صفحات الثقافة

دوغين الروسي… يارفين الأميركي/ حسن مدن

02 فبراير 2025

يحتاج أي مشروع سياسي، خاصة حين يكون أصحابه في موقع السلطة، إلى رافعةٍ أيديولوجية، تقدّم هذا المشروع إلى الرأي العام، وربما إلى الخارج أيضاً، وتُزيّنه في الأعين. كانت الماركسية – اللينينية الرافعة الأيديولوجية للتجربة السوفييتية التي امتدت 70 عاماً، ولما انهار الاتحاد السوفيتي، وكادت روسيا نفسها أن تتفكك من داخلها، أتت الظروف بفلاديمير بوتين إلى السلطة. وسواء اختلفنا معه أو اتفقنا، لا يمكن نكران أنه، بقبضته الحديدية المكتسبة كونه رجل مخابرات مخضرماً، استطاع أن ينقذ روسيا من الانهيار. وسرعان ما سيدرك بوتين أنّ مشروعه يحتاج عدّة أيديولوجية أيضاً، فوجد في الفيلسوف ألكسندر دوغين ضالته، الذي أصبح يوصَف بـ”عقل بوتين”، وبالنظر إلى الأهمية التي بات الرجل يمثلها في المشروع البوتيني، كان هدفاً لمحاولة اغتيال، اتهمت موسكو المخابرات الأوكرانية بأنّها من تدبيرها، راحت ضحية لها ابنته داريا.

يُوصف دوغين، المؤرّخ وأستاذ علم الاجتماع في جامعة موسكو سابقاً، بأنه فيلسوف القومية الروسية في صورتها الجديدة، وتنعته دوائر غربية بأنه “أخطر فيلسوف في العالم”، نظراً إلى أنّ فضلاً كبيراً يعود إليه في تشكيل رؤية بوتين إلى العالم، كونه المُنظّر الرئيسي للأيديولوجية القومية الروسية التي يلتزم بها الكرملين، والمؤطّر النظري لخريطة العالم في العصر الحديث من منظور روسيا.

يرى دوغين أنّ ثلاث نظريات سياسية أثرت على العالم، الليبرالية والشيوعية والفاشية. ومن منظوره، انتصرت الليبرالية على الفاشية عام 1945 وعلى الشيوعية عام 1991، إلا أنها تواجه اليوم أزمة قاتلة ستقودها إلى الموت المحتوم، لأنّها تحاول “تحرير نفسها من التفكير العقلي وقيود العقل”، لكن النظريات الثلاث، في منظوره أيضاً، ميّتة، ويطرح، بديلاً، “النظرية السياسية الرابعة” “التي لا تركز على الفرد أو العرق أو القومية وإنّما تركز على الوعي الذاتي الإنساني الذي همشته التكنولوجيا”، ولأنّ الوعي يختلف بين ثقافة وأخرى، فإنّ العالم لا بد أن يكون متعدد الأقطاب بدلاً من هيمنة قوة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة، وعلى روسيا أن تقود الاتحاد الأوروآسيوي في العالم الجديد متعدد الأقطاب.

نعود إلى دوغين، ونحن بصدد الحديث عن مُنظّر أميركي قد يصبح واضع الرافعة الإيديولوجية لمشروع الرئيس العائد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب. وليست مصادفة أنّ دوغين، بالذات، هو من رأى، قبل سنوات، أنّ فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة عام 2016 جاء بمثابة انتصار على التوجه العالمي الذي مثلته هيلاري كلينتون، وبمثابة ثورة من الشعب الأميركي ضد التوجه العالمي. أمّا المنظر الأميركي المقصود، فهو كيرتيس يارفين، وهو رجل أعمال سابق في مجال التكنولوجيا، أصبح أحد أكثر المفكرين تأثيراً في اليمين المتطرّف الذي يدعم الرئيس الأميركي الجديد، وهو مجترح المصطلح الملتبس للغاية: “التنوير الظلامي”، الذي يدعو إلى نهاية الديمقراطية في العالم، فكيف يمكن الجمع بين الظلام والنور، التنوير والظلامية؟

ينقل موقع “دي. دبليو” عن صحيفة الغارديان البريطانية اليومية وصف “الرجعي الجديد” على يارفين، قائلة إنه “المدّون صاحب الأثر الكبير على فترة رئاسة ترامب الثانية”. وتنقل عنه “نيويورك تايمز” قوله قبل أسبوعين فقط: “لا أؤمن بالحقّ في التصويت، وأعتقد أنّ الديمقراطية ضعيفة وعفا عليها الزمن”. وفي تقديمها لحوار معه، كتبت الصحيفة إنّ يارفين يريد أن تدار الولايات المتحدة مثل شركة ناشئة من أحد “قياصرة التكنولوجيا”، فالأمر، يتمحور، إذاً، حول تصوّر قائمٍ على إحلال آلية جديدة “لإدارة الدولة كشركة يتربع على رأسها رئيس تنفيذي بالصلاحيات نفسها التي يتمتع بها ملك مطلق”، وإقصاء الآلية السياسية المتوارثة والمستقرّة في أميركا، والقائمة على انتخابات يتبادل فيها الحزبان الرئيسيان، الديمقراطي والجمهوري، السلطة، أكانت هذه السلطة ممثلة في البيت الأبيض أم الكونغرس، فيما للدولة العميقة أدواتها المستقرّة التي تديرها وزارة الدفاع (البنتاغون) والمخابرات (سي آي إيه)، في حفظ مصالح ما يعرف بالمجمع الصناعي – الحربي وإدارتها.

غاية “الرجعية الجديدة” أو “التنوير الظلامي” تخطي أجهزة الدولة العميقة المُدبرة الخبيرة، وإحلال منطق إدارة الشركة، وربما هذا ما يفسّر التناغم اللافت للنظر بين ترامب والمستثمر إيلون ماسك، من دون أن ننسى أن ترامب نفسه هو أساساً رجل أعمال معنيٌّ بتعظيم ثرواته، أكثر من كونه سياسياً.

رؤيتان مختلفتان للمُنظّريْن، الروسي دوغين والأميركي يارفين، لكنهما تقدّمان صورة عن عالم جديد مختلف.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى