الثقافة و«التكنوقراط»: هل كان يجب على النخب التخلّي عن الأيديولوجيا؟/ محمد سامي الكيال

04 نيسان 2025
انتشرت مقولات «تجاوز الأيديولوجيا» أو رفضها في الفضاء الناطق بالعربية، منذ أواخر الحرب الباردة، إذ بدا وقتها للمهتمين بالشأن العام، من مسيّسين ومنتجي ثقافة، أن الأيديولوجيات السياسية السائدة، وعلى رأسها القومية والشيوعية، وصلت إلى نهاياتها، بنتائج فاشلة أو كارثية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية. وبدأت موجة من «المراجعات» بين الأجيال الأقدم، فيما نشأ جيل جديد، من مواليد الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بدا كثيرٌ من أفراده متجاوزاً بالفطرة للأيديولوجيا، وهذا ما ظهر بوضوح أثناء ما يُعرف بانتفاضات «الربيع العربي»، التي رافقتها تنظيرات عن لحظة غير أيديولوجية، أو بعد أيديولوجية، حرّكت «الشباب».
لا تشير مقولات «التجاوز» تلك إلى أي معنى منضبط للأيديولوجيا، في النظرية السياسية والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا، بل كان المعنى فقط هو تجاوز الأيديولوجيات التي اعتُبرت يسارية، فيما أيديولوجيا الإسلام السياسي اعتُبرت «الإسلام»، أو «ثقافة المجتمع» ببساطة، التي يجب احتضانها وتفهّمها. انتشرت أيضاً مقولات عن «ليبرالية» ما، تبنّاها كثيرون، بوصفها روح العصر، واختلطت تدريجياً بالأيديولوجيا الناشطية، المقبلة مع «المنظمات غير الحكومية»، التي لعبت دوراً أساسياً في إنتاج مقولات فترة «الربيع» وما بعده.
يبدو كل هذا مثيراً للاستغراب، إذ يصعب عموماً الحديث عن مجتمع بشري دون أيديولوجيا. أما تعريفاتها القديمة، بوصفها نوعاً من «الوعي الزائف»، الذي يحجب عن حامليه رؤية واقعهم ومصالحهم، على خلاف «العلميّة» أو «البراغماتية»، فلم يعد مواكباً لكثير من مناهج ومنظورات العلوم الإنسانية المعاصرة. فسواء كان مرجعنا التعريفات الأوسع للأيديولوجيا، العائدة لكل من المفكرين الفرنسيين لويس ألتوسير وجاك لاكان، اللذين اعتبراها مؤسّساً للذات الفردية والجماعية نفسها؛ أو نظرنا إلى الدراسات المعاصرة، حول الأنظمة الاجتماعية والرمزية والتواصلية، فلن نخرج عن إدراك الحضور الأساسي للأيديولوجيا، في كل قول وممارسة ووعي أو لا وعي إنساني. تجاوز الأيديولوجيا غالباً مقولة أيديولوجية رديئة، تحاول التعمية على تصورها الخاص للعالم والذات والمصلحة، والموقع الاجتماعي الذي تنطلق منه، فتبدو أقرب لـ»الوعي الزائف»، الذي ترفضه، من أي أيديولوجيا متسقة، واعية بذاتها.
ما الأيديولوجيا التي تجاوزها كثير من النخب والناشطين الناطقين بالعربية إذن؟ ليس اليسار والقومية، فما يزال لهاتين الأيديولوجيتين حضور تأسيسي في الخطابات المعاصرة، ونرى شتاتاً منهما في معظم القول السياسي في الحيز العام، إلى جانب المقولات الإسلامية والناشطية. ربما ما تم «تجاوزه» هو الاتساق نفسه، أي القدرة على تقديم خطابات متماسكة سياسياً وفكرياً ومنطقياً، لها بنىً واضحة، ومناهج في إنتاج المعنى والدلالة، وسلسلة من المفاهيم والمصطلحات، القابلة للتحليل والقياس والنقد. تبدو خطابات «ما بعد الأيديولوجيا»، على الطراز العربي، مجموعة من الجُمَل الإنشائية غير المتسقة، يصعب استخلاص المعاني منها، وتحركها دوافع مثل الإحساس، التجربة الذاتية، التريند، والإجماع الأخلاقي في أوساط ودوائر معيّنة، على موقف وقول ما.
قد يمكن وصف كل هذا بالرداءة، ولكن المشكلة ليست فقط في مستوى ذلك النوع من الأيديولوجيا «المتجاوزة» للأيديولوجيا، وإنما في خطورتها، إبان الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الأشد، التي نعيشها دون انقطاع منذ أكثر من عقدين من الزمن. نتحدّث هنا عن نوع من التقلّب الخطابي، الخاوي من النظرية والمنهج، والذي يُعفي صاحبه من مسؤولية قوله ونتائجه، ويعطيه رخصة في التناقض، وإرسال الإشارات مزدوجة المعنى، والتراجع السهل، وتغيير التوجّه، وفي الوقت نفسه ابتزاز الآخرين أخلاقياً وعاطفياً. هذا المزيج قد يكون مدمراً، أو حتى قاتلاً. إنه نمط من التطرّف الأيديولوجي، الذي يداري نفسه، أو يمارس الاحتيال بعبارة أدق، ما يجعله «ظلامياً» بكل ما في الكلمة من معنى، ولكن ما نمط السلطات التي تدافع عنها تلك الظلامية؟
أيديولوجيا «التكنوقراط»
طُرحت مقولة «التكنوقراط» في العقدين الآخرين، وكأنها الحل السحري، لكل مشاكل السياسة والاقتصاد والإدارة والتنمية، ويمكن اعتبارها بديل «المتجاوزين» عن الأيديولوجيا، التي لا توصل، حسب رأيهم، إلى أي نتيجة. قد يكون من المكرر الإشارة إلى مدى رداءة مقولة «التكنوقراط» هذه، إذ لا يوجد خبير أو متخصص، بريء من القناعات والانحيازات والرؤى السياسية، أي الأيديولوجيا؛ كما أن المشكلات العامة، في أي مجال كان، ليس لها حل «تقني» وحيد، وغيره أيديولوجيا، وإنما يُحدد الإطار الفكري والنظري والسياسي للحكم، ولخبرائه ومستشاريه، نوعية الحلول التقنية الممكنة، أي أن «التقني» في النهاية سياسي، وانتشار مقولة «التكنوقراطية» ارتبط غالباً بالتوجهات السياسية والاقتصادية، التي انتشرت منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، والتي يصرّ عدد من معارضيها على تسميتها بـ»الأيديولوجيا النيوليبرالية». وبغض النظر عن هذه التسمية غير الدقيقة، فإن عقيدة «التكنوقراطية»، تحوي كثيراً من الاحتيال الأيديولوجي، إذ يُقدّم التكنوقراطي، والسياسي الذي يعيّنه، قراراته وإجراءاته وكأنها العلم أو التقنية المحضة، التي لا يمكن نقاشها من غير المختصين، ومعارضتها نوع من التعصّب. يجعل هذا من «التكنوقراطية» شكلاً سلطوياً لسحب السياسة من المجتمع، وجعلها حكراً على نخب محددة، أي أنها سياسة ضد ديمقراطية في العمق. وقد كانت، في الدول الغربية، أحد أسباب الردّة الشعبوية ضد أحزاب يمين ويسار الوسط، وأنظمتها السياسية، التي ازداد تصلّبها التكنوقراطي مع الزمن.
في كل الأحوال، تقدّم الشعبوية اليمينيّة اليوم نمطها الخاص من التكنوقراطية، كما نرى في الولايات المتحدة الأمريكية، التي باتت تتصدّرها شخصيات مثل أيلون ماسك وأشباهه. ما يشير إلى أن الشعبوية، بوصفها استراتيجية سياسية، ليست نقيضاً لعقيدة التكنوقراط بالضرورة.
وبعيداً عن «العالم الأول»، فإن الجهاديين أنفسهم، في منطقتنا، صاروا من أنصار «التكنوقراطية». هم ليسوا شعبويين، لأنهم معادون جذرياً لمفهوم السيادة الشعبية نفسه، وإنما يسعون إلى إعادة تربية رعاياهم، ليصبحوا «مجتمعاً إسلامياً» حقيقياً، عبر حوكمة، تجمع من جهة بين السيادة الدينية، الأمنية والميليشياوية، التي ترى أن الحاكمية لله؛ و»التكنوقراطية» الضد سياسية من جهة أخرى، الرافضة لحضور أي قوة مجتمعية منظّمة. وكله باسم تجاوز «الأيديولوجيا»، لمصلحة ثقافة المجتمع المسلم، والطاقات الشابة، ورفض المحاصصة، أو أي ادعاء آخر.
ربما ساهمت لا أيديولوجية ما سُمّي «الربيع العربي» بإيصالنا إلى هذا المآل المؤسف: المطالبة بالحرية؛ و»الشعب الذي يريد»، عبر «الشارع»، ودون برامج سياسية واضحة، أو اتساق فكري ونظري، تحوّلا إلى تأييد أكثر المنظورات معاداةً للديمقراطية، أي حكم المتغلّبين، أو من يظنون أنهم حازوا الغلبة؛ وإلى الرهان على «التكنوقراطية»، التي باتت أقرب لتعويذة. فـ»الثائر»، الفاقد لأي منظور واضح، قد توصله تجربته الذاتية، أو إحساسه الخاص بالعدالة، إلى الاندفاع وراء أشد القوى تدميراً للحياة. والأهم، أن التجربة والإحساس، اللذين لا يهتمان بأي اتساق أو نظرية، يمكن استعمالهما وتطويعهما، بل تزييفهما بسهولة، لتحقيق مكاسب من أي سلطة تبدو متغلّبة. لا يذكّر هذا إلا بإحساس العدالة الخاص بعناصر الميليشيات، الذين قد ينطلقون من «مظلومية» ما، ليصلوا إلى تدمير الحياة في مجتمعاتهم ومجتمعات الآخرين.
طبقة «لا أيديولوجية»
ربما يصحّ القول إن طبقة جديدة، من الناشطين والميليشياويين، باتت هي السائدة في المجتمعات المُدمّرة، نتيجة حروب ما بعد «الربيع العربي»، وهي الطبقة الأكثر انتفاعاً من اقتصاد الظل، الذي ازدهر في تلك الحروب. وما يجمع فئتيها أساساً، استفادتهما من أموال المساعدات الخارجية، التي لم تكن كلها تصنّف ضمن «الاستجابة الإنسانية العاجلة»، بل أيضاً شملت تصنيفات، مثل الدعم والمناصرة والتمكين والتأهيل، ما أنتج علاقات متشابكة، وشديدة التعقيد، بين المشرفين على نظام المساعدات ذاك، أي القوى المسيطرة على الأرض، وناشطي المنظمات المحترفين.
أشارت تقارير غربية متعددة، مثل تقرير «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» (CSIS) الأمريكي، الصادر عام 2021 عن سوريا، إلى الكيفية التي أدارت بها قوى الأمر الواقع، من ميليشيات ومنظمات وبقايا دول، أنظمة المساعدات تلك، وكيف وجّهتها لمصلحتها، لتُحَسّن أوضاعها، كلما ازدادت الأمور سوءاً، وكلما ازدادت حاجة الناس إلى المساعدات. إلى درجة أن بعض المعلقين الغربيين، طالب بقطع المساعدات المالية عن المنطقة، والاكتفاء بالمساعدات العينيّة. إلا أن العلاقة بين فئتي الطبقة، أي الناشطين والميليشياويين، قد تتجاوز التشابكات الضرورية على الأرض، والمصالح المادية المباشرة، إلى نوع من التلاقي الأيديولوجي العام، القائم على ادعاء «تجاوز الأيديولوجيا»، فالميليشياوي الذي قد يكون جهادياً، ومتحزّباً للإسلام السياسي، يستطيع أن يدّعي أنه لا يفعل أكثر من ممارسة عقيدته وثقافته؛ أما الناشط، الذي يكرر غالباً المزيج الأيديولوجي الدارج في المنظمات غير الحكومية، والذي يمكن تسميته «الناشطية» Activism، فيتخفّى غالباً وراء مفاهيم حقوقية مجرّدة، كما أن عليه التمتّع بـ»المهارة بين الثقافات»، التي تتيح له تفهّم عقيدة وثقافة الجميع، بمن فيهم الجهاديون.
عملياً، الفئتان ليستا متجاوزتين للأيديولوجيا، وإنما هما متجاوزتان للمجتمع نفسه، بمعنى أنهما مجموعتان لا تعرّفان نفسيهما ضمن أي موقع اجتماعي واضح، بل عبر تجريد متعالٍ على الجميع، قد يكون الدين أو الحق أو الأخلاق أو الهوية، ولا أقلّ من ذلك. ولم يزدهرا وينالا الصدارة، إلا على أنقاض المجتمع.
قد يبدو القول إن تلك الطبقة تعتبر نفسها من التكنوقراط نوعاً من التهكّم، إلا أن هذا فعلاً ما يذكره أفرادٌ منها بكل وضوح وجديّة، فمديرو المنظمات غير الحكومية وموظفوها؛ والميليشياويون، الذين فُرِّغوا لأداء بعض الوظائف الإدارية والسياسية، يرون أنفسهم من الخبراء والمتخصصين، القادرين على قيادة المجتمعات، بعيداً عن الأيديولوجيا. لا يمكن بالطبع التفتيش في النوايا، ومعرفة إن كانوا يؤمنون بادعاءاتهم، أو يمارسون احتيالاً واعياً، إلا أن هذه المعرفة غير ضرورية، فكثير من الوقائع التي نشهدها، تبدو نوعاً من المحاكاة الساخرة، أو الكوميديا السوداء. هذه التكنوقراطية معادية للثقافة نفسها، بمعنى أنها تساهم في تدمير كل ما تبقّى من تقليد متحضّر في المنطقة، وتعمل، بشكل واعٍ أو غير واع، على التجهيل، عبر تشويه معظم المفاهيم؛ وإخفاء علاقات السلطة والهيمنة، وراء جمل إنشائية لا تقول شيئاً؛ ونشر أدوات تفكير رديئة، تجعل عدم الاتساق، والضعف المنهجي، ومعاداة التفكير النظري، نوعاً من الفضائل.
ربما نحتاج إلى بعض الأيديولوجيا الواعية لمواجهة كل هذا، أي إلى نسق سياسي وفكري، مدرك لأبعاد المأساة التي تتعرّض لها المنطقة؛ ويسعى لجعل الدفاع عن المجتمع، وما تبقّى من ثقافة، المهمة الأولى لكل تحرّك فردي أو جماعي.
كاتب سوري
القدس العربي