هندسة الطاعة في سوريا.. السلطة بوصفها مشروعاً لإعادة تشكيل الذات/ مالك الحافظ

مارس 31, 2025
في أعقاب الانهيار الرسمي لنظام بشار الأسد، برزت ما تُعرف اليوم بـ”السلطة الانتقالية” كإطار بديل عن السلطة المركزية الاستبدادية التي هيمنت على البلاد لعقود. غير أن هذه السلطة الناشئة، عوض أن تكون تجسيداً لتحول سياسي جذري يعيد بناء العلاقة بين الحاكم والمحكوم، راحت تمارس سلطتها عبر آليات جديدة تستند إلى خطاب ديني سلفي وتأويلي، يُعيد إنتاج الطاعة من داخل المجتمع لا عبر القسر المباشر. نحن هنا أمام لحظة انتقال من السلطة بوصفها احتكاراً للعنف، إلى السلطة بوصفها هندسة للطاعة.
في تحليله للسلطة الحديثة، يبيّن ميشيل فوكو أن السلطة في المجتمعات المعاصرة لا تعمل فقط بالقمع، بل تنتج ذاتاً خاضعة من خلال آليات المراقبة والتطبيع والانضباط. ويقول إن السلطة ليست ما يُؤخذ أو يُمنح، بل هي شبكة من العلاقات تُنتج المعرفة، وتُعيد تشكيل الأجساد والوعي.
بهذا المعنى، يمكن فهم ما يحدث في الحالة السورية على أنه إعادة صياغة للذات السياسية والاجتماعية للمواطن، حيث لا يُطلب من الأفراد المشاركة، بل الخضوع؛ لا يُساءَل الحاكم، بل يُمجد؛ ولا يُناقش العقد الاجتماعي، بل يُلغى لمصلحة خطاب مطلق حول “الثوابت” و”المنهج”.
في المقابل، يطرح أكسيل هونيث مفهوم “الاعتراف” بوصفه أساساً للعدالة الاجتماعية، حيث تُقاس شرعية الدولة بقدرتها على الاعتراف المتبادل بين الأفراد كذوات مستقلة ومتساوية. وهو ما يغيب عن السلطة الانتقالية السورية كلياً، إذ تُنكر أصلاً شرعية الفرد المختلف، وتُعيد إنتاجه ككائن ناقص، غير مكتمل، يحتاج إلى التهذيب والإرشاد.
تنطلق السلطة الانتقالية في سوريا من بنية أيديولوجية سلفية لا ترى المجتمع ككلّ متعدّد، بل كمادة قابلة للتطويع وفق مسار تأويلي مغلق. المجتمع ليس شريكاً في الفعل السياسي، بل حقلٌ للدعوة والإصلاح.
ضمن هذه الرؤية، تُعرّف المرأة كـ”موقع أخلاقي هش”، يجب احتواؤه لا تمكينه، ويُفهم التنوّع المذهبي والديني بوصفه تهديداً للنقاء لا تجلياً للتعدد، ويُنظر إلى النقد كفعل تخريب، لا كأداة إنتاج سياسي مشروع. وهكذا، تتحول السلطة إلى منظومة تهذيبية لا مؤسساتية، حيث يصبح القانون امتداداً للفتوى، والمواطنة مرهونة بالسلوك، لا بالحقوق.
لغة السلطة الانتقالية تكشف عن منطقها العميق. فهي لا تتحدث عن “المواطن”، بل عن “الرعية”. لا تعد بـ”الحقوق”، بل بـ”الاستقامة”. لا تعد بـ”التنمية”، بل بـ”التمكين الشرعي”. هذه المفردات، التي قد تبدو عابرة، تعبّر عن تحول جوهري في طبيعة الدولة نفسها. نحن لا نواجه نظاماً سياسياً، بل منظومة تأويلية مغلقة، تدير شؤون الناس بوصفهم ناقصين، قاصرين، يحتاجون إلى الرعاية لا الشراكة.
هذا النوع من الخطاب يتماهى مع ما وصفته حنّه أرندت بأنه “إلغاء السياسة لحساب الحقيقة المطلقة”، حيث لا تعود القوانين ناتجة عن التوافق المجتمعي، بل تُشتق من مرجع أعلى لا يمكن مساءلته. تقول أرندت في كتابها “أصول التوتاليتارية” بأن الخطر الحقيقي لا يكمن في الاستبداد، بل في تحويل الحقيقة إلى مرجع سياسي لا يقبل التفاوض.
السلطة الانتقالية لا تعيد بناء الدولة، بل تعيد إنتاج الطاعة كبنية كلية، فالمدرسة تتحول إلى جهاز تطبيع، والخطاب الديني إلى أداة مراقبة، والمجتمع المدني إلى امتداد دعوي.
كل ما لا ينسجم مع سردية السلطة يُقصى، يُتهم، يُحاصر. لكن ليس باسم الخيانة، بل باسم “الضلال”، و”الفسق”، و”الفتنة”. وهكذا، تتحول السياسة إلى أخلاق، والمشاركة إلى امتثال.
ما يُبنى اليوم في سوريا ليس مشروع انتقال ديمقراطي، بل نظام اجتماعي مغلق يُنتج العطالة بدل المشاركة، والخوف بدل الأمل. إن هندسة الطاعة التي تمارسها هذه السلطة لا تستهدف فقط تقييد الفعل، بل إعادة تشكيل الوعي.