نصوص

أرق يصاحب المجزرة/ دلير يوسف

13.03.2025

هذا الأرق… هذا الأرق ليس جديداً. هذا أرق رافق مجازر سابقة، في الحولة والبيضا وداريا وكرم الزيتون والغوطة ولبنان وغزّة، هذا أرق أعرفه ويعرفني، هذا أرق يقودني إلى موسيقى محدّدة تعينني على لياليّ، هذا أرق يقودني إلى قراءة الشعر.

سوريا استنزفت كل شيء منّا، إيماننا بأنفسنا وبإنسانيتنا وبالبشرية وبالأخلاق وبالكرامة، إيماننا بالحياة نفسها. هكذا أفكر وأنا أعاني أرقاً منذ أيام. لا أستطيع النوم مذ بدأت المجزرة الأخيرة في قرى الساحل وبلداته. أشاهد مقاطع الفيديو، أُرسل رسائل أطمئن فيها على أصدقائي ممن يعيشون هناك، أقرأ تحليلات وآراء من كلّ التوجّهات وأتمنّى لو يسكت الناس ويتركون الموتى يموتون بهدوء. لا أستطيع أن أفهم خطاب الكراهية والتحريض. من أين يأتي كلّ هذا؟

أتذكّر نصاً كتبته عن الموت في بدايات الثورة، تساءلتُ فيه مَن يقتل مَن؟ وأجبتُ نفسي بأن الجواب ليس مهماً، فكلّه موت. سألت أسئلة كثيرة: كيف يصير القتل؟ ما الدافع؟ ما الذي يشعر به القاتل حين يقتل القتيل؟ هل أورثنا آباؤنا غريزة القتل؟  هل للموت صوت؟ وعندما يهمّ القاتل بالقتل، هل ينظر إلى عينيّ من يقتله، أم ينظر إلى خياله، فيقتل الخيال؟

الأرق الذي أعرفه

هذا الأرق… هذا الأرق ليس جديداً. هذا أرق رافق مجازر سابقة، في الحولة والبيضا وداريا وكرم الزيتون والغوطة ولبنان وغزّة، هذا أرق أعرفه ويعرفني، هذا أرق يقودني إلى موسيقى محدّدة تعينني على لياليّ، هذا أرق يقودني إلى قراءة الشعر.

يقول محمد مهدي الجواهري: “فرَّ ليلي من يدِ الظلمِ/ وتخطّاني ولم أنمِ، كلّما أوغلت في حلمي/ خِلتُني أُهوي على صنمِ، مرحباً: يا أيها الأرقُ/ فُرشتْ أُنساً لك الحَدَقُ، لكَ من عينيَّ منطلقٌ/إذ عيونُ الناس تنطبِقُ”

أبحثُ عن معنى الأرق على الشبكة العنكبوتية، وأنا نَعِس بالكاد أفتح عيني. يقول “الإنترنت” إن الأرق هو اضطراب في النوم أو تقطّعه أو انخفاض جودته، مما يعود سلباً على صحّة المريض النفسية والجسدية.

أبحث عن “الأرق المرافق للمجزرة” فأرى تنويعات في الأخبار بتواريخ مختلفة: جرائم الحرب في السودان، مجازر في سوريا، مخيم جنين، غزّة، أخبار قديمة من حروب العراق والجزائر.

أبحث عن “الأرق في الأدب”، كلّ الكتّاب والشعراء عانوا من الأرق والسُهاد في بعاد الحبيب. ألم يعاني أحد منهم أرقاً بسبب صور وخيالات ألف جثّة وجثّة ماتت في مجزرة ما؟

لماذا أكتب؟ وكيف أكتب والدماء تسيل بكثرة، وبغزارة أشدّ من غزارة أمطار تهطل فوق جزيرة استوائية؟ عن ماذا أكتب؟ عن المجزرة الجديدة؟ عن تلك البلاد النائمة على أطراف بحر ممتدّ يصل شرياني؟ عن تلك البلاد المسكونة بالجراح والآلام، عن أناس قُتلوا وزرعوا الأرض بأسمائهم كما لو أنهم أشجار في غابة تُحيي نفسها بعد كلّ مجزرة؟

لماذا لا أنام؟ اللعنة.

هل أكتب عن الموت الملتفّ حول البلاد؟ عن الدمار والخراب؟ أبالكتابة أُحيي العظام وهي رميم، أم أُنزل ذلك الحمل من على كتفيّ وأقول: سلاحي القلم، وبماذا أستطيع أن أساعد إلا بالكلمة؟

“يا حيف”

مذ بدأ القتل الأخير لم أستطع أن أكتب سوى كلمتيْ “يا حيف” على وسائل التواصل الاجتماعي، في إشارة إلى أغنية “يا حيف” التي كنّا نغنيها ونتناقلها سراً في بدايات الثورة في العام ٢٠١١. لم أستطع أن أقول أو أكتب شيئاً. كلّ ما فعلته كان رسائل عزاء لأصدقاء وصديقات فقدوا بعضاً من أهلهم، ورسائل اطمئنان. لا شيء آخر. لا أفكار. أشعر بأن الكلام لا معنى له. الآراء لا معنى لها. التحيّز وإثبات وجهات النظر لا معنى لهما. لكن إن لم نتفاعل مع شيء كبير بحجم ما يحدث، كيف سنضمن ألا تُعاد هذه المجازر في المستقبل؟

يبدو أن لكلّ الناس آراء، وفي أوقات المجزرة تحتدّ الآراء ولا يقبل الناس الناس. أتفاعل بإعجاب هنا على منشور يقول شيئاً يعجبني، وأتجاهل عشرات المنشورات الأخرى، التافهة، أو التي لا توافق أفكاري.

أتمنّى أن تكون هذه المجزرة هي الأخيرة، وأن يعمّ بعدها الصمت.

هل كل رأي يستحق أن يُسمع؟

أظنّ أنه لا يصحّ أن يكون لكلّ الناس رأي في كلّ شي. بعض الآراء خراء محض، ما معنى أن يقول أحدهم مثلاً: “برأيي الأرض مسطحة”.  اعذرني يا حبيبي، هذا ليس برأي، هذا خراء.

الأمر نفسه ينطبق في أوقات المجازر، يبدو أن لكلّ الناس آراء في كلّ شيء. لكن، حين كنت في دمشق في بدايات هذا العام، احتلّتني فكرة تقول إن الحديث عن سوريا، وعن معنى سوريا، والتفاعل بين السوريين والسوريات، والحديث عن نوع الحكم وطريقته، تختلف بين وسائل التواصل الاجتماعي والحياة اليومية في الشوارع.

هذا الأرق يأخذني لتذكّر هذه الفكرة وأنا أتصفّح “فيسبوك” و”انستغرام” و”تلغرام” و”X”. الناس في الشارع وفي المقاهي وفي البيوت يحكون أشياء مختلفة عن تلك المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي. أولئك الذين يصيحون على “الإنترنت” موجودون في الشارع أيضاً، لكن صوتهم ليس بهذا العلو.

ليس السلاح وحده السبب…

يبدو أن قلّة النوم تجعلني أفكر في السلاح، من أين جاء كلّ هذا السلاح؟ كم جنى تجّار السلاح من الأموال خلال المقتلة السورية؟  من الطبيعي أن تنتج المجازر عن هذا السلاح الكثير جداً، المترافق مع الجهل والتعليم السيئ والتعصّب والعنصرية والانتماءات الما قبل وطنية.

تراودني فكرة أن لا أمل في سوريا، خلص. هي هكذا وستبقى هكذا. منذ مئات؛ أو أقول آلاف، السنوات حروب هذه البلاد تجرّ حروباً. لا راحة، “حرب في طيز حرب”، مجزرة تلو الأخرى، دائرة مغلقة لا تنتهي.

تراودني فكرة أن أقطع كلّ علاقة لي بسوريا، بكلّ أهلها وناسها (أهلي وناسي) بكلّ شوارعها وبيوتها وطوائفها وقومياتها، أن أقطع كلّ حبل يصلني بها وأكمل حياتي في برلين، وكأنني لم أولد وأكبر هناك.

لكن، والله أحبّها. أحبّ تلك البلاد. أحبّها حباً لا تفسير له. لا فكاك لي عنها ومنها.

أرمي الفكرة، وأجلب من ذاكرتي قولاً أحبّه للمفكّر السوري بو علي ياسين، الذي تدور مجزرة هذه الأيام في مسقط رأسه في ريف اللاذقية: “أشدّ الناس حاجة إلى التوعية والتنوير هم أشدّ الناس عداء لهذه الحركة التنويرية، ذلك لأنهم أكثر الناس انسحاقاً، وبالتالي أشدّهم حاجة إلى السلوى والسلوان”.

أقول لنفسي: هيّا حاول النوم، غداً يوم آخر، واعمل بما يمليه عليك ضميرك وقيمك، وتأمّل أن تكون هذه هي المجزرة الأخيرة في تاريخ هذه البلاد.

****

كيف يأتي النوم

والباب مسدود بألف جثّة؟

ألف جثّة!

قرأت مرةً رواية، لا أذكر منها إلا أن دماً تحوّل إلى بستان ورد

هل كان ورداً جورياً؟

خزامى؟

أحبّ أن أتخيّل بستاناً من الخزامى

ألف جثّة!

ألف جثّة صارت بحراً من الخزامى

أمشي بين الخزامى وأعدّها:

واحد، اثنان، ثلاثة… مئة… مئة وخمسون…

أتعب

الحقل يمتدّ والشمس في منتصف السماء تراقب كلّ شيء

كعهدها.

أستلقي بين الخزامى

فأرى نفسي جثّة

أُكمل العدّ:

مئتان وخمسون، مئتان وواحد وخمسون، مئتان واثنان وخمسون…

لا أصل إلى آخر الحقل

عشرة آلاف، عشرة آلاف وواحد، عشرة آلاف واثنين…

أتعب…

لقد مات قلبي.

– كاتب ومخرج من سوريا

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى