروفة بمناطق منزوعة السلاح في القنيطرة ودرعا، وهو ما يخفف التوتر مع الأردن.
—————————
إسرائيل تقول إن الانسحاب الأميركي من سوريا «سيضطرها للقيام بحراك ملائم»
القيادات السياسية والعسكرية في تل أبيب تسعى لمنع هذا الانسحاب
16 أبريل 2025 م
منذ أن أبلغت جهات أمنية أميركية نظيرتها الإسرائيلية بأن الولايات المتحدة تعتزم الشروع في تنفيذ انسحاب تدريجي لقواتها من سوريا في غضون الشهرين المقبلين، والقيادات السياسية والعسكرية في تل أبيب تسعى لمنع هذا الانسحاب، وتقول إنه «في الوقت الحاضر يعدّ خطأ فادحاً يساعد قوى الإرهاب». وتهدد بأنه في حال الانسحاب الأميركي «ستضطر إسرائيل للقيام بحراك ملائم».
وقد فهم الحديث عن «حراك ملائم» كتهديد باتخاذ إجراءات احتلالية في سوريا. ويربط المراقبون بين هذا التهديد ومنشورات سابقة في تل أبيب تحدثت عن مخطط لاحتلال منطقة التنف، التي تتخذها الولايات المتحدة قاعدة لقواتها. وادعت إسرائيل أنها تحتاج هذه إلى المنطقة كي تمنع إيران من تجديد ممر تهريب الأسلحة إلى «حزب الله» في لبنان وغيره.
وكان مسؤولان أميركيان قد صرحا لـ«رويترز»، الثلاثاء، بأن الجيش الأميركي يستعد لدمج قواته في سوريا خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، في خطوة قد تُقلص عددها إلى النصف. وللجيش الأميركي نحو ألفي جندي في سوريا، موزعين على عدد من القواعد، معظمها في الشمال الشرقي.
وتعمل القوات الأميركية مع القوات المحلية لمنع عودة ظهور تنظيم «داعش»، الذي استولى في عام 2014 على مساحات شاسعة من العراق وسوريا، قبل دحره لاحقاً. وقال أحد المسؤولين، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إن هذا الدمج قد يقلل عدد القوات في سوريا إلى ألف تقريباً. وأكد مسؤول أميركي آخر خطة التخفيض، لكنه قال إنه لا يوجد يقين بشأن الأعداد، وكان متشككاً إزاء تخفيض بهذا الحجم في وقت تتفاوض فيه إدارة الرئيس دونالد ترمب مع إيران وتحشد قواتها في المنطقة.
ووفقاً لما أوردته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، الثلاثاء، فإن الحكومة الإسرائيلية حاولت حتى الآن ثني واشنطن عن هذه الخطوة، إلا أنها «تلقت إخطاراً بفشل جهودها»، فيما لا تزال المؤسسة الأمنية في تل أبيب تضغط على الإدارة الأميركية لثنيها عن القرار.
ويأتي هذا الإخطار في ظل التوجه الذي يتبناه الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، بشأن إنهاء الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، استناداً إلى مقاربة يؤيدها كبار المسؤولين في إدارته، وفي مقدمتهم نائب الرئيس، جي دي فانس.
وذكرت الصحيفة أن واشنطن عملت على إطلاع تل أبيب على تطورات الملف بشكل دوري، فيما عبّر مسؤولون إسرائيليون خلال محادثات مع نظرائهم في واشنطن، عن «قلق بالغ» من تبعات الانسحاب الأميركي من الأراضي السورية.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول أمني إسرائيلي رفيع أن التقديرات في تل أبيب تشير إلى أن الانسحاب الأميركي قد يكون جزئياً، مضيفاً أن إسرائيل تسعى لتقليص نطاقه قدر الإمكان، خشية أن تملأ تركيا الفراغ في المناطق الاستراتيجية شمال شرقي سوريا.
ويرى المسؤولون الإسرائيليون أن الوجود الأميركي الحالي في تلك المناطق يُعد عامل استقرار، وأن الانسحاب العسكري الأميركي من المنطقة قد «يفتح شهية تركيا» للسيطرة على مواقع ذات أهمية عسكرية في العمق السوري.
وأفادت الصحيفة بأن إسرائيل أبلغت أنقرة وواشنطن على حد سواء، بأن أي تمركز تركي في قواعد عسكرية كقاعدة T4 وسط سورية أو قرب مدينة تدمر يُعدّ «تجاوزاً للخطوط الحمراء»، وقد «يمسّ مباشرة بحرية عمل الجيش الإسرائيلي في الجبهة الشمالية».
وأفاد التقرير بأن الانسحاب الأميركي المرتقب، إلى جانب «العلاقة الودية» التي عبّر عنها الرئيس الأميركي مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، خلال لقائه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في واشنطن مؤخراً، دفع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى رفع مستوى الجهوزية والتأهب. وبحسب الصحيفة، فإن «عرض ترمب للقيام بدور الوسيط بين إسرائيل وتركيا لا يبعث على الاطمئنان، خصوصاً في ظل الاستعدادات الجارية ميدانياً للانسحاب من سوريا»، مضيفة أن الهجمات التي شنتها إسرائيل مؤخراً على T4، تأتي في إطار «سباق مع الزمن» قبل الانسحاب الأميركي.
وخلال اجتماع جرى، الأسبوع الماضي، في أذربيجان بين وفدين إسرائيلي وتركي، شدد الجانب الإسرائيلي على أن تل أبيب تعتبر الحكومة السورية الجديدة مسؤولة عن كل ما يجري على أراضيها، وأن أي تموضع عسكري غير مأذون به «قد يقابَل برد عسكري».
وأشار التقرير إلى أن التحركات الإسرائيلية في وسط سوريا، وتحديداً في محيط قاعدة T4، جاءت بعد زيارات من وفود تركية تمهيداً لإمكانية نشر قوات تركية فيها. وشنت إسرائيل هجمات استباقية عنيفة على تلك القواعد، خوفاً من تموضع تركي دائم يحد من «حرية العمليات الجوية الإسرائيلية».
——————————-
عرب الشرق الأوسط بين قوسَين/ عدي جوني
17 ابريل 2025
مخطئٌ من يظن أن الشرق الأوسط (العربي) سيحظى بنعمة الاستقرار والهدوء، وذلك بسبب تبعات انتقام الجغرافية، فهذا الشرق محاصر بين قوسيَن جغرافيَّين يمتدّان في فوالق انهدامية جيو- سياسية واقتصادية وثقافية، أكّدتها (ولمَّا تزل) وقائع التاريخ ماضياً وحاضراً، وسيبقى إلى أمد طويل ما دام الأمر يتعلّق بصراع المصالح بين القوى الكُبرى، وما يُقال كلّه عن الحرّية والديمقراطية والسلام، ليس سوى حقٍّ يُراد به باطل.
تحدّثت وسائل الإعلام التركية عن اتّصالات فنّية مع إسرائيل في أذربيجان (10/4/2025) لتجنب الصراع في سورية، وكان وزير وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أكّد في مقابلة معه قبل يوم من بدء تلك الاتّصالات وجوب إضافة إسرائيل إلى اتّفاقيات تجنّب الاشتباك، التي عقدتها أنقرة مع روسيا والولايات المتحدة وإيران في سورية، قبل سقوط النظام… هذه الاتصالات، وتصريحات فيدان، تعكسان بوضوح لا لبس فيه ما تحدّث عنه الصحافي الأميركي المخضرم روبرت كابلان في كتابه “انتقام الجغرافية” (نيويورك، راندُم هاوس، 2012)، عندما أشار إلى سلسلتَي جبال طوروس وزاغروس بصفتهما قوسَين يحصران المنطقة الممتدّة من بلاد الشام والرافدين شمالاً، إلى شبه الجزيرة العربية جنوباً، ويتكفّل البحر الأحمر ليغلق هذا القوس (جيولوجياً) من جهة الجنوب الغربي، حدّاً فاصلاً مع القارّة الأفريقية. لكن التأثير يمتدّ ليشمل مصر من المنظور الجيوسياسي.
تقع جبال طوروس جنوب تركيا في موازاة ساحل البحر الأبيض المتوسّط، وتمتدّ في مساحة تبلغ 560 كيلومتراً لتشكّل حاجزاً طبيعياً بين حوض الأناضول وبلاد الشام، كما تشكّل جداراً طبيعياً بين بلاد الرافدين وتركيا. تُعرف هذه السلسلة جيولوجياً باسم “الحزام الألبي”، وهو حزام زلزالي يتضمّن مجموعة من الجبال التي تمتدّ إلى أكثر من 15 ألف كيلومتراً في طول الحافَة الجنوبية لأوراسيا. أمّا سلسلة جبال زاغروس (غرب إيران) فيقارب طولها نحو 1500 كيلومتر من منطقة كردستان العراق شمالاً حتى مضيق هرمز جنوباً. وفي نظرة سريعة على النصّ الجغرافي المحصور بين قوسَين، في مقدور طالب في المرحلة الثانوية أن يتفطّن إلى أن المنطقة تضمّ دولاً غنيةً بموارد الطاقة، وتُشاطئ ممرّات ذات أهمية بالغة للتجارة العالمية؛ مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، وقناة السويس.
تُعدُّ الهضبة الإيرانية، بحسب كابلان، الجغرافيا الأكثر أهميةً في الشرق الأوسط الكبير، تليها هضبة الأناضول بصفتها الأرض الجسر، لكنّهما يتشاركان في انضواء كلّ واحدة منهما في إطار بلد واحد. فتركيا وإيران يتماثلان في أنهما بلدان تحدّهما جبال وسهول واسعة تشرف على الصحراء العربية من الشمال، وتضمّان معاً تعداداً سكّانياً يقارب 150 مليون نسمة، أي أكثر بقليل من عدد سكّان الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية. وعلاوة على أنهما جزءان أساسيَّان، سواء في نظرية العالم البريطاني هالفورد ماكيندر (1861-1947) بخصوص الحزام الصحراوي، أو في نظرية الأطراف لدى نظيره الأميركي نيكولاس جون سبيكمان (1839-1943)، تُعدُّ إيران وتركيا من أغنى الاقتصاديات الزراعية في الشرق الأوسط، إضافة إلى مستوى متطوّر من الصناعة والمعرفة التكنولوجية، بما فيها صناعة السلاح (تركيا) والطاقة النووية (إيران). يشار إلى أن سبيكمان أوضح في مقالته “الجغرافيا والسياسة الخارجية”، المنشورة عام 1938 في المجلة الأميركية للعلوم السياسية (العدد 32)، أن إطار الأرض، الشريط الساحلي الذي يحيط بأوراسيا، أكثر أهميةً من منطقة آسيا الوسطى (ما يسمّى قلب الأرض عند ماكيندر) للسيطرة على القارة الأوراسية. ويقتضي التنبيه هنا أن رؤية سبيكمان كانت أساسَ سياسة الاحتواء التي مارستها الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي السابق بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى تاريخ انهياره.
بالعودة إلى التاريخ، لا يستطيع أحد نكران التأثيرات السياسية والاقتصادية التي لعبتها كلّ من إيران وتركيا في الشرق الأوسط العربي، ومنها الحروب العثمانية الصفوية (1532-1555). ولا يخفى على أحد أن الصراع الفارسي التركي لا يقتصر على مسألة النفوذ الجيوسياسي فحسب، بل يندرج تحت إطار فالقٍ انهداميٍ عميق بين “الخلافة الإسلامية السُّنية و”الإمامة الشيعية”، وكان واحداً من أشد عوامل تأجيج الصراع بينهما تأثيراً، لينسحب في الوقت ذاته على استقطابات داخلية في المنطقة برمّتها. ومع تبدّل الظروف السياسية وصولاً إلى الوقت الراهن، واكتساب المنطقة موقعاً استراتيجياً مهمّاً يتجاوز الحدود الإقليمية، برزت الدولتان بصفتهما قوّتَين إقليميتَين واحدة نفطية (إيران) والثانية مائية، تسعى اليوم لكي تكون محطّةً رئيسةً لأنابيب الغاز إلى أوروبا. مع سقوط الشاه في إيران عام 1979، وتسلّم زمامَ الحكم نظامٌ ثيوقراطي، يقوم أساساً على مبدأ “ولاية الفقيه”، تحرّكت الفوالق الانهدامية بين الطرفَين نحو صراع أيديولوجي شديد الوضوح، تعزّز أكثر وأكثر مع وصول حزب العدالة والتنمية (الذي ينضوي تحت عباءة الإخوان المسلمين) إلى سُدّة الحكم في تركيا في الانتخابات البرلمانية عام 2002، واستمراره فيها منذ ذلك الحين. وما بين سعي طهران الدؤوب لتغيير المعادلات الإقليمية واتهامها بتصدير الثورة وإقامة “هلال شيعي” من جهة، وبين العثمانية الجديدة الطامحة لاستعادة أمجادها من جهة أخرى، بدا الصراع بين القوسَين يتّخذ أشكالاً مختلفة.
بالعودة إلى تصريحات فيدان، ليس مستغرباً أن يجد المرء في خلفية كلماته ما يُعرف باسم “الميثاق الملّي”، وهو الدستور السياسي الرسمي لحرب الاستقلال التركية (1919-1923) التي خاضتها الحركة الوطنية ضدّ وكلاء الحلفاء؛ اليونان في الجبهة الغربية، وأرمينيا في الجبهة الشرقية، وفرنسا في الجبهة الجنوبية، ومناصري الخلافة في عدّة مدن، بالإضافة إلى المملكة المتحدة وإيطاليا في القسطنطينيّة (إسطنبول) بعد ما احتُلَّت أجزاءٌ من الدولة العثمانية، وقُسِّمت بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سُدّة الحكم، تسيّدت فكرة العثمانية الجديدة الخطاب السياسي، فعمل المسؤولون الأتراك لإحياء الميثاق الملّي وأدلجة التاريخ العثماني بصفته الأساس التاريخي لكيانهم السياسي. عندما تسلّم منصب وزير الخارجية عام 2009، كان أحمد داود أوغلو واضحاً في قوله: “لنا إرث باقٍ من العهد العثماني؛ يقولون عثمانيةٌ جديدةٌ، نعم نحن العثمانيون الجُدد، نحن يتحتّم علينا الاهتمام بدول منطقتنا كما الاهتمام بدول شمال أفريقيا”. وفي العام 2016، صرّح رجب طيب أردوغان (الذي كان حينئذ رئيساً للوزراء) قائلاً: “إذا فهمنا الميثاق الملّي فإننا نفهم جيّداً مسؤوليتنا في سورية والعراق… يتحتّم علينا أن نكون من جديد أصحاب الميثاق الملّي”.
تتضح اليوم الصورة على نحو أكبر بعد إسقاط نظام بشّار الأسد وتضعضع محور المقاومة، وتسلّم الإدارة الجديدة الحكم في دمشق بفصائلها التي تنتمي إلى حركات جهادية إسلامية تعادي إيران مذهبياً، وتلقى دعماً من تركيا. هذا المنحنى في تغير اتجاه الفالق الانهدامي من مع إلى ضدّ، تبرز مسألة أخرى قد يظنّها بعضهم خارج القوسَين، لكنّها في الحقيقة هي المنطلق والهدف، والمقصود بذلك تصفية القضية الفلسطينية وجودياً. فتركيا التي احتاجت (بدعم غربي كبير) إلى أكثر من ثلاثين عاماً لإخراج إيران من سورية (وهي رغبة إسرائيلية بالتأكيد)، تجد نفسها في الموقع ذاته من حيث إنه لن يُسمح لها بالحلول محلّ إيران. صحيح أن تركيا لن تتخلّى عن براغماتيتها السياسية، ولن تشكّل محوراً صريحَ العداء لإسرائيل، لاعتبارات عديدة، أكثرها أهميةً أنها عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لكنّها في الوقت ذاته تقع في الفالق الانهدامي القومي والمذهبي نفسه، كما هو الحال في ما يخص طهران، وهذا بدوره يُحيلُنا على أن عوامل تفكيك تركيا وتقسيمها تبقى قائمةً إن انحرفت أنقرة عن المطالب الأميركية الإسرائيلية. ولعلّ المديح الذي أسبغه الرئيس دونالد ترامب على أردوغان أمام ضيفه نتنياهو في البيت الأبيض، ليس سوى رسالة موجّهة إلى الاثنين معاً، لكن يبقى كيان الاحتلال الإسرائيلي بيضةَ القبّان في الميزان الأميركي. وفي مقالة له نُشرت نهاية مارس/ آذار الفائت، في صحيفة حرييت التركية، أشار الكاتب والمحلل السياسي المعروف مراد يتكين إلى أن ترامب يريد من صديقه أردوغان “التعاون الوثيق بين تركيا والولايات المتحدة لكيلا تشكّل سورية قاعدةً للإرهاب وممرّاً للنشاطات التخريبية لإيران، ونزع سلاح حماس”، وذلك بناء على تسريبات عن اللقاء الذي جمع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ونظيره الأميركي ماركو روبيو.
ألا تستدعي تصريحات فيدان حول ضرورة تجنّب الاشتباك مع “إسرائيل” في سورية (التي تتنازعها دعوات الفدرلة التي ازدادت حدّتها بعد مجازر الساحل) إلى التفكير في أن حدود سايكس بيكو لم تعد مقبولةً، وأن ثمّة توافقاً على تقسيم سورية إلى أربع مناطق نفوذ على الأقلّ، واحدة في الشمال لتركيا، وأخرى في الجنوب لإسرائيل، وثالثة لروسيا في الغرب، ورابعة لأميركا في الشرق؟
إنها الفوضى الخلاقة التي بشّرتنا بها كوندوليزا رايس، التي كانت وزيرة الخارجية الأميركية عام 2006. يا ترى ما هو السرّ وراء هذا كلّه؟… نجد الجواب واضحاً في كتاب سمير أمين “إمبراطورية الفوضى” (نقلته إلى العربية سناء أبو شقرا، دار الفارابي، بيروت،1991)، عندما يقول إن الرأسمالية نظام عولمي، بمعنى “إن عملية تراكم الرأسمال التي تفرض دينامية هذا النظام تتشكّل من طريق عالمية قانون القيمة في سوق عالمية مبتورة (أي سوق مقتصرة على السلع والرساميل ومستثنى منها قوة العمل)، هذه العملية تنتج بالضرورة الاستقطاب العالمي (التناقض بين المراكز والأطراف). الاستقطاب ملازمٌ للرأسمالية ولا يمكن تفسيره بعوامل مختلفة وعابرة داخلية أو خارجية تميّز التشكيلات الاجتماعية التي تكوّن النظام العالمي”. لعلّ من أفضل الأمثلة على هذا الاستقطاب هو تكتّلات الحرب الباردة بين المعسكرَين، الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي، بل لم تكن حتى دول عدم الانحياز بمنأى من هذا الاستقطاب، كما أن “أزمات الشمال والجنوب”، كما يقول سمير أمين، “ظلّت بشكل ما تندرج في منطق الاستقطاب بين الشرق والغرب”. ويضيف موضحاً: “إن الأطراف التي يعيش عليها أربعة أخماس سكّان الكوكب والقسم الأكبر من احتياطي جيش العمل وثرواتٍ طبيعية ومنجمية لا غنىً عنها، يجب أن تظلّ في النظام وأن تخضع لمنطق توسّع الرأسمالية، حتى ولو كان توسّعاً استقطابياً”، وهنا نجد مصدراً أساسياً “للفوضى التي ستشهدها العقود المقبلة”.
العربي الجديد
——————————
صحيفة: سوريا الموحدة في صلب المحادثات التركية الإسرائيلية السرية
2025.04.17
كشفت صحيفة تركية عن بعض مضامين المحادثات السرية بين تركيا وإسرائيل بشأن خفض التوتر ومنع الصدام في سوريا، وذلك خلال اجتماع وفدي البلدين الذي عُقد في مدينة باكو بأذربيجان، الأسبوع الفائت.
وقالت الكاتبة هاندي فرات -المقربة من الحكومة التركية- في مقال نشرته صحيفة “Hürriyet
“، إن أنقرة استعرضت خطوطها الحمراء بوضوح خلال المحادثات في أذربيجان وأصدرت تحذيراً بخصوصها.
وأكدت أن تركيا “أغلقت الباب أمام سيناريو تقسيم سوريا، وهو الذي كان مطروحاً على أجندة بعض المسؤولين الإسرائيليين. ولا تراجع عن فكرة الدولة السورية الواحدة”.
وأضافت: “أكدت أنقرة أن الهجمات الإسرائيلية في سوريا لا تضمن أمن إسرائيل، بل على العكس قد يصبح الأمن أكثر صعوبة وخاصة في حال انخرطت أي ميليشيات على خط المواجهة”.
وأردفت: “من غير المقبول رغبة إسرائيل في السيطرة على الأجواء السورية… إن عدم ثقة إسرائيل بالحكومة الجديدة التي تم تشكيلها في سوريا غير صحيح أيضاً. وتركيا لم ولن تقبل وجهة النظر هذه”.
وضوح موقف أنقرة
وتتابع الكاتبة فرات قائلة إن “موقف أنقرة واضح، وهو باختصار: سوريا واحدة وموحدة كما أُعلنت للعالم أجمع. وبأن أمن واستقرار سوريا يؤثر بشكل مباشر على تركيا ودول الجوار السوري الأخرى، ولهذا السبب لن يتم تقديم أي تنازلات في الآلية التي وضعتها دول جوار سوريا”.
وأشارت إلى أن أنقرة تعمل على تنفيذ الآلية التي جرى إنشاؤها مع دول الجوار لمحاربة تنظيم “داعش” الذي ينشط في بعض المناطق السورية.
من ناحية أخرى، تضيف الكاتبة، بأن أنقرة أكدت على أنه “في إطار التعاون الثنائي بين الدول، فإن وجود الاتفاقيات العسكرية الثنائية، وتحديداً بين تركيا وسوريا، على جدول الأعمال، يمثّل حقيقة جيوسياسية في المنطقة”، وفق ما أورد المصدر.
————————–
العلاقة التركية – الإسرائيلية… برعاية أميركيّة!/ خيرالله خيرالله
تخفيف حدة التشنج بين تركيا وإسرائيل يأتي في وقت لا يزال الوضع اللبناني مثيرا للاهتمام والقلق خصوصا أنّ إيران لم تقتنع بعد بأنّ لا مستقبل لـ”حزب الله” في ضوء فقدانها سوريا.
الأربعاء 2025/04/16
لا يمكن المرور مرور الكرام على تشكيل “لجان فنية” بين تركيا وإسرائيل من أجل تخفيف حدّة التوتر بينهما في سوريا. اعتمدت إسرائيل في الفترة الأخيرة لحظة تصعيدية في التعاطي مع الوجد التركي في سوريا، خصوصا بعدما باشرت أنقرة تحركات يفهم منها أنّها تنوي إقامة قواعد عسكريّة في هذا البلد العربي ذي الأكثريّة السنية والتركيبة المتنوعة.
من الواضح أنّ التفاهمات التي يمكن أن تحصل بين تركيا وإسرائيل مرتبطة بالكلام الإيجابي الذي صدر عن الرئيس دونالد ترامب تجاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. حصل ذلك في أثناء استقبال ترامب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي يبدو أنّه فهم الرسالة الرئاسية الأميركية التي فحواها أنّه مطلوب ترطيب الأجواء مع تركيا.
لم يبخل ترامب بالإشادات ذات الطابع الشخصي بأردوغان. ذهب إلى حد تهنئته على إحداث التغيير الذي شهدته سوريا، وهو تغيير متمثل في زوال الحكم العلوي للمرّة الأولى منذ العام 1966 عندما استولى الضابطان صلاح جديد وحافظ الأسد على السلطة. كلما مرّ يوم يتبيّن كم أن هذا التغيير مهمّ على صعيد المنطقة كلّها، خصوصا أنّه وجه ضربة قويّة للمشروع التوسعي الإيراني الذي اعتمد على “الهلال الشيعي” الذي يربط طهران ببيروت مرورا ببغداد ودمشق.
ستساعد التهدئة بين سوريا وتركيا في المزيد من العزل لإيران التي دخلت في مفاوضات مع الولايات المتحدة عن طريق سلطنة عُمان دفاعا عن نظامها. أكثر من ذلك، يأتي تخفيف حدة التشنج بين تركيا وإسرائيل في وقت لا يزال الوضع اللبناني مثيرا للاهتمام والقلق إلى حد كبير وبشكل متزايد، خصوصا أنّ إيران لم تقتنع بعد بأنّ لا مستقبل لـ”حزب الله” وسلاحه في ضوء فقدانها سوريا. يثير الوضع اللبناني الاهتمام والقلق من زاوية احتلال إسرائيل لأراض لبنانية وما ينطوي عليه ذلك من احتمالات حصول تصعيد عسكري من جهة والوضع غير المستقر على طول الحدود اللبنانية – السورية من جهة أخرى.
لا يزال هناك، بكلّ أسف، رهان إيراني على بقاء سوريا معبرا إلى لبنان، علما أنّ هذا الموضوع صار محسوما. صار محسوما بعدما خرجت سوريا من “الهلال الشيعي” نهائيا، وهذا ما ترفض “الجمهورية الإسلاميّة” أخذ العلم به وبالنتائج المترتبة عليه. هل يقنعها التطور الذي طرأ على العلاقات التركيّة – الإسرائيلية بأن لا خيار أمام “الجمهوريّة الإسلاميّة” غير التخلي عن أوهامها اللبنانية والسوريّة في آن؟
عاجلا أم آجلا، ستكتشف إيران أنّ التغيير الذي حصل في سوريا من النوع الذي لا عودة عنه وذلك بغض النظر عن بقاء أحمد الشرع وفريقه في السلطة أو عدم بقائه.
في خريف العام 1970، استولى حافظ الأسد على السلطة وتفرّد بها. كان هدفه الدائم وضع اليد على لبنان تحت شعار “شعب واحد في بلدين.” في الواقع، لعب الأسد دورا كبيرا في تفجير لبنان منذ ما قبل ذلك اليوم المشؤوم، في 13 نيسان – أبريل 1975. أشعل حافظ الأسد الوضع في لبنان عن طريق إغراقه بالسلاح. قبل العام 1975، سلّح الفلسطينيين وسلح ميليشيات مسيحية معادية للمنظمات الفلسطينية التي لم يكن لديها من هدف سوى نشر الفوضى في كلّ لبنان. عمل كلّ ما يستطيع من أجل تبرير الحاجة إلى سيطرة الجيش السوري على الأراضي اللبنانية بحجة حماية المسيحيين أحيانا وضبط المنظمات الفلسطينية المسلحة في أحيان أخرى. نجح في ذلك عبر وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر الذي حصل على ضوء إسرائيلي سمح بدخول الجيش السوري إلى لبنان في العام 1976.
من يقنع إيران التي أرسلت الدفعة الأولى من “الحرس الثوري” إلى لبنان بواسطة حافظ الأسد في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف العام 1982 بأن سوريا تغيّرت، بل تغيّرت جذريا؟
تغيّرت سوريا إلى درجة صارت ساحة لصراع تركي – إسرائيلي تريد الولايات المتحدة الحؤول دون تفاقمه. دخلت سوريا ومعها لبنان مرحلة جديدة مختلفة عن الماضي. تطرح هذه المرحلة أسئلة عدّة ثابت فيها أمر واحد وحيد هو أن لا عودة إلى للهيمنة الإيرانية على لبنان وسوريا. هذا ما أثبتته الأحداث الأخيرة التي شهدها الساحل السوري في السابع والثامن من آذار – مارس الماضي. إذا كان من درس يمكن استخلاصه من هذه الأحداث، التي شهدت تمردا علويا قمع بقسوة، فهو درس على إيران التعلّم منه. فحوى الدرس أن لا عودة لـ”الحرس الثوري” إلى سوريا من جهة وأن مستقبل سوريا رهن بإيجاد صيغة تعايش بين تركيا وإسرائيل… وإن برعاية أميركيّة. لن تقبل إسرائيل بأيّ شكل حلول تركيا مكان إيران في سوريا. لا بد من الآن طرح أسئلة تتعلّق بمستقبل العلاقة التركية – الإسرائيلية وما إذا كان في الإمكان تفادي صدام بين الجانبين في سوريا نفسها، وهو صدام ستكون له من دون شكّ انعكاسات سلبية على لبنان. يبدو أن إدارة ترامب باتت تعي أبعاد أيّ صدام تركي – إسرائيلي في سوريا وانعكاساته على المنطقة كلّها، بما في ذلك لبنان، البلد المغلوب على أمره.
من المفيد مراقبة المسؤولين اللبنانيين، على كلّ المستويات، لما يدور في سوريا. من المفيد أكثر العمل على جعل كل من يعنيه الأمر، خصوصا ما بقي من “حزب الله” وبعض الرموز الشيعية التي تعاونت مع الحزب، استيعاب أنّ لا عودة لإيران لا إلى سوريا ولا إلى لبنان. إضافة إلى ذلك كلّه، من المفيد مراقبة تطور العلاقة التركيّة – الإسرائيلية في وقت ليس فيه أمام إسرائيل سوى التعاطي مع الاعتراف بوجود علاقة في العمق بين الحكم السوري الجديد وتركيا. كيف ستنظم إدارة ترامب العلاقة بين الجانبين. هذا السؤال بين أسئلة كثيرة تطرحها مرحلة ما بعد خروج إيران من سوريا… ومن لبنان أيضا.
إعلامي لبناني
العرب
—————————–
=======================