أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

قمعي وإبادي: نظرات في عنف الدولة في سوريا/ ياسين الحاج صالح

على الدولة ألا تكون أهلية كي يكف المجتمع عن أن يكون أهلياً

12-03-2025

        خبرنا في سورية خلال 14 عاماً ضربين من العنف، ضرب قمعي وضرب إبادي، يُسهِّل سياق صراعنا إدراك الفرق بينهما. فالعنف الإبادي، يقترن بـ«أهلنة» الدولة، أو بنمو الطابع الأهلي للفريق الممارس للعنف. العنف القمعي، بالمقابل، هو عنف الدولة العامة الذي يستهدف قوى أو أفعالاً دون تمييز يُحيل إلى المنبت أو الجذر الأهلي. بعبارة أخرى مألوفة أكثر، كلّما اتسعت مساحة التلاقي بين العنف والطائفية والدولة نما الطابع الإبادي لهذا العنف، وبالعكس يجنح العنف لأن يكون قمعياً أكثر وإبادياً أقل كلّما تقلصت هذه المساحة. وتحوز التشكيلات الطائفية المسلحة غير الدولتية طاقة إبادية على ما أخذنا نرى في عام 2013 وما بعد، وإن حدّت قدراتها المادية والتسليحية من هذه الطاقة بالمقارنة مع الدولة.

        ويُفترض بالعنف القمعي في الحالة المثلى أن يكون منضبطاً بقواعد معلومة، متناسباً مع المخالفة أو الجريمة المفترضة، غير شخصي (أعمى عن حيثية الشخص)، وغير إذلالي بالتالي. العنف الإبادي، بالمقابل، فائض وغير متناسب، عشوائي ولا يمكن توقّع مقداره، إذلالي، وفي سياقنا يعامل الأشخاص كعيّنات عشوائية على جماعات أهلية هي المستهدفة بالإبادة.  

        وفي الربط بين العنصر الأهلي والعنف الإبادي منطق لا يصعب تبيّنه. فضروب التمايز الديني أو الإثني أو العرقي أو القومي، ومنها كذلك ما نسميه في سورية والمشرق التمايز الطائفي، هذه الضروب تسهّل نقل العلاقة بين الجماعات الأهلية، المتمايزة وفقاً لهذه الخطوط (الديني والعرقي…)، إلى نطاق العلاقة بين بشر ولا-بشر، أو بين مراتب في البشرية بعضها أقل شأناً وبعضها أرفع شأناً وقيمة، بما يحول دون التماهي أو الشعور بوحدة الحال بين منسوبي الجماعات، وما يبيح أو حتى يوجب التخلّص من أولئك اللا-بشر، أو البشر المنحطي المرتبة، على يد من هم أرفع قيمة واعتباراً. الإبادات الحديثة كلها تتضمن هذا البعد التقييمي الذي يثبّت مجموعة بشرية في صورة فاسدة أو شريرة، تمهد للتخلص منها. كان اليهود طفيليين فاسدين، يمتصّون دم العرق الآري، وينخرطون في مؤامرة يهودية بلشفية طعنت ألمانيا في ظهرها عند نهاية الحرب العالمية الأولى، لذلك وجب القضاء عليهم نهائياً في سياق الحرب العالمية الثانية. ووُصِف التوتسي في رواندا بأنهم صراصير وأجانب، ما خفض عتبة استهدافهم أثناء ما يوصَف بأنه الجينوسايد الأوسع قاعدة اجتماعية في التاريخ، لمشاركة قطاع واسع من الهوتو، أكثرية الروانديين، في قتل 800 ألف من جماعة التوتسي خلال 100 يوم فقط من عام 1994. ووصِف مسلمو البوسنة وكوسوفو بأنهم أجانب وبقايا محتلين أتراك، يعيشون دون حق في صربيا الكبرى، وهذا وقت كان قادة ديماغوجيون يرفعون من حرارة المشاعر القومية إلى درجة الحمى. في كل هذه الحالات وغيرها، القتل الخطابي يسبق القتل الفعلي ويمهد له.

        وأقرب إلى سياقنا السوري بعد الثورة ثنائية إرهابيين وتنويعاتها (إمارات سلفية، دواعش، متخلفين، متعصبين…) وكفار وتنويعاتها (نصيرية، باطنيين…). ولضرب أمثلة عينية أكثر، كان يحدث أن توقِف حواجز النظام أشخاصاً لانحدارهم من محلة بعينها، ويُنادى على الشخص المعني: داريّا، انزل! أو: درعا، تفضل! يُعتقلون بعدها وقد لا يُعلم لهم مصير. اليوم بعد سقوط النظام يُسأل الناس في بعض المناطق بفجورٍ طائفي كامل: سنّي واللا علوي؟ وبالطبع العلوي هو الذي يتعرض للمخاطر. هذه نداءات إبادية.

        سنوات ما بعد الثورة السورية، وبصورة أقل كثافة سنوات الحكم الأسدي كلها، هي سنوات أهلنة الدولة والمجتمع في سورية، أو تراجع طابعهما العام والجامع، ودرجة متقدمة من نزع المشتركات بين السوريين، المشتركات التي تصنع شعباً من أناس مختلفين. المنحى الإبادي في ما عرفته سورية من عنف يتصل بهذا الميل العام المديد. وهو ما كان يُخشى منه وقت سقوط النظام، وما أخذ يحدث بدءاً من يوم 6 آذار في مناطق الساحل السوري.

        المستجد بعد الثورة دخول العنصر الجهادي، وهذا أجنبي في كل مكان، وأجنبيته مضاعفة: أجنبي عن منطق الدولة العامة مثل الجماعات الأهلية، ثم هو أجنبي أكثر منها لعدم ارتباطه بمجتمع وذاكرة وتاريخ ولغة وحساسية، ما يجعله يشغل موقعاً استعمارياً حيال المجتمعات المحلية التي يسيطر عليها. ومنذ الآن ينبغي القول إن الصحيح بخصوص هؤلاء الأجانب هو تجريد غير القادرين على العودة إلى بلدانهم من السلاح، وفرض إقامتهم في مواقع بعينها.    

        في العنف الممارس من قبل قوى الحكم الحالي في الساحل مكوّن قمعي، تمارسه القوى الأقرب للتكوين الدولتي (الأمن العام، وبعض الجيش الجديد)، ويتوجه ضد القوى الأسدية المسلحة، لكنه مخلوط بمكوّن أهلي إبادي بارز، يرجح لمرتكبيه المباشرين أن يكونوا قد اقترفوه بدوافع طائفية سنية و/أو جهادية. هذا يعود على الدولة بنزع صفتها العامة. لم ننتقل من الثورة إلى الدولة، مثلما قرر أحمد الشرع، بل إلى شكل مختلف عن الحكم الأسدي من الدولة الأهلية، وهذه حرب أهلية مستمرة، أو هي استمرار لحربنا الأهلية يحافظ على أهلنة الدولة والمجتمع.

        ما يجري الآن في الساحل من حرب أهلية يجعل السلم الأهلي صعباً بعدها بالضبط بسبب العنصر الإبادي في هذه الحرب من طرف فريق «الدولة». كان كانط قد نصح المتحاربين بأن لا يرتكبوا في زمن الحرب ما يجعل السلم بعدها مستحيلاً، وفي باله وقتها، في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، حروب الدول وما قد تشهده من فظائع. الحرب الأهلية في مجالنا، في سورية وقبلها في العراق ولبنان وغيرها، تعرض استعداداً خاصاً لأن تؤبّد نفسها عبر ارتكاب جرائم يتعذر نسيانها أو غفرانها، تسمّم العلاقة بين الأطراف إلى حد أن يستحيل السلم بعدها. بينما كانت تُرتكب فظائع في الساحل وتُقتل عائلات بأكملها، «غرّدت» السيدة عائشة الدبس، مسؤولة مكتب المرأة في الإدارة الحالية، تندد بـ«مرهفي الأحاسيس» الذين نسوا مجزرة الكيماوي، وألحقت التغريدة بصور أطفال من شهداء المجزرة. المجزرة الكيماوية هي بالفعل من الفظائع المشينة التي تُعسّر فرص السلم بعدها، لكن السيدة الدبس تستخدمها لإضفاء النسبية على جريمة جارية الآن، تشارك المجزرة الكيماوية في صفة تعسير السلم بعدها. في هذا ما يؤبد حالة الحرب الأهلية والاستعدادات الإبادية، وفيه فوق ذلك قلة احترام للضحايا، الضحايا القدماء وليس الجدد فقط، وذلك عبر الاستخدام الأداتي لهم لتبرير انحياز سياسي راهن. 

        ما تفتقر إليه سورية اليوم هو الدولة العامة. الدولة القائمة اليوم هي أقرب إلى دولة أهلية، والدولة الأهلية لا دولة في واقع الأمر، بل غَلَبة وشوكة وقهر. وهي، «دولة» اليوم، لم تبذل جهوداً متسقة لتجاوز الأهلي في تكوينها أو لمشاركة سياسية تحدّ منه. وبحكم موقعها العام تتحمل هي المسؤولية عن الوضع القائم اليوم. على الدولة ألا تكون أهلية كي يكف المجتمع عن أن يكون أهلياً، ومن أجل «السلم الأهلي». بالمناسبة، هذا التعبير الرائج في سورية في بضع الشهور الأخير متناقض ذاتياً، فالسلم لا يقوم على الانتظام الأهلي للمجتمع، على سورية يتجاور فيها دون أن يختلطوا فعلياً سنّيون وعلويون ودروز واسماعيليون وغيرهم، مسلمون ومسيحيون وغيرهم، عرب وكرد وغيرهم، بل على أشكال مدنية من الانتظام الاجتماعية تقوم على الطوعية واستقلال الأفراد والحريات العامة، بما فيها حرية التنظيم والكلام. الدولة العامة المدنية تقمع، وربما بقسوة، لكن عنفها ينضبط بمنطق عام، منطق المصلحة العامة (يُسمّى أحياناً منطق الدولة أو سبب الدولة raison d’etat). سحق قوى الفلول الأسدية المسلّحة يندرج ضمن عنف الدولة-الأمة القمعي.

        الدولة الأهلية، بالمقابل، دولة غير عامة وغير عاقلة، مثلما يجدر بنا أن نعرف من سيرة الحكم الأسدي طوال 54 عاماً. وحين تغيب القوة العاقلة، الدولة العامة والمدنية، لا يسع المرء اليوم إلا الإهابة بالعقلاء من الوطنيين السوريين لبذل كل جهد ممكن لوقف العنف الإبادي، كما لتجنب وإدانة الخطابات الهائجة والتحريضية. العقلاء هم الدولة في غياب الدولة، كما في حضورها بشكل أهلي وغير عاقل. 

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى