أحلام السبعينيين تحضر في المشهد.. يدٌ تنهض إلى أعلى/ علي سفر
“مرثية إلى جيل السبعينات” عنوان لوحة مثيرة للفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي، اللوحة المشغولة بالفحم على الورق في عام 2005 تمثل قبضة يد مقطوعةٍ من أعلى الساعد، ممدة على أرضيةٍ قاتمةٍ يترسم عليها ظل اليد، بينما ثمة خطوط بيضاء متوازية تشكل خلفية المشهد.
بؤرة الإثارة في اللوحة بكل تأكيد تتحدد في قبضة اليد التي مازالت مشدودةً رغم قطعها، وكذلك فإن الخط السلس الذي يرسم نهاية الساعد حيث تم القطع لابد يقود المشاهد لأن يستنتج أن اليد قد بترت وبضربة من ألةٍ حادة!
لوحة عبدلكي تذكرنا بكاركاتير سبق له أن رسمه ونشر في إحدى الدوريات العربية وفيه نرى لوحةً إعلانيةً كُتب عليها عبارة “الديموقراطية”، بينما ثمة يد مقطوعةٌ غارقةٌ في الدماء أصابعها مشدودةٌ، بينما سبابتها تشير إلى جهة اليسار وكأنها تدل إلى الطريق..!
الترابط بين العملين الفنيين يتجاوز كون صانعهما هو الفنان ذاته، بل إنه يشكل سلسلةً منطقيةً من متواليات التفكير بمصائر الأجيال العربية التي حاولت ذات يومٍ أن تغامر باتجاه التغيير السياسي والمجتمعي ولكنها قُمعت وأسكتت، فيوسف عبدلكي واحد من أفراد جيلٍ كامل اصطلح على تسميته بجيل السبعينات في سورية، وقد ضم بين قوسيه عشرات من الأسماء الفنية الفنية والأدبية والثقافية والسياسية، ورغم تنوع مشارب هؤلاء الأفراد وتوجهاتهم السياسية والفكرية، إلا أن ما كان يجمعهم قد شكّل علامةً متفردةً ميزتهم عما سبقهم من الاجيال السابقة واللاحقة ربما، فقد وجد هؤلاء الذين كانوا شباباً أنفسهم في مواجهة تاريخٍ عارمٍ من الاحداث والتجارب السياسية (الدولة القومية بنموذجيها الناصري والبعثي) الذين قد تركا نهاية الستينيات محملةً بإرث نكسة حزيران بما مثلته من بؤرةٍ لطرح الاسئلة الكبرى، بالإضافة إلى حالةٍ فكريةٍ تصارعيةٍ مع التيار القومي والتيار الإسلامي، بالتوازي مع صراعات الأنداد الفكرية سيما وأن الكثير من أفراد هذا الجيل قد انتمت إلى التيارات الماركسية التي تعددت تمثيلاتها السياسية على أرض الواقع، وقد وجد هؤلاء في فضاء التنظيمات الثورية الفلسطينية مساحةً رحبةً لتظهير ما يفكرون به ويعملون من أجله..
مصائر أفراد هذا الجيل وحين نقرأها الآن تبدو قاسيةً وغير مبهجة، إذ أن الكثيرين من هؤلاء قد قضوا سنواتً طويلةً من أعمارهم في السجون، وقد غادر من نجا إلى المنافي، وبينما رحل البعض عن عالمنا مغلولاً بحسرته على أحلامه، بقي البعض الآخر مخلصاً للأحلام ومازال يعمل من أجل تحقيقها.
إرثُ جيل السبعينات في سورية وإلى هذه اللحظة مايزال هو الأكثر إشراقاً رغم سوداوية المصائر، فقد شكل هذا العقد الزمني مختبراً فنياً هائلاً للشعراء والقصاصين والروائيين الذين ظهروا فيه وكذلك للسابقين منهم وللاحقين، وكذلك للتشكيليين والمسرحيين والسينمائيين، فالحساسية الفنية التي حكمت كل هؤلاء بدت بعيدةً جداً عن النزعة القومية التي حكمت من سبقهم، فقد غابت الشعاراتية التي أمست جوفاء بحكم الهزيمة، لتحل محلها نزعة فردية ترى أن الثورة تبدأ بقراءة الإنسان الفرد، بأحلامه وتفاصيله اليومية، وهنا تبدو مطالعة “ملحق جريدة الثورة الثقافي” مهمةً للغاية وذلك لكونه الوثيقة الأكثر تفصيلاً عن تلك المرحلة (صدر من 1975 وحتى 1978) فكتابات الكثيرين من هؤلاء وجدت في هذه المطبوعة مكاناً لها، وقد كان للهيئة المشرفة على الملحق (أدونيس، محمد عمران، محمود السيد، علي سليمان، وآخرين) دورٌ كبيرٌ في جعله منبراً للتجديد بحيث تجاورت فيه الأسماء الراسخة في المشهد مع تلك الأسماء التي بدأت بشق طريقها بين الكبار، وبالإضافة إلى هذه الوثيقة ثمة وثائق أخرى ضائعة لابد من مطالعتها ذات يوم هي تلك النشرات الثقافية التي كان المثقفون يصدرونها في الجامعات (اعتقلت السلطة بعضهم بسببها) والتي كانت بمثابة صوتهم الخاص في مواجهة المنابر الرسمية.
تأمل مصائر جيل السبعينات في سورية يبدو مهماً جداً في هذه الأوقات، خاصةً وأن الحامل الأكبر للإرث الفني والثقافي والسياسي الخاص بهذا الجيل، كان هو التفكير بالتغيير. فإذا كانت وجوه هؤلاء السبعينيين قد غابت فإن أحلامهم لم تغب، وربما كان الكثيرون ممن يشتغلون على حراكٍ يصنع التغيير في المجتمع، يريدون للوحتهم الخاصة أن تكون عامرةً بالأيدي الناهضة في الهواء بدلاً من أن تكون يداً مقطوعةً على أرضيةٍ سوداء قاتمة.
خاص – صفحات سورية