زمن الحلم وصنّاعه/ يوسف فخر الدين
طوال عقود أطبق فيها نظام الطاغية الأب على المجتمع السوري، كان الحلم يحوم في أجواء البلد عبر خبريات وقصاصات ورق تتناقلها الألسن والأيدي بحذر وتحفظ شديد. في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، عام ألف وتسعمائة وأربع وثمانين بالتحدد، كنت طفلاً يتأمل العالم حوله بفضول، ويرقب أجواء المظاهرات في مخيم اليرموك ردّاً على شقّ النظام السوري للحركة الوطنية الفلسطينية ومحاولته احتكار القضية الفلسطينية لتحويلها ورقة في جيبه. كان المخيم يثور، وكنت طفلاً تجتاحني روح المخيم الغاضبة، وأتشرّب كره القمع والاستبداد. ومن بين المتظاهرين كان هناك شباب يوزّعون مناشير كتِب عليها عبارات إدانة للنظام السوري وانتقادات لقيادة منظمة التحرير في آن واحد، وتأكيداً على إرادة الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره دون إرغام. وفي ذيل البيان كان توقيع “حزب العمل الشيوعي السوري”. الكلمات بقيت في الذاكرة، ولكنني احتجت سنوات لفكّ طلاسمها. وعي مختلف، أفكار مختلفة عن السائد في الساحة الفلسطينية في ظلّ الانقسام، و بدا النظام القمعي واضحاً على الورق بمقدار ما هو واضح من خلال أسلحته في الشوارع.
سنوات قليلة بعدها صرت أرى صورة لرسم علقه أحد رفاقي على جدار غرفته يروى قصة مجزرة كتب في أسفله “سبت الدم”، والرسام، كما أخبرني صديقي، يدعى يوسف عبدلكي وهو معتقل سياسي. “حزب العمل الشيوعي السوري” كان هنا أيضاً، فصاحب العمل ينتمي إليه. حينها كان الوضع الفلسطيني في سوريا قد استكان للنظام السوري، فحركة فتح ممنوعة وكوادرها في المعتقلات، وينتشر في الأجواء خطاب غير مفهوم عن “قلعة الصمود والتصدي”. كان السؤال عن سبب مديح من حارب حركتنا الوطنية وقمَعنا ومنَعنا من النضال ضد إسرائيل مكتوماً، والمخيمات التي قاومت للحفاظ على انتمائها إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى حرية تعبير بناتها وأبنائها، التحقت ببقية سوريا المنهكة بعد أحداث الثمانينات وعمّ الصمت فيها. صرنا نعرف الهمس، الصوت الخفيض، والقصاصات الورقية التي يوزعها أشباح يغامرون بحياتهم كلما فعلوا، والذين امتلكوا الجرأة يمزجون قصص صمود الحركة الوطنية في مواجهة حلف النظام السوري مع اليمين اللبناني مع قصص معتقلين في سجون النظام رفضوا الخنوع. كان علي الشهابي يُذكر مع سمير الحسن وعلي الكردي ويوسف عبدلكي ومنيف ملحم وأصلان عبد الكريم، ومعهم من كان عمر اعتقاله من عمرنا: رياض الترك وصلاح جديد وحديثة مراد. وهمساً عرفنا أن للأشباح أسماء منها عبدالعزيز الخير، رجل ستحتفل الأجهزة الأمنية كلها باعتقاله لاحقاً معلنة نهاية زمن الكلام حتى همساً. وهو ما لم يحصل، كانت الأيدي تتحرك في الظلام متعرّفة على بعضها البعض، وكان يكفي رسم لعبدلكي حتى تشكّ بأن وجهاً آخر لمحدّثك يمكن أن يكون أكثر حميمية. ومن الرسومات والقصاصات إلى وسط الحزب، حيث يجتمع رفاق ليحافظوا على الحلم، ويعملوا على إشاعته بكدّ وإصرار. وتبدأ رحلة في عالم السرّ. سرّ قالت الناشطة والكاتبة حسيبة عبد الرحمن في روايتها الشرنقة أنها دخلت حزب العمل للحصول على اعتراف بجدارتها بالحصول عليه، بعد أن حرمها والدها من جدارة التعرف على سرّ دينه. سرّ سيحاول المعتقلون حال خروجهم من السجن بعد سنوات اعتقال طويلة البوح به دون أن يهابوا العودة إليه، وبعضهم فعل. سرّ سنكتشف مع بداية الثورة السورية أن عشرات الآلاف من السوريين كانوا يخبؤونه في قلوبهم، وأن الملايين سيتحركون حين يلتقي البوح به مع أجواء يعتقدونها مناسبة.
قبل سنوات من الثورة، وبعد أن خرج المعتقلون السياسيون على دفعات من رحلة التغييب القسري، عادت بعض الحيوية إلى عوالمنا الممنوعة. عادت الكلمة والصورة، وعاد قادة الرأي ليبدأ الصوت يرتفع. لنتعرّف على ياسين الحاج صالح بتعبيره الصريح والمباشر عن المراجعات التي قام بها بعض من اعتُقل رغماً عن السجان، ونتعرّف على بكر صدقي وراتب شعبو وغيرهم كثر، إن كان شخصيّاً أو عبر نصوصهم. بدا حينها أن هناك مساحات يمكن انتزاعها، وكان النزول إلى الشارع ضرورة لأيّ سبب حتى لو صنعنا واحداً بأنفسنا. ومن المنتديات إلى الاعتصامات ضد حرب العراق أو نصرة لفلسطين، كان شباب يتعرفون على بعضهم البعض. وبالرغم من القمع الذي أوقعه الطاغية الابن على ربيع دمشق، فقد ولد منه الجيل الذي سيبدأ الثورة السورية.
وهكذا كان للصورة دور في شروط الطغيان مضاعف عن ذاك الذي تحوزه في شروط حياة أقل جوراً. وكانت رسوم عبدلكي صوراً تحكي واقعنا التعيس وتفاصيل حلم بحياة أفضل. كان لها إسهامها في إشاعة الحلم وحماية تخومه، وكنا جيلاً يتعلّم كيف يحلم دون أن ترمش عيونه خوفاً من أن يكتشفنا العسس. واليوم، وفي خضمّ بوح السوريين بحلمهم، وفي الوقت الذي يزجّ فيه الطاغية بصنّاع الحلم وحُماته لعقود في عتمة سجونه مرة أخرى، نكتشف كيف أن رواية سيرتهم هي رواية سيرة شعب كابد الطغيان وعرف أبناؤه المخلصون كيف يحمون الحلم حتى يصير ثورة.
خاص – صفحات سورية –