رهف الدغلي: هل مازلنا نُقدّم صورة حالمة عن المرجلة؟

إرث السلطوية البعثية والهويات العسكرية
13 آذار 2025
عقود من الحكم السلطوي وأربعة عشر عامًا من الحرب كرّست الهويات العسكرية، مما يشكّل عائقًا أمام بناء مواطنة شاملة حقيقية وإعادة تصوّر الانتماء الوطني، كما تكتب الدكتورة رهف الدغلي. في هذا الحوار مع سوريا ما انحكت حول كتابها الأخير “تقديم صورة حالمة عن المرجلة في سوريا البعثية: الجندر، الهوية، والأيديولوجيا” (Romanticizing Masculinity in Baathist Syria: Gender, identity and Ideology)، تسلّط رهف الضوء على الأولويات التي ينبغي أن تركز عليها سوريا لتجاوز المرجلة العسكرية.
في كتابك، تناولتِ كيفية بناء النظام للمرجلة العسكرية في تاريخ سوريا المعاصر. هل يمكنك إخبارنا أكثر عن بحثك؟ كيف نشأت هذه الفكرة، وفي أي سياق أو مجال أُجرِيَ هذا البحث؟
كامرأة سورية نشأت تحت الحكم البعثي، أثّرت موقعيّتي بعمق على بحثي. لطالما اعتقدت أن السردية السائدة حول قمع النساء في سوريا تُركّز كثيرًا على التقاليد الدينية، إلا أن تجربتي الشخصية كشفت لي واقعًا مختلفًا. فقد عشت في ظلّ دولة سلطوية غير دينية رسميًا، عملت بفعالية على تقييد التعبيرات الدينية في المجال العام. بالنسبة لي، لم تكن القيود على الأدوار الجندرية نابعة من المؤسسات الدينية، بل من الأيديولوجيا القومية العلمانية التي نشرها النظام.
منذ صغري، نشأتُ في ظل نظام التعليم البعثي، الذي كرّس خطابًا قوميًّا جندريًّا. كان علينا حفظ كلمات المفكرين القوميين الأوائل وأداء طقوس الولاء للنظام. أُرسل الصبيان إلى تدريبات شبه عسكرية، بينما اقتصر دور الفتيات على مهارات تقليدية مثل الخياطة والطهي. كانت الرسائل واضحة: الرجال هم أبطال الأمة الفاعلون، في حين حُصرت النساء في أدوار مساندة. عزّز هذا التلقين الممنهج إحساسًا بالأخوّة الوطنية التي همشت النساء، مما أشعرنا بأننا غريبات عن سرديّتنا الوطنية.
وقد تغيّر موقفي الشخصي من الحجاب. ففي فترة معينة، اعتبرت أن ارتداء الحجاب هو وسيلة لمقاومة سلطوية الدولة البعثية العلمانية، واستعادة لوكالتي الشخصية في مجتمع يسعى إلى توحيد الهويات وقمع التعبيرات الدينية. لكنني كنتُ في الوقت نفسه ضد السلطة الدينية التي تفرض الحجاب على النساء. تعكس هذه الازدواجية إيماني بأن استقلالية المرأة يجب أن تكون محور أي نقاش. إن تقاطع العلمانية والدين والجندر في سوريا معقد، ويكشف كيف تستغل الأنظمة السلطوية الخطابات العلمانية والدينية معًا لترسيخ سيطرتها. يركّز بحثي على أهمية تمكين الأفراد من بناء هوياتهم بعيدًا عن أي فرض خارجي، سواء من قبل الدولة، المؤسسات الدينية، والأعراف الثقافية.
فيما بعد، أدركت أنه حتى بعد الانتفاضة في عام 2011، استمرت نفس سرديات المرجلة العسكرية عند جميع الأطراف. وعلى الرغم من الآفاق الجديدة التي حملتها الثورة، ظلّت لغة البطولة والتضحية، التي غالبًا ما تستثني النساء، مهيمنة. أدركتُ أن هذه السردية القومية الحالمة لم تكن جديدة، بل متجذرة في خطاب النظام البعثي لعقود. لذلك لم يكن القمع الديني هو العامل الرئيسي الذي شكّل تجربتي، بل التلقين القومي العلماني، وهو ما دفعني إلى دراسة دور القومية والعسكرة في تشكيل الذويّات المُجندرة في سوريا.
نحن اليوم أمام منعطف حاسم في تاريخ سوريا المعاصر، حيث يُرجَّح أن يستمر إرث السلطوية البعثية والهويات العسكرية في إلقاء ظلاله على البلاد لعقود قادمة. برأيك، ما هي أبرز التحديات والآثار السلبية التي برزت بوضوح في هذه المرحلة الأولى من عملية الانتقال؟
تقف سوريا عند مفترق طرق حاسم، حيث تنتقل من عقود من الحكم السلطوي البعثي إلى مرحلة جديدة تتشكل ملامحها من خلال انتصارات الفصائل المتمردة. ورغم أن هذا التحول قد يشير إلى نهاية نظام طال أمده، إلا أنه يحمل معه إرثًا مقلقًا، وهو استمرار المرجلة العسكرية كخطاب ثقافي وسياسي مهيمن. لا يزال السرد الوطني متمحورًا حول صورة المقاتلين الذكور بوصفهم الأبطال الذين “حرروا” البلاد، مما يعزّز إطارًا جندريًا للإدماج الوطني يستبعد النساء ويحدّ من أشكال المشاركة المدنية الأخرى.
ما يثير قلقي هو أن هذا التركيز على البطولة الذكورية قد يؤدي إلى إعادة إنتاج شكل جديد من القومية الإقصائية، تعكس إرث البعث، ولكن تحت شعار مختلف. فالمقاتلون المعارضون، الذين باتوا يُصوَّرون كرموز للحرية الوطنية، قد يستمرون في فرض هيمنتهم على المشهد السياسي السوري من خلال قيم عسكرية رجولية مفرطة، مما قد يعيق بناء هوية وطنية تعددية تعترف بالمساهمات المدنية جنبًا إلى جنب مع الإنجازات العسكرية.
من الطبيعي أن تحتفي الدول الخارجة من النزاعات ببطولاتها العسكرية، ولكن على سوريا أن تكون حذرة من إعادة إنتاج سردية وطنية تحصر مفاهيم التحرير والحكم ضمن إطار رجولي حصري. يكمن الخطر في إعادة إنتاج النموذج البعثي، حيث ارتبط الولاء الوطني بالخدمة العسكرية وقوة المرجلة. عوضًا عن ذلك، هناك حاجة ملحّة لتنويع رموز الهوية الوطنية، والاعتراف بأدوار النساء، والنشطاء المدنيين، والمجموعات المهمشة في إعادة بناء سوريا.
لتجاوز المرجلة العسكرية، ينبغي أن تركز سوريا على:
إعادة بناء السرد الوطني: تطوير خطاب يحتفي بأشكال البطولة غير العسكرية، مثل بناء السلام، والتعليم، والعمل الإنساني، بحيث يتحول التركيز من المقاتلين كمنقذين إلى نموذج وطني أكثر شمولًا قائم على المواطنة.
حكم شامل: ضمان عدم احتكار المقاتلين السابقين للسلطة السياسية بعد الصراع، وإعطاء الأولوية للقيادة المدنية وتمثيل مختلف الأصوات والتوجهات.
سياسات تراعي الاعتبارات الجندرية: تنفيذ سياسات انتقالية تراعي الاعتبارات الجندرية، وتعترف بدور النساء في الثورة وإعادة الإعمار، من خلال مراجعة المناهج الدراسية، والخطابات الإعلامية، والخطاب العام لكسر الصور النمطية الجندرية.
ورغم أن الشخصيات العسكرية قد تساهم في تشكيل الهوية الوطنية بعد الصراع، ينبغي على سوريا أن تسعى إلى بناء سردية جديدة تتجاوز رموز المرجلة القومية. لا يجب بناء مستقبل البلاد على إرث المقاتلين الذكور الأبطال وحدهم، بل على هوية جماعية تحتفي بالمشاركة المدنية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة الجندرية. وحده هذا النهج يمكن أن يمهّد الطريق أمام سوريا للتخلص من إرث السلطوية والعسكرة الذي طبع ماضيها.
كما ذكرتِ، هُمِّشت النساء وحُصِرنَ في أدوار رمزية، كأمهات وضحايا، في حين صُوِّر الرجال كأبطال وحماة للهوية الوطنية. ومع ذلك، أثبتت الثورة السورية، إلى جانب عقودٍ من النضال النسوي رغم القمع والعنف، أن النساء السوريات يمتلكن إرادة راسخة لإعادة تشكيل هذه السردية. كيف يتجلى ذلك في كتابك وفي التاريخ الحديث؟ وما هي الأدوار والإجراءات التي يمكن أن تساهم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في إحداث تغيير فعلي ومستدام؟
في كتابي، أتناول كيف هُمِّشت النساء تاريخيًا في سوريا في السردية القومية، حيث حُصرن في أدوار رمزية، غالبًا كأمهات وضحايا، بينما جرى تصوير الرجال كأبطال وحماة للهوية الوطنية. ومع ذلك، ورغم هذه القيود، أثبتت النساء السوريات قدرة استثنائية على تحدي هذه السرديات وإعادة تشكيلها.
على مدى عقودٍ من السلطوية البعثية، صُوِّرّت النساء كمجرد حاملات للهوية الوطنية، لا كشريكات في تشكيلها. غير أن الثورة السورية والحركات النسوية المختلفة نجحت في كسر هذه الصورة النمطية. لم تقتصر مشاركة النساء على الانخراط في الثورة، بل كنّ في طليعة المبادرات، ونظّمن الاحتجاجات، وساهمن في المقاومة الفكرية والثقافية، متحديات بذلك النظام والهياكل الأبوية المتجذرة في المجتمع.
في الفصل الأخير من كتابي، أسلط الضوء على جهود النسويات السوريات في مواجهة هذا التهميش، حيث طالبن بإعادة تعريف الهوية الوطنية لتشمل النساء كمواطنات متساويات، وليس كأدوار ثانوية ضمن إطار أبوي. تتجاوز هذه الجهود مجرد الإدماج الرمزي، إذ تسعى إلى إحداث تغييرات هيكلية في أنظمة الحكم، والتشريعات، والمعايير المجتمعية.
أحد المحاور الأساسية التي أُشدِّد عليها هو ضرورة إعادة بناء الهوية الوطنية السورية بطريقة تتجاوز الثنائيات الجندرية التقليدية. تمثل فترة ما بعد الحرب فرصة لإعادة تعريف المواطنة السورية. إن قيادة النساء للحركات السياسية والاجتماعية خلال الثورة وما بعدها توفر أساسًا قويًا للطعن في هوية المرجلة العسكرية التي رسّخها النظام البعثي. ويشمل ذلك الاعتراف الحقيقي بمساهمات النساء في الثورة وضمان أن تكون أصواتهن محورية في عملية إعادة بناء سوريا.
كما يشدد بحثي على ضرورة رفض السردية التي تربط قوة الدولة ببطولة المرجلة. فقد عززت فكرة “القومية الذكورية القائمة على القوة العضلية” (muscular masculinity)، التي أتناولها في كتابي، الهياكل الجندرية الهرمية وأعاقت بناء هوية سورية جامعة وشاملة. للتحرر من هذا الإرث، يجب أن تتبنى سوريا نموذجًا قائمًا على القومية المدنية، حيث يُعترف بمساهمات جميع المواطنين، وتُحترم، بغض النظر عن الجندر.
في التاريخ الحديث، لعبت النساء دورًا رياديًا في قيادة مبادرات بناء السلام، والتعليم، والإدارة المحلية. مما جعل مساهماتهن ركيزة أساسية في مرحلة الانتقال والمصالحة الحالية في سوريا. إن تعزيز أصوات النساء وتسليط الضوء على إنجازاتهنّ يساهم في بناء هوية وطنية أكثر شمولًا وتعددية.
لذلك، من الضروري إخضاع إرث القومية البعثية لنقد معمّق يهدف إلى تفكيك الهياكل الأبوية التي عزّزها. يشكّل الدور المحوري الذي لعبته النساء في الثورة، إلى جانب نضالهن المستمر، عنصرًا أساسيًا في هذه العملية. تسعى النسويات السوريات إلى إعادة صياغة سردية وطنية تتجاوز المرجلة العسكرية، وتعترف بالنساء كشريكات متساويات في رسم ملامح مستقبل سوريا.
تُعد المرجلة والبطولة من السمات البارزة التي لا تقتصر على السياقات العسكرية، بل تمتد إلى مجالات أخرى، بما في ذلك أدوار الناشطين المدنيين في الثورة السورية. حتى في هذه المساحات، غالبًا ما يُسلَّط الضوء على الرجال أكثر من النساء، رغم الإنجازات البارزة التي حققتها النساء في المجالات الثقافية والسياسية. كيف ترين ارتباط هذا التفاوت بالهويات العسكرية؟
نعم، أوافق تمامًا. من اللافت أن مفهوم البطولة لم يقتصر على المجال العسكري، بل امتد أيضًا إلى النشاط المدني، خاصة خلال الثورة السورية. ورغم أن النشطاء المدنيين سعوا إلى تعزيز القيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فإن سرديّاتهم غالبًا ما عكست مفاهيم بطولة المرجلة التقليدية. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما صُوِّر النشطاء المدنيون الذين خاطروا بحياتهم في توثيق الفظائع أو تنظيم الاحتجاجات كأبطال وطنيين، حيث جرى تأطير أفعالهم ضمن نفس خطاب الشجاعة والتضحية الذي استخدمه النظام طويلًا في تمجيد الجنود والمقاتلين.
تعزّز هذه السردية الإشكالية الأوسع المرتبطة بالهويات العسكرية في سوريا. فحتى في السياقات غير العسكرية، كان يُحتفى بالنشطاء المدنيين الذكور باعتبارهم يجسدون سمات البطولة، بينما حُظيت مساهمات الناشطات، اللواتي لعبن أدوارًا محورية في تعبئة المجتمعات والمطالبة بالحقوق، باعتراف أقل بكثير. يعكس ذلك خللًا أعمق في التصورات الاجتماعية، حيث تُربط الذكورة بالقيادة والبطولة، مما يخلق صراعًا مستمرًا للاعتراف بأشكال بديلة من الفاعلية والقيادة تتجاوز الأطر الجندرية التقليدية.
يُعد تفكيك هذه الهوية العسكرية خطوة أساسية في مرحلة ما بعد الصراع في سوريا. ينبغي على البلاد تبني تعريف للبطولة أكثر شمولًا، يعترف بمساهمات جميع المواطنين، بغض النظر عن الجندر، في إعادة بناء المجتمع السوري. إن تجاوز النموذج الذكوري الراسخ يفتح المجال لفهم أكثر تعددية وانفتاحًا لمفاهيم البطولة والفاعلية، سواء في المجال السياسي أو المدني.
ما الذي يميّز المرجلة السورية عن نظيراتها في البلدان المجاورة؟ وما هي نقاط التشابه أو الاختلاف؟
صعود المرجلة العسكرية ليس ظاهرة فريدة في سوريا، بل يمثل اتجاهًا عالميًا شائعًا في العديد من السياقات ما بعد الاستعمارية. في بحثي، أعتمد بشكل واسع على نظريات ما بعد الاستعمار، لا سيما أعمال هومي بهابها، نيرة يوفال-ديفيس، وسيكاتا بانيرجي، الذين حللوا تقاطعات القومية والجندر والهوية. على سبيل المثال، تسلط بانيرجي، في دراستها حول المرجلة العسكرية في الهند، الضوء على كيفية قيام الدول ما بعد الاستعمارية ببناء هوياتها الوطنية على أسس عسكرية، حيث يُصوَّر الرجال كحماة للأمة، بينما تُقدَّم النساء كرموز للنقاء الثقافي. يساعد هذا الإطار التحليلي في فهم كيف قامت سوريا البعثية، إلى جانب العديد من الأنظمة العربية الأخرى، بصياغة هويّاتها الوطنية.
في العالم العربي، ارتبطت القومية غالبًا بالقومية العربية، التي كانت ذات طابع رجولي بامتياز. فالصورة الرومانسية للمحارب العربي البطل، التي هيمنت على الأيديولوجيا البعثية، متجذرة في مفهوم الدفاع عن الأمة ضد الغزاة الأجانب. يعزّز هذا النهج سردية تكرّس القوة والتضحية والولاء كفضائل رجولية أساسية للحفاظ على السيادة الوطنية. وغالبًا ما تتجلى هذه القومية الأولية، التي تستند إلى مفاهيم الدم المشترك، والتراث، والنقاء الثقافي، في خطاب مشبع بقيم المرجلة العسكرية، مما يؤدي إلى تهميش النساء في السردية الوطنية، وإبقائهن في أدوار رمزية بدلاً من الاعتراف بهن كفاعلات رئيسيات في بناء الأمة.
ما يميّز المرجلة في السياق السوري هو الاستخدام البعثي الخاص للمرجلة العسكرية كأداة لترسيخ الحكم السلطوي. على عكس بعض الدول المجاورة التي شهدت تحولًا تدريجيًا نحو أطر قومية مدنية أكثر انفتاحًا، بقيت سوريا غارقة في نموذج قومي ثقافي يفرض الولاء القسري للدولة والقائد. عزز النظام هذا النموذج عبر التدريب شبه العسكري للشباب، والتمجيد المستمر للخدمة العسكرية، مما أدى إلى ترسيخ هوية وطنية شديدة المرجلة.
لكن من المهم الإشارة إلى أن هذا النموذج العسكري ليس مستدامًا على المدى الطويل. فالانتقال نحو القومية المدنية، القائمة على الحقوق والمسؤوليات وسيادة القانون بدلاً من التجانس العرقي أو الثقافي، يمثل خطوة أساسية لبناء عقد اجتماعي متماسك في سوريا ما بعد الصراع. تتيح القومية المدنية تجاوز الصورة الرومانسية لـ”البطل الحامي”، حيث تُقدَّر المساهمات الجماعية لجميع المواطنين، بغض النظر عن الجندر، في بناء مجتمع أكثر عدالة وشمولية.
في النهاية، يجب أن نصل إلى مرحلة لا تكون فيها القومية أداة ضرورية لتوحيد المجتمع. بدلاً من ذلك، ينبغي التركيز على بناء مؤسسات قوية وشفافة، وإطار قانوني يضمن المساواة والعدالة للجميع. فعندما يُحكم المجتمع بالقوانين والمؤسسات بدلاً من الأساطير القومية، يصبح بالإمكان تحقيق الحرية الحقيقية والشمولية. يتطلب هذا التحول تفكيك إرث المرجلة العسكرية، وإعادة تعريف البطولة بحيث تشمل المساهمات المدنية وغير العسكرية. فقط من خلال هذا التغيير الجذري يمكن لسوريا ما بعد الصراع أن تأمل في بناء مستقبل مستقر، وشامل، وديمقراطي.
كيف يمكن تحدّي هذه المفاهيم، خاصة في لحظة التحرر المشترك؟
يمكن مواجهة مفاهيم المرجلة العسكرية والبطولة الحالمة في سوريا من خلال اتباع نهج شامل يعيد تعريف معنى البطولة والانتماء الوطني. يكشف تحليلي في الكتاب أن القومية البعثية لطالما استندت إلى نموذج القومية الذكورية القائمة على القوة العضلية، حيث تُجسَّد الأمة من خلال صورة ذكورية عسكرية مستعدة للتضحية المطلقة من أجل الدولة. يتطلب تفكيك هذا الإرث الانتقال نحو نموذج سياسي تعددي وشامل.
أولًا، من الضروري إعادة تعريف مفهوم البطولة بعيدًا عن إطار المرجلة العسكرية السائدة. لا ينبغي أن تظل البطولة مرتبطة بالعنف الجسدي أو الإنجازات العسكرية، بل يجب إبراز سرديات بديلة تحتفي بالمشاركة المدنية غير العنيفة، والتعليم، وإعادة بناء المجتمع المدني السوري. لقد لعبت النساء أدوارًا حاسمة في الثورة السورية، لا سيما في العمل الإنساني، وتنظيم المجتمعات، وبناء السلام، وهي أمثلة قوية على أشكال البطولة التي لا تعتمد على القوة العسكرية.
ثانيًا، لكسر هذه السرديات الجندرية الراسخة، يجب الضغط على الحكومة المؤقتة لإقرار قوانين تتيح تأسيس الأحزاب السياسية، إذ إن غياب أطر قانونية تضمن المشاركة السياسية الديمقراطية والتعددية سيؤدي إلى استمرار الديناميكيات الحالية التي تعزز الهياكل الرجولية السلطوية التقليدية. يحتاج السوريون إلى اختبار وممارسة التعددية السياسية كخطوة أساسية للتحرر من نماذج الحكم السلطوي الهرمي والعسكري.
ثالثًا، يلعب المجتمع الدولي دورًا حاسمًا في دعم المجتمع المدني السوري، الذي لا يزال يعاني من التشرذم وضعف البنية المؤسسية. من الضروري مواصلة الضغط من أجل تأمين التمويل الدولي وتوسيع برامج التدريب التي تعزز قدرات منظمات المجتمع المدني السوري، خصوصًا تلك التي تركّز على تمكين المرأة وإشراك الشباب. هذه المجموعات ضرورية لنشر القيم المدنية، وخلق فضاءات يمكن أن تزدهر فيها سرديات انتماء بديلة.
أخيرًا، ينبغي تأجيل الحوارات الوطنية حتى تُنفَّذ هذه التحولات الهيكلية الأساسية. فالانخراط المبكر في حوار وطني قد يؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الهياكل السلطوية التي نهدف إلى تفكيكها. يجب أن يكون التركيز أولًا على استكمال الإصلاحات القانونية والاجتماعية والاقتصادية الضرورية، التي تمهد الطريق لحوار شام وشامل وتعددي حقيقي. باختصار، يتطلب تجاوز إرث المرجلة العسكرية إعادة التفكير جذريًا في السرديات الوطنية، والالتزام ببناء مؤسسات سياسية شاملة، تتجاوز تصورات البطولة والمواطنة الجندرية الحالمة.
طالبة دكتوراة في السياسة ومدرسة مساعدة في جامعة لانكستر. تتناول أبحاثها بشكل رئيسي موضوع إضفاء الذكورة على الوطنية السورية، مع التركيز على الموروث الفرنسي والجرماني. للدغلي عدة أعمال عن سورية، شاركتها أكاديميا بشكل موسع في المؤتمرات الدولية، كما أنها عضو زميل لمركز الدراسات السورية ضمن شبكة زمالته الدولية.
حكاية ما انحكت