مي مظفّر
أعمال يوسف عبد لكي، سواء أكانت حفراً على المعدن أو رسماً بالفحم على الورق، قليلٌ يُراد به الكثير. مفردات محدودة، وألوان تقتصر على الأبيض والأسود؛ صور درامية تكتنـز بالأسئلة.
ينتقي عبد لكي موضوعاته من الطبيعة والحياة اليومية. مفردات قليلة يرسمها بدقة وموضوعية، يسلّط عليها الضوء ويقدمها بعناية صانع ماهر. إنها أجسام هامشية وعابرة، إن لم تكن ميتة وتالفة. لكنها تنبعث على سطح اللوحة بكل عنفوان وتحدي. فما الذي يجعلها تتمرد على موتها، وتتجسد أمامنا حية نابضة ومتماسكة وهي تحتل مكانها بترفع داخل فضاء شبه معتم؟ وما الذي يجعلها، على الرغم من وضوحها، تنطوي على هذا الكم من الغموض والسرية؟
يكتفي عبد لكي بالرد على أسئلتي بابتسامة متواضعة خجول.
إذا كان بالإمكان القول إن العمل القادر على تحريك العقل والمشاعر، أي العمل الذي يولّد هزّة لدى المشاهد بصمته وتواضع عبارته، معيار فني صادق لقوة العمل، فإن أعمال عبد لكي تقف في الطليعة.
منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي اتخذ عبد لكي منحى جديدا لتجربته الفنية، واتخذ من موضوعات الحياة الجامدة، أو الميتة، مدخلا واسعا للتعبير عن احتجاجه وتمرده وعاطفته داخل إطار من سكون ظاهري. فالمتأمل في أعماله، والمطلع على طبيعة معالجته لمفرداتها المنفّذة بالفحم على الورق أو القماش، أو المحفورة على الزنك والنحاس، يجد نفسه أمام حدث درامي بالغ التأثير، يتوغل في وجدانه ولا يغادر. بل يبقى، حتى لدى مغادرته، يحمل منه أثرا يظل يتداعى في ذهنه كلما استذكر العمل.
سمكة داخل صحن، فردة حذاء، فواكه مدورة الشكل، سكين مغروزة في خشب المائدة، نباتات ذات سيقان رشيقة، هي مفردات عبد لكي عموما، يرسمها بخطوط قوية مجسدا شكلها الطبيعي بكل دقة وأناة، ويضعها داخل فضاء واسع مظلل ومليء بسكون مريب. إنه يمعن في توثيق موضوعه الواقعي ويتوغل عميقا في صلب الكتلة حتى يكتسب الشكل بين يديه حياته الخاصة. ملامح مفرداته تختزن أسئلة متحدية وجارحة تحول الشيء من كتلة جامدة إلى أثر حي رامز. هكذا يرتفع هذا الفنان بكائناته الجامدة إلى مستوى إنساني رفيع بدلالات ومعان تقحم المشاهد في معضلتها، والبحث عن مكنوناتها.
قبل أن ترسو تجربة يوسف عبد لكي على هذا النهج الاختزالي ذي المنحى التعبيري الرمزي، فإنها مرت على مدى عقدين من الزمن بعدد من المراحل. إنه لم يكن قد أنهى بعد دراسته في كلية الفنون الجميلة في دمشق 1976، حين أقام معرضه الشخصي الأول (1973). في هذا المعرض، كان الجسد، بكتلته ووضعياته المختلفة ممثلا بالرجل و الحصان محورا أساسيا، فقد سلّط الضوء في كلا الحالتين على عنفوان التكوين العضلي، وجعل منه مبحثا بصريا تمثل في مجموعة من الأعمال المحفورة (من الزنك أو النحاس أو الحجر)، أو المنفّذة بالأحبار الصينية. فلعلها كانت خير شاهد على ما يتمتع به الفنان من قدرة أدائية تجلّت بأسلوب تعبيري لا يخلو من رمزية.
عندما انتقل إلى باريس، واصل عبد لكي دراسته في المدرسة العليا للفنون (البوزار) متخصصاً بفن الحفر والطباعة (غرافيك) وتخرج في 1986، ليكمل بعد ذلك دراسته في كلية باريس الثامنة حاصلا على درجة دكتوراه في 1989. لكن عبد لكي لم ينخرط بالعمل الأكاديمي، بل آثر ممارسة الفن والتفرغ له.
في هذه المرحلة الممتدة من ثمانينيات القرن الماضي حتى منتصف التسعين منه، أنتج الفنان مجموعة أعمال (حفر على النحاس أو الزنك ورسم بالباستيل)، يظهر فيها الإنسان بأشكال مؤسلبة ذات موضوع سردي. لعل أقلام الباستيل قد أغرته على استخدام ألوان زاهية جذّابة. فالإنسان في هذه المجموعة يظهر مصوّرا برمزية تكاد في بعض الأحيان تكون سوريالية، بل يبدو، في أغلب الأحوال، كائنا ممسوخا بشكل أو بآخر. لكن الفنان سرعان ما تجاوز هذه المرحلة، التي تحمل مؤثرات تجارب فنية عربية وغير عربية، والتي تبدو مثل فاصل بين مرحلتين هما أقرب إلى مزاج عبد لكي وأكثر انسجاما مع شخصيته.
يجذبه الشكل، شأن أي فنان مبدع. من هنا تبدأ عملية الرسم لديه، بهدف نقل الشكل نقلا حرفيا عن الواقع. ولكن سرعان ما تتفاعل حركة يده مع سطح العمل وخاماته مستجيبة لشحنات خفية تملي عليه الأطر الهندسية غير المنتظمة، والموضع الذي يتمركز فيه موضوعه وسط التداخلات المكثفة بين الظل والضوء. هكذا تنبعث حياة أخرى نابعة من صلب ذلك الموضوع، فإذا بهذا الشكل الجامد يتسامى مكتسبا أبعادا حيوية يتحول من جرّائها إلى كائن مفارق لما شرع الفنان في رسمه.
عناصر معدودة تستوقف عبد لكي فيوليها اهتمامه بتركيز شديد: السمكة، والبطيخ الأحمر والسكين، والحذاء. هؤلاء هم أبرز أبطال الدراما في أعماله التصويرية. فضلا عن النباتات والزهور، ذابلة أو طرية، وما تمثله من حركات وامتدادات كما لو أننا أمام إيقاعات رشيقة داخل فضاء ممسرح. لكل من هذه العناصر إغراءاتها التي تستدرج عين الفنان بتكوينها الظاهري لتقحمه فيما بعد في البحث عن تجلياتها المتنوعة، واكتنازها بالمضامين التي تحيلها إلى أثر إنساني.
يمعن عبد لكي في رسم السمكة، وهي واحدة من مفرداته الأثيرة المتكررة الحضور في أعماله الأخيرة، إنها سمكة يفترض أن تكون قد فارقت الحياة، فهي دائما تظهر داخل صحن، مهيأة لتكون وجبة طعام. لكنها قلما تبدو مستسلمة لقضائها، وهي أبدا تتطلع إلى المشاهد بعينين محدقتين مستفزتين بل مهددتين أحيانا. لقد صوّر الفنان موضوعه هذا بأحجام مختلفة تصل في بعض الأحيان إلى لوحة كبيرة ( 104 * 243سم). وإمعانا منه بالقضاء على تمردها ثبّتها داخل الصحن بمسمارين كبيرين، أحدهما معقوف! لا أعتقد أن بإمكان أي مشاهد الإفلات قط من قبضة هذا العمل الأخاذ الذي كاد يحتل جدارا كاملا بين الأعمال الأخرى. تظهر السمكة في أعمال الفنان كاملة أحيانا، مشحونة بتعبير حاد يرتكز في الرأس والعينين. من أجل ذلك يصور الفنان رأس السمكة في أوضاع متعددة، فهو قد يظهر مجردا ومربوطا بالحبال، أي أنه هيكل عظمي، لكنه في جميع الأحوال يبدو الرأس قادرا على توجيه خطابه المتمرد المؤثر. رأس السمكة وعيناها في هذه المجموعة هم قلب الحدث وبؤرة المغزى، وهم ذروة التحدي والرفض.
يظهر التحدي في أعمال عبد لكي الأخيرة متجليا أيضا من خلال عناصر أخرى تتكرر في لوحاته المنفّذة بالأبيض والأسود، منها السكين المغروسة في سطح مائدة الطعام، والتي يتكرر حضورها كما لو كانت، في آن واحد، عنصر التهديد والشاهد على كل ما يدور داخل إطار الصورة من أحداث تبعث على الرهبة.
للبطيخ الأحمر حضور غريب في هذا المعرض. فهو لا يغري الفنان بالتضارب اللوني الحاد ما بين داخله الأحمر مع خارجه الأخضر المظلل بالسواد، بقدر ما يغريه الشكل المدور، دائرة كاملة أو مشطورة. فالفنان هنا غير معني باللون، وإنما بتقديم هذا الجسم مجسدا بواقعية تذهل المشاهد بدقة تفاصيلها وحضورها النابض من خلال الظلال المتداخلة للأبيض والأسود. تتخذ البطيخة مكانها، شأن السمكة فوق المائدة، كاملة أحيانا، أو نصفها. وسواء أكانت مشطورة أم كاملة، فإنها تحتفظ بألوانها الأخاذة المتخفية داخل اللونين الأبيض والأسود بوصفهما لونان يحتويان جميع الألوان. لهذه الثمرة في أعمال عبد لكي وجهان، أحدهما يعبّر عن معنى التهديد، والآخر يعبّر عن معنى الأمان. فما تحمله صورة البطيخة التي تجاور سكينا مغروسا في سطح المائدة، مناقض تماما لما تحمله صورتها الوديعة التي تتضمن صورة مصغرة للوحة جواد سليم «أطفال يأكلون الرقّي».
بمثل هذه الموضوعية والتجرد يرصد عبد لكي شكل «الحذاء»، النسائي منه خاصة، لاستخلاص معاني تصل إلى حد التناقض أحيانا. فهو قد يعبر عن قدم رجل أنهكها السير، أو يعكس حالة امرأة مترفة أنيقة، وقد يعبّر أيضا عن وحدة وإهمال مضنيين. لكنه، في كل الأحوال والأوضاع، شكل جميل له دلالاته، وشكل يكتسب حياته وبعده الإنساني من خلال حضوره المنفرد محاطا بفضاء تغمره الظلال.
أعمال يوسف عبد لكي كائنات تختبئ وراء صمتها. وهو صمت يمتلك قدرة كبيرة على مخاطبة الجمرة الكامنة في دواخلنا، وتأجيج وهجها. فموضوعاته سواكن، مثل أغلبية صامتة، لكنها مليئة بالرفض والتحدي. حسبها تنكمش على ذاتها وتتحصن من أجل الحفاظ على نقاء وجودها الحي الذي تخشى عليه من طغيان التدمير في زمن كل ما فيه يتداعى. ولعل صمت الفنان وعزلته هما رفيقاه اللذان يمدانه برباطة الجأش والإرادة للدفاع عن الجوهر النقي، ويضعانه، على الرغم من ذلك، في قلب العالم.
عمّـــــــان/كانـــــــون أول 2009