استراتيجيات تقنية معقدة للتضليل الإعلامي في سوريا/ جاد هاني

06-03-2025
في صبيحة أحد الأيّام التي أعقبت سقوط النّظام السوريّ، ضجّت منصّات التواصل الاجتماعيّ بخبرٍ عاجل: «مجزرة مروّعة ضدّ مجموعة من جنودٍ من الطائفة العلويّة في إحدى قرى الساحل». كانت الصور التي رافقت الخبر بشعةً، وانتشرت كالنار في الهشيم، مثيرةً الذعر والغضب لدى الآلاف الذين شاركوا المنشور أو أعادوا تغريده دون تحقّق. وبينما اشتعلت التعليقات باتّهاماتٍ متبادلةٍ وإثارةٍ للنعرات الطائفيّة، انبرى بعض النشطاء الإعلاميّين للبحث عن دليلٍ ملموسٍ يؤكّد أو ينفي ما يجري تداوله. وبعد ساعاتٍ من المتابعة والتحقّق، تبيّن أنّ الصّور قديمةٌ تعود إلى حدثٍ مختلفٍ قبل سنوات، وأنّ القصّة مختلقةٌ بالكامل، وتهدف إلى إثارة الرعب وشيطنة قوى المعارضة الّتي كانت قد استلمت الحكم تواً.
والحال أن سقوط الأسد قد فتح، خصوصاً بعد تحقُّقه دون ثأرٍ أهليٍّ أو اشتباكٍ دمويّ منفلت، نافذة أملٍ عظيمة أمام الشعب السّوريّ، متيحةً له فرصةً غير مسبوقة لاستعادة حياته السّياسيّة بحريةٍ وانفتاح، بعد عقودٍ مديدة من القمع المنهجيّ وهيمنة السّرديّات الأحاديّة على المشهد السّياسيّ والثقافيّ والمعيشيّ. وقد بلغت هذه السّيطرة ذروتها خلال سنوات الثورة، وتعزّزت أكثر مع تدويل الصراع في سوريا، حيث بات الاستقطاب نحو سرديّات الأطراف المختلفة جزءاً لا يتجزأ من المشهد التقسيميّ والحربيّ داخل المجتمعات السّوريّة.
ومع أنّ سقوط النظام شكّل لحظةً فارقةً، فإنّ الحملات التحريضيّة لم تتأخر في الظهور، إذ عادت بقوةٍ دعواتٌ موجّهةٌ تهدف إلى إعادة صياغة الواقع وفق رواياتٍ تخدم مصالح جهاتٍ سياسيّةٍ معيّنة، أبرزها من القوى الّتي دعمت النظام المخلوع كإيران وحزب الله، ضدّ الإدارة الجديدة. وفي ظلّ فضاءٍ رقميّ متشابك، شهدت وسائل التواصل الاجتماعيّ موجةً جديدةً من التضليل الإعلاميّ، تقودها حساباتٌ افتراضيةٌ تعمل وفق استراتيجياتٍ معقّدةٍ لصناعة فقاعاتٍ معلوماتيّة، قادرةٍ على التأثير السّريع في الرأي العام، وزرع الفتنة، وجعل المشهد السّوريّ أكثر التباساً، واللعب على العصبيات والمخاوف الشعبيّة. والحال، أنّ هذا الصراع المعلوماتيّ بات أحد التّحديات الكبرى في المرحلة الجديدة، ومع هذا الواقع المتحوّل، يصبح تفكيك هذه الخطابات وكشف دوافعها ضرورةً ملحّةً لضمان بناء وعي مجتمعيٍّ متماسك، قادرٍ على الاستفادة من لحظة التغيير التاريخيّ، بدل أن يقع فريسةً لحملات التضليل الّتي تحاول إعادة تدوير رواياتٍ تجاوزها الزمن، وتطمح لخلق بيئاتٍ مشحونة تمنع التفكير النقديّ والتفاعل الموضوعيّ مع الأحداث.
استراتيجيات التضليل الإعلاميّ بعد سقوط النظام الأسديّ
مع انتشار الأخبار حول سقوط النظام، لعبت وسائل التّواصل الاجتماعيّ دوراً جوهريّاً في نقل الأحداث وتوثيقها بشكلٍ فوريّ، حيث انتشرت آلاف الصور ومقاطع الفيديو الّتي سَجّلت لحظاتٍ مفصليّة في تاريخ سوريا. لكن مع هذا الكمّ غير المسبوق من المحتوى البصريّ القادم من مختلف أنحاء سوريا، ظهرت تحدياتٌ جديدة تمثّلت في انتشار الأخبار المضلّلة وتصاعد المخاوف من تأثيرات فقدان السّيطرة على تدفق المعلومات هذا. ومع توقف الإعلام الرسميّ الذي لطالما ضخّ دعاية النظام لعقود، اختفى العديد من أبواقه من السّاحة الإعلاميّة، لتحلّ محلها الدعاية الّتي حاول بعضٌ من أبواق النظام وحلفائه نشرها في الفضاء الرقميّ، وقد انعكس ذلك في انتشار مشاهدٍ مثل نهب البنك المركزيّ، مجازر بحقّ أفراد الطائفة العلويّة، وعن مجازر متفرّقة (ترويجاً للخطاب المناهض للإدارة الجديدة)، وغيرها من البيانات الّتي اُشتُقّت من سياقها، أو أُسيء استعمالها، الأمر الذي عزّز حالة الفوضى.
إلى جانب ذلك، حاولت الحسابات الموالية للنظام بعد سقوطه تأجيج المخاوف والانقسامات عبر نشر أخبار مضلّلة تتعلّق بأوضاع الأقليات والطوائف، (وإنّ كان بعضها مشروعاً)، سعيًّا لإثارة الذعر بشأن مستقبل البلاد. ورغم أنّ هذه الدعاية لم تؤثر في مجريات الأحداث على الأرض، إلّا أنها أسهمت في تعزيز الانقسامات، وتحويل الانتباه عن قضايا العدالة والمساءلة. وعادةً ما يتصاعد خطاب الكراهيّة عندما تُستغل لحظات الاستقطاب السّياسيّ (Political Polarization) الحاسمة لتحويل النقاش العامّ من حدثٍ جلّل إلى حادثةٍ أصغر تُسهّل تأجيج الانقسامات، ولعلّ المثال الأبرز على ذلك، كان لحظة سقوط نظام الأسد، حيث نشأت فرصة مواتية للاستقطاب، فعندما شعرت بعض الجهات، كفلول الأسد أو تحالفات مثل حزب الله وإيران، بأنّ مصالحها في خطر، اتجهت إلى اعتماد التضليل لخلق حالةٍ عامّة من «شيطنة» قوى المعارضة للأسد، وتستخدم مجموعة من الاستراتيجيات التضليليّة الّتي تخلق لدى المستعمل العادي انطباعاً بأنّ المعسكّر المنافس ضعيف أو يتعارض مع مصالحها الوجوديّة.
أدناه، نستعرض أبرز الاستراتيجيات المستخدمة من قبل شبكات الجيوش الإلكترونيّة الموالية للنظام المخلوع وحلفائه بالاستناد إلى تقاريرٍ صدرت في السنة الأخيرة عن مركز سكايز للدفاع عن الحريات الصحافيّة والثقافيّة، المتعلق بشبكات الكراهيّة والأنماط الّتي تتقاطع في فضاءاتٍ رقميّة أخرى:
وتيرة نشر مرتفعة: وتحديداً في أوقات مُنسّقةٍ مُسبقاً، مع احتمال استخدام تقنيات نشرٍ آليّة أو ضمن جداول.
الاتساق اللّغويّ والسّرديّ: لوحظ وجود عبارات وتعابير متكرّرة، مما يعكس درجةً عاليةً من التنسيق في اللّغة المستخدمة في المنشورات. وقد شمل ذلك التعرف على مصطلحاتٍ تشمل أوصافاً ووصماً مثل «عصابات الجولاني»، «الدواعش»، والـ«تكفيريين»، وقد هيمنت هذه المصطلحات على المنشورات، مما يشير إلى احتمال وجود تنسيقٍ ويُمكن ربط هذا التنسيق بشبكاتٍ مؤيدةٍ للأسد وحزب الله الّتي ابتكرت وعمّمت هذه المصطلحات خلال فترات الثورة والصراع المُسلّح، ما يؤدي إلى خلق فقاعاتٍ معلوماتيّة، حيث يصبح نشر المحتوى يعزّز قناعات معينة ويعزل المستخدمين عن المعلومات البديلة.
تقنيات التضخيم: من الملاحظ أيضاً الوتيرة غير العادية في إعادة النشر، والتّفاعل مع المنشورات المضلّلة، مما ساهم في اكتساب بعض المنشورات مدى انتشار غير متناسب مع عدد المتابعين. وذلك يُلاحظ خصوصاً على منصة X، أي عندما يكون للحساب عدد ضئيل من المتابعين لكن مع «reach» مرتفع.
الإطارات المهيمنة على السّرد: يتمثّل في وجودٍ كثيفٍ لسرديات تعزّز مخاوف جماعيّة، مثل التنسيق مع إسرائيل لضرب المقاومة وغزو مناطق لبنانيّة، أو قتل ممنهج لأفراد الطائفة العلويّة، مما يُشير إلى ما يُشبه «نيّاتٍ مُبيّتة» لتشكيل الرأي العامّ. ويضمّ ذلك تكراراً للعناصر البصريّة مثل الصور والفيديوهات.
التلاعب بالمحتوى: استخدام المعلومات الحقيقية في سياقاتٍ مضلّلة أو تركيب أخبار مزيفة بناءً على رواياتٍ غير دقيقة. ونشر الإشاعات وخلق أخبارٍ كاذبة تثير العواطف وتدفع الجمهور لاتخاذ مواقف متطرفة. وهنا يُمكن الاستشهاد بالشائعات الّتي حاوطت مصير «مزار السّيدة زينب» في الشامّ ، تارةً بادعاء إغلاقه أمام الزوار، وأخرى بمنع تأديته للآذان.
تحليل نشاط الحسابات الافتراضيّة المضلّلة: خصائص هذه الحسابات
تعتمد غالبية هذه الحسابات على هوياتٍ وهميّةٍ أو غير محدّدة المصدر، وتستخدم استراتيجيات وتكتيكات خبيثة، كما أسلفنا، لنشر معلوماتٍ مضلّلة بسرعةٍ وكثافة. وترتبط بعض الحسابات بوسائل وشخصياتٍ إعلاميّة تقليديّة مؤيدة لإيران وحزب الله والنظام السّوريّ المخلوع. وإن كانت حساباتٌ عديدة من الموالين للنظام الإيرانيّ (وفروعه كحزب الله) فضلًا عن «فلول» النظام، تعمد على المساهمة في النشر أو الشحن البروباغنديّ ضدّ الإدارة الجديدة (وليس الانتقاد)، ويُلاحظ أيضاً وجود بعض الحسابات الموالية لنظام السيسي المناهض للإخوان المسلمين، الّتي كان لها مساهمة لا يُستهان بها في الحملة، نظراً للموقف السّياسيّ المصريّ الرسميّ من سقوط الأسد.
لكن المُثبت أنّ من يتحرك بطريقةٍ منهجية ومنظّمة أكثر، هم الشبكات الموالية لإيران، وفي دراسة تحليل للشبكات الرقميّة التابعة لحزب الله التي أصدرتها سكايز مؤخراً، لوحظ مشاركة منظّمة لحسابات موالية لحزب الله في حملات تضليل تستهدف الشأن السّوريّ.
أحمد بريمو، صحافيّ سوريّ ومؤسّس منصة تأكد – Verify Syria، يشير في حديثه إلى كون «أبرز السّمات المشتركة بين الحسابات الّتي تنشر معلومات مضلّلة هي أنّها إما حساباتٌ وهميّة أو لأشخاصٍ تنتحل شخصيات. في بعض الأحيان توحي بمعتقداتٍ معينة؛ أي أنها توحي بأن القائمين عليها من العلويين أو المسيحيين أو من الأقليات السّوريّة. على سبيل المثال، أتحدّث عن شخص اسمه شادي وسوف، وهو اسم اخترعه بنفسه، إذ أن هذا الاسم لا وجود له. أما الشخص الوحيد الذي يحمل اسم فادي وسوف، فقد تمكنا من التّعرف عليه والتّواصل معه والتحدّث إليه؛ ليتبين أنّه مسيحيّ وليس علوياً، ومن اللاذقيّة وليس من مناطق علوية. وكان موظفاً بوزارة الخارجيّة السّوريّة قبل سقوط النظام. وقد تعرض للكثير من الأذى نتيجة للتشويش الذي تعرض له باسمه، حتى أنّ حياته كانت مهدّدة؛ إذ أنه في إحدى الفترات نشر أحدهم صورته وقيل عنه: هذا هو فادي وسوف».
«غرف الصدى»: رواياتٌ مُكرّرة لتعزيز الانقسامات
سهولة نشر المحتوى على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، الّتي كانت أداة رئيسيّة في نقل أحداث الثورة السّوريّة والصراع المُسلّح الذي تبعها، لعبت مجدّداً دوراً حاسماً في تغطية سقوط نظام الأسد. إلّا أنّ هذه المرة برزت تساؤلاتٌ ملّحة حول مصداقيّة المحتوى المنتشر، سواءً من قبل الأفراد العاديين أو خبراء التحقق من المعلومات. إذ أنّ هذه المنصات جعلت من الصعب التحقّق من دقّة المحتوى المنشور نسبةً للكمّ المهول من البيانات، ما أدّى إلى تضارب في الروايات، خصوصاً في الأيام الأولى من الحدث. وتحديداً على منصة X الّتي أصبحت منذ استملاكها من قبل إيلون ماسك، المُعلن عن دفاعه عن حرية التعبير، ملاذاً للمعلومات المضلّلة. وترى منظمة مراسلون بلا حدود (RSF) أن منصة X تمثّل التجسيد الحقيقيّ للتهديد الذي تشكله المنصات الإلكترونيّة على الديمقراطيات. وكشفت التحليلات الرقميّة التابعة لمركز إيكاد عن تورط حسابات إسرائيليّة وروسيّة وإيرانيّة، تعمل على نشر رسائل موجهة عبر منصات متعدّدة في دول مختلفة، مركزةً على الشأن السّوريّ. وقد أُعيد استخدام صور وفيديوهات قديمة بتقنيات الذكاء الاصطناعيّ لتضخيم رواياتٍ زائفة وإعادة تأطير أحداث تاريخيّة، ما زاد من صعوبة وصول الجمهور إلى الأخبار الصحيحة. كما عزّزت ظاهرة «غرف الصدى»، الّتي تجعل المستخدمين عرضة لسماع الروايات ذاتها مراراً، مما يرسّخ القناعات ويزيد الانقسامات. علاوةً على ذلك، استُخدمت مقاطع فيديو قديمة أو محرّفة في نشر الفتنة والكراهية خلال هذه الفترة الحساسة سياسيًاً.
في المقابل، نشطت بعض الحسابات الّتي سعت لتشويه سمعة المعارضين، كأداة قمعٍ تُستخدم لإسكات الأصوات النقديّة في المشهد السّوريّ. وقد تعرضت الممثلة يارا صبري، على سبيل المثال، لحملات تخوين من بعض الجهات الموالية للحكومة الحاليّة، رغم مواقفها الداعمة للثورة السّوريّة وحقوق اللاجئين والمعتقلين. هذا الاستهداف طال أيضاً معارضين آخرين مثل جمال سليمان وسوسن أرشيد، حيث نُشرت مقاطع فيديو ومنشورات لتشويه صورتهم واتهامهم بما يتعارض مع القيم المجتمعيّة، بسبب مطالبهم المتعلقة بالديمقراطيّة وشكل الحكم ومطالبٍ سياسيّة أخرى. ولم تتوقف حملات التشويه عند الفنانين فحسب، بل شملت سياسيين وناشطين عادوا إلى سوريا بعد سقوط النظام، ليواجهوا هجوماً مماثلاً لمجرّد تعبيرهم عن رؤى مختلفة لسوريا المستقبليّة. ويجوز القول إنّ هذه الحملات تعكس حالةً من الاستقطاب الحادّ، حيث استُخدمت الشائعات والمعلومات المضلّلة لتقديم المعارضين كمنتفعين من الثورة.
والحال، أن هذه الظاهرة ليست مجرد وسيلةٍ سياسيّة، بل تعكس ثقافة قمع متجذرة عزّزها نظام الأسد لعقود، حيث يُنظر إلى النقد كتهديدٍ للوحدة المجتمعيّة والاستقرار. في مجتمعٍ لم يعتد على التعدّدية، يصبح أيّ رأي مخالف عرضةً للتشويه، مما يعكس خوفاً من الحريّة الفرديّة ومن تفكيك سلطة تقليديّة قائمة على الولاء المُطلق، سواءً كانت سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة.
الإعلام البديل، منصات التّحقّق، الجهات الفاعلة: في مواجهة المعلومات المُضلّلة والشحن البروباغنديّ
في ظلّ الفوضى الإعلاميّة الّتي أحدثتها موجات الأخبار المضلّلة والمفبركة، برزت في السّنوات الأخيرة مبادراتٌ إعلاميّة بديلة ومنصات تحقّق مستقلة كخطوة ضروريّةٍ لاستعادة الثقّة في صفوف السّوريّين. بعد سقوط النظام القديم وتفاقم حجم الحملات الدعائيّة المنظّمة، ازدادت الحاجة إلى مؤسسات تقيّم صحّة المعلومات وتُقدّم تقارير موضوعيّة بعيداً عن الانحيازات السّياسيّة والإعلاميّة التقليديّة. وبينما حاول الإعلام السّوريّ البديل، الذي نشأ في المنفى وركّز على الشأن السّوري، أنّ يكون جسراً بين الحقائق والأخبار المضلّلة، برز دور منصات مثل تأكّد ومسبار وغيرهم من منصات التحقق لتقديم مرجعياتٍ موثوقة للمعلومات المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ.
يتحدث يوسف الأمين، مدقق معلومات وأحد مؤسّسي منصة صواب في لبنان، عن أبرز سمات الحسابات الافتراضيّة الّتي تنشر المعلومات المضلّلة وتعمل على دعم سرديات معينة، سواء كانت لصالح النظام السّوريّ المخلوع أو لصالح أطراف أخرى: «خلال عملنا في منصة صواب، لاحظنا أنّ الصفحات الّتي تنشر المعلومات المضلّلة لا تتبع دائماً استراتيجيّة موحّدة أو جهة واحدة. فبعضها تنحاز بوضوحٍ لطرف معين، بينما تنشر صفحات أخرى أخباراً مضلّلة بشكلٍ عشوائيّ. ولكن الشيء المشترك بين هذه الحسابات هو عدم وضوح هويتها، والتكرار الممنهج للمعلومات عبر شبكات متعددة لإضفاء مزيد من ‘المصداقية‘ على المحتوى»، يقول يوسف الأمين هذا مشيراً إلى أنّ الحسابات تعتمد على هجمات منظمة ضدّ المعارضين السّياسيين والصحفيين، وتستخدم صوراً ومحتوى عاطفيّاً لتضخيم المشاعر والتحيزات لدى الجمهور.
ويُضيف الأمين: «لاحظنا أن هذه الحسابات تُعيد استخدام موادٍ بصرية ومقاطع فيديو قديمة، أحياناً بتقنيات الذكاء الاصطناعيّ، لتضخيم رواياتٍ زائفة. على سبيل المثال، تمّ استخدام صور وفيديوهات تُظهر انتهاكات أو أحداث مأساويةٍ قديمة، وإعادة تأطيرها بطريقةٍ توحي بحدوثها في الوقت الراهن». وتطرق يوسف الأمين أيضاً إلى أنماط التضليل الإعلاميّ المتكرّرة الّتي رصدتها منصته، حيث أشار إلى تقرير نشر بعنوان الذكاء الاصطناعيّ خلال الحرب… صور مفبركة وفيديوهات مضلّلة، مؤكداً أن إعادة صياغة مشاهد متداولة باستخدام تقنيات التلاعب الرقميّ تُظهر كيف يمكن لصناع الأخبار المزيفة أن يُغيروا معاني المواد البصريّة لتناسب أجنداتهم.
من جهته، يتحدث بريمو، عن تحديات مكافحة المعلومات المضلّلة على منصات التواصل وكيف تتداخل الشبكات المضلّلة عبر مختلف القنوات الرقمية: «من الصعب التنبؤ بدقّة بما سيحدث في عالم التضليل الإعلاميّ، لأننا كصحفيين نعتمد على متابعة مستمرة وتحليلٍ دقيق لما يتمّ نشره. لا توجد أدلة حاسمة على أن هذه الشبكات تابعة لإيران بشكلٍ مباشر، لكن لدينا أدلة قوية على أنّها مرتبطة ببعضها البعض وتعمل بتناغم على نشر الأخبار المضلّلة عبر فيسبوك، إنستغرام، تويتر، وأيضًا عبر تيليجرام». ويُشير بريمو إلى أنّ من أهم الأنماط الّتي يلاحظها هو استخدام صور وفيديوهات لانتهاكاتٍ حقيقية، يتمّ اقتطاعها من سياقها الأصليّ لتقديم سرديات زائفة. مثلاً: «كانت هناك حالات نشرت فيها فيديوهات لمشاهد إذلال وضرب وإهانة لأشخاص تمّ اعتقالهم خلال عملياتٍ أمنيّة بعد انتهاء مهلة تسوية الوضع. يتمّ اقتطاع هذه المقاطع من سياقها الكامل، ويُعاد نشرها مع إشارة إلى أنّ هؤلاء الأشخاص ينتمون لجماعاتٍ أو فصائل معينة، مما يؤدي إلى تأجيج التوترات وإثارة الانقسامات العرقيّة والطائفيّة».
ويعتبر خلق «فقاعات المعلومات» من أبرز التّقنيات الّتي تعتمد عليها الحسابات المضلّلة. ويوضح الأمين كيف تعمل هذه الحسابات على حصر المستخدمين ضمن دوائر محددة لا يُعاد فيها سرد سوى الرسائل المتحيزة، مما يجعلهم أكثر عرضةً لتقبل الأخبار المضلّلة دون الرجوع إلى مصادر بديلة. «تكرار نفس المحتوى عبر شبكات متداخلة من الحسابات يؤدي إلى تأثير صدى يُضفي على الأخبار مظهراً من الانتشار الواسع والمصداقيّة، وهذا بدوره يُساهم في تشكيل فقاعةٍ معلوماتية تحصر المستخدم في دائرة محدودة من الرسائل الّتي تتماشى مع توجهاته المسبقة». وأوضح الأمين أن هذا الأسلوب ليس مجرد تكرار للمواد الإعلاميّة، بل يتضمن تعديلاً للنصوص والصور والفيديوهات بطرقٍ تجعل المحتوى يبدو أكثر إثارةً للمشاعر، ما يعزز تأثيره على الجمهور.
وأضاف بريمو: «ثم هناك نمط آخر، حيث بعد انتهاء المحتوى الذي يظهر الإذلال أو الضرب، تبدأ هذه الحسابات في نشر تقارير عن عمليات خطف أو فقدان أو حتّى قتل، دون أيّ تحقّقٍ من صحّة المعلومات. هذا الأسلوب يؤدي إلى فقدان الثقّة لدى الجمهور، حيث أن الناس بعد فترة طويلة من التعرض لهذه الأخبار المضلّلة يصبحون متشكّكين حتّى في الحالات الّتي تكون فيها الوقائع صحيحة». وأوضح بريمو أنه في بعض الأحيان يستقبل الفريق تسجيلات صوتيّة أو فيديوهات يُزعم أنّها لضحايا عمليات خطف، ويقومون بإجراء ما يُسمّى بالتحقّق السّريع أو «الفحص»، حيث يتمّ الكشف عن التناقضات، مثل نسبٍ غير دقيقة للجنسيّة أو روابط مشبوهة مع أطراف سياسيّة معينة. وقد أشار إلى حالةٍ حيث تمّ نشر تسجيل صوتيّ يُزعم إنه لصاحب عملية خطف، تبين فيما بعد أنه تسجيل لرياضي معروف من خارج المشهد السّوريّ.
ضرورة اعتماد نهج متعدّد المستويات لمكافحة المعلومات المضلّلة
والحال أنّ دعم منصات التحقق المستقلّة يعدّ من الخطوات الأساسيّة لمواجهة المعلومات المضلّلة الّتي تنتشر في فترات الأزمات والحروب. ومع تزايد حجم الحملات الدعائيّة المنظّمة الّتي تنتهج استراتيجيات تلاعب متقدّمة، يصبح التعاون الدوليّ وتبادل الخبرات أمراً حيوياً لتعزيز القدرات المحليّة في هذا المجال. وفي هذا السّياق، يرى العديد من المراقبين أنّ التعليم الإعلاميّ وتوعية الجمهور بأهمية التحري والتثبت من مصادر المعلومات هي الأساس لمواجهة الظاهرة. كما أنّ إنشاء أطرٍ قانونيّة تنظم الإعلام الرقميّ وتفرض معايير الشفافيّة والمساءلة سيسهم بشكلٍ كبير في الحدّ من انتشار الأخبار الزائفة.
وبينما تواصل منصات مثل صواب وتأكّد وغيرها جهودها في كشف التضليل وتحليل الأنماط الدعائيّة، يبقى التحدي الأكبر هو الوصول إلى جمهورٍ واسع وإيصال رسالة الثقّة في المصادر المستقلّة. ورغم أن الشركات العملاقة، مثل ميتا، تتبنى مؤخراً سياسات قد تقلّل من آليات التدقيق، فإن الدعم المستمر من المجتمع الدوليّ والمحليّ للمبادرات الصحفيّة البديلة يُعد خطوةً مهمة نحو تحقيق بيئة إعلاميّة أكثر شفافيةٍ وموضوعيّة.
وهنا تكمن ضرورة اعتماد نهج متعدّد المستويات لمكافحة المعلومات المضلّلة، يجمع بين التعليم الإعلاميّ وتعزيز التفكير النقديّ في المدارس والجامعات، وتطبيق إطار قانونيّ ينظّم الإعلام الرقميّ ويضمن الشفافية والمساءلة. ذلك فضلاً عن دور الذكاء الاصطناعيّ الحيويّ في تطوير أدوات تقنيّة متقدّمة تُساهم في كشف المحتوى المزيف وحملات الكراهيّة وتقليل انتشاره. كما أنّ دعم منصات التحقق المستقلّة وتمويلها بشكلٍ يضمن حصولها على أحدث الأدوات التقنيّة، يعد من الخطوات الأساسيّة لتعزيز قدرتها على تقديم معلوماتٍ دقيقة وموثوقة. وبالإضافة إلى ذلك، يتعين على الجهات الدوليّة التعاون مع المنظمات المتخصّصة في مكافحة التضليل لتبادل الخبرات وبناء القدرات المحليّة من خلال برامج تدريبية للصحفيين وصناع المحتوى.
موقع الجمهورية